كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

حوار حول مشكال "مجازات بها نرى"

حوار حول كتاب (مجازات بها نرى)

أجرى الحوار باسمة القصاب

يمكنك تنزيل كتاب محازات بها نرى: كيف نفكر بالمجار؟ من هنا.

1. للوهلة الأولى عندما يقع بين أيدينا كتاب له علاقة بالمجاز تحضر قضايا كثيرة منها ما دار بين بعض المفسرين وبعض اللغويين حول وجود المجاز في اللغة ونفيه، كما تحضر في أذهاننا صورة المجاز المدرسي، ويخيل إلينا أننا أمام كتاب في البلاغة وزخرف القول ونظم اللغة، لكن عنوان الكتاب هنا : ” مجازات بها نرى، كيف نفكر بالمجازات؟”، يثير فينا شيئاً مختلفاً يقارب المجاز بوصفه أداة تفكير، وعين للرؤية ويحمل بعداً فكرياً وفلسفياً على غير ما ألفناه من المجاز بوصفه أداة بلاغة مدرسية. كيف يقدم الديري مفهومه للمجاز؟

الديري: المجاز هو أن ترى بغير عيونك. أن ترى بسمعك، بأنفك، بلسانك، بيديك، برجلك، برأسك، بجسدك، بامرأة، بزهرة، بسماء، بقصيدة، بكتاب، بقصة، بنكتة. هو أن تجعل من أي شيء مشكالاً ترى من خلاله شيئاً آخر.هذا هو المجاز.

ما نراه بعيوننا لا يستوعب العالم، فعيوننا لا تستوعب العالم، نستعين بحواس أخرى كي نرى العالم، قد تكون هذه الحواس قصصا أو كتباً أو حكايات أو كتباً، لنرى بها. لذلك فالمجاز حاسة.

الإنسان لا يمكنه أن يعيش بدون أن يرى، حتى الأعمى لا يمكنه أن يعيش بدون أن ينير الظلام، وذلك بأن يتخيله في هيئة شيء آخر.في فيلم (بلاك) أنارت البطلة العمياء ظلمتها (البلاك)، بمجرد أن استعانت عيونها بنظام رمزي صارت ترى من خلاله. لقد جعلت الظلام (العمى) يرى من خلال شبكة معنى رمزية. وكأنها كانت تتمثل عبارة أدونيس في قصيدته 25يوماً “سأحاول أن أخلق عينين داخل عيني حتى أرى”.

هذا هو المجاز نظام رمزي نرى من خلاله العالم وحقائقه، أو قل المجاز عينان يجعلهما الإنسان داخل عينيه المخلوقتين، فيرى باتساع وأصالة ومرونة، أو قل المجاز أن تجعل لسمعك عينين، ولأنفك عينين، وللسانك عينين، ولقلبك عينين، ولجلدك عينين، حين يمكنك أن ترى بكل حواسك، بكلّ كلك.

ويلفتنا عبدالفتاح كيليطو في كتابه (العين والإبرة) إلى أن بعض شخصيات ألف ليلة وليلة تعبر عن الحكاية العجيبة بقولها “حكايتك حكاية عجيبة لو كتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر”. الحكاية العجيبة لا تكتب على الورق، بل تكتب على العيون، كي تكون عيناً ترى بها العين وتعتبر بما تراه. هكذا تكون الحكاية (المجاز) عيناً مجعولة للاعتبار والرؤية.

وبقدر ما يجعل له من عيون يكتمل نظره، وكان ابن عربي كما أشرت في الكتاب، يقول “الكامل من الرجال يكنى أبا العيون” لأنه كلما تكثَّرت عيونه كثرت أحواله وصوره، وصار بعيونه كاملاً.

شبكة العين لا يمكنها أن ترينا حقائق الأشياء، نحتاج إلى شبكة رمزية، نحتاج إلى شبكة ثقافية، نرى من خلالها. وهذا هو المجاز شبكة بديلة تضاعف من إمكانيات شبكة العين وتفتح إمكاناتها على تلفات بعيدة. يحتاج الإنسان إلى هذه الشبكة، وهو يفكر، وهو يعبر عن مشاعره وهو يتواصل مع غيره، وهو يفسر ما يحدث، وهو يقرر، وهو يتوقع، وهو يعترض. إنها شبكة تُمكِّنه من الخيال والاتساع والرؤية.

قيل للشاعر الفارسي الروذكي، وكان أكمه، (وهو الذي ولد أعمى): كيف اللون عندك؟ فقال مثل الجمل.

كان هذا الشاعر يرى اللون بشبكته الثقافية (عيناه المجعولتان) التي مكنته من الخيال، فهو لم يكن يرى بشبكة عينه البيولوجية(عيناه المخلوقتان)، كذلك نحن لا يمكن أن نرى بشبكة عيوننا البيولوجية، بل كل واحد منا (أكمه) تماما مثل هذ الشاعر الفارسي، في رؤية الأشياء غير المادية أو رؤية جواهر الأشياء.

وهذا الكمه الثقافي هو ما تشير إليه عبارة جبران خليل جبران “إذا كُنت لا ترى إلا ما يُظهره النور ولا تسمع إلا ما تُعلنه الأصوات فأنت بالحقيقة لا ترى ولا تسمع”

2.  وصفت المجاز بأنه الحاسة التي بها نرى الأشياء ونفسرها ونفهمها ونعيها. والحاسة كما يراها العديد من المفكرين والفلاسفة تدلنا على الواقع، لكنها لا تستطيع أن تدلنا على ما هو خارج ذلك، لأنه خارج حدودها. يقول فرانسيس بيكون “الحاسة مثل الشمس التي تكشف وجه الأرض وتحجب وجه السماء”. كيف نفهم شمس مجاز بيكون في ظل هذه المقولة وفي ظل هذه الحدود؟

الديري: المجاز حاسةsense شأنها شأن البصر أو اللمس أو السمع، هذا ما يؤكده كتاب لاكوف وجونسون (استعارات بها نحيا) . بل يمكننا أن نقول هو حاسة الحواس، فالحواس تشتغل عبر المجاز اشتغالا مكتثفا وموسعا ومرناً وأصيلا وطلقا، المجاز حاسة تتيح للحواس الطبيعية أن تبدع في إدراكها للطبيعة والعالم وأسراره وعلاقاته وروابطه. المجاز يحدث تشغيلاً مكثفاً للحواس، وهذا ما تستثمره البرمجة اللغوية العصبية التي أصبحت اليوم رائجة في برامج تنمية الموارد البشرية، وهي تحقق نجاحات مذهلة في تحسين طرق التواصل مع الناس والتأثير فيهم.

الشاعر الفارسي الروذكي، كان أعمى، لكنه تمكن من أن يرى اللون، بفضل حاسة المجاز، المجاز هو الحاسة التي لا تعطينا إياها الطبيعة، لكن تعطينا إياها الثقافة. الطبيعة تعطيك عينين لكن الثقافة تعطيك عيوناً كثيرة، تمكنك أن ترى الأشياء رؤية خاصة ومختلفة ومتفردة.

إبراهيم البزاز في رواية (قندة) كان أعمى لكنه يرى اللون، بل ويصفه لـ(عباس).قال ” هل لاحظتَ يا عبّاس؟.. تأتي نسوةُ الحيّ كلّ ضحى، فأفرش لهنّ القماش ألواناً على هذه الفرشة.. ثمَّ (يضحك خفيفاً) أصغي لأصوات دهشتهن.. أسمع أحاديثهن عن القماش واللون معاً.. هكذا أعرفُ اللون.. يا عباس أنا أسمع اللون.. أنا أسمع وطأة اللون!”

من الطريف أن فرانسيس بيكون يشبه الحاسة بالشمس في أنها ترين وجهاً وتخفي عنا وجهاً. وجه الطرافة لا يكمن في أنه برهن بشكل مجازي على محدودية الحواس في الإدراك، ولكن يكمن في أنه جعلنا نرى أن الشمس نفسها محدودة في كشفها للأشياء، فنحن دائما نستدل بالشمس على جلاء الحقيقة، ونقول إن الأمر واضح كالشمس، وننسى أن الشمس بقدر ما تجلي الأشياء وتوضحها وتكشفها وتفضحها، هي في الوقت نفسه تخفي وجوها من وجوه هذه الأشياء وتغمضها وتسترها وتظللها، فتضلنا، وهذا ما أشرت إليه في الكتاب في مجازات الظل والشمس.

والطريف أكثر في تشبيه بيكون، هو أن جاك دريدا قد لاحظ أن مسار المجازات هو مسار الشمس نفسه ، بمعنى أن مجازات  الفلاسفة والمفكرين كلها تحيل إلى الشمس وما تقتضيه من نور وظلمة وظهور وحجب وكشف وستر. وهذا يعني أن مسار التفكير الفلسفي مرتهن دوماً بالشمس بما هي حاسة إدراك ليست طبيعية بل ثقافية، أي أنه ظل مرتهنا دوماً بالمجاز.

الشمس حاسة الفلاسفة، لكنها ليست حاستهم الطبيعية بل حاستهم الثقافية، ومشكلة الفلاسفة هي دوما مشكلة حواس. فهم يؤسسون خطاباتهم على نقد إدراك الحواس الطبيعية لأنها محدودة، لكنهم ينسون أن حاستهم الثقافية (الشمس ومقتضياتها) هي محدودة أيضاً.

وإذا كان التفكير الفلسفي هو محدود كما الشمس محدودة وكما الحاسة محدودة وكما المجاز محدود، فإنه من الأولى أن يكون التفكير في تجلياته المختلفة في السياسية والاجتماع والإعلام والتربية والدين والعلوم محدوداً أيضا، وبالتالي، ليس لأي خطاب وليس لأي تفكير وليس لأي علم أن يدعي أنه أكثر إدراكاً من الشمس التي هي محدودة أيضاً.

3.  المشكالKaleidoscope أداة بصرية، تحتوي على قطع متحركة من الزجاج الملون، ما إن تتغير أوضاعها، حتى تعكس مجموعة لا نهاية لها من الأشكال الهندسية المتناسقة، المختلفة الألوان.

يقوم كتاب “مجازات بها نرى” على تقديم المجاز بوصفه أداة للرؤية. هذه الأداة -كما أوضحت- تمنحنا عيوناً كثيرة، تمكننا أن نرى الأشياء رؤية خاصة ومختلفة ومتفردة. ولعل هذا ما يحاول امبرتو إيكو أن يوضحه حين يعلن أن “في كل كلمة يلمع ألف ضوء”.

كيف يمكن أن نفهم شمس المجاز عبر مقاربتها بمشكال الرؤية والضوء والكلمة ؟

الديري: نعم، يمكننا أن نفهم المجاز على جهة أنه مشكال، المشكال يُمكِّننا أن نرى الأشياء في أشكال كثيرة، أشكال لا حد لها، وفي الوقت نفسه يُمكِّننا من أن نرى الأشياء في ألوان كثيرة، ألوان لا حد لها. للكلمات بالفعل أضواؤها وظلالها، للكلمات مسار هو مسار الشمس حيث الضوء والظلال والظلمة.

كما المشكال يمكّن العين البيولوجية من أن ترى الكائنات في أشكال وألوان لا حد لها، كذلك المجاز يمكن عيوننا الثقافية أو شبكتنا الثقافية أو نظامنا الرمزي، من أن يرى الكائنات في أشكال وألوان لا حدَّ لها. المجاز هو مشكال اللغة، اللغة التي تشكل عقولنا وأفكارنا وقلوبنا وأحاسيسنا وتواصلنا الاجتماعي.

في فيلم (بلاك) الهندي، تعلّم الفنان “أميتا بجن” الذي كان في دور المعلم من الفتاة الصغيرة ميشيل العمياء درساً بليغاً في الضوء. الظلمة التي نتجت عن انقطاع الكهرباء ذات درس، طرحت المعلم المبصر أرضاً، لكنها لم تمنع ميشيل العمياء من أن تواصل حركتها. يعترف المعلم “العين ليست مهمة مقارنة بالضوء. ففي الظلمة حتى العينان تغدوان بلا فائدة”.

كل منا لديه عينان، لكن ليس كل منا لديه ضوء، كل منا لديه لغة، لكن ليس كل منا لديه مجاز. المجاز هو الضوء الذي يُمكّن عقولنا وقلوبنا من أن ترى، ويُمكّن لغتنا من أن تكون بفائدة. اللغة بدون مجاز عينان بلا فائدة أو عينان في غرفة مظلمة، ولا يمكن للإنسان أن يفكر بلغة عيناها غرفة مظلمة.

إنها لغة غير مشكالية، واللغة غير المشكالية أي التي ليس لديها مشكال (مجاز) لغة ترى العالم بلون واحد ،هو لون الظلمة.

كان المعلم يخاطب الطفلة العمياء ميشيل “انهضي سيدة ميشيل. لقد مررنا جميعا من خلال هذه الظلمة. الظلمة التي تعيشين فيها أنت، لذا لا تبقي في نفس العتمة. تعالي إلى حيث الضياء”

نحن نكتسب  الضياء، نتعلمه، نَثْقُفُه، كان يناديها كي تأتي إلى الGuf-BLACK-Amitabh-Raniضياء، كي تصنع لها شبكة ترى من خلالها العالم، شبكة رمزية، شبكة ثقافية، شبكة مكتسبة، شبكة تصنعها هي بالتعلم، نحن بدون شبكة غرفة من غير ضوء. الضياء هو ما نصنعه نحن بالتعلم والثقافة، وبالنسبة للغة، نحن لا نستطيع أن نصنع شيئاً في قواعدها النحوية، لكن نستطيع أن نصنع شيئا في تركيبها ودلالتها كي نجعلها تضيء، حين نصنع لها مشكالاً سنخرجها من العتمة ونجعلها تضيء.

كان المعلم يريد من ميشيل أن تعبر الظلمة، وهي ظلمة يعيش فيها كل من لا يملك مشكالاً يضيء به العالم في ألوانه المختلفة. معظمنا لا يمر ولا يعبر ظلمته، من يملك عينان يعبر ظلمة واحدة، لكن من لا يملك ضوءاً لا يمكنه أن يجتاز أكثر من ظلمة واحدة، هي الظلمة البيولوجية.

تقول ميشيل “كنت أنظر في ظلمتي. وكنت أنت من جلب ذلك الضوء المتلألئ” لقد جلب لها المعلم مشكالاً فصار ضوؤها متلألئاً ” في ذلك اليوم ربحت معركتك الأولى ضد ظلامي”

الانتصار هو أن نرى، انتصرت ميشيل حين صارت ترى بغير عينيها، حين صارت ترى “المعرفة هي كل شيء. هي الروح، الحكمة، الشجاعة، الضوء والأصوات. المعرفة هي إنجيلي، الرب. المعرفة هي معلمي”

انتصرت ميشيل على ظلامها، حين صارت المعرفة هي مشكالها الذي يضيء عالمها، حين صارت لها إجاباتها الخاصة والمتفردة التي تقدمها بين يدي العالم. سئلت ميشيل: كم محيطاً يوجد في هذا العالم، فأجابت: بالنسبة لي كل قطرة ماء هي محيط.

انتصرت ميشيل حين صارت ترى بحاستها (المجاز هو الحاسة)، حين تمكنت من لمس الأشياء التي لم ترها عيون الآخرين، حين أمتلكت القدرة والجرأة على تسمية ما تحسه وما تلمسه ” عندما نقف أمام الرب، كل واحد فينا أعمى، فلا واحد منا قد رآه أو سمعه يوماً، لكن أنا لمسته وأحسست بوجوده، واسميته معلم”

هكذا إذن هو المجاز، أن نرى، هو أن ننتصر، هو أن نجعل من كل شيء ألف ضوء، هو أن نجعل من كل قطرة ماء محيطاً، حتى لو لم نكن نملك عينين.

4. بعد هذا الابحار عميقاً في محيط عين ميشيل (غير الطبيعية)، وبعد التوسع المليئ بالاضاءات غير المنتهية لمفهوم المجاز باعتباره عيناً (غير طبيعية)، قد يمكننا تسمية المجاز أنه العين المتصرفة في الرؤية. هذا التصرف، كما أكدت في الكتاب، وكما أخذنا إليه الحوار، يأتي متأثراً بتجاربنا الفردية والجماعية والثقافية التي نعيشها، بل أنه لا يستطيع أن يرى إلا من خلالها. وهو ما أشرت إليه بتصرف الشاعر الروذكي الأعمى في وصف اللون بأنه جُمل، وهو ما جعل من ميشيل تتصرف في وصف اللون الأسود (الوحيد الذي تراه عينيها الطبيعيتين)، فتعطي له معان جديدة، وتعلن في يوم تخرجها “الأسود ليس مجرد العتمة والاختناق. بل هو لون النجاح أيضاً والمنجزات. هو لون رداء التخرج الذي نتقاسمه اليوم”.

كيف يمكن أن نفهم فعل الثقافة الجماعي من خلال المجاز؟ وكيف يمكن أن نفهم فعل المجاز الفردي من خلال الثقافة؟ كيف تنسج الثقافة شبكة العين غير الطبيعية، وكيف تنسج إنسانها الفرد؟ وكيف يتصرف هذا الفرد في شبكته الثقافية الجماعية؟

الديري: يجب أن نلتف إلى أن تصرف الشاعر الروذكي الأعمى في اللون وتصرف ميشيل في الظلمة، هي تصرفات فردية، وهما بهذا التصرف الفردي يمثلان تفردهما وإبداعهما، ويمكننا أن نفهم هذا التصرف ضمن الإمكانات الواسعة التي يتيحها المجاز للفرد كي يمارس وجوده على نحو مبدع، إلا أن هناك مجازات تقع على مستوى الثقافة ويستخدمها الفرد ضمن أفق الجماعة الرمزي ويرى بأفقها، وظيفة هذه المجازات تختلف عن وظيفة المجازات الفردية، فالمجازات التي تقع على مستوى الثقافة تمارس هيمنتها وبرمجتها لرؤيتنا، والمجازات التي يبتكرها الفرد هي وجه من وجوه صرفه لهذه الهيمنة، فالظلمة والسواد تنظر إليهما الثقافة التي ينتمي إليهما الروذكي وميشيل نظرة غير محببة وهما علامة على الجهل ونقص المعرفة، لكن تصرف ميشيل وتصرف الروذكي أعطى لهذه المجازات معاني جديدة وحياة جديدة وإمكانات جديدة، وبهذا صرفا الوجه السلبي الذي صنعته الثقافة لهذين الرمزين.

ولأتوسع أكثر في الجواب على هذا السؤال، سأستعين بثلاث جمل وقعتها إهداءات لأصدقاء ينتمون إلى حقول معرفية مختلفة لكنها متداخلة، الذين يشتغلون في النقد الثقافي أهديتهم كتابي موقعاً بالإهداء التالي “المجاز تمثيل تقوم به قوة تريد أن تفرض حقيقة ما” والذين يشتغلون في الانثروبولوجيا كتبت لهم الإهداء التالي “كل ثقافة تودع حقائقها في أرشيف من المجازات” والمختصين بعلم الاجتماع، كتبت لهم “بالمجازات يأتلف المجتمع ويختلف”.

الثقافة كما يقول (غرامشي) هي شبكة من المعاني والرموز والإشارات التي نسجها الإنسان بنفسه، لإعطاء الغاية والمعنى لنفسه وجماعته والعالم والكون من حوله. تراكم الثقافة منتوجاتها فتصنع أرشيفاً يمثل ذاكرة ولا يمكن أن تكون لنا ثقافة أو يكون عندنا مجتمع بدون ذاكرة.

تعمل الثقافة كشبكة رؤية للفرد كي يرى من خلالها العالم، وكي تنتمي إلى ثقافة ما يجب عليك أن تنتمي إلى شبكة رؤيتها، ولأن الثقافة بناء رمزي لطيف جماعي فلا بد لهذا البناء أن يتجسد في شكل يكون بمثابة الحاسة لجماعة ما. هذه الحاسة الجماعية تتبدى في شكل جسد مجازي. حين نريد أن نعرف شبكة الرؤية التي تُمكِّن من خلالها الثقافة العربية الفرد المنتمي إليها من إدراك معنى الكرم أو الموت أو الشرف أو الكرامة أو المرأة أو الشك أو اليقين أو الحب أو الآخر، فإننا نبحث في أرشيفها الرمزي الذي هو أرشيف مجازاتها.

هذا ما فعلته مثلا في مجازات الشك، حين رحت أرى كيف مثَّلت مجازات ثقافتنا هذا المفهوم في معتمداتها، أي في كتبها وأصولها المعتمدة التي تعود إليها وتثق فيها. وهذا ما فعلته حين رحت أرى كيف تمثلت ثقافتنا مفهوم المعرفة والحب من خلال ابن عربي. وحين أردت أن أعرف كيف تشكلت شبكة رؤيتي الثقافية التي رأيت من خلالها المرأة، رحت أنقب في مجازات ثقافتي الدينية. هكذا إذن تصوغ الثقافة حقائقها الجمعية في صيغ مجازية، وبذلك تُكوِّنُ أرشيفها الذي يعود إليه الفرد كل ما أراد أن يفهم شيئاً ما أو يراه أو يضيئه أو يتعلمه.

وهذا ما يؤكده الأنثروبولوجي (كليفورد غريتز) حين يذهب إلى أن الدين يشمل صورا واستعارات وتشبيهات يستخدمها معتنقوه لوصف وتحديد الحقيقة. وهذا ما جعله في الخمسينيات والستينيات يلجأ لأسطورتي سونان كالجيكا وسيدي الحسن اليوسي، لفهم إسلام المجتمع الأندونيسي والمجتمع المغربي في دراسته الشهيرة (الإسلام من وجهة نظر علم الإناسة)

ما تودعه الثقافة في أرشيفها، يبقى عرضة للاستخدام والتوظيف دائماً بين القوى المتصارعة في المجتمع. حين مثَّل حكماءُ ملك المغرب المرأة (راجع مجازات السم) بمجازات الأفعى والسم، كي يسمموا فكرة تعليم المرأة، كانوا هذه القوة التي قصدتها في جملة “المجاز تمثيل تقوم به قوة تريد أن تفرض حقيقة ما”.

ولكل قوة في المجتمع مجازاتها التي تمثل بها مفاهيمها لما يدور في المجتمع، وهي تأتلف مع بعضها أو تختلف بما تمثله هذه المجازات من حقائق “بالمجازات يأتلف المجتمع ويختلف”.

5. سأقتطف هذه العبارة من إجابتك ” تصرف ميشيل وتصرف الروذكي أعطى لهذه المجازات معاني جديدة وحياة جديدة وإمكانات جديدة، وبهذا صرفا الوجه السلبي الذي صنعته الثقافة لهذين الرمزين”. سأقف مرة أخرى عند التصرف بما هو فعل يمارسه الفرد في داخل ثقافته الجماعية؛ فإذا كانت عين الفرد (غير الطبيعية) محكومة بشبكة ثقافية تشكل رؤيته وتهيمن عليه وتخضعه لها. كيف يمكن لهذا العين أن تتصرف في وجوه الأشياء خارج حدود هذه الشبكة وخارج رؤيتها؟ كيف يمكن صرف الوجه الذي تصنعه الثقافة للأشياء وتبديله بوجه آخر؟

في مجازات الشك، ذهبت أنت لترى كيف مثَّلت مجازات ثقافتنا هذا المفهوم في كتبها وأصولها المعتمدة التي تعود إليها وتثق فيها، لكنك من خلال تشييدك لمفهومك عن الشك، عملت على صرف الوجه السلبي الذي صنعته الثقافة لمفهوم الشك، أي أنك لم تقف عند حدود هذه الشبكة ولم تخضع لبرمجيتها، فصرت ترى في الشك حياة وحركة ومعرفة ونطقاً وتصرفاً، في حين ترى شبكتنا الثقافية فيه كفراً ورجسا وفسقاً وجحداً ومعصية.

كيف يمكن للفرد الخروج على شبكته الثقافية، والتصرف بخلافها وهي عينه المجازية؟

يمكنه فعل ذلك، حين يكون قارئاً من الدرجة الثانية، أي حين يخضع شبكته الثقافية التي هي حاسته وضوؤه وعينه غير الطبيعية، حين يخضعها للقراءة والنقد والفحص. المجاز بقدر ما هو حاسة ترينا، هو حاسة تعمينا أيضاً، وكما الحواس يصيبها الوهن والعطب، يصيب مجاز ثقافتنا الوهن والعطب ويفقد قدرته على الاتساع والإبصار.يمتاز الإنسان بالتصرف، وهذا ما يتيح له أن يصرف وجوه شبكته الثقافية التي يولد فيها ويربى فيها ويألف مجازاتها التي تبدو وكأنها حقائق مطلقة ومنتهية.تشتغل المجازات عبر الشبكات الثقافية على جهة أنها أدوات ترويض وإقناع وصياغة، وهي تصوغ حسنا المشترك عبر القصص والحكايات والمرويات والحكم والأمثال. إنها تصوغ حسنا المشترك في تشكيل خطابي قوامه “فضاء من المجازات والإحالات أو نظام من القواعد والإحالات”

وتجعل الثقافة من محتويات هذا الفضاء مقدمات برهانية تسوقها في شكل أدلة تحاجج بها، وكأنها مسلمات لا تقبل الجدل، ولأوضح ذلك بشكل أفضل، سأناقش الأمثلة التالية المأخوذة من خطاب ثقافتنا: الخليفة ظل الله، الشعب رعية الخليفة أوعائلة الملك، الدولة جسد سياسي، الوطن دار الإسلام، دولة الخلافة حامية بيضة الإسلام.

الموضوعات (الخليفة، الشعب، الدولة، الوطن، دولة الخلافة) محمولاتها (ظل الله، رعية، عائلة، جسد، دار، بيضة) مجازية. الفكر هو تركيب أو إسناد محمول إلى موضوع. بهذا التركيب نربط بين الأشياء ونخلق الوجود وفق شبكة ما. أي أن شبكتنا الثقافية التي بها نرى هي التي تربط بين الموجودات (الموضوعات والمحمولات) وهي تقيم ارتباطات مجازية، تركب من خلالها واقعاً ما. وهذا ما يدحض فكرة أننا يمكننا النظر للواقع بشكل موضوعي صارم. فالإنسان لا يمكنه أن ينظر إلى حقائق الواقع إلا بحاسة ثقافية (مجاز). وكل ما ندركه بهذه الحاسة، فهو مقاربة للحقيقة وليس قبضاً عليها.

وهذا ما يسمح لنا بالقول إن المجاز دليلنا على الحقيقة، لكنه ليس (الدليل) أي ليس الدليل بـ(أل) التعريف، الدليل بـ(أل) التعريف يغلق الأشياء ويختم على فهمنا بدل من إن يفتحه. الدليل بغير بـ(أل) التعريف يفتح طرقا كثيرة للاقتراب من حقائق الأشياء، أو لنقل بحسب تعبيرات الفلاسفة طرق كثيرة للنظر في الأشياء، والنظر يحيل إلى العيون، وهي في هذه الحالة عيون غير طبيعية بالتأكيد، أي عيون ثقافية وهي ما سميناها (مجازاً) أو(حاسة). علينا أن ننظر إلى جمل الثقافة وقاضياها ومحمولاتها وأدلتها وحقائقها ويقينياتها على أنها تركيبات مجازية ندرك من خلالها الواقع بنظر ما.

لقد قلت ذات مرة وأنا أراجع شبكتي الثقافية التي ركبت سيرتي وفق نظر ما “رحت أقرأ مخيلتي الجماعية التي تشكلت طوال هذه القرون، أخذت أفكك مفاصلها الكبرى، فبدت لي مجازاً كبيراً منحه التاريخ والتقديس ما جعله يبدو في صيغة حقائق وثوابت لا يمكن أن تهز. حين يهتز مجازك يهتز حسك المشترك، فتفقد أمان الحقائق الجمعية”

تشتغل المجازات في خطابات الثقافة وتصوغ تصورات ناسها ورؤاهم وقيمهم، للوطن والسياسة والحكم والحق والمواطنة، لذلك فهي جمل ثقافية، وبقدر ما نفهم كيف أنها تركيبات مجازية، سنفهم كيف أن المجاز ليس مسألة جمالية فقط وليس سطحاً فقط وليس جملة فقط، بل هو تركيب ثقافي معقد يحيل إلى أنساق تتطلب حفراً مضنياً في خطابات عدة كي نكتشف خارطة عمله في الثقافة.

لذلك حين يستخدم أحدنا مجاز ما، فإنه يحيل إلى شبكة ثقافية ما، إن فهم الخليفة مثلا من خلال (ظل الله) وإضافات الرعية، كما في قول ابن المقفع “لتعرف رعيتكَ أبوابكَ التي لا ينالُ ما عندكَ من الخيرِ إلا بها” سيحيلنا إلى شبكة الآداب السلطانية وثقافتها، وهي كتابات تقوم في أساسها على مبدأ نصيحة أولي الأمر في تسيير شؤون سلطتهم. تحليل هذه الشبكة سيعرفنا كيف اشتغل المجاز في تركيب فكرنا السياسي (الآداب السلطانية)، وما الذي بقي إلى اليوم يشتغل فيه بواسطة هذه المجازات.

6.  إذا كان خطاب الثقافة يشتغل بحاسة العين (المجاز)، فهل خطاب العلوم (العلوم الإنسانية خصوصاً كعلم الاجتماع والسياسة والتاريخ والبلاغة والنقد والإناسة) يشتغل أيضا بهذه الحاسة؟

هناك مثل فارسي على ما أظن يقول “عقولهم في عيونهم”. قرأته في دراسة للمفكر الإيراني عبد الكريم سروش، وهو يسوقه في مجال التدليل على أن الناس تفهم الأشياء التي تراها بعيونها وتعقلها، ولا تذهب إلى أبعد من ذلك لفهم أصولها ومبانيها.

في كتابي أنا أذهب إلى أن هذا المثل “عقولهم في عيونهم”، لا ينطبق على عامة الناس فقط، بل على سروش نفسه، وعلى جميع المفكرين والفلاسفة والعلماء، إلا أن الفرق بين عيون الناس وعيونهم، يكمن في أن عقول الناس أقرب إلى عيونهم البيولوجية، وعيون المفكرين أقرب إلى عيونهم الثقافية التي يصطنعونها. لكن كلاهما ينظرنا من خلال عين واحدة هي عين تجربتهم الجسدية، بدليل أنهم يسمون أهل النظر، لأنهم يشيدون من خلال هذه العين المشتركة عيناً أخرى أكثر لطافة وأنفذ بصيرة، وهذه العين هي حاستهم، هم أهل نظر لأنهم أهل حاسة غير طبيعية، هذه الحاسة هي ما سميناه المجاز.من غير هذه الحاسة لا يمكنهم أن يتمايزوا ولا أن ينظروا. بقدر ما يجودون من حاستهم هذه، وبقدر ما يصقلونها بتصرفهم، يمكنهم أن ينظروا ويروا ويتخيلوا ويجدوا. إذن كلنا عقولنا في عيوننا، وهذا ربما هو معنى عنوان كتابي (مجازات بها نرى).

وكي يكون كلامياً مدعماً بالأدلة والأمثلة، سأستعرض مجموعة من العيون التي كان يشيد من خلالها أهل النظر عوالم علومهم.

يشيد الناقد (مصطفى ناصف) مفهومه للتأويل والفهم عبر المجازات التالية:

“التأويل هو المعنى الغائم المستور الذي نحلم به ونشتاق اليه. التأويل سبيل للتوافق مع الوقائع المتdark غيرة للحياة. الأقنعة تأويل. التساؤلات المستمرة لب التأويل. التأويل يمحو ويثبت. التأويل يحرك الماء من خلال ما يقوله وما لا يقوله معاً. التأويل نهوض بالواجب. التأويل إحياء لثقافتنا. التأويل عطاء لوجودنا. التأويل فلسفة يراد بها وجه الإنسان لا وجه التحليل … الفهم إعداد حسن لعميلة التغيير. الفهم معالجة الحياة.الفهم توسيع الأفق.الفهم استيعاب الأشياء التي لا تقع في دائرتنا”

صار التأويل عيناً يمكنها أن ترى بقوة بصيرة نافذة، بفضل تصرف هذا الناقد الفذ بهذه الحاسة، ولأنه استثمر تجربته الحسية بطلاقة ومرونة، استطاع أن يجعل من التأويل مفهوما مبدعاً له القدرة والقوة على الاتساع والتقلب والنماء والحياة، وتلك هي شروط المفهوم الحي الموصول بسياق التداول، كما يقول طه عبدالرحمن في كتابه فقه الفلسفة.

المثال الآخر هو مقدمة ابن خلدون، لقد أنشأ ابن خلدون علمه الجديد في مقدمته من خلال تصرفه في الجسد، جعل منه عيناً يرى من خلاله الدولة والمجتمع، لذلك فبقدر ما نحسن فهم جملة “الدولة جسد”، نفهم مقدمة ابن خلدون، ونفهم جدل تناقضاته، ونفهم سر عظمته.

كان ابن خلدون يرى ما يعرض للبشر في اجتماعهم من عصبية وعمران ودولة، من خلال طب الجسد الإنساني بأعضائه وأحشائه،

لقد تصرف في هذه العين (الجسد) تصرفاً طوعه ليكون أداة رؤية، نبدع في ابتكار موضوعنا بقدر ما نبدع في التصرف بالعين التي نراه بها كانت مقدمة ابن خلدون مبدعة ومبتكرة للعمران البشري والاجتماع الإنساني وما يتقوم بهما من عصبية وحسب ونسب ومدن وبوادٍ. كانت مبدعة بتصرفها في الجسد

ابن خلدون كان يرى في القوة التي هي قوام الجسد، حقيقة الدولة، كان مشغولاً بفهم قوانين هذه القوة، تماما كانشغال الطبيب بقوانين قوة الجسد، كيف هو واقع الجسد؟ كيف يولد؟ كيف ينمو؟ كيف يقوى؟كيف يضعف؟ كيف يمرض؟ كيف يهرم؟ كم عمره الافتراضي؟ كيف يكون في قوته وضعفه ومرضه وصحته؟

كان يفهم كيمياء الدولة من خلال كيمياء الجسد، ومعرفة هذه الكيمياء كانت مدينة إلى الطب الوسيط الذي يتأسس على العناصر الأربعة (الماء والهواء والنار والتراب) والأخلاط الأربعة (الصفرة والدم والبلغم والسوداء) والطبائع الأربع (الحار والرطب والبارد واليابس) للجسد. بهذه المعرفة الطبية، راح ابن خلدون يؤسس معرفته العمرانية، لفهم الدولة والعصبية وجدل البداوة والحضارة. كيف تتفاعل هذه الرباعيات في الجسد؟ وكيف يغلب بعضها بعضاً؟ وكيف يقضي بعضها على بعض؟

حين نقول اليوم إننا نفهم الدولة بأنها جسد ونفهم الحقول المختلفة في الدولة بالإحالة على الجسد فنقول: الجسد الصحفي، الجسد الطلابي، الجسد القضائي، الجسد الاجتماعي، فإننا كأننا نقول قالت مقدمة ابن خلدون.

الآلية نفسها وظفها توماس كون صاحب كتاب (بنية الثورات العلمية) الذي خصصه لفهم طبيعة الثورات العلمية، أي كيف يحدث الانتقال من إطار فكري أو نموذج إرشادي إلى  آخر(paradigm) وجد مجاز الثورات السياسية أفضل نموذج لفهم هذه الطبيعة، وراح يوسع هذا الفهم من خلال إطار هذا المجاز. فصارت الثورات السياسية هي عينه التي تصرف بها ليرى موضوعه.

يمكن أن نختم الأمثلة بنيتشه الذي عرف الحقيقة بأنها اضطراب من المجازات. يشيد نيتشه مفهوم القيمة من خلال مفهوم وجهة النظر ويعرف كلا المفهومين من خلال عين الوجه.

تعني القيمة عند نيتشه وجهة نظر، أي ما يتجه نحوه الوجه –حرفيا- كشرط لارتقاء كيان معقد ذي حياة قصيرة نسبياً موجود في صيرورة. القيمة ما يتوجه نحوه الوجه فتنفتح له الرؤيا. القيمة تعني وجهة النظر وهي لناظر ومن أجله، إنها قيمة في عينيه، أي بمقدار ما يراه هو وبمقدار ما يضعه هو فيها، وبهذا المقدار تصبح محط أنظاره ومقصده ومن ثم موضوع فعله. للذلك فالقيمة هي ما يوجه الوجه نحوه. وهي يلفت الوجه نحوه، وهي حسب تعبير هيدجر قبلة النظر.

الحياة الجديرة بالعيش حسب نيتشه هي الحياة التي لها قيمة= وجهة نظر= قبلة نظر=لفتة الوجه= محط أنظار كائن=موضوع فعل كائن. قيمة تصنعها إرادتنا، تلك هي “إرادة القوة” وهي عنوان كتاب نيتشه الذي ختم به حياته.

للتوسع في هذا الموضوع يمكن مراجعة دراسة دكتور غانم هنا “نيتشه:فاصل بين حديث ومعاصر.. تجاوز هيجل” عالم الفكر،إبريل2002.المجلد30.ص14

في حوار مع الدكتورة ميّ صيْقلي

مي صيقلي

جريدة الوقت: الدكتورة ميّ صيْقلي مؤرخة اجتماعية. تعنى بدراسة وتدوين الجانب الشفهي من التاريخ، وتؤكد على أهمية التسجيل الشفهي في إعادة بناء التراث التاريخي الفلسطيني. تخرجت عام 1966 من جامعة بيروت تخصص تاريخ وسياسة. وأنهت الماجستير عن تاريخ الشرق الأوسط في جامعة كاليفورنيا عام 1973. حصلت على الدكتوراه عن التاريخ الاجتماعي- الاقتصادي الحديث للشرق الأوسط في جامعة إكسفورد البريطانية عام 1983. كانت أستاذة التاريخ في جامعة كاليفورنيا بين 1993- 1995. وهي تدرِّس حالياً مادة التاريخ والتراث في جامعة واين ستايت بالولايات المتحدة الأميركية. كانت أستاذة التاريخ في جامعة البحرين بين 1983 – 1993. ألّفت عدداً كبيراً من الكتب والمقالات المتخصصة في التاريخ العربي. وهي تعمل الآن على دراسة مقارنة بين المرأة البحرينية والقطرية، تتناول فيها المرأة التي لها مساهمات بارزة في المجتمع، من منظور المرأة نفسها. ترى صيْقلي أن هوية المرأة البحرينية، تعرَّضت إلى تغييرات سريعة، بفعل تقدُّم المرأة في التعليم، وبفعل انخراطها في السياسة، خاصة بعد التحوُّلات السياسية التي شهدتها البحرين في الفترة الأخيرة.

حديثنا سوف يدور حول ثلاثة محاور. المحور الأول سوف يبدأ بالتاريخ الصغير، وهو تاريخكِ الشخصي وتكوين سيرتكِ على هذا المدى الطويل. ثم سنتحدَّث عن جانب من التحوُّلات النظرية في علم التاريخ. بعد ذلك سوف ننتهي إلى الدراسات التطبيقية التي عملتِ عليها. دعيني أبدأ بسؤال: ماذا يعني لميّ صيْقلي أنها مؤرخة؟

صيْقلي: لا أدري كيف أستطيع أن أصف نفسي بأني مؤرخة، إلا أنني أشغف بدراسة وتتبع ما قد حدث، وأحاول أن أربطه بالواقع وأخرج منه بعِبَر لما يحدث لنا. إن التوقيع والموَقَّع مهم جداً، ولكن صوت الناس أيضاً بالنسبة لي تاريخ. وإنْ كان التاريخ الشفهي لا يمكنه أن يرتكز على نفسه، دون أن يكون له البُعد الموَقَّع والأصوات الأخرى التي وُجدت في التاريخ.

كيف تميِّزين بين كونكِ مؤرخة، وبين وصف المسعودي مثلا أنه مؤرخ؟ ما الفرق بين مؤرخ اليوم ومؤرخ الأمس؟

صيْقلي: إنني لم أصل إلى قناعة بأن أستمع إلى الصوت الحالي، إلا لأنني بدأت أشكك في التاريخ القديم والأشياء الموثَّقة. وكانت تجربتي بالتاريخ من خلال دراساتي. فعندما كنتُ أقوم بدراسة تاريخ فلسطين بالتحديد، وأطَّلع على الأرشيف الموجود، شعرتُ بأن أولئك الذين كتبوا التاريخ ووثقوه، هم أيضاً بشر وُجدوا في فترة محددة، ووصفوا ما وصفوه برؤية محددة. وبالتأكيد كانت هذه الرؤية متأثرة بالوضع الذي قدَّموه. مثلاً، عندما قمتُ بدراسة وثائق الانتداب البريطاني، من سنة 1918 إلى سنة 1939 بالتحديد، كانت تظهر لي أسماء من الواضح أن لها رؤية معينة. هؤلاء لم يكونوا يكتبون عن العرب ولا عن الفلسطينيين، ولا عن دور اليهود والاستعمار في تلك الفترة. ووجدتُ أن هناك شائبات عليَّ أن أتأكد منها، فليس كل ما وُثِّق تاريخ. عندما درست تاريخ الثورة سنة 1939 كان يوجد في وثائق محددة مثلاً مصطلح «الثوار»، فمن هم الثوار من وجهة النظر تلك؟ إنهم يختلفون عن أولئك الذين يحدِّثني عنهم الناس، عندما أتوجَّه إليهم بسؤال: من هم «الثوار»؟. أجد أن لديهم رؤية مختلفة وخلفية أخرى. فالقصة ليست لراوٍ واحد، التاريخ هو بين هذا وذاك، وعليك أن تعطي تحليلاً وتفسيراً من منطلق من الذي وثَّق؟ ومتى وثَّق؟ ولماذا وثَّق؟ وكيف وُثِّق الموضوع؟ لكي تستطيع أن تصل إلى القصة. لأنه في النهاية لا توجد حقيقة مجردة. الحقيقة هي بِعِدَّة رؤى، وحين تُغلق إحدى هذه الرؤى فلن يكون ذلك تاريخ.

دعينا نعود إلى بداية تشكُّل هذا المفهوم لديك، في بداية تكوينكِ الأكاديميّ.

صيْقلي: أولاً، أنا كبقية نتاج جيلي، تخرجتُ من مدارس علَّمتنا التلقين والتدريس العادي. فبدأت أقرأ لكتَّاب ومؤرخين عالميين، وبدأت أتعلم كيف يضعون النقد، وكيف يتناولون الرؤية والرؤية الأخرى. كانت شهادتي الأولى من بيروت. وفي بيروت تعاطيتُ مع عدة أساتذة عرب وأجانب، يُدرِّسون التاريخ من منطلق يختلف عن الذي درسته. كانوا يدرِّسوننا أن هذا هو التاريخ، وهذا هو الواقع! بعد ذلك تكوَّنت لديَّ تساؤلات كثيرة ليس على التاريخ فقط، بل على أمور أخرى أيضاً منها الدين، وبعض الثوابت التي كانت لديّ. التساؤل هو ما أوصلني لأن أصير مؤرخة. من الطبيعي أنني مررت بفترات ضعضعة، ولكن قراءاتي للعديد وللكثير من المفكرين العرب في تلك الفترة، سياسيين وغير سياسيين، منهم فايز صايغ وصادق جلال العظم وطريف الخالدي ووليد الخالدي، ساعدتني كثيراً. فقد كانوا جميعهم في بيروت في تلك الفترة، إضافة إلى العديد من الأساتذة الأجانب الذين أثَّروا عليَّ فكرياً. لأن طريقة التعليم كانت تختلف كلياً عما تعوَّدتُ عليه. عليكَ أن تقرأ للكل ومن جميع النواحي لكي تحاول أن تصل إلى قناعاتك ولما تظن أنه واقع. ثانياً، أنا فلسطينة من مهاجري 1948، وكنتُ محظوظة لأني أهلي استطاعوا أن يوفروا لي تعليماً، وأن يوجهوني كي أعتمد على نفسي وأقف على رِجليّ. كانت هذه التجربة بالنسبة لي أساساً ومعياراً آخذ به الأمور التي كنتُ أُقدِم على دراستها.

كان تفكيري السياسي قد بدأ وأنا في المدرسة، في فترة ثورة الجزائر. كنتُ في مدرسة فرنسية، وكان هناك تعتيم على الأخبار، فكانت تهرَّب لنا المعلومات عن جميلة بوحيرد وغيرها. فكنتُ أختبئ تحت السرير وأقرأ على ضوء مصباح يدوي صغير عن ما كان يحدث. في تلك الفترة استطعتُ أن أتعرف على نفسي كفلسطينية تؤمن بقضية الشعب الفلسطيني، وبالحق المهضوم. وهذا ما كان عليه جو أسرتي التي تربيتُ فيها. كان نصف أهلي في الخارج، وكنا نمرّ بفترات حزن رهيب سنوياً. أنا مسيحية، وكان يُسمح للمسيحيين في عيد الفطر بأن يخرجوا، فكانت عمتي تأتي لزيارتنا، وكنتُ أرى أبي وأعمامي كيف يستغرقون في البكاء. كانوا يسألون عن الأهل، من مات منهم ومن ما زال حياً. فقد كانت العلاقات مقطوعة، وكنا نحن وقتها في الأردن. كانت هذه تجربتي التي وعيتُ عليها منذ أن كنتُ طفلة في الخامسة أو السادسة. وكل هذا يبني ما أنت. أنا نتاج هذه الخلفية ونتاج دراساتي وتجربتي.

يبدو أن هذه التجربة متوترة بألم الواقع وصيروراته، وفي نفس الوقت بتحوُّلات فكرية. أحياناً تؤثر التجربة المريرة في مسار الباحث، بحيث يكون ذا مسارٍ واحد، ويرى الحقيقة فقط بما عاشه. فكيف استطعتِ أن تجعلي البُعد الأكاديمي بعداً يتحكَّم في دراستك للواقع، دون أن يخضع هذا التوتر للبُعد الأكاديمي؟

صيْقلي: هذه كانت أكبر معضلة ونزاع خلال حياتي الأكاديمية. أنا أريد أن أوصِّل القصة، ولكن من الناحية الأكاديمية البحتة، الواضحة، الصادقة. لأنني أعرف خصوصاً وإنني متواصلة مع كتابات الغرب، كيف كانت الصورة لدى الغرب عن القضية الفلسطينة، مُتَناولة بشكل خاطئ. فكان أهم شيء بالنسبة لي هو توصيل القصة. وهذا هو السبب الرئيسي فيما اخترته في مجالاتي العلميّة.

كتبتُ تاريخ حيفا، وهي مدينة أهلي. وقد تمَّ الاعتراف بأن الكتاب أكاديمي بحت من جميع النواحي. وظهرت دراسات تحليلية في الكتب والمجلات الغربية تناولت هذا الكتاب. وكذلك في بعض المجلات العبرية في إسرائيل وفي بعض الدول العربية. أنا في النهاية بشر، ولكني حاولتُ جهدي ومن جميع المنطلقات أن أنقل القصة كما هي. نقلتُ ما لي وما عليَّ. كان من المهم بالنسبة لي أولاً أن أفهم ما هي الحركة الصهيونية، وما هو دورها في عملية استلاب حقي وحق شعبي. اسم الكتاب (تاريخ حيفا العربية)، كتبته بالإنگليزية، وقد تُرجم إلى العربية. كان الكتاب أطروحة الدكتواره التي قدمتها. هنا استطعتُ أن أفهم ما هي قصة الوثائق. وخلال هذه الفترة بدأتُ أكتب في التاريخ الشفهي، لأنني رأيتُ أنه من اللازم أن يصل الصوت.

في فترة السبعينات استطعتُ أن أصل إلى بعض العناصر المعمِّرة من قبل الحرب العالمية الأولى، والموجودة في حيفا. وقد أخذتُ الكثير من المعلومات من هذه الأصوات، من تجربتهم الأولى. لقد كانت أحداث 1948 مطموسة. إن ما حدث للفلسطينيين كان بداية الهوليكوست، والذي هو مستمر إلى الآن. لذلك أرى كما يرى الكثير من الفلسطينيين، أنه من الضروري أن نأرشف الذاكرة الفلسطينية، والصوت الفلسطيني، وأن نكتب عنه أيضاً. صار لي خمسة عشرة سنة، وأنا أُجمِّع ما يتعلق بالذاكرة الفلسطينية، ولديَّ قاعدة بيانات بالقدر الذي تمكنني به ظروفي.

ليست هناك غرابة في أن تذهبي إلى تاريخ حيفا. فمسيرة تجربتك فيها كل التبريرات التي نستطيع أن نتفهم من خلالها لماذا ذهبتِ إلى تاريخ حيفا. ولكن سؤالي هو: ما هي النظريات المعرفية في العلوم الإنسانية، في تلك اللحظة التي أعطتكِ مسوغاً ومبرراً لكي تدرسي هذا التاريخ بهذا المنظور؟

صيْقلي: أولاً، كتابي اسمه تاريخ حيفا، ولكن نمطه يتعدى حدود حيفا. الكتاب هو عن التجربة الفلسطينية، وحيفا هي مثال أعظم بالنسبة للمدن الفلسطينية، وعملية تهجير أهلها وتغريبها. ما حدث في حيفا حدث في بقية المدن الفلسطينية، وهو يحدث إلى اليوم. هذه أهمية هذا الكتاب. كانت حيفا مهمة بالنسبة لي، لأن فيها أقربائي، ولأن من السهل أن أصل إليها بسبب العلاقات التي لي معهم. الكتاب هو لكل القضية الفلسطينية ولكل الاحتلالات التي حدثت في الدول العربية. إنه يتحدَّث عن إبعادنا، عن حضارتنا وتجريدنا من شخصيتنا الأساسية، وعدم ربطنا بالبُعد الحضاري الذي كان لدينا. ربما تكون فترة الدراسة التي تناولتها في الكتاب قصيرة، ولكني حاولتُ أن أدخل فيها كل هذه النقاط الجديدة، التي تُعتبر النواة الأساسية لعملية ما يحدث اليوم.

قمت بتدريس علم الآثار في البحرين، ولكن الرسالة واحدة. فعندما كنتُ أدرِّس التاريخ القديم، كنتُ أذهب بطلابي إلى المدافن الموجودة في البحرين، ومنها نعود إلى دور السلطة، وإلى الإنسان، وإلى علاقة الإنسان بأرضه وبحضارته. ما أحاول أن أقوله أن بي نفحة الأستاذ المدرِّس، فكان من الضروري أن أصل إلى هذا النمط الرئيسي وأستخدمه.

لا بدَّ أنك رجعتِ في السبعينيات، إلى مراجع علمية، أعطتكِ المسوِّغ المعرفي لأن تدرسي تاريخ الحكايات والتاريخ الشفهي، وأن تشككي في الوثائق التي تكتبها السلطة الرسمية. ما هي هذه المرجعيات؟

صيْقلي: كانت مرجعياتي الأولى هي أصوات الناس الذين كانوا قريبين مني، والقصص التي كان يحكيها لي والدي وأعمامي وأخوالي وخالاتي. خصوصاً بالنسبة للقصة الصغيرة المتمثلة في فلسطين. فيما بعد انفتحت على الأدب الفلسطيني وعلى الشعر الفلسطيني، وكان كله يتحدَّث عن التغريب والغربة والمكان الأول! فلا تستطيع أن تبتعد وأنت تدرس، عن كل هذا إن كنتَ إنساناً مفكراً. لقد عمِلتُ في المخيمات، وأثَّرتْ بي قصص الناس التي يحكونها، إضافة إلى القصص التي سمعتها من أهلي. كان هذا هو مرجعي الأول، وكان الأدب الفلسطيني هو مرجعي الثاني.

إن أول من كتب عن سقوط حيفا وأسباب سقوط حيفا، هو وليد الخالدي، ولم يكن أحد في الغرب قد سمع بما كتبه، فسألتُ أهلي: هل شهدتم تلك الفترة؟ قالوا: نعم، وهذا هو ما حدث وليس ما كتبه الغربيون ثم يدَّعون أن هذا هو أرشيفنا! هنا أنتَ كمؤرخ تأخذ كل ما هو موجود وتبدأ بالمقارنة. وبالتأكيد يجب أن تأخذ في الاعتبار كأكاديمي، موضوع الذاكرة وضعف الذاكرة. فمن الضروري عند إجراء أي دراسة شفهية أن يؤخذ بعين الاعتبار ضعف الذاكرة.

أنا الآن أقوم بدراسة عن قرية اسمها «سحماتا» تقع في قلب منطقة الجليل الأعلى. وهي قرية دُمِّرت سنة 1948. أقل من ثلث سكانها مسيحيون والباقي مسلمون. سمحوا للكثير من المسيحيين بالبقاء، وهُجِّر البقية إلى سورية ولبنان ودول أخرى. لقد قمتُ بزيارة هذه المواقع، والتقيتُ بالعديد من الناس الذين هُجِّروا، مسيحيون ومسلمون، واستمعتُ إلى تجربتهم سنة 1948 وما بعدها. قمت بتجميع هذه المعلومات وحاولتُ أن أعيد بناء هذه القرية من ذاكرة هؤلاء الناس. فهل يستطيع أحد أن يكذِّب حكايات خمسين شخصاً لم يلتقوا ببعضهم لخمسين سنة مضت؟!

كيف تتصرفين مع عملية انتقاء الذاكرة؟

صيْقلي: على الباحث المجرِّب أن يكون متفهماً لعملية الانتقاء. ثم بعد أن تلتقي بهذه الشخصيات الكثيرة، التي تتواجد في أماكن مختلفة، ولا تلتقي ببعضها، وتسمع كل واحدٍ منهم يعيد نفس القصة بحذافيرها، ويتفقوا جميعهم في رسم صورة القرية، وفي ذكر أسماء أهالي القرية، فسوف تطمئن لهذا التاريخ. من الطبيعي أن تكون هناك اختلافات طفيفة في النقل، ولكن فحوى القصة والتهجير والمعاناة وكل ما حدث لهم واحد.

هل كان الدرس الأكاديمي في تلك اللحظة يثقُ بالروايات الشفهية أم بالوثائق المكتوبة؟

صيْقلي: ما زال هناك نزاع حاد، بين ما هو مكتوب في وثيقة وما يُنقل شفهياً. وهذا موضوع جاد وفي غاية الأهميّة. ويوجد الكثير من المؤرخين الذين يرفضون النقل الشفهي، ولكن عددهم تقلص الآن. فلو أخذنا مثلاً الدراسات التي تناولت الهنود الحمر، فسوف نجد أن تاريخهم قد طُمس بالكامل، ولا يوجد غير التاريخ الشفهي الذي نقل لنا بعض الأمور المتعلقة بهم. يستطيع التوثيق أن يكذِّب هذه الحكايات كما يشاء، وينكر تعرُّض الهنود للقتل والإبادة، وينكر الدور الذي قام به الأمريكان لدفع الهنود إلى تعاطي الكحول والمخدرات. ولكن بالمقابل توجد لدينا الدراسات التي تحكي حقيقة ما حدث لهؤلاء الهنود. نحن ندرس التوثيق الشفهي لكل هذه الفئات التي هُمِّشت في التاريخ الموثَّق وليس القصة الفلسطينية وحدها. يوجد إلى جانب القصة الفلسطينية الكثير من القصص. فهناك مثلاً القصة الأرمنية، والقصة اليهودية في أمريكا، وتجربة يهود ألمانيا. فإذا كنا نصدِّق قصص هؤلاء جميعهم، لمَ لا نصدِّق ما يقوله الفلسطينيون؟! إن هدفي الرئيسي هو أن أوثِّق ما لدى هؤلاء قبل أن يرحلوا.

إن العناية بالسرد لم تحدث فقط على مستوى التاريخ. لنقل أنه فيما بعد الحداثة اهتمت جميع العلوم الإنسانية بسرد الإنسان الصغير، وسرد التجارب الفردية، والتجارب اليومية. هذا الاهتمام جاء في الفلسفة وفي علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وفي غيرها من المجالات. سؤالي: على مستوى التاريخ، ما هي المرجعيات الفكرية والنظرية التي كنتِ تستقين منها هذا التحوُّل؟

صيْقلي: أنا في الواقع مؤرخة اجتماعية. وكان من المهم بالنسبة لي إدخال العلوم الأخرى في دراساتي. إن علم الأنثروبولوجيا جزء رئيسي من الجانب الذي أعمل عليه. والنمط الذي أتبعه عندما أقوم بتسجيل المعلومات هو نمط أنثروبولوجي. في بعض الحالات عندما أقوم بعمل دراسات كمية، وأعمل دراسات تطبيقية لها، أعتمد على علم الاجتماع. الفلسفة والسياسة أيضاً لهما دور أساسي في عملية الفكر الأوسع. فأي دراسة – وأنا لا أعتبر نفسي مؤرخة شفاهية بحتة-  أدخل فيها علوماً عديدة. فالجانب الشفهي لا يستطيع أن يرتكز بمفرده، ولا يمكن الاعتماد على السرد وحده دون الاعتماد على علوم أخرى. أرجع لما هو موثَّق، وقد آخذ به أو أرفضه، بحسب ما تؤكده القصة أو تنفيه. إنني أرجع كذلك للأدب. إنني أقرأ مثلاً رواية (باب الشمس) لإلياس خوري، التي تتحَّدث بأكملها عن القصة الفلسطينية والسرد الفلسطيني. فكل هذه الأمور معاً، تملأ وتؤكد وتوثِّق الأمور التي أقوم بدراستها. أقوم الآن بعمل دراسة عن البحرين، وسوف أعتمد على التاريخ الشفهي، ولكن التاريخ الشفهي بدوره يعتمد على التوثيق.

لنقل إن تجربة الحداثة الغربية، هي التي كانت مسؤولة عن ظاهرة الاستعمار. وإلى حدٍ كبير هي المسؤولة أيضاً عن قضية فلسطين. لكن الغرب نفسه شهد مراجعات نقدية لما أفرزته الحداثة، وهي المرحلة التي سمِّيت بما بعد الحداثة، وجاء فيها مفكرون كبار، من نيتشه إلى فوكو ودريدا وغيره. هؤلاء قاموا بمراجعة الحداثة بنقد شرس جداً، ضرب صميم الحداثة. لدينا في هذا المجال أسماء مهمة جداً، كإدوارد سعيد وهومي بابا وغيرها من الأسماء الكبيرة، التي أعادت المنطلقات النظرية لمفهوم العقل ومفهوم الإنسان والحضارة والتاريخ والوثيقة والقانون. فكيف تعمل لديكِ كل هذه الأمور؟ هل لديكِ صلة بهذه الجوانب النظرية؟

صيْقلي: نعم، لقد عملتُ مع إدوارد سعيد، بالخصوص في عملية تقييمنا لعملية التأريخ الفلسطيني (الهيستريوغرافيا  Historiography). توجد إعادة لفهمنا خصوصاً لما بعد الحداثة. ولإدوارد سعيد دور أساسي في نقدنا لما كُتب، ونقدنا لما نكتبه الآن أيضاً. حتى إدوار سعيد نفسه تعرض للنقد في بعض رؤاه المحدَّدة. ولكن الدراسات اليوم تعتمد على عملية النقد. ونحن نرتكز على هذه الأسس النظرية. إن العملية هي عملية تراكم فكري.

لننتقل إلى اهتمامك بمجال تشكُّلات المجموعات النسائية. هل هي نقلة أخرى لكِ من التاريخ إلى المجتمع؟

صيْقلي: نعم بالنسبة لي كانت نقلة. ولكن في الواقع، إن المرأة ودورها، يجب أن يكون جزء لا يتجزأ من بداية التفكير في كتابة التاريخ. وكان الخطأ خطئي لأن اهتماماتي في البداية كانت سياسية بحتة، وإن كانت لا تخلو من الجانب الاجتماعي، إلا أن اهتمامي بعملية توثيق الموضوع السياسي، جعلني أتجاهل المرأة. وإن كنتُ قد أعطيتها دوراً في تلك الدراسات، إلا أنه دور هامشي لا يُذكر. ومع مرور الوقت ومع نضوجي العلمي والشخصي، أدركتُ أهمية أن ألتفت لدور المرأة ولحقِّها. في اعتقادي إن للمرأة دور أساسي في عملية تفسير المجتمع، إنها المفتاح الذي يتيح لنا أن ندخل المجتمع. لقد أوليتُ المرأة اهتماماً منذ حوالي خمسة وعشرين سنة فقط. بدأتُ أنظر للتحركات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، عبر رؤية المرأة. وأنا أعتقد أنه إذا أخذت المرأة حقها في المجتمع، فإن الإنسان ككل سوف يأخذ حقه. أصبحت المرأة محوراً أساسياً لدراساتي، وأظن بالفعل أنها محور.

ما الذي أنجزتيه في هذا المجال؟

صيْقلي: إنني أقوم بتجميع كل ما يمكنني جمعه عن المرأة الفلسطينية، خصوصاً في المخيمات. أحاول أن أرصد نضال هذه المرأة ويوميات هذه المرأة. ما كتبته عن الفلسطينيات لحد الآن هو دراسات عامة. ولكن عن البحرين لي دراسات تحليلية عن دور المرأة في التحوُّل الاجتماعي، وبعض التبدلات الدينية. فقد عشتُ هنا في البحرين عشر سنوات، وبدأتُ أتحسس هذا التحوُّل الاجتماعي. ورأيتُ من خلال ارتباطاتي بالآخرين كيف أن دور المرأة في الريف يختلف عن دورها في المدينة. فقد عشتُ في السنابس وعشتُ أيضاً في مدن بحرينية. ويوجد لديَّ أصدقاء على جميع مستويات المجتمع البحريني، والناس هنا تقبَّلوني. تقبلوني في القرية وفي المدينة. والمجتمع هنا في البحرين صغير، لذلك أتاح لي أن أتناوله بالدراسة.

ماذا لو تحدَّثنا عن المرأة في البحرين وتشكيلها جندرياً؟ كيف أنتج المفهوم المرتبط بالجندر صورة ودورا ووظيفة للمرأة على المستوى الثقافي؟ لقد لعب الدين دوراً كبيراً جداً في البحرين، وهو لا يزال يلعب هذا الدور. تحليل المكوِّن الديني في تشكيل صورة المرأة ودورها، يصطدم دائماً بحساسيات كبيرة في مجتمعنا. ألم تصطدمي بهذه الحساسيات وأنتِ تبحثين عن تاريخ المرأة في البحرين؟

صيْقلي: لقد أدليتَ بجوابي. ما تقوله صحيح. للدين دور، وقد جرَّبتُ أن أكتب عن هذا، وقابلت نساء من الطائفتين. لكنني أعتقد أن ليس الدين وحده هو المسؤول، لأن الدين هو تعبير عن أمور أخرى. فالدين هو أيضاً طريق إلى التفكير السياسي، وقد اتضحت الآن الصورة لي أكثر من ذي قبل، صار الدين يعبِّر عن رؤيته للاقتصاد الاجتماعي الموجود.

لنتحدَّث عن النمط الأيديولوجي للتدين..

صيْقلي: في الفترة التي درَّستُ فيها في البحرين، لم يكن التدين بشكله الآن واضحاً. كان عدد المحجبات عندي حوالي 5% وحين عدتُ وجدتُ النسبة صارت 98%. في تلك الفترة كان يوجد تمييز وتعبير من عدة اتجاهات. الآن أخذ الدين دوراً حَدِّياً وتغيَّرت الأوضاع. ولكني أيضاً أظن أن المجتمع قد تسيس بطريقة أكبر. في عملية الانفتاح سمعتُ أصواتاً لم أكن أسمعها، أو ربما سمعتُ بعضها ولكنها لم تكن طافية كما الآن. أنا لا أريد أن أُحِدَّ المسألة بالدين، ولا أعتقد أن هذا هو المفروض. إنني أرى المرأة الآن تطالب بحقوقها، وصارت أوعى لما هو دورها، وهي كما قلت المنظار الذي نشاهد من خلاله المجتمع.

الآن توجد طفرة أدبية أيضاً، لأن الناس تعلموا. إنني أرى جيل الطلاب الذين قمتُ بتدريسهم، عندما أتيتُ إلى البحرين سنة 1984، قد ظهروا للمجتمع. توجد في المجتمع ثقافة ضيقة للبعض، ولكن توجد أيضاً ثقافة واسعة للبعض الآخر. من الصعب أن نضع الآن قصة تقول أن هذا ما كان موجوداً وهذا هو الشكل النهائي. نحن نعيش الآن فترة بلورة، وتحرُّك، وتهيئة. والمرأة لها دور أساسي في هذا، وهي تُستغل كعامل، لكنها في بعض الأحيان، تكون في موقع القوة، وتنظر لحالها كامرأة لها دور سياسي واقتصادي واجتماعي وعلمي وأدبي وديني.. إلخ. وهذا كله ما زال في بداياته، ولا أعتقد أن البحرين وصلت إلى الرصيف. إن شاء الله أستطيع أن أقوم ببعض التحليل في الدراسة التي أنا بصددها الآن.

ما هي هذه الدراسة؟

صيْقلي: هي دراسة مقارنة عن المرأة البحرينية والقطرية، تتناول المرأة التي لها صوتٌ واضح الآن في عملية التحوُّل. وهي تجربة لدراسة المرأة من منظور المرأة نفسها.

ما هي العينات التي تناولتها الدراسة؟

صيْقلي: إنني ما زلتُ في بداية المشروع، ولا شيء واضح الآن.

بالنسبة لـ 98% اللاتي تحجبن في الثمانينيات، كيف تنظرين إليهن الآن بمنظور الجندر؟ ما الذي حجبهن؟ وما الذي تغيَّر في منظورهن؟ وكيف أصبحن يرون أنفسهن؟

صيْقلي: سوف أتحدَّث من منطلق غير علمي، لأنني لم أقم بالدراسة لحد الآن، ولم أقم إلا بمقابلات لفئة صغيرة في فترة معينة. لقد شاهدتُ عملية التحوُّل وعشتها. لم تتحوَّل نسبة المحجبات إلى 98% دفعة واحدة، وإنما تمَّ ذلك على مراحل. حدثت في الثمانينات تبدلات سياسية في البحرين، وكان الوضع السياسي مكبوتاً، والإنسان أينما يكون يميل إلى أن يكون ضمن حلقة التديُّن، فلا أحد يستطيع أن ينزع الله مني، وربما يكون هذا أحد الأسباب. من الأسباب الأخرى أيضاً أن الحركات الدينية نفسها وعت لدورها وإمكانياتها في تعبئة المجتمع بطريقة معينة. وكان الشكل الواضح هو الحجاب، لذلك أُعطي دوراً في الشارع. هناك أيضاً عامل ثالث، فقد حدثت عملية انفتاح في العالم كله، في الشرق والغرب. وصارت هناك عودة للدين بعد أن تعقدت حياة الإنسان، التي صارت تتحكم فيها الماديات. وهذا أدَّى إلى حدوث عملية تديُّن حقيقي. لقد صار الحجاب مطلباً في المجتمع. وعندما ترغب فتاة في أن تتزوج، فهي تعلم أن رغبتها سوف تتحقق بسهولة إذا كانت محجبة، وهذا شيء معروف.

ظاهرة التحجب التي انتشرت في العالم، صارت تشكِّل العالم كله، إلى درجة أنه يُقال إن ما هو موجود الآن، هو حرب بين الأصوليات وليس بين الحضارات. سؤالي هو: كيف يمكن أن نفهم أن ليس فقط العودة لأشكال التديُّن المختلفة، وإنما أيضاً استدعاء الهويات التاريخية. باعتباركِ مؤرخة. كيف يمكن أن نفهم هذه الاستدعاءات التاريخية المهمومة بهاجس التأصيل؟

صيْقلي: إنني أعيش في أمريكا في منطقة فيها الكثير من الجاليات الإسلامية. لدينا الآن زخم عربي إسلامي، وشيعي وسني، خصوصاً الشيعة القادمون من جنوب العراق ومن جنوب لبنان. هناك تشاهد عملية الردة بوضوح. يوجد في المنطقة فتيات لم يكنَّ محجبات لكنهن تحجبن. وبنفس النمط نرى في بعض المناطق في أمريكا عملية الردة المسيحية. نرى العودة إلى الكنيسة وإلى اللباس المحتشم. هذه ظاهرة في نظري تعبِّر عن فشل المجتمعات الجديدة (Modern Society) في إعطاء حلول لمشاكل المجتمع. بعض طلابي وطالباتي كانوا يقولون لي إنهم حين يطَّلعون على ما في هذه الدنيا، وما الذي تبقى لهم، وما الذي يخفيه لهم المستقبل، وعندما يقرؤون عن بوش والسياسات الجديدة، وعندما يسمعون يومياً عن الذي يحدث في العراق، فإنهم يصابون بحالة اكتئاب شديد! كل هذا يؤكد أن هناك فشل مجتمعي. والناس تبحث عن الحلول، سواء في الغرب أو في الشرق. لأن الجميع يشعرون بأن المبادئ والأخلاق شيء أساسي وسند مهم، لكي يستطيعوا أن يحيوا في هذه الدنيا. إن النظريات والفلسفات التي كانت سائدة، كاليسار واللاديني فشلت أيضاً في إيجاد حلول لمشاكل بعض الناس. فما زال الليبراليون موجودين في الغرب، وما زال اليسار موجوداً. وهؤلاء يكتبون لنا ما نريد أن نقرأه.

هناك أيضاً شيء مهم، إن وجود اليمين السياسي في أمريكا، ووجود سياسة تمجِّد هذا الشكل للاحتلال، وتمجِّد هذا النوع من الحياة المريحة، التي تعتمد من أجل راحتها على امتصاص الشعوب الأخرى، سوف يكون لها تبعاتها. فهذه أيضاً بدأت بالتفكك. فما الذي يعنيه هذا بالنسبة لانتشار التديُّن اليميني؟ من الصعب الإجابة على هذا السؤال الآن. ولكنني أعتقد أن عمليات فتور قد بدأت، وعمليات ضعف في قبول هذا اليمين السياسي، وليس من الضروري أن يكون اليمين الديني، لأن الديني يأخذ وقتاً أطول بكثير كي يتفكك أو يضعف، أما السياسي، فهو مرتبط بالاقتصاد وبالحياة اليومية، ومرتبط أيضاً بأبنائهم الذين يموتون في العراق. أنا مثلاً لديَّ طالب محامي في الجيش الأمريكي، وقد قالها لي بوضوح إنه وبقية المحامين في الجيش يرفضون ما حدث وما يحدث في العراق. ما أحاول أن أقوله، هو أن هذه الصور متفتتة. هناك من ينادي الآن بمحاكمة بوش ويقول (Impeach Bush). ففي أمريكا دستور يسمح لهم بالتعبير، ولكن كيف يمكن أن نترجم كل هذا؟ من الصعب عليَّ أنا أن أحلِّلها لأنني لستُ محلِّلة سياسية.

هناك من يتحدَّث عن عودة للقرون الوسطى، نراها ليس على المستوى السياسي فقط بل على المستوى الثقافي، وعلى مستوى تشكيل المرأة، تعمل هذه العودة بشكل أكثر انغلاقاً.

صيْقلي: توجد بعض الصور من العودة إلى القرون الوسطى. الحرب على العراق هي عودة إلى القرون الوسطى، وكذلك استخدام التكنولوجيا الحديثة كالقوة الذرية، والهدف من ضرب إيران في حالة أنْ ضُربت إيران، أو سورية، أو التفككات التي حدثت في المنطقة ككل. من المهم جداً أن نفهم أنْ ليس الشرق الأوسط هو الهدف الرئيسي. إن الهدف الرئيسي كوني. إنهم يريدون الصين، يريدون أن يكونوا إمبراطورية تسيطر على العالم أجمع. على الأقل هذا ما أقرأه عن فلسفة المحافظين الجُدد (النيوكونز Neo-Cons )، إنهم يريدوننا في حالة غير قادرة على اتخاذ دور موحَّد يستطيع أن يوقفهم عند حدٍ معيَّن.

هل لنا أن نتحدَّث عن روح العصر؟ إن «روح العصر» كانت من الدراسات الأثيرة التي تناولها المؤرخون في القرن التاسع عشر على وجه الخصوص. هل يمكن أن نتحدَّث عن وجود روح لهذا العصر مثلما نتحدث عن وجود روح للقرون الوسطى؟

صيْقلي: في الوقت الحاضر، لا أعتقد أنه توجد روح موحَّدة لعصرنا بأكمله. إن هذا العصر هو عصر التردِّي والابتذال للمبادئ والأخلاق. في السابق كانوا عندما يتحدَّثون عن الآخر وعن عن الأسود في أمريكا، يتناولون ذلك الآخر بطريقة معيَّنة، والآن يتحدَّثون أيضاً عن الآخر بنفس الطريقة ولكن بتناول موضوع يختلف عن ذاك، وأنا هنا لا أتحدَّث عن أمريكا فقط. الناس يعودون إلى الأصول الدينية الأصيلة في كل العالم، ولكن يوجد تشتت، وأظن أن هذا ما يريده جماعة (النيوكونز Neo-Cons ) في الغرب.

ماذا عن المجتمعات التي بلا تاريخ؟ كان هيجل يقول إن المجتمعات الشرقية بلا تاريخ. فهل يوجد لهذا المقولة معنى؟

صيْقلي: لا أصدِّق هذا. لا يوجد مجتمع إلا وله تاريخ.

إن فكرة التاريخ نفسها تبدو فكرة غير حاضرة في المجتمعات التي ينبعث فيها شكل من أشكال الأصوليات. إذ إنها لا تستطيع أن ترى تاريخها بمسافة. إنها متماهية مع تاريخها، وكأنها تعيش مأزقها التاريخي باستمرار، وتعيده باستمرار، وبالتالي فهو ليس تاريخ، لأنها لا تنظر إليه على أنه تاريخ أتى في فترة زمنية معينة وانتهى. هل انبعاث هذه الهويات بالشكل الأصولي يمكن أن تُفسَّر من خلال هذه النظرة للتاريخ؟

صيْقلي: هؤلاء الذين يعودون إلى هذه الهويات، من أصوليين وغيرهم، يعتقدون أن هذا هو التاريخ عن حق. هناك أصوليون مسيحيون أيضاً يعتقدون أن هذه ما هي إلا مرحلة للوصول إلى نهاية العالم. وهم ينتظرون نهاية العالم، ويُسيِّسون الفكر ويدخلون مع بعض الفئات من أجل الوصول. هذه في اعتقادي رؤية ضيقة وغير صائبة. إنني أؤمن بأن على الإنسان أن يواصل مسيرته في التاريخ، ولا أعتقد بأن العالم سوف ينتهي بالأسلوب الديني. لن ينتهي العالم إلا إذا استُخدمت الذرة لإنهائه، فإن ضُربت إيران، فربما تكون هذه بداية النهاية. لم تعد مسألة كهذه الآن لعبة. إن التاريخ متواصل، له أبعاده، يتقدَّم ويتأخر، لكنه يتكامل. نحن الآن نمر بمرحلة هابطة جداً، لكنني أتمنى أن أرى بعض التحوُّلات الإيجابية وإنْ على النطاق الأصغر. فحين أنظر الآن إلى القضية الفلسطينية، لا أراها في أسوأ مراحلها. وعندما أنظر إلى الأجيال الجديدة أتفاءل. أتفاءل أيضاً عندما أرى كيف تطوَّر التفكير لدى الأطفال.

هل يمكن أن نؤرِّخ الله في تجارب المجتمعات ؟

صيْقلي: فسِّر لي أولاً ما الذي تعنيه بالله؟

هل يمكن أن نقول أن تصوُّر الله في هذه المجتمعات مرَّ بتعاقبات تاريخية معينة؟ بحيث إن هذه المجتمعات تستطيع أن تميِّز فترات تاريخية معينة كانت تتصوَّر فيها الله مثلاً بأنه جبَّار أو رحيم أو يتسع للعالم كله.

صيْقلي: أيّ مجتمعات هذه التي تتحدَّث عنها؟أنا لا أعرف ولا أستطيع أن أقول. أنت تعرف أكثر مني إن كان يوجد تاريخ لله.

بحسب معرفتي، لا يوجد.

صيْقلي: بالنسبة للفكر الغربي الليبرالي، الله تطوَّر. الله هو المحبة والإنسانية وعلاقات بشرية. إن الله يأخذ أشكالاً وأبعاداً، وهذا مؤرَّخ. حتى التفسير والتعبير والهوية التي أعطيناها لله، الذي ننظر إليه على أنه الحل لحياتنا، أوصل حتى الغربي الليبرالي الذي بدأ من الفترة الرومانسية إلى الآن، وكان قد ضيَّع بعض الأمور. لهذا نجد أن الحركات الصوفية وغيرها من الحركات، قد أحييت في أماكن كثيرة، وهي تحاول أن تجد حلاً لتفسير الله. من الصعب أن نتحدَّث عن تفسير واحد لله.

في حوار مع محمد خاتمي: خاتمي متسلِّلاً بين غصن الثقافة الحلو وغصن السياسة المُرّ

 

علي الديري محاورا محمد خاتمي في مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للدراسات والبحوث (يونيو2006)
علي الديري محاورا محمد خاتمي في مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للدراسات والبحوث (يونيو2006)

 

  • حوار الحضارات ليس بحثاً عن حضارة جديدة تتسلّط على الحضارات الأخرى بل جعل الحضارات أغصانا تتداخل ببعضها.
  • الآداب السلطانية والأحكام السلطانية ما هي إلا آداب وأحكام تبرّر استبداد الأنظمة الحاكمة من خلال الفكر والدين.
  • الحكومة الدينية أو غير الدينية، لابد أن تنبثق عن كامل إرادة الشعب وتبقى خاضعة لرقابته.
  • ما لم تكن السياسة كمالاً انسانياً، تصير غصناً مراً لاحلاوة فيه. 
  • لست على استعداد أن أبادل لحظة واحدة من لذة الجمع بين غصن الأخلاق والثقافة، بعمر كامل لسياسة مُرّة لا تتسلل إليها الأخلاق ولا تبللها الثقافة.
  • ممكن أن تكون ولاية الفقيه إضعافاً للمجتمع.

“ولو أن غصناً مريراً وصل بآخر حلو لتسللت إلى طبيعته تلك الحلاوة” جلال الدين ابن الرومي.

 على الرغم من امتلاء برنامجه السياسي والثقافي في الفترة القصيرة التي يزور فيها مملكة البحرين، بدعوة من مركز الشيخ إبراهيم للدراسات والبحوث، تمكن غصن “الوقت” من التسلل إلى غصن محمد خاتمي الرئيس السابق للجمهورية الاسلامية  في إيران، ورئيس مركز حوار الحضارات حالياً، ليصل معه عدد من الأغصان المتفاوتة في درجة حلاوتها ومرارتها.

في هذا الحوار نفتح أغصان مدينة خاتمي على السؤال الذي يرى فيه فعلاً ولجة ومحجة وتفكيرا حقيقيا وإثباتا لوجود الإنسان.

في هذا الحوار نفتتح مدينة خاتمي التي تتعايش فيها التطلعات والمخاوف والآمال، والدين والتصوف والثقافة والسياسة والفكر والشرق والغرب والماضي والحاضر، مدينة خاتمي  مدينة بطعم حوار الحضارات، وهي ملتقى طرق للسعادة بعدد أنفاس الحضارات. أجريت هذا الحوار في مركز شيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للدراسات والبحوث، علي هامش زيارة الرئيس محمد خاتمي للبحرين في يونيو2006 بدعوة من المركز.

رطوبة المثقف

كان جلال الدين ابن الرومي يقول  “ولو أن غصناً مريراً وصل بآخر حلو لتسللت إلى طبيعته تلك الحلاوة”. هل تسللت حلاوة غصن الثقافة إلى مرارة غصن السياسة في تجربتك الرئاسية التي تبللت أكثر من مرة برطوبة دموعك الحرة الحارة؟ هل استحالت طبيعة السياسة بتسلل حلاوة الثقافة؟

خاتمي: أعتبر نفسي مثقفاً بالدرجة الأولى، وأحب كثيراً أن أنظر إلى السياسية من هذه الناحية. اعتقد أنني حاولت خلال تواجدي في المسرح السياسي أن أنظر إلى السياسة من هذه الزاوية. لكن للأسف الشديد فإنه في السياسية فراغ كبير لواحدة من أهم عناصر الثقافة وهي الأخلاق.

 البعض يقول أن هناك تناقضاً بين الأخلاق والسياسة، هذا الأمر يعتمد على كيف نعرِّف السياسة، فإذا كانت السياسة من أجل تدبير الحياة المعيشية الفضلى للإنسان، وكانت تهدف إلى الارتقاء بالكمال الانساني، فإن السياسة بهذا تكون هي المظهر الكامل للأخلاق، لكن إذا كان تعريفنا للسياسة هي السيطرة على السلطات والإمساك بها، وأن نعتبر السياسة متسلطة على الشعب بدلاً من أن تكون منبثقة عن إرادته، عندها تكون السياسة غصناً مراً محضاً، لا ثقافة فيه ولا أخلاق. 

أميل كثيراً لرؤية السياسة من الجانب الثقافي، أما كم كنت موفقاً في هذا فأتركه لحكم التاريخ. لكنني لست على استعداد أن أبادل لحظة واحدة من لذة الجمع بين غصن الأخلاق والثقافة، بعمر كامل لسياسة مُرّة لا تتسلل إليها الأخلاق ولا تبللها الثقافة. 

بيم موج السياسة

هل الثقافة في تجربتك استطاعت أن ترطب غصن السياسة المر؟

خاتمي: هذا ما يجب أن يكون، لكنه في عالم اليوم أمر صعب المنال. السياسة كما تمارس اليوم هي استخدام للسلطات وتطويع لها، وهي تستثمر الفلسفة والدين من أجل بسط سلطتها ونفوذها، لكننا إذا ما أردنا أن نلطف ونطوّع السياسة، فليس أمامنا خيار آخر غير أن نجعل الأخلاق تتسلل في طريق السياسة، حتى تتمكن الحلاوة من تطويع المرارة وترطيبها. البعض يقول إأنها آمال بعيدة لكننا نسعى للنجاح في هذا الطريق.

هل هذا الممكن، هو ما يعبر عنه مفهومك ( بيم موج) الذي استخدمته عنوانا لكتابك (بيم موج.. المشهد الثقافي في إيران: مخاوف وآمال). البيم موج بما هو حالة بين الأمل والخوف والتطلعات والآمال، هل هذه الحالة كانت مسيطرة على ممارستك في المشهد السياسي؟ 

خاتمي: بالتأكيد، الإنسان لديه آمال عادة، وفي طريق تحقيق آماله هناك معضلات ومشكلات، لذلك دائماً الحياة بين الخوف والرجاء. محاضرتي في مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، كانت تحت هذا العنوان، العالم الإسلامي بين المخاوف والآمال.

مدينة خاتمي

يقول أفلاطون ملخصاً تجربته “هكذا أيقنت، بعد طول فكر وتحقيق، أن جميع المجتمعات تدار بطريقة غير مرضية، وأن هذا الوضع لن يتغير أبداً إلا باتخاذ طريقة خارقة للعادة في المعالجة (…) إن الفلسفة هي وحدها التي من شأنها أن تنظم حياة الناس الخاصة والعامة، لا منجاة للناس من المآسي والشرور إلا متى أمسك الفلاسفة الحقيقيون بزمام المجتمع أو أقبل من بيدهم أزمة الأمور على الفلسفة” مدينة السياسة، خاتمي، ص58. كان مشروع المدينة الفاضلة عند أفلاطون حلاً خارقاً للعادة في معالجة الوضع السياسي. فهل حوار الحضارات عند خاتمي  حلاً خارقاً للعادة في معالجة الوضع السياسي، بعد أن تعولمت المدينة السياسية؟

خاتمي: ما يعرضه أفلاطون هو نوع من اليوتوبيا التي لم تتحقق. أفلاطون كان يعتقد أن الفيلسوف مطّلع على كافة الحقائق، لكن الواقع ليس كذلك، الإنسان محدود دائماً.

 لدينا مفكرون كانوا يعتقدون بأن لديهم المعرفة الفلسفية الكافية، لكنهم عندما تبوؤوا السلطة استخدموا معرفتهم في سبيل تحكيم هذه السلطة.

 المدينة الجميلة لأفلاطون هي مدينة خيالية. لكن الفارابي الذي تأثر بالفلسفة الإسلامية لديه طرح مختلف. أفلاطون يقول إن الملك يجب أن يكون حكيماً والحلكيم ملكاً، أما الفارابي فيقول إن الحكيم النبي يجب أن يكون ملكاً، وبالتالي فإن الحكيم العاقل يجب أن يكمِّل عقله من خلال الوحي، هذا هو الفرد الذي يستطيع أن يقيم الحكومة الفاضلة. هناك نظريات سياسية كثيرة تطرح في العالم اليوم، لا أريد الخوض كثيراً في هذه الأمور النظرية الآن.

حوار الحضارات ليس مدينة يوتوبية أو خيالية، بل هو أمر واقعي وممكن، لأن الحضارات والثقافات أمر واقع ويمكن لمسه، لم يكن هناك يوماً صراع بين الحضارات، بل كان هناك أخذ وعطاء وتبادل بين هذه الحضارات. الشعوب في تعاملها مع بعضها البعض هي التي كانت تصنع الحضارات. فإذا كانت الحضارات أمر واقعي، وإذا كان هذا الأخذ والعطاء أمر طبيعي قائم بينها، فإن حاور الحضارات يحاول أن يجعل هذا التبادل العفوي أمراً واعياً ومتعمداً. 

حوار المرايا

حوار الحضارات ليس البحث عن حضارة أخرى جديدة تتسلّط على الحضارات الأخرى، بل هو من أجل تعرف الحضارات على بعضها البعض. في هذا الحوار تكون الحضارات مريا بعضها البعض، تستطيع هذه الحضارات أن ترى كمالها في مراياها كما ترى نواقصها. حوار الحضارات هو جعل الحضارات أغصانا تتداخل ببعضها البعض.

 لذا أعتقد أن مدينة أفلاطون هي حل أقرب للخيال من الواقع. بينما حوار الحضارات هو حل ينظر إلى الواقع وينطلق منه.

لماذا إذن ذهبت إلى أفلاطون وإلى مدينته وتحدثت عنها في كتابك مدينة السياسة؟

خاتمي: كنت أدرس ذلك في الجامعة، والدورة الثالثة لهذا الموضوع لا تزال ناقصة، أتمنى الآن من خلال تفرغي أن أكمل هذه الدورة. كانت لدي دورة في الجامعة طرحت فيها الفكر الغربي السياسي منذ أفلاطون وحتى المرحلة الليبرالية. الحلقة الثانية هي حول الفكر السياسي في الإسلام منذ انتهاء عهد الخلفاء الراشدين وحتى اللحظة التي تعرّف فيها الفكر الغربي للفكر الاسلامي. طوال هذه الفترة أي خلال 12 قرناً كان الظلم والاستبداد هو السائد، والدين والفكر كانا واقعين في فخ الاستبداد. 

الدورة الثالثة التي أعمل عليها الآن هي العالم الاسلامي في حالة الركود والضعف والهوان، وهو في حالة من التعرّف على العالم الغربي الذي هو في حالة التسلط والغلبة والهيمنة. لدينا في العالم الاسلامي مشكلات في الفكر الاسلامي والفكر الديني والواقع السياسي الذي نعيشه، وما هو الطريق الذ نبحث عنه، لذلك أنا لم أناقش فكر افلاطون بشكل خاص، وإنما تناولته في سياق الحديث عن الفكر السياسي الغربي. أتمنى أن يوفقني الله أن أدرس وأبحث وأطرح وأضع الحل، ولدينا مثل يقول إن طرح الآمال على الشباب ليس كثيراً ( يقول خاتمي ضاحكاً).

آداب التبرير

في كتابك مدينة السياسة: فصول من تطور الفكر السياسي في الغرب، تقرر إن أية محاولة علمية وفكرية في المجال السياسي لن تؤتي ثماراً إذا لم تتعرف إلى الفكر الغربي. ماذا عن الفكر السياسي في الحضارة الإسلامية أو في حضارة المسلمين؟ هل يمكننا التعويل على ما عرف في حضارتنا بالآداب السلطانية التي أسس لها ابن المقفع بثقافته الفارسية، وهي آداب تقوم في أساسها على مبدأ نصيحة أولي الأمر في تسيير شؤون سلطتهم، إذ تتضمن كل موادها مجموعة من النصائح الأخلاقية والقواعد السلوكية الواجب على الحاكم اتباعها، بدءاً مما يجب أن يكون عليه في شخصه إلى طرق التعامل مع رعيته مروراً بكيفية اختيار خدامه واختبارهم وسلوكه مع أعدائه؟

خاتمي: الآداب السلطانية والأحكام السلطانية وما كتبه كل من الماوردي وابن المقفع، ما هي إلا آداب وأحكام تبرّر الاستبداد للأنظمة الحاكمة من خلال الفكر والدين، وهذا ما أشرت إليه في كتابي الثاني الدين والفكر في شراك الاستبداد. كل ما عملوه هو أنهم أخذوا من معين الفلسفة والفكر والدين ما يبرر الاستبداد والقمع والظلم، وهذا مابرر لقيام  سلطات ملكية قبل الاسلام استفادوا من معين هذا الفكر، على الرغم من كون هؤلاء المفكرون على قدر عال من التميز، لكني أرى أن أفكارهم باطلة، لذلك أعتقد أننا بحاجة إلى مقترحات وأفكار ومشروعات جديدة تقدم قراءات مختلفة ونظرة مختلفة للحكم والسلطان. من خلال اطلاعنا على الغرب وأفكاره يمكننا أن نستخلص أفكاراً جديدة، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نبني مستقبلاً جديداً.

ولاية الشعب

بحسب ما تنقل عن فيلسوف الفكر السياسي الغربي جون لوك (1632 – 1704) في كتابك مدينة السياسة، “فكل ما يؤدي إلى إضعاف المجتمع ممنوع ، وجدير بأن يحال دونه، وإن اتصف بالصبغة الدينية”. هل يمكن أن نقرأ ولاية الفقيه باعتبارها الإرادة العليا إضعافاً للمجتمع بما هو قوام من الإرادات الفردية؟

خاتمي: هذا يعتمد على القراءة التي نقدمها للحكومة وولاية الفقيه والدين، أنا أعتقد أن الحكومة الأفضل هي تلك المنبثقة عن كامل إرادة الشعب والتي تبقى خاضعة لرقابة الشعب. ويمكن أن نستنبط مثل هذا من الاسلام، منذ أيام الخلفاء كنا نرى مثل هذه العلاقة بين الشعب والحكم، بعد ذلك اختلف الوضع، وصار الحكم ملكاً، العبارة الأمثل في نظري لتوصيف ذلك الوضع هي ما قدمها ابن خلدون حين أوضح بأن الخلافة بعد الحكومة الراشدة تحولت إلى امبراطورية موروثة أو إلى ملك عضوض. بهذا الحكم ذهب ما يسمى بالحق المتبادل. وصار هناك طرفان، طرف له الحق المطلق في القيادة والاتباع، وطرف آخر عليه أن يقدم الطاعة المطلقة والتبعية المطلقة للطرف الأول، وذلك هو سبب الحالة المرزية التي نعيشها اليوم.

المهم اليوم هو القراءة التي نقدمها لهذه المفاهيم، قد نستطيع وفق قراءتنا أن نؤسس حكومة إسلامية لديها هذه العلاقة مع الشعب، كما يمكن أن نقدم قراءة مختلفة تبرر للقمع مع الشعب.

قراءتي الخاصة هي أن أي حكومة مهما كانت دينية أو غير دينية، يجب أن تكون منبثقة من إرادة الشعب واختياره وتكون خاضعة لرعايته، ومن حق الشعب أن يغير هذه الحكومة متى شاء.

في تجربتك الرئاسية هل كانت السلطة العليا لولاية الفقيه إضعافاً للمجتمع ولسلطتك بما تمثيل لإرادة المجتمع ؟

خاتمي: ممكن لحكومة ولاية الفقيه أن لا تكون مانعاً لارادة الشعب.

غصن العرفان

العرفان أو التصوف خطاب يقوم على تعدد الرؤى وطرق المعرفة المتكثرة  وفيض التجليات وقد كان هذا الخطاب مكون أصيل في شخصيات رجالات الثورة الإيرانية حتى إن تكويناتهم المعرفية تربت في أجواء هذا الخطاب من أمثال بهشتي ومطهري، لكن لماذا بدا خطاب الثورة أصولياً وأحادياً ولا يتماثل مع الخطاب الذي كوَّن رجالاتها؟

خاتمي: الثورة لديها مميزاتها وخصوصياتها. تحققت الثورة في مرحلة تاريخية وسياسية معينة، لكن عندما يخبو وهج الثورة في أي مكان، يعود المسار المجتمعي لطبيعته العادية. 

أعتقد أن حلاوة الرؤية العرفانية يمكن أن تلطف مرارة السياسة في مجتمعاتنا الاسلامية، الاتصال بغصنها الحلو يمكن أن يكون مانعاً حقيقياً للكثير من المشكلات المرة التي نقع فيها. 

حزن الثورة

قبل عشرة أعوام لم يكن جلال الدين الرومي معروفاً بأمريكا، في العام 1995 قام كولمان باركس بترجمة مؤلفاته الخالدة، فكانت هي الشرارة التي أشعلت اهتمام أميركا بشاعر اللغة الفارسية. هو الآن- كما تقول نشرة واشنطن-  أكثر الشعراء شعبية في الولايات المتحدة، والإقبال على دراسة أعماله انتشر في كل الجامعات الأميركية. كما تنشر الأبواب الثقافية في الصحف الصادرة في كل المدن الأميركية الكبرى تقريباً مواعيد وأماكن قراءات أشعاره وإلقاء محاضرات عنه وعن أعماله، وأكبر مقياس على مدى شهرته، هو قيام مجموعة من نجوم السينما والمطربين بتسجيل أشعاره. لا شك أن الثقافة الأمريكية تقرأ في صوفية الرومي السعادة التي تدفع بها الحزن، وكأنها تستلهم تعريفه الجميل للتصوف بأنه “إحساس القلب بالسعادة حين يدنو وقت الحزن” في الوقت الذي نستلهم فيه نحن الحزن حين تدنو السعادة.

لماذا لم تصدِّر الثورة ما يجمعها بالعالم ويصلها به؟ لماذا لم تصدِّر من تراثها ما يسعد القلب حين يدنو منه الحزن؟  لماذا ثقافة الثورة التي تلقتها التيارات الدينية في منطقة الخليج كانت تستلهم حزن الثورة  وتغيب عنها سعادة مثنوي؟

خاتمي: الاقبال على جلال الدين الرومي يحكي لنا شيئاً من الواقع، وهو أن الحضارة الغربية الحالية وعالم اليوم عموماً لديه خلل معنوي كبير، وهذا يؤكد أن الانجازات البشرية مهما كانت هائلة وكبيرة فإن الانسان بحاجة إلى الروحانيات. أما لماذا بدى مجتمعنا وكأنه أكثر ميلاً للحزن والسياسة، فأنا أعتقد أن لهذا الأمر جذوراً تاريخية، وهو أن شعوبنا طالما كانت واقعة تحت نير الظلم والاستبداد ولم تعطَ الفرصة لتحقق وجودها بنفسها، لذلك نرى الألم والمعاناة في الوجدان العام لهذا المجتمع. هذا الوجدان هو تعبير عن حزنها العميق باتجاه مصيرها. الشعوب الآن بدأت تتعرف حقوقها، وتسعى بجهد لأن تأخذ حقها في تقرير مصيرها بنفسها. هذا التحول الجاري الآن قد ينقلنا من الحزن إلى الفرح، قد يدنينا هذا من لحظة سعادة مثنوي، وقد يحولنا من حالة التشاؤم التي تولد فينا الحزن، إلى حالة الأمل التي تولد فينا السعادة.

هل الحركة الاصلاحية التي بدأها خاتمي يمكن أن تسير بعد رحيله باتجاه تقريب السعادة؟

خاتمي: الحركة الاصلاحية لم أبدأ بها أنا، بل بدأ بها الشعب الايراني، أنا نقلت ما في متن وبطن المجتمع إلى ظاهره، أعتقد أن ثورتنا أكبر حركة إصلاحية في تاريخنا، نقلتنا هذه الحركة من حالة الحكومة المطلقة المستبدة في الداخل، والتابعة للقوى العظمى في الخارج، إلى حركة صنعها الشعب بنفسه وجسدت إرادته الحرة. نقلت أيضاً الحكومة الاسلامية من شكل الامارة الطالبانية إلى شكل الجمهورية الاسلامية، وهو شكل منبثق من إرادة الشعب الكاملة، والتي نأمل لها الاستمرار دوماً باتجاه هذه الإرادة.

الفواكه الفجة… الخطاب غير المطبوخ لجمعية التجديد الثقافية الاجتماعية علي الديري

كالتي هربت بعينيها

“إن مثل الدنيا شجرة ونحن عليها كالفواكه الفجة، الفواكه الفجة تتمسك بالغصون بشدة لعدم نضجها، وبعدما تنضج وتصير حلوة يضعف تشبثها بالأغصان. إن التشدد والتعصب من عدم النضج”. جلال الدين الرومي
(والفِجُّ) بالكسر النِّيءُ من الفَواكِهِ.
(الفِجُّ) من كلِّ شيء: ما لم ينضَجْ

يمكننا أن نفهم الخطابات الاجتماعية وجماعاتها بالإحالة إلى شجرة ابن الرومي وفواكهها الفجة وفواكهها الحلوة. الخطابات في المجتمع تكتسب صفتها الاجتماعية بحسب قدرتها على تمثل التحولات التي تحدث في المجتمع. الخطاب الاجتماعي الذي لا يستجيب لسُنَّة الطبيعة كالشجرة التي لا تستجيب لفصول السَنة أو كالفواكه التي تنسى دورة نضجها.
بقدر ما يفقد الخطاب الاجتماعي صفته الاجتماعية المتمثلة في قدرته على تمثل التحولات واستجابته لسنَّة الطبيعة ودورة فصولها، يكون فجاً، أي نيئاً، غير ناضج، غير مطبوخ بسيرورة ما يحدث في المجتمع وما ينمو فيه من رشد، وما ينتج عنه من لين ورفق.
لا يوجد خطاب اجتماعي فج كله ولا خطاب اجتماعي ناضج كله. ومهمة الصحافة تنضيج الخطاب الاجتماعي، وكشف مناطق فجاجته.
لقد سقتُ هذه المقدمة الطويلة نسبياً على مقالة قصيرة، لأؤمن لنفسي مدخلاً ناضجاً حد الحلاوة، للدخول على خطاب الأخوة في جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية، الذي نشرته صحيفة الوقت كما وردها دون حذف أو تغيير، وذلك ‮يوم الأحد 41 مايو 6002م، رداً على حلقات الفراشة‮ ”‬كالتي‮ ‬هربت بعينيها‮: ‬جماعة ‏الأمر وتشكلات الذات‮”‬.
دعونا نرصد المناطق النيئة أو الفجة في خطاب الأخوة في جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية، ونقرأها في سياق ما تحيل إليه أوصاف التجديد والثقافي والاجتماعي.
يحكم خطاب الأخوة في جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية على خطاب الفراشة بوصف: الحلقات المُخزية، حلقات الاستباحة، حلقات الإيذاء.
ويحكم خطاب الأخوة في جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية على خطاب صحيفة الوقت لنشره (حلقات الخزي والاستباحة والإيذاء) بأوصاف: العجمة والابتذال والكيد والظنون والفتنة وأقلامها، والتحريض والبحث عن مادة للتشويق، وتحقيق المكاسب الشخصية على حساب الأعراض والقيم والمبادئ السامية وكرامة المواطن، والمستوى الفجّ، واستباحة الأشخاص والأعراض المُصانة، والكيد المغلف والتحريض المبطّن، ومحاولة النيل، والتلفيقٌ والتغريرٌ بالقارئ والكيدٌ، وأنه مسلسل تسويق وحملة حاقدة ومنظمة، لا تمت لميثاق المهنة ولا لضمير الصحفيّ بشيء أبداً.
ويحكم خطاب الأخوة في جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية على خطاب كتّاب الوقت المتورطين بحملة الخزي والاستباحة والإيذاء بأوصاف: الفتنة والصبيانيّة، وفعال الصبا وتسليات الطفولة وفعال المراهقين ثقافياً، ممن يهوى الأضواء ويسعد بوجود اسمه وتكراره على صفحات الجرائد.
نحكم على الخطاب بأنه ناضج أو فج، بحسب طبيعة نضج الأحكام التي يطلقها على من يشاركونه في الاجتماع الإنساني ويكوِّنون معه المجتمع. ونحن نتحدث هنا عن مجتمع البحرين في عصر ما بعد الانفراج السياسية. بقدر ما تكون هذه الأحكام قادرة على تمثل لحظتها الاجتماعية، يكون نضجها. وبقدر ما تخفق في تمثل هذه اللحظة، وتظل متمسكة بغصنها من غير قدرة على مغادرته بنضج، تكون فجاجتها.
ليس من النضج أبداً أن نحكم على خطاب يقرأ بروح نقدية تجربة تشكله في شجرة مدة 16عاماً، بالخزي، في الوقت الذي تكون فيه ردود فعل مثقفي المجتمع الذي شهد تحولات جديدة، تصف الخطاب بالنضج والعمق والشجاعة والقدرة على قراءة الذات قراءة نقدية. وفي الوقت الذي لا تستخدم فيه الثمرة الناضجة أم16عاماً أي أوصاف قدحية مسيئة، يستخدم خطاب (جمعية التجديد) أقسى أوصاف القدح، وهو الخزي والاستباحة. لا يمكن أن ينضج الخطاب وهو لا يحسن تداول كلماته في المجتمع، بل إنه يعرض نفسه للخزي، متى أساء استخدام كلمة الخزي. وفي المجتمعات الناضجة يكون فيها الخزي أشد متى تغلظنا في وصف ما لا يتفق معنا، لأن المجتمعات الناضجة تتسامح مع المختلف معها، لكنها لا تقبل بالفظ الخطاب، النيئ الطبخ، الفج الثمر.
هكذا تنتج فجاجة الخزي أحكاماً تصوغها أوصاف قدحية، ولأن الفجاجة تستدعي فجاجة مثلها، فإن فجاجة الخزي، أخذت تنتج أحكاماً فجة نيئة لم يتسن لها الطبخ بالقدر الكافي. والخطاب غير الناضج هو غالباً محصلة نزق وانفعال وتعصب، لذلك تكثر في هذا الخطاب الأحكام وتقل الحكمة. والأحكام حين تنقصها الحكمة ينقصها الإحكام، فتـأتي هكذا مرسلة من الدليل والشاهد والقرينة والحجة. لذلك لم نجد في خطاب الأخوة في جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية غير أحكام تتلوها أحكام تتلوها أحكام، إلا أن أياً من هذه الأحكام لم يتوفر لها خطاب يدعمها بحجة، فلا نعرف وجه الخزي في هذه الحلقات؟ ولا ندري كيف استباحت حلقات الخزي الأشخاص والأعراض المصانة؟ ولا كيف هي سلسلة خزي منظمة حاقدة؟ وعلى من هي حاقدة ولمن خازية؟ ومن يقف وراء خزيها؟
هكذا، حين لا يتوفر للخطاب معرفة ناضجة بشروط التداول الاجتماعي، يتورط بالخزي. أعني يتورط بإصدار حكم الخزي واستخدامه ويرتد عليه. فبدل من أن يقيم علاقة تصله بالمجتمع ومؤسساته الإعلامية وفي مقدمتها الصحافة، يقطع صلته بسلسلة أحكامه الفجة المؤسسة على سوء استخدام فعل الخزي.
وهذا السوء في حقيقته يخزي، لأنه يكشف (وأحد معاني الخزي الكشف) سوءاً مضاعفاً، وهو سوء تقدير الآخرين. فيرى في حلقات الخزي وصحافتها وكتابها (… وفتنة صبيانيّة، وفعال الصبا وتسليات الطفولة وفعال المراهقين ثقافياً….) ويرى في خطابه النيئ (جادون كلّ الجد ولسنا من هواة اللعب ولا ممّن يتذوقونه).
أحد أسوأ العلامات التي تدل على عدم نضج الخطاب الاجتماعي، أن ينسب للقائمين عليه فضيلة الجد والبصيرة والوعي، ويصم الخطابات المختلفة معه بالمراهقة والصبيانية والعمى وفقدان الوعي، وهي علامة تكشف عن عدم بلوغه حدّ النضج الذي يتيح له مخالطة المختلف من دون مزايلة مبعثها خوف تكدر صفائه ونقائه.
إن تمسك خطاب جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية بالأمر حدّ التماهي وعدم تحويله إلى أمر تاريخي، يجعل من جملتهم (معتقداتنا الحرّة) أقرب إلى أن تكون جملة فجة أو نيئة، خصوصاً وأنها جاءت في سياق مصادرة حرية الفراشة، من أن تسأل أو تعترض أو تشك أو تطير أو تضرب بجناحيها أو أن تروي سيرتها أو أن تفك أغلفتها أو أن تخرج من شرنقتها أو أن تبر نفسها من قسم الحلم. فعن أي معتقدات حرة يتحدث خطاب التجديد وهو يماهي بين أعراضه المُصانة ومعتقداته؟ أليست الحرية تبدأ حين نفك التماهي بين الشخص وفكره وشرف العَرض ودناءة الرأي؟
التماهي هو أحد علامات عدم النضج. فالثمرة الفجة تبقى متماهية مع غصن شجرتها ولا تنفصل عنها، ومشكلة خطاب جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية، تكمن هنا، في جملة (كل ما يمت إلينا بصلة). فهو خطاب يتعصب إلى هذا الكل تعصب الثمرة الفجة، ويخشى الانفصال، لأنه يرى فيه سقوطاً مدوياً.
ما الذي بقي للجمعية من أوصافها (التجديد والثقافي والاجتماعي)؟ فثمرتها تأبى أن تسقط في المجتمع لتجدد دورة حياتها وتصنع شجرة جديدة.
وبعدُ، لم تبقوا لنا علامة من علامة النضج نشيد بها في خطابكم، لندفع عنكم بها حكم الفجاجة.

معكم معكم يا علماء

"معكم معكم يا علماء" بجرح الكأس المكسورة

في 14أغسطس1995 كان الشيخ عبد الأمير الجمري يلقي كلمة في مكتب وزير الداخلية بحضور بعض رجال السلك القضائي وبعض الوزراء والوجهاء، وهم وزير العمل عبدالنبي الشعلة، ورئيس محكمة الاستئناف العليا الشرعية الجعفرية الشيخ منصور الستري، وعضومحكمة الاستئناف العليا الشرعية الجعفرية الشيخ سليمان المدني، ورجل الأعمال وعضو مجلس الشورى الحاج أحمد منصور العالي.

معكم معكم يا علماء تلخص هذه الكلمة ما عرف في التسعينيات بـ(المبادرة) والمقتطف التالي يلخص أهم ما جاء في هذه الكلمة:

"وأحب أن أذكر لحضرات أصحاب الفضيلة والسعادة بأننا قدمنا إلى الحكومة الموقرة بجهود خيرة لخدمة هذا الوطن العزيز، وأود أن أذكر أهدافها الأساسية وهي كالتالي:

1. إعادة الهدوء والاستقرار للبلد.

2. معالجة الآثار التي خلفتها الأزمة التي عصفت بالبلاد.

3. تعزيز العلاقة الطيبة بين الشعب والحكومة.

على أن نقوم أنا وأخواني الأربعة: الأستاذ حسن مشيمع والأستاذ عبدالوهاب حسين والشيخ خليل سلطان والشيخ حسن سلطان، بالتعاون مع المخلصين من أبناء الشعب بالدعوة والسعي الحثيث لتحقيق هذه الأهداف، وتتفضل الحكومة الموقرة بتقديم الدعم والمساندة وخلق الأرضية الصالحة لإنجاح الجهود وتحقيق الأهداف"([1]).

§ 70000 مواطن

في 1نوفمبر1995م كان هناك سبعون ألف مواطن أمام منزل الشيخ عبد الأمير الجمري، يستمعون إلى البيان الختامي لاعتصام أصحاب المبادرة، وقد حمَّل هذا البيان الحكومةَ مسؤولية الإخلال ببنود المبادرة "غير أن الحكومة لم تمض كما ينبغي فيما يتعلق بالإفراج عن المعتقلين غير الحكوميين، وقد أدى ذلك إلى استياء أبناء الشعب وتحول إلى تذمر عام، ثم جاءت المحاكمات التي شملت حتى الأحداث الذين سبق الإفراج عنهم لتخلق مزيدا من الاستياء في الشارع تحول إلى توتر يدق ناقوس الخطر لا سيما وأن وزير شؤون مجلس الوزراء والإعلام قد صرح ثلاث مرات لإذاعة لندن بأنه لا اتفاق ولا حوار مع أحد لا في الداخل ولا في الخارج، ووصف القائمين على المبادرة بأوصاف غير لائقة...

أيها الشعب العظيم المسالم:

كان بودنا أن ننهي هذه الخطوة، نحن القائمين على المبادرة، الاعتصامَ والإضراب عن الطعام بكلمة نعم من حكومة البحرين الموقرة لمطالب شعبها العادلة…

معكم معكم يا شعبنا حتى نحقق كامل أهدافكم ومطالبكم العادلة"([2]).

كان جواب السبعين ألف مواطن:(معكم معكم يا علماء)، لم يكن جواباً، بل كان حدثاً، شكَّلت هذه المعية، معية أصحاب المبادرة(معكم معكم يا شعبنا)، ومعية السبعين ألف مواطن (معكم معكم يا علماء) عقداً حديدياً، ختم تسعينيات البحرين، وختم العلاقة بين التيار الشيعي والحكومة، وختم جدل القيادة في التيار الشيعي.

كان الشعار إعلان مرحلة، وإبراز قيادة، وحسم بلبلة، هو بمثابة بيعة من الشارع كي يتولى أصحاب المبادرة مهمة القيادة التي حاولت الحكومة عبر تيار شيعي موال لها النيل منها عبر ما عرف برسالة الاعتذار التي استخدمت للنيل من أصحاب المبادرة. لقد شكَّلت (المبادرة) حدثها السياسي، وأبرزت رجالات الساحة، وحددت شكل العلاقة التسعينية بين الحكومة والتيار الشيعي، واتخذت من شعار المعية استراتيجية لتنظيم قيادتها.

شعار(معكم معكم ياعلماء) أحد إنتاجات حدث (المبادرة)، وهو يحمل سياقها وجدلها ومآلاتها، وهو من جانب آخر يحمل صك بنية الذهنية الشيعية في موقفها السياسي القائم على المعارضة والمهموم بفكرة الإمامة. لذلك يمكن قراءة هذا الشعار بما هو مُنْتَج حدث المبادرة، وبما هو علامة على بنية فكرية ضاربة في التاريخ.

يحمل هذا الشعار آثار الكأس المكسورة حسب تعبير رئيس المخابرات، أيان هندرسون في إحدى جلسات الحوار مع أصحاب المبادرة "لقد استطعتم هزَّ الكأس فلا تكسروه.لقد وصلنا إلى قناعة أن القمع لن يخدم الشارع العام بالصورة التي نحب، كما أن الوجهاء الذين اعتمدنا عليهم لم يستطيعوا حل المشكلة"([3]).

§ الشعار

في المعجم العربي، الشعار يعني العلامة، والإشعار: الإعلام، وشعار القوم: علامتهم. وأشعر القوم: نادوا بشعارهم. الشعار إذن نداء وإعلام وإعلان وعلامة. بِمَ يُعلم شعار (معكم معكم يا علماء) وعمَّ يُعلن وعلامَ يُنادي.

إذا ما أخذنا بمفهوم الفيلسوف (فتجنشتاين wittgenstein) للمعنى بأنه الاستعمال وسياقه، فسيكون سياق هذا الشعار واستخدامه، هو ما يحدد معناه، ويحدد إعلامه وإعلانه ونداءه.

حين يكون سياق الشعار يجري في الساحة السياسية، فإن المعنى حينها يتحدد بمجريات اللعبة السياسية أي أننا نفهم الشعار بالإحالة إلى اللعب وسياقاته، وليس بالإحالة إلى المعجم ودلالاته. والإحالة إلى اللعب إحالة إلى مقتضياته، من الصراع والتنافس والهجوم والدفاع والكسب والخسارة والربح وتسجيل الأهداف.

اللعبة كما يحدِّدها (بيار بورديو) نوع من العلاقات أو نوع من علاقات التجاذب بين عناصر حيث المنافسة والتعاون والتناقض والهيمنة، وتقوم هذه العناصر ضمن هذه العلاقات بأدوار أو بنشاطات ووظائف. واللعبة السياسية موجودة في كل الظواهر السياسية، وهي تتسم بالمنافسة والصراع([4]).

حين يعلم الجمهور أو يعلن أو ينادي، فإنه يقوم بفعل، والشعار بما هو إعلام وإعلان ونداء، فهو فعل، هو فعل كلامي يُنجز (بمعنى يؤدي، يحقق، يعمل performatives) أشياء، حسب نظرية أفعال الكلام (Speech act theory ) لجون أوستن الذي عنون كتابه الهام بـ (كيف ننجز الأشياء بالكلام؟)

كيف نفهم (معكم معكم يا علماء) بما هو فعل كلامي؟ الفعل كما يحدده عالم النص، فان ديك" هو كلُّ حدث حاصل بواسطة الكائن الإنساني. الحدث هو التغيير. كلُّ تغيير يستلزم اختلافاً بين العوالم، الأحوال أو المواقف" ([5]).

وفي المعجم العربي "الفعل: كناية عن كل عمل متعدٍ أو غير متعدٍ. وقد عَمِلَ الشيءُ في الشيء: أَحْدَثَ فيه نوعاً من الإِعراب" والإعراب هو التغيير والبيان.

كل ما يحدث إعرابا أي تغييرا هو فعل. هذا الشعار أحدث إعراباً سياسياً، بدليل ما نتج عنه من آثار وأعرب عنه من تغييرات، وما خلقه من اختلاف بين العوالم، عالم السياسة وعالم الدين، عالم الحكومة وعالم المعارضة، عالم التيار الشيعي وعوالم التيارات الأخرى، عالم علماء الدين وعالم علماء الدنيا، عالم التسعينيات وعالم ما قبلها وما بعدها. وما خلفه من مواقف، مواقف الموالين للسلطة والمعارضين للسلطة، ومواقف المعارضين للأحداث والمنخرطين في الأحداث، ومواقف المتضررين من الأحداث والمستفيدين من الأحداث.

شعار "معكم معكم يا علماء" فعل كلامي، لأنه لا يصف ولا يخبر ولا يوصل معلومة مجردة، أي أنه ليس جملة محايدة تتضمن محتوى مجرداً من أي توظيف، كما في جملة الشمس مشرقة، بل هو جملة مغرضة (أي لها غرض) ومستخدمة ومستعملة وموظفة ضمن لعبة (لعبة حسب مفهوم بورديو، وليس بمعنى القدح السياسي) وهذا الاستخدام يخلق أو ينشئ مجال لعب كلامي، وينجز اللاعبون السياسيون في هذا المجال باللغة أفعال اتصال وانقطاع واستفزاز وتسلط وتوعد وتخوين وتهديد…إلخ، وبهذه الأفعال يعمل الشعار على إدامة اللعبة بين الفاعلين في مجال التداول السياسي.

ولعل مظاهر إدامة هذه اللعبة، نجدها في كم الأحداث التي أنتجها هذا الشعار، والفاعليات التي اتخذته شعاراً لها، والحجاجات التي وظفته في الدفاع عن مواقفها أو رغباتها أو مصالحها أو رؤاها، والتأويلات التي خضع لمعانيها، والاستخدامات التي جرى فيها، والأفعال وردود الأفعال التي أثارها، حتى إنه أصبح لهذا الشعار إرشيفه الخاص الذي يضم مدونته.

§ الشعار قصيدة

كان (معكم معكم يا علماء) شعار الجمهور الشيعي وشعره، فالشعار قصيدة الجمهور، قصيدته لأن مادته من شعوره وجسده، كما أن مادة القصيدة من شعور شاعرها وجسده، والشعار الناجح تماماً كالقصيدة الناجحة، بقدر ما تكون مختومة بمشاعر شاعرها وجسده يتحدد نجاحها. الشعور الذي هو مادة الشعر والشعار، إدراك من غير إثبات، وكأنه إدراك متزلزل، وهذا ما يجعل من الشعار والشعر إدراك متزلزل للعالم، وليس أكثر من هذا الإدراك قدرة على تغيير العالم.

والشعار والشعر مشتقان من المادة المعجمية نفسها، كما هما مشتقان من التجربة الوجودية نفسها، ففي المعجم "شَعَرْتُ لفلان أَي قلت له شِعْرا، وأَشْعَرْتُه: أَلبسته الشّعارَ، وأَشْعَرَ القومُ: نادَوْا بشعارهم، وأَشْعَرَ الهَمُّ قلبي: لزِقَ به كلزوق الشِّعارِ من الثياب بالجسد؛ وأَشْعَرَ الرجلُ هَمّاً: كذلك. وكل ما أَلزقه بشيء، فقد أَشْعَرَه به"

ما يلزق بنا هو شعارنا الذي يُعبِّر عن شعورنا، ويُعْلِم عما بنا، ويقول ما يعتمل فينا، والشعار علامة علينا، متى كان مُعْلِماً بحالنا ومُلَبيا لندائنا ومُحقَّقا لمطلبنا، متى كان هويةً ناطقةً عن جماعتنا. وشعار (معكم معكم يا علماء) ناطق بكل ما يعتمل في جماعة التيار الشيعي من ظلامات ومطالب ونضالات وأحلام وتعويلات ورؤى وشظايا الكأس المكسورة.

وتتحقق شعرية الشعار وشعرية الشعر بقدر ما يشق الشعار أو الشعر عمَّا يعتمل فينا من أحاسيس ومشاعر، أي يكون الشعار فعلاً له قوة الحدث، بقدر ما يكون قادراً على تمثيل جرحنا، والكلمة في اللغة تعني الجرح، والشعار الذي لا تكون كلماته جرحاً لا يكون فعلاً. بل يصير الشعار شعاراً بقوة تمثيله لهذا الجرح، وبقوة قدرته على أن يشق عن جرحنا الداخلي، ويُعلن عنه ويُعلم به، وفي المعجم يحيل الشعار على الجرح الذي يترك علامة "وأَشْعَرَ البَدَنَةَ: أَعلمها، وهو أَن يشق جلدها أَو يطعنها في أَسْنِمَتِها في أَحد الجانبين بِمِبْضَعٍ أَو نحوه"

حين يفقد الشعار شعريته التي هي قوته الإنجازية في أن يكون فعلاً يصنع حدثاً، يفقد قدرته التي يُعلم بها ويُعلن وينادي ويطلب، يفقد قدرته على أن يحفر علامة تدل على جماعته. لا تستطيع أن تقترب من شعار يُدمي، من شعار يملك قوة أن يُحدث ويُعلم، من كان يملك القدرة على أن يقترب من شعارات (وحدة الطبقة العاملة(البروليتاريا) والكفاح ضد الإمبريالية، وأينما تنطق الألمانية تمتد الأمة الألمانية، والإسلام هو الحل، والوحدة العربية) أبَّان قوتها وقدرتها على تشكيل خارطة العالم.

الشعار له دورة حياة، كما لأي كائن حي قوة وضعف من بعد قوة. كانت التسعينيات زخم حياة هذا شعار (معكم معكم ياعلماء)، والألفية الجديدة كانت بداية ضعف قوته، لكن حين يضعف الشعار لا يضعف كل شيء فيه، ربما تضعف قدرته التمثيلية للجرح الذي يدل عليه، لكن لا تضعف الحياة التي يحيل عليها، تضعف قدرته على الإحالة، لكن لا تضعف الحياة المحال عليها.

§ قدسية الشعار

في منتصف 2002 حيث مشاعر التيار الشيعي في بداية انتشائه بالإنجازات التي حققها شعاره (معكم معكم يا علماء)، كنتُ قد طرحتُ في أحد الملتقيات الخاصة، كتلة أسئلة على شعار (معكم معكم يا علماء)، كانت الأسئلة:

ما معنى هذا الشعار؟ وما مضمراته؟ ومن هم هؤلاء العلماء؟ وهل هو شعار مقدس؟ وكيف تمت صياغته؟ وكيف تم تداوله؟ وكيف يمكن قراءته وتفكيكه؟ وإلى أي حد تشكل هذه القراءة أو التفكيك خطورة على القارئ المفكك؟ وهل هو شعار المرحلة السابقة أم المرحلة الحالية أو هو شعار كل مرحلة؟ من هم جيل معكم معكم يا علماء؟ ما ملامح هذا الجيل الثقافية؟ كيف صاغ هذا الشعار ثقافة هذا الجيل؟ كيف يفكر هذا الجيل من خلال هذا الشعار؟ ما الأنساق الثقافية التي يضمرها هذا الشعار؟ ما طبيعة العلاقة بين أطراف الشعار أي ما طبيعة العلاقة بين حاملي هذا الشعار والعلماء؟ هل هناك إمكانية لإيجاد شعارات جديدة؟ إلى أي حد يمكن لقوانين أمن المجتمع أن تتسامح مع هذه الأسئلة؟

أثارت الأسئلة ردود فعل متباينة، تكشف في وجه من وجوهها شقوق المجتمع الذي صُنع فيه هذا الشعار، وتكشف عن المعاني المتعددة التي يحملها، والاستخدامات التي ينتهي إليها، والسلطات التي يمثلها.

المهندس ياسر علوي، كان يقرأ الأسئلة المطروحة على الشعار من خلال نسق المعية في ثقافتنا "موضوع جدير بالدراسة ولكن, هذا الشعار هو السائد في المجتمعات العربية منذ أيام الجاهلية إلى الآن. وما يهمنا هو جيل التسعينيات، فقد رفع هذا الشعار الماركسيون عندما هتفوا معك معك يا لينين أو معك معك ياماوسيتونغ, ورفعها الناصريون عندما هتفوا معك معك يا ناصر، ورفعها أيضا المتملقون عندما هتفوا معكم معكم يا حكام، أما هذا الجيل فهو جيل الإسلاميين فرفعوا هتاف معكم معكم يا علماء وهكذا"

أبوقاسم، الإسلامي، اليساري السابق وجد في الأسئلة تفكيكا للطائفة لا تفكيكا للشعار" لو حاولت أن تحب طائفتك حبا آخر سمّه ما شئت من المسميات، لما جالت في خاطرك هذه الأسئلة، (معكم معكم يا علماء) شعار قديم قدم الطائفة ومعاناتها ومظلوميتها. لم تفكيك الشعار؟ هل إثارتك لهذه الأسئلة يعني أن الطائفة تسير وراء العلماء دون وعي ولا تفكير،الفقراء المظلومون يسيرون وراءهم.هذا الشعار كان وسيكون لمراحل قادمة. نحتاج إلى الكثير من القراءة في فكر الطائفة المعارض وتاريخ الحركة الدينية في البحرين أليس كذلك؟"

كاتب العمود الصحفي الأكثر جدلا، عقيل سوار، وجد الأسئلة مُهدَّدَةً مأزق التخوين الذي يوقعنا فيه تقديس الشعار"ألا تعتقد أننا بحاجة لأن نتحدث بإسهاب عن شعار معكم معكم يا علماء, وبوصفه معادل موضوعي, لكل ما هو غير ديمقراطي, وغير متحضر. إن مأزقنا مع هذا الشعار هو نفس المأزق مع شعار البرلمان هو الحل!!. فنحن نعرف أن البرلمان ليس حلا لمشاكل البحرين حتى في أحسن حالاته, ومع ذلك لا نستطيع أن نقول هذا, دون أن نتهم بخيانة ثوابت الناس؟؟"

المصور وكاتب القصة حسين المحروس، يفرق بين مأزق الداخل ومأزق الخارج "يبدو لي هنا مآزق كثيرة، لا أتفق مع عقيل في أن مصدر المأزق واحد في الشعارين: معكم معكم يا علماء والبرلمان هو الحل! ففي حين يصدر الثاني نتيجة صراع مع الخارج( السلطة/ أمن الدولة) فإن الثاني يعبر عن مأزق مع الداخل(الناس/العلمانيين/المستقلين/اليسارين/المثقفين) لكن ربما تكون نتيجة نقد الشعارين مؤلمة.

إن تقديس العلماء يأتي من ناحيتين متعاكستين تماماً: الأولى أن الذين يرون فيهم الحل أكثر من أي شيء آخر هم مقدسون بلا شك وهي الصيغة التي أنتجت ( معكم معكم ياعلماء) لكن – الثانية – ألا يمكن أن ننعت أولئك الذين يرون العلماء هم مصدر الفتن والبلوى والتخلف مقدسون لهم أيضاً؟ بمعنى أن هذه الرؤية تصدر عن تقديس لقدراتهم وتهويل؟"

الشعار علامة، وبقدر ما تكشف هذه العلامة من وجوه ثقافتنا ومجتمعنا، تكتسب قراءتها أهمية، القراءات السابقة ألمحت -وإن كان بعضها يصدر عن منافحة لا عن قراءة- إلى وجوهٍ من الوجوه التي يتبدى فيها هذا الشعار في تداوله العام، فهو يتبدى في شكل سلطة ونسق وانتماء ومأزق وحب ومولاة وشك. وهذا ما يجعل من الشعار مركباً قابلا للتصريف في وجوه شتى.

وربما يكون كل وجه من هذه الوجوه سبباً في أن أسئلتي بقيت مكانها في محيط التداول الخاص، ولم تخرج إلى فضاء التداول العام، لم يكن السياق حينها مواتياً للتفكير فيها تفكيراً نقدياً.

§ اهتزازات الشعار

ما بين 2002 و2006 جرت مياه كثيرة على هذا الشعار، فقد فيها وجوهاً من معانيه، وظلالاً من وحيه. في ملتقى البحرين الإلكتروني، تتبدى آثار هذه المياه، كما لا تتبدى في أي مكان آخر، فهو ساحة التداول الشعبية العامة المتخففة من شروط الضبط والمراقبة التي يفرضها العُرْف والقانون والسلطة.

في هذه الساحة تتبدى دورة حياة الشعار، في 2004 مع بداية عمل اللجان الشعبية التي تولت ملفات البطالة والإسكان، بدأ الشعار يهتز، وبدت حياة العلماء معرضة للاهتزاز في هذا الشعار، لم يعودوا يُحيَون في هذا الشعار، لم يعد شعارهم، في هذه اللحظة، ولا مؤسستهم الرمزية.

وبدأت لحظات تململ من ثقله، فقد أًصبح سلطة تثقل حركة الشارع الميَّال إلى الخفة والتحرر من نَفَس القنوات الرسمية والسياسية التي انخرطت فيها جمعية الوفاق وعلماؤها الذين هم الآباء المؤسسون لشعار (معكم معكم ياعلماء) بل هم أنفسهم العلماء الذين يحيل إليهم الشعار، هم من جعلوا من هذا الشعار مؤسسة يديرون بها الشارع، ومع تحول هؤلاء العلماء إلى العمل في مؤسسة يديرها قانون الدولة ونظام السلطة، بدأ الشارع عبر ساحات التداول الافتراضية يصرخ" ويش الأشياء التي سوتها الوفاق والعلماء لتحريك قضية العاطلين حتى نثق بأنهم سيتحركون على قضية العاطلين؟ هلل وردد معكم(…..) أو معكم يا ثائرين؟!"([6])

بدأت إذن لحظة تفكك المعية، وتشييد معية جديدة، لكن هل هو تفكك للمفهوم أو تفكك للمصداق؟ أي هل هو تفكك لمفهوم العلماء أم تفكك لمن ينطبق عليهم مفهوم العلماء؟

§ المعية الشيعية

المعية تضمر في داخلها مشكلة: مع من نكون؟ من يقودنا؟ من هو إمامنا؟ من هو وراث خط النبوة؟ من هو وراث خط الإمامة؟ أسئلة المعية، هي نفسها أسئلة هذه المشكلة، وهي أسئلة لا يقلقها المفهوم، بقدر ما يقلقها المصداق، أي لا يقلقها مفهوم القائد، بل يقلقها من يصدق عليه مفهومها للقائد.

المعية في ختم الذهنية الشيعية، يحددها مفهوم هذه الذهنية للعالِم (رجل الدين) ، وهو مفهوم محكوم بثلاثة شروط: العمل، ومقاومة السلطة أو الاستقلال عنها، والزهد في الدنيا. وهي ثلاثة شروط متداخلة، وبعضها يحيل إلى بعض، وبعضها يكاد يكون شرطا لبعض.

يورد ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني (ت/329هـ) في كتاب الكافي الذي هو أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عند الشيعة، مجموعة من الأحاديث التي تمثل في مجموعها مفهوم الذهنية الشيعية للعالِم "… وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنبياء إِنَّ الأنبياء لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلا دِرْهَماً وَلَكِنْ وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ… ".. يعني بالْعُلَمَاءِ مَنْ صَدَّقَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ فِعْلُهُ قَوْلَهُ فَلَيْسَ بِعَالِمٍ… إِذَا رَأَيْتُمُ الْعَالِمَ مُحِبّاً لِدُنْيَاهُ فَاتَّهِمُوهُ عَلَى دِينِكُمْ فَإِنَّ كُلَّ مُحِبٍّ لِشَيْ‏ءٍ يَحُوطُ مَا أَحَبَّ… أَوْحَى الله إِلَى دَاوُدَ (عَلَيْهِ السَّلام) لا تَجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَالِماً مَفْتُوناً بِالدُّنْيَا فَيَصُدَّكَ عَنْ طَرِيقِ مَحَبَّتِي… الْفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ مَا لَمْ يَدْخُلُوا فِي الدُّنْيَا قِيلَ يَا رَسُولَ الله وَمَا دُخُولُهُمْ فِي الدُّنْيَا قَالَ اتِّبَاعُ السُّلْطَانِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَاحْذَرُوهُمْ عَلَى دِينِكُمْ… يُغْفَرُ لِلْجَاهِلِ سَبْعُونَ ذَنْباً قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لِلْعَالِمِ ذَنْبٌ وَاحِدٌ… وَيْلٌ لِلْعُلَمَاءِ السَّوْءِ كَيْفَ تَلَظَّى عَلَيْهِمُ النَّارُ"([7])

الكتب المعتمدة، ليست معتمدة الرواة والأحاديث فقط، بل إن مفاهيمها للحياة وتفاصيلها معتمدة أيضاً عند الجماعة التي تؤمن بها، المعتمد يمثل الكتاب الصحيح أو الكافي (Canon) الذي تعتمده جماعة معينة ضمن حقل معين، مجموع هذه الأحاديث يشكل المفهوم الشيعي المعتمد للعالِم (رجل الدين).

وهو مفهوم ظل فاعلاً في الذهنية الشيعية، بما يمثله من امتداد لخط الإمامة التي هي امتداد لخط النبوة (الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنبياء). مجموع هذه الأحاديث يشكل أفق التوقع الشيعي لطبيعة العالم ودوره وصفاته وسلوكه وعمله، ويشتغل هذا التوقع معياراً في تحديد من هو العالم الحق؟ ووفق هذا التحديد تكون المعية، ويكون مصداقها.

§ عمل المعية

العمل من أجل الآخرين والآخرة هو الشرط الذي تعتمده الذهنية الشيعية في تحديد مفهومها للعالم، الآخرين هو كل ما هو خارج مصلحتك الذاتية، هو الأمة وما يكون في مصلحتها، يبقى الزهد أحد متطلبات العمل، لا يمكنك أن تعمل من أجل غيرك وأنت مفتوناً بدنياك أو محباً لها أو مورِّثاً فيها أو متبعاً لها، ولا يمكنك أن تعمل من أجل الأمة وأنت تابع للسلطان، السلطان يريدك له، والعمل يريدك للناس، العمل يتطلب استقلالاً عن الدنيا والسلطان (الدنيا اتباع السلطان) لابدّ أن تعمل على الانفكاك من هذا الاتباع، وذلك بالزهد في الدنيا والسلطة والسلطان. العمل الذي يصنع معية العالم أي قيادته وإمامته وكينونته، هو العمل السياسي الذي هو مقاومة للدنيا (السلطان) بالاستقلال عن السلطة أو بالثورة عليها.

كان شعار (معكم معكم يا علماء) مؤسسة، لأن العالم في الذهنية الشيعية مؤسسة رمزية لها شروطها وقوانينها وأعرافها ومتطلباتها، وهي مؤسسة فاعلة ونشطة، ويتداخل فيها الديني بالسياسي والدنيوي بالأخروي والفعل والقول.

المعية الشيعية محكومة بأفق توقع الذهنية الشيعية للعالَم، لذلك كان شعار (معكم معكم يا علماء) يتضمن في داخله قوة وسلطة بما يملكه من شروط المعية وأفقها الذي تصنع به شارعها ومُشرِّعها (العالم) ومشروعها.

§ موت المعية

انتهت دورة حياة المصداق، لكن لم تنته دورة حياة المفهوم، انتهى استخدام شعار (معكم معكم يا علماء) بفقد قدرته وقوته التمثيلية، انتهت معيته الزمنية، انتهت سلطته، انتهى مصداق معيته، لكن مفهوم معيته سيتجدد في دورة حياة أخرى، في استخدام آخر أو في زمن آخر أو في سياق آخر، كما هو الأمر في شعار (المرجعية خط أحمر) أو في شعار مسيرة العلماء ضد قانون الأحوال الشخصية (لبيك يا إسلام).

ستعلن ساحة بحرين أونلاين الافتراضية عن انتهاء دورة حياة هذا الشعار، كما كانت هي نفسها قد أعلنت عن ولادته في ساحتها الواقعية أمام منزل الشيخ الجمري. سيكون الشعار حجة على العلماء، بعد أن كان جبهة للعلماء.

ستعلنه عبر نداءات الاستنكار واليأس " الى متى يا علماااااااااااااااااااااااااااااااء ؟؟؟؟؟ فطسناااااااااااااااااااا… الى متى يا علماء الى متى يا علماء الى متى يا علماء …؟؟

حسووووا فينـــــــاااا ..حسوووووووووووووووووووووووووووووووااا.."

صار الشعار لا يحس لا يشق عن جرح، لا يسمع لا يلبي نداء لا يحقق مطالب، وحين يفقد الشعار قدرته على أن يلبي مطالب شارعه يفقد شعريته وشرعيته، أي يفقد قدرته وقوته وإنجازه في أن يكون فعلاً كلامياً، سيكون مجرد ذبذبات صوتية، لا تعني شيئاً.

" بس ما ينفع ..لأني قاعد آآذن في خرابه ..ولا لهذا صوتي لا يصل الى آذانكم ..

واذا وصل ..فسووفه يخرج من الآذن الثانية ..وهذا نحن في دوامة الذبذبات الصوتية"


[1] ) دعاة حق وسلام، خطابات الشيخ الجمري بين الاعتقالين، سبتمبر1995- يناير1996م.ص13.

[2] ) المصدر نفسه، ص36.

[3] ) المصدر نفسه، ص6.

[4] ) البناء على بيار بورديو، علي سالم ، ص72.

[5] ) النص والسياق، فان ديك. ص228.

[6] ) ملتقى البحرين، www.bahrainonline.org

[7] ) أصول الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، كتاب فضل العلم.