كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

المتبقي… والجماعات العربية الجديدة

 

ALZUHAIR

 

في رواية الزهير لباولو كويلو يتعرف البطل وهو في طريق البحث عن زوجته المختفية استير، على جماعة غير مألوفة تعرف بالتنغري لديها طقوس احتفالية غريبة وفلسفة غريبة، يتحدثون عن الحب والطاقة الروحية والخلق والإنسان والجنس يلتقون في مطعم ويقيمون احتفالاً هو مزيج من ثقافات متعددة شرقية وافريقية وغربية، يؤدون فيه رقصات خاصة ويمثلون فيه أدواراً بملابس غريبة ويحكون فيه قصصهم وهمومهم وتجاربهم عن الغيرة والهجر والإحباط، يحاول البطل أن يفهمهم هل هم طائفة دينية أو جماعة بويهيمية أو شيء آخر؟ «ما أزال غير مدرك المغزى من ذلك، يبدو الأمر وكأنه جلسة مساعدة ذاتية جماعية مثل الجلسات التي يعقدها المدمنون على الكحول المجهولون». تبحث جماعة التنغري tengri عن معنى جديد لوجودها وعلاقتها بالعالم، معنى يختلف عن معنى النظام السائد الذي لا ترى فيه قدرة على تفسير حياتها وحبها وولهها وفشلها ونمط وجودها. المتبقي هو ذلك الجانب من اللغة الذي يقيم الوصلات ويؤدي المعنى حتى في أصعب ظروف التفكك النحوي، وهو يشبه نبتة الجذمور التي تتصل بالحياة من أية نقطة مهما قطعت أو صلبت. يبدو المتبقي وكأنه شذرات غير مفهومة وهامشية ومحيرة ولا يمكن تسميتها تماماً كمتبقي (التنغريtengri). لم يكن الباحث عن زوجته الذي يعيش وفق نظام المعنى العام المستقر يدرك مغزى هذا المتبقي الذي يعيش على هامش النظام، وكان يحتاج إلى فترة طويلة ورحلة مضنية كي يفهم هذا المتبقي ويعثر على زوجته فيه. كان عليه أن يتصل بالحياة من جديد عبر هامش معنى غير معروف وغير معترف به. المتبقي يعمل في كل الأمكنة بما فيها النحو والشعر والمجتمع والإنسان ونظام القيم، وهو يعبث بكل المقولات والمستقرات والمألوفات، اما أماكنه المفضلة، نجدها في أجهزة اتصالنا بالحياة نجدها في غرف الانترنت وفي الموبايلات وفي (Blogger)، وفي كل ما يبدو متشذرا وغير خاضع لنظام المراقبة العام. المتبقي يعمل في اللغة والإنسان والحياة، ويشتد عمله متى تصلبت اللغة، لقد تصلبت في حياتنا العربية أنظمة الهوية والقومية والإسلامية وتصلبت معها اللغة التي تعبر عنها ولم تعد تتسع لزمن الإنسان الحديث الذي يعيش تحولات سريعة وغريبة، سيعبر المتبقي في هذه الحياة العربية عن نفسه في شكل جماعات جديدة تنشط على مستويات عدة وسيعبث هذا المتبقي في لغتها وقيمها وقضاياها وحكاياتها. «العرب الجدد» سيكونون متبقيات هذه الأنظمة المتصلبة، ليس بمعنى الباقي من هذه الأنظمة بل بمعنى العابث في هذه الأنظمة.

 

رابط الموضوع: http://www.alwasatnews.com/mobile/news-543851.html

المصدر: جريدة الوسط البحرينية

أم صادق جهة الذوق

في 1961جاءت رباب الدير، أحضرَتْ معها المنامة، كان عمرها خمس عشرة سنة، لكنها لم تكن المرة الأولى، فقد زارت الدير قبلها مرتين، برفقة أخيها حسين الذي كان يعاني من كسر في رجله، قصدا بيت الحاجية (بنت مدن) المراخة الشهيرة التي ستنجب (بنت إبراهيم) خليفتها الأكثر شهرة على مستوى البحرين.ليس كمثل يدي بنت مدن قدرة على جبر الكسور، تملك يداها طاقة روحية تجبر خواطر الكسور. 

حين أبلغها أخوالها أنك ستكونين ديرية بخبرة منامية، كانت تعرف جيداً أنها ستغادر المدينة إلى قرية بعيدة لا شوارع بعد لها، قرية مازالت بكراً، لم تفتح عيونها بعد ولا شوارعها. المسافة بين الخطبة والزواج شهران، لم يكونا شهري تعارف، فهي لم تره قبل ليلة الزواج، كانا شهري حداد، لوفاة الحاج عبدالله بن عيسى مطر، أحد رجالات القرية الذي تربطه صلة نسب بعائلة زوجها.

كان ينتظرها بيت عائلة من حوش كبير على هامشه غرف صغيرة. بدا الحوش بمثابة سوق صغيرة يبيع فيه عمها الحاج أحمد سلمان السمك واللحم والدجاج. سيوفر لها هذا السوق فرصة للاختلاط بأهل القرية والتعرف عليهم والدخول في عالمهم. عبر هذا السوق ألفت لهجة الدير التي بدت لها سريعة جدا وغير مفهومة، وعبر هذا السوق انخرطت في شؤون العائلة، وصارت واحدة من جنودها المجندة لكسب الرزق.

بدا لها النظام الاقتصادي للعائلة غريباً وغير متقبل، لقد جرت العادة في القرية أن يعمل الجميع ويتسلم ربّ العائلة المال وهو الذي يتولى توزيعه وإدارته وحفظه، حين بدأت تمارس احتجاجها لتكون لها خصوصيتها في تكوين عائلة نووية ضمن البيت الكبير، بدأ عمها بحس السلطة المطلقة، يقرأ في احتجاجها ما هو أبعد من الخصوصية. وجد في هذه المنامية التي تدير أمورها ببراعة شخصية تنازعه سلطته المطلقة، وأنها ستؤسس لنمط جديد في العلاقات الزوجية، فاتهمها بالسيطرة على ابنه، ومحاولة فرض شخصيتها عليه.

لن يخفي العم إعجابه بزوجة ابنه، لكنه لن يتوانى عن مناكفتها وتحجيم دورها المنافس لسلطته في البيت، ستشتعل خلافات صغيرة، لكنها ستبقى ضمن البيت العود.

على الرغم من ذلك، لم يجد العم نموذجاً يعبر به عن المرأة التي يريدها في زواجه الثاني والثالث، غير نموذج رباب، “أريد امرأة مثل رباب”. 

في مقابل العم كانت هناك العمة الحاجة أم عبدالله، أعلنت انحيازها التام لشخصية رباب، وقدمتها على ابنتها، كانت حليفاً قوياً لكن من غير سلطة، وجدت رباب في عمتها النقيض الكامل لعمها، حتى كانت تعتبر صديق رباب صديقها وعدو رباب عدوها، بالمقابل كان على رباب أن تعمل بالمنطق نفسه، غير أنها مع زيجات عمها المتكررة اللاتي هنّ ضرات وعداوات بالفطرة مع عمتها قد أوقعها في حرج دائم، فالعمّ لا يمكن أن يقتنع بأي وفد نسائي يرافق زفافه المتكرر إذا لم تكن رباب في مقدمته، حتى إنها اضطرت مرة للهرب إلى بيت أمها في المنامة خوفاً على مشاعر عمتها، غير أنه أرسل لها من يحضرها، ويحضر معها زعلاً لازم عمتها أياماً لمشاركتها زواج إحدى ضرّاتها، أو إحدى مشاريع عداواتها.

  • خياطة الذوق

أنت لا تأتي المكان وحدك، بل تأتي ومعك مكانك الذي جئت منه، تحمل خبراته ونظامه ومعارفه وتفاصيله، جاءت رباب الدير في مطلع الستينيات، وهي ابنة 15عاماً، لكنه تحمل خبرة 5سنوات خياطة، منذ سن العاشرة وهي تتدرب على يدي أمها وخالتها فنون الخياطة: نقدة، صوف، تطريز. أتقنت هذه الفنون بمهارة بمهارة فائقة، جاءت الدير تحمل معها ماكينة خياطة، كما جاء نابليون مصر 1798م يحمل معه آلة طباعة، تبشر مصر بعهد جديد.

كانت ماكينة الخياطة تحمل معها ثقافة جديدة، لم يكن أهل الدير يعرفونها بعد، أدخلت ماكينة رباب موضة السراولة البيض الواسعة مع الفساتين القصيرة. صارت الخياطة صناعة ذوق وخيار، أصبح بالإمكان أن نختار شكل ملابسنا، نفصلها كما نريد، نشبك خيوطها وفق مقاسات أجسامنا، إنها تجربة متفردة تتيح لنا أن نكتشف فرادة أجسادنا، أصبح لكل امرأة مقاسها الخاص، ولديها خياطتها الخاصة.وصار بإمكانها أن تشتري قطعة القماش التي تعجبها، وتطلب شكله الذي تريد أن يصير عليه. صارت الخياطة ذوقاً لا مجرد ستر.

نصف زيجات أهل الدير كانت تمر بين يدي أم صادق، تخيط فساتينهم وتشكل وجوههم وترتب مسرحهم وتنظم طريقة دخولهم وتجعلهم يكتشفون وجوههم الجديدة في مرايا حفلات الزواج.

العرس الذي ترعاه أم صادق، يكون حديث القربة، والعروس التي تحظى بذوق يديها، تظل تفاخر طوال حياتها بذلك، يقال عنها (ما فوقها فوق).حتى عمها بغطرسته، يذعن لسلطة ذوقها، كانت هي من خاط فستان زواج زيجته الثالثة في منتصف الستينيات. لم تكن رباب صاحبة ذوق فقط ولا صاحبة مهارة فقط، بل كانت صاحبة ثقافة تميز مختلف الأزياء بحسب أعراقها ومناطقها وجهاتها، تعرف المرأة الميناوية من الفارسية من القطيفية من الشنشنية من المحرقية من الرفاعية من زيها، بل يمكنها أن تصف أوجه الاختلاف الدقيقة بين هذه الأزياء النسائية كلها. إنها خبيرة بتاريخ الأزياء وصناعتها.

ماكينة خياطة أم صادق
ماكينة خياطة أم صادق
  • تربية غير

لم تصنع رباب ذائقة مختلفة فقط، ولا إدارة مختلفة فقط، ولا خياطة مختلفة فقط، ولا أعراساً مختلفة فقط، إنها صنعت أيضاً تربية مختلفة. كان صادق الذي هو الآن من ألمع جراحي البحرين ابنها البكر في 1964، ويسرى ابنتها الكبرى في 1966، ويليهم لؤي وهيفاء وابتهال ونور. إنهم صناعتها بامتياز، كل شخص منهم إضافة إلى فرادته يحمل فرادة رباب أيضاً في شخصه.

في الوقت الذي كان فيه أطفال القرية لا يميزون بين الشارع والبيت، فالشوارع كلها بيوتهم، والأتربة أحذيتهم، كانت رباب تعلم أبناءها الفرق بين آداب البيت وآداب الشارع، ملابس البيت وملابس الشارع، نظافة البيت ونظافة الشارع، قيم البيت وقيم الشارع. كانت هذه المنامية مهووسة بثقافة الفرد واستقلاله، وقد ربت أطفالها وفق هذه الثقافة، كانت معلمات المدرسة ومعلمو المدرسة يميزون ملابس أولادها ويرون فيهم شخصيتها وثقافتها.كانت تلبسهم البدلات المفصلة وتسرح شعورهم وتهندم أشكالهم، كانت تربية غير.كانت النسوة يتهامسن بينهن: (جان زين بناتنا مثل بنات أم صادق).

  • محو الأمية

كانت مدرسة الزهراء على بعد خطوات من بيتها المنامي، لكن قروناً من التاريخ تحول بينها وبين أن تصل هذه المدرسة، لقد عالجت هذه القرون التي لم تمكنها من الالتحاق بالمدرسة، بالذهاب لمحو الأمية في مدرسة الدير في بداية الثمانينيات، تعلمت الكتابة هنا، وصارت تملك مهارة الكتابة، إضافة إلى ما كانت تمتلكه من مهارة القراءة التي تعلمتها في درس القرآن.وهي مهارة مكنتها من متابعة الصحف منذ صدور الأعداد الأولى من جريدة أخبار الخليج.لقد محت مدرسة الدير أميتها الكتابية، كما ساهمت ماكينتها  في محو جوانب حية من أمية الدير.  

  • الديرية

صارت رباب اليوم ديرية، لكن بم صارت ديرية؟ صارت ديرية بما نسجته من علاقة محبة، وبما ألفته من قلوب، وما تركته من أثر، وما تشبعت به من أجواء اجتماعية، أحبها الناس هنا، بما تركته فيهم من روح جديدة.بعض الديريات فهمن نموذجها المختلف تعالياً وتكبراً، لكن ما أن يقدر لهن أن يقتربن منها حتى يكتشفن عالمها الإنساني الذي يستطيع أن يختلف مع الآخر ويستوعب في الوقت نفسه  برحابته العالم. 

عرفت الدير مناميات سبقن رباب كما عرفت الدير مناميات لحقن رباب، لكن لم يعرفن منامية كرباب. 

 

أحمد البوسطة: أسئلة متحركة لإجابات نحتاج إليها!

 

«هوامل تخرجك بنفورها وتحديها من الواحد الشامل: جواب واحد تقدمه ثقافة واحدة أو دين واحد أو مذهب واحد أو شيخ واحد أو معتقد واحد أو منطق واحد، وتصلك بهوامل المتعددين والمتنوعين والمتكوثرين». (الكاتب علي الديري).

هذا القول أعلاه جاء من نص معد للنشر في صحيفة عربية لأهم تحقيق قرأه الديري في العام 2005 في الصحيفة ذاتها عن كتاب «الهوامل والشوامل» لابن مسكويه وأبوحيان التوحيدي، الذي «أخفي قديما خوفا عليه من سخط العامة»، وعنونه بـ «ذهبت لهوامل التوحيدي أشق شارعاً جديداً لمدينة عربية جديدة». ويبدو أن الديري لم يذهب إلى التوحيدي ليحدث فجوة في شارع، بل إلى أسئلته الفلسفية» فالهوامل كما يشرحها «هي النياق الشاردة بلا راع»، وبها سمى أبوحيان أسئلته ­ وهي 175 سؤالاً ­ والتي بعث بها إلى مسكويه. فأجابه مسكويه بأجوبة سماها «الشوامل». القصد من المقدمة القصيرة التي من فرط ما فرضت نفسها كما في حالنا، هو طرح أسئلة لمطاردة التناقضات في فضاء لابد من تحرير سقفه الديمقراطي المنخفض، المقياد للحريات العامة، وفي القلب منها حرية المعتقد والحريات الشخصية، المدرجة ليس في تنويعات التطبيق والممارسة الديمقراطية الحقيقية، بل لكي نعيش وننشط من دون أن «نتناهش» أو نكشر عن أنياب واحدة تفترس زيداً، وأخرى تلمع ليخشى منها عبيد، العاشقة أو الكارهة «جيناته» لسحر التغيير من تحت «قبة البرلمان أو خارجها»، مع أن، لا الأرض ملئت عدلاً بعدما ملئت جورا، ولا هم يحزنون: فالحال كما يبدو هو الحال بالنسبة» إلى «زيد وعبيد» من المشاركين أو الممتنعين عن المشاركة في العملية السياسية الجارية في البلاد، فلا هؤلاء غيروا الخريطة السياسية ولا أولئك، وما كان موجودا، هو هو بالمقاييس نفسها، لأن اللاعب الأساسي «لا يوجد عنده إلا هذا الموجود»، ولا تسألوا كيف، ولا لماذا، وما السبب، وهل من الممكن وغير الممكن؟ فمن قبل بهذا السقف (كما تشير سبابتهم على القوى الفاعلة في المجتمع)، فأهلا وسهلا به، ومن تمرد عليه (الموجود) بقول «لا» سلمية معتقة في فلسفة المهاتما غاندي «اللا عنف»، فـ «لا أهلاً به ولا سهلاً»» ويبقى الجميع هكذا في حلم دائم، فالقابضون على ترسيخ السائد سيشددون قبضتهم عليه، إذا لم يهددوا بـمقولة «الرجوع بالأوضاع إلى المربع الأول» التي تعرفونها من كثرة ترديدها، والمتمسكون بالمكتسبات وتطويرها، سيطالبون ويطالبون من دون ممارسة للديمقراطية التي يناضلون من أجلها، والحالمون من الناس سيظلون محكومين بطرفي الكماشة: للمقاطعة أو للمشاركة، وهكذا.

ألم تلاحظوا أن الأسئلة هي هي، كما كانت عليه سنة ،2002 ولا أحد يسأل لماذا أسئلة 2002 يعاد اجترارها في نهاية ،2005 وربما ستستمر حتى مطلع انتخابات ،2006 أو ما بعدها. تعرفون لماذا؟ لأن مبررات الممتنعين عن المشاركة، وبعض المشاركين هي نفسها لما كانت عليه آنذاك» فالذين قاطعوا الانتخابات الماضية، ربما تعززت قناعتهم بجدوى تسجيل موقف من دستور 2002 ومن التراجعات التي تلت وحزمة القوانين التراجعية التي فاضت، وقد يذهبون بعيدا في سقف مطالباتهم. لأنهم يشعرون بأن «الشراكة» بين الشعب والحكم منقوصة في مجلسي الشورى والنواب، بالنسبة إلى التشريع والرقابة على السلطة التنفيذية، وهي المهمتان الرئيسيتان لأي برلمان في العالم لأي بلد ديمقراطي كان، أو يخطو صوب الديمقراطية. أما الذين سيشاركون ربما يجدون مبررات تنفع الناس أو تنفعهم، ومن أهمها: الحد من الفساد وفضح المفسدين ما أمكن، ومحاولات لفصل السلطات للوصول ببرلمان كامل الصلاحيات عن طريق «التدرج»، ومن ثم تخفيف الاحتقان السياسي ما أمكن تخفيفه، وتعزيز الثقة بين الشعب والحكم. إذاً، الذين سيشاركون في الانتخابات المقبلة، وإن كانوا من المقاطعين سابقا، لهم مبرراتهم، والذين سيقاطعون لهم قناعاتهم، تماماً كما كان في انتخابات ،2002 لأنه لحد الآن لم تقدم تنازلات حكومية محسوسة للولوج بسلطة تشريعية ورقابية كاملة الصلاحيات» فالأسئلة ستبقى كما كانت، والمبررات، والمبررات المضادة لم تتغير، وكأن الساعة توقفت عند الفصل التشريعي الأول في ،2002 وهنا يحتاج الناس إلى أسئلة جديدة ومتحركة، ومنطق وعقل جديدين، ونفس شغوف بالبحث للتنوير والاستضاءة، ولذلك، وكما يقول الديري في نصه: «إن الجواب يحتاج إلى حركة السؤل. إن الشامل معوز ومحتاج وفقير إلى الهامل، إلى حركته وروحه واحتجاجه ونهمه. لذلك كان ابن مسكويه محتاجاً إلى التوحيدي، محتاجاً إلى سؤاله، أكثر مما كان التوحيدي محتاجاً إلى جواب ابن مسكويه». هذا، وإلا سنظل نشرب حليب الناقة من خف الجمل.

جريدة الوسط

العدد 1206 – السبت 24 ديسمبر 2005م الموافق 23 ذي القعدة 1426هـ

السمك الرعاش 

السمك الرعاش أو الرعاد
السمك الرعاش أو الرعاد
  • محاورة منون

في محاورة مينون التي موضوعها “الفضيلة” ينتهي الحوار بمنون إلى أن يعلن يأسه من تشكيكات سقرط في إجاباته، ويطلق عليه على سبيل التهكم لقب “السمك الرعاش”فما السمك الرعاش؟ لنقرأ المقطع التالي من الحوار الذي يكشف معنى تسمية سقراط بالسمك الرعاش: 

“مينون: لقد سمعت عنك يا سقراط، حتى قبل أن ألتقي بك، أنك لا تفعل شيئاً غير أن توقع نفسك في الشك وأن تجعل الآخرين يقعون في الشك. وفي هذه اللحظة ذاتها يبدو لي وكأنك سحرتني وأجرعتني بعض عقاقيرك، وأوقعتني ببساطة في حبائل سحرك، حتى أنني أجد نفسي وقد أحاط الشك بي من كل ناحية. وأنه يبدو لي تماما، إذا كان يمكن أن أطلق دعابة، أنك تشبه أعظم الشبه من حيث الشكل ومن حيث الجوانب الأخرى سمك البحر الكبير ذلك الرعاش، حيث إنه، دائما، ما أن يقترب المرء منه ويمسه حتى يجعله يرتعش، وكذا يبدو لي ما أنت فاعله معي.ذلك أنني فعلا وحقا أشعر أني قد خدرت نفسا وجسما ولم أعد أملك الإجابة على أسئلتك. ومع ذلك فما أكثر ما تحدثت عن الفضيلة أحاديث فياضة وأمام كثيرين، وأحاديث كانت على أحسن وأجمل ما يكون، بحسب ما كان يبدو لي أنا. أما في هذه اللحظة فإني أجدني عاجزا تماما عن أن أقول ما هي؟

سقراط:إذا كان السمك الرعاش يخدر نفسه كما يصيب الآخرين بالتخدير، فأعتقد أنني كذلك وإلا فلا. إنني أضع الآخرين في الشك، ليس لأنني أمتلك اليقين، إنما، لأنني أنا نفسي في شك أكثر من أي واحد آخر، فإنني أجعل الآخرين هم أيضا يقعون هكذا في الشك” في الفضيلة، محاورة مينون،ص101

  • الشك والحوار

السمك الرعاش إذن تسمية مجازية مكثفة شأنها شأن ذبابة الخيل، تكشف معنى من معاني سقراط المتعددة، والمعنى الذي تحيل إليه هذه التسمية المجازية هنا هو الشك.الشك في الفلسفة السقراطية يقوم بوظائف متعددة. فهو الذي يفتح الحوار، فلا حوار حول معرفة يقينية ناجزة، الحوار يبدأ لحظة الشك، وهي لحظة تحف بكل أمر ممكن، ولنتذكر أن الممكن هو موضوع الجدل وقد خصص له أرسطو الكتاب السادس في الأرغانون، والأرغانون هوالمنطق الذي اشتهر به أرسطو، وهو كتاب في دراسة الأقاويل، بما هي وسائط بين الإنسان والكون وبين الإنسان والإنسان، حول شؤون الاجتماع والسياسة في الحكم والفعل.

  • الشك المدني

 إن الشك السقراطي شك حول قول دنيوي، موضوعه الإنسان وإدارة شأنه المدني، لذا يمكننا أن نطلق على الشك السقراطي تسمية الشك المدني، لنجعله مقابلا للشك الميتافيزيقي، وبهذا التقابل سنجعل من الشك المدني هو دون مقابله المختص بتكوثر الحوار في المدينة.  

لقد صاغ أفلاطون فلسفة سقراط، في شكل حوارات مطولة (كتب) وقد اتخذها أرسطو فيما بعد نموذجا لتنظيراته وتمثيلاته حول الجدل ومواضعه.

إذن لا يمكننا أن نبدأ حواراً من غير شك، فالشك يولد الحوار ومن الحوار تكون الفلسفة، وسيرة أرسطو قد مثلت ذلك خير تمثيل، فهو السمك الرعاش الشاك وهو القابلة التي تولد الأفكار بالحوار، كما كانت تولد أمه الأولاد من النساء، وهو الفيلسوف الذي كان يمشي في الأسواق ويقول “ليس بإمكان الأشجار التي في الجبل أن تعلمني شيئاًً”    

  • النطق المدني

الشك المدني يفتحنا مباشرة على مفهوم الإنسان، وعلى وجه التحديد على ما يحقق معنى إنسانيته الدنيوية، فما الذي يحقق هذا المعنى؟ يحققه مفهومان للإنسان، مفهوم الحيوان الناطق، ومفهوم الحيوان المدني، وهما مفهومان صاغهما أرسطو في تعريفه للإنسان، ويمكننا أن نجمعهما في مفهوم واحد، وهو النطق المدني. فما النطق المدني؟ وما علاقته بالشك المدني؟ 

النطق هو التصرُّف في المعرفة، تشييداً ونقداً ونقضاً وتفريعاً وتوسيعاً وتحويلاً واستثماراً وتوظيفاً، ولا يمكن التصرُّف في أي شكل من أشكال المعرفة هذه من دون استشكال، أي من غير أن تستشكل على ما تعرف أو يعرف غيرك، والاستفهام هو السؤال الاستشكالي النموذجي، كما يقول طه عبد الرحمن، ويقتضي الاستشكال حصول الشك في الشيء، وهذا يعني أن الإنسان يتوفَّر على صفة النطق، متى توفَّر على ملكة الاستشكال التي تتيح له القدرة على الشك والسؤال.

ومادام الاستشكال يقتضي الشك، ولا يحدث استشكال من غير سؤال، فهذا يعني أن لا ارتعاشة من غير شكٍ يُفضي إلى سؤال، وربما يكون هذا هو جوهر ما يعنيه عنوان كتاب الدكتور نخلة وهبة “رعب السؤال”.

  • السمك الرعاش بوصفه حالة

وهذا يفضي بنا إلى أن نفهم مجاز “السمك الرعاش”، بوصفه حالة فكرية ونفسية وعقلية ومدنية وحضارية، لذلك هي ليست ذاتاً لشيء، بقدر ما هي صفة لحالة الإنسان الناطق، أي الناطق بالسؤال والاستشكال والشك التي هي مقتضيات الحوار والمعرفة والفلسفة، وهذه المقتضيات هي شرط المدينة التي بها تكون.

إننا نشك لنحيا، أي لنكون ونُكوِّنَ مدينة، إذ لا حياة ولا مدينة بغير نطق، ولا نطق بغير سؤال وجواب (حوار) واعتراض (سؤال الجواب أو مساءلته)، إننا لا نشك لنبحث عن حقيقة واحدة للأشياء، بل لنكوثر حقائق الأشياء. عملية الشك تعبِّر عن قرار الذات بأن تسحب ثقتها المطلقة من الأحكام ومن الأشياء. الشك ليس طريقاً لليقين، كما أراده ديكارت، بل هو طريق للحياة على نحو استشكالي.

أنت تشك، لأنك تبحث عن الرعشة التي تدفعك إلى أن تحترق بالسؤال، الرعشةُ التي تجعلك لا تثق بإطلاق محض، الرعشةُ التي تهز وجودك، الرعشةُ التي تجعلك تعيش على نحو استشكالي، الرعشةُ التي تجنبك أن تكونَ في آلةٍ، إنها رعشة سقراط. من هنا، فالشك ليس تعبيراً عن عجز العقل، بل هو تعبيرعن حياته وحيويته، لذلك فالمجتمع الذي لا سمك رعاش فيه لا حياة فيه.

  • حماية السمك الرعاش

وبهذا يمكننا، أن نُعرِّف الديمقراطيةَ، بأنها حماية السمك الرعاش في مجتمع المدينة، أي حماية الشك والسؤال والاستشكال والحوار، بل الديمقراطية هي تكثير السمك الرعاش، بتوفير بيئة تكاثر له، كانت أثينا ديمقراطية بسمك سقراط الرعاش، وفقدت ديمقراطيتها يوم جرَّعته سُم الشوكران.

الذين يخافون السمك الرعاش، يخافون أن يستبدلوا وجودهم ويفتحوا ممكناتِهم ويسألوا ذواتِهم ويشكوا في معرفتهم، إنهم يخافون التصرُّف، التصرُّف في ذاتهم وعالمهم ومعرفتهم، وفي مَدِينيَّتِهم، أي في الصفات التي تجعل من حاضرتهم مدينة، أي التي تصنع إنسانيتهم الحاضرة، وذلك بوصف المدينة فضاء لتوسط القول بين الإنسان والإنسان، ولا قول بغير إنسان ناطق بالسؤال والاستشكال والشك. لا مدينة بغير سمك رعاش يشك ويسأل ويستشكل. هل يمكن أن توجد مدينة (دولة) بدون وجود برلمان يسأل ويشك، وثقافة تسأل وتشك، وتعليم يسأل ويشك، وصحافة تسأل وتشك، ومثقف يسأل ويشك؟ 

ولعل تعريف أرسطو للإنسان بأنه حيوان مدني، يتضمَّن مقتضيات ما سبق، والشك المدني بالمفهوم الذي جعلناه مقابلاً للشك الميتافيزيقي يفسِّر معنى هذا التعريف، أي معنى مدنية هذا الحيوان، مدنيته التي تقوم على الشك، فبهذا الشك يؤسس مدينته، وهو مدني بشكه، ولولا هذا الشك لما تكاثرت المدن التي شيَّدها الفلاسفة في ممكنات مخيلاتهم أو التي أشرفوا على تشييدها في واقعهم أو أوحَوا بمحاكاتها. أوَ ليس ما يُسمَّى الآن بالفلسفة السياسية، هو حصيلة ما راكموه من عمارات هذه المدن وأنقاضها وتناقضاتها؟!!  

  • أقواس نيتشه

يكفي، وفق نيتشه، أن نضع كلمات (عقل) أو (روح) أو (إله) أو (تاريخ) أو (دولة) أو(عدل)، بين قوسين لكي ندخل الشك فيها، ونرسم مسافة بيننا وبينها بل نستخف بها.

فلسفة نيتشه فلسفة أقواس بامتياز، أقواس الشك والمسافة والاستخفاف، كان يحاصر السماء والأرض بأقواسه، يحاصر يقينياتهما المفرطة بشكِّه المفرط، تستوي الأشياء باليقين وتختلف بالشك، تستوي السماء والأرض باليقين وتختلفان بالشك، تدَّعي الأرض أنها تمثل السماء باليقين، ولا شيء غير الشك يكذب ادَّعاءها، لذلك يقتتل الشك واليقين في الأرض، ومتى انتصر اليقين صارت الأرض قرية ضيقة وتباعدت السماء وتوحشت، ومتى انتصر الشك على اليقين صارت الأرض مدينة واسعة واقتربت السماء من الأرض وتروَّضت.

والسماء والأرض يفعلان، كل ذلك: الاستواء والادعاء والتباعد والتقارب والصيرورة والتوحش والتروض، في الإنسان، أي في روحه وعقله، فيستحيل الإنسان بحركة فعلهما فيه، أي يتحوَّل ويكون بحسب طبيعة هذه الاستحالة وتحولها. السماء في الإنسان ليست هي السماء في السماء، والأرض في الإنسان ليست هي الأرض في الأرض، فالأشياء لا تبقى في ذاتها، حين تظهر في الإنسان، لذلك يحتاج الإنسان إلى الشك ليختبر ما يظهر فيه، أي أن يضع ما يظهر له، وهو يعيش دنيويته، بين قوسين، أن يضع مدينته بين قوسين، ليتيح لفضاء قولها الحياة على نحو استشكالي.

  • الشك والجهل

الشك المدني ليس كما تخبرنا معاجم الفلسفة، تردداً بين نقيضين لا يرجح العقل، لعجزه وجهله، أحدهما على الآخر، وذلك لوجود إمارات متساوية في الحكمين، أو لعدم وجود أية إمارة فيها. الفلسفة المنحازة لليقين ترى هذا الشك ضرباً من الجهل، لذلك هي لا تحتفي إلا بالشك المؤقت الذي يتيح لك مراجعة معتقداتك تمهيداً لإسباغ صفة اليقين المطلق عليها، هكذا كان ديكارت وكان الغزالي، يشكَّان بإفراط ليوقنا بإفراط.

لكن الذي بقي حياً منهما، هو شكَّهما، فنحن لا نذكر ديكارت إلا ويسبقنا منهجه الشكِّي، ولا نذكر الغزالي إلا وتسبقنا حيرته وتجربته في المنقذ من الضلال، وبما بقي حياً منهما صار عَلَمَين وعالِمَين، وهذا ما يدحض معنى أن الشك جهل، ويثبت أنه علم وحياة، بل هو ليس تردداً بين شيئين، بقدر ما هو اجتراح حياة إشكالية تصهر حيوات، ألم يكن (هيجل) يتحدَّث عن حقيقة هذه الحياة وهو يتحدَّث عن الروح وتجربتها التاريخية المنصهرة بالنفي ونفي النفي؟! 

الشك المدني ليس الطريقة الفلسفية الموصلة إلى اليقين، أي ليس هو شك مؤقت، الشك المدني، كما هو السمك الرعاش حالة تحمينا حيوية بقائها، من استبداد اليقين (اليقين الفلسفي والديني والأيديولوجي) الطارد للشك الذي يراه في صورة وحش وليل وظلام وضياع وكفر ورجس.

  • شك بطعم الشوكولا

المدينة التي تعيش على اليقين المفرط، تستحيل قرية، تعيش على التماثل والانسجام التام والتشابه والألفة والتطابق، الذي يضيق بالشكولا وحبها واختلاف مذاقها وثقافتها، على النحو الذي ترويه الممثلة البارعة (جولييت بينوش Juliette Binoche) في دور (فيان Vianne) في فيلم (شوكولا Chocolat)، وهو فيلم يعرض فضاء الاختلاف في إحدى القرى الفرنسية (روسكاري) خلال الستينيات.

كانت شوكولا فيان تجسِّد الشك المدني في شكل حياة هذه القرية المفرطة في اليقين، وحين قُدِّر لهذه القرية أن تخرج على مُسيِّرِي شؤون اليقين والتقديس فيها بفضل طعم الحب الذي حرَّك جوهر إنسانيتهم، انفتحت ممكنات حياة جديدة لأناس هذه القرية، فصار فضاء القرية مدنياً، وفتح تلك الممكنات، وهذه هي وظيفة الشك بالدرجة الأولى. لذلك فالشك المدني ليس تردداً بين نقيضين، فالمدينة تكون بتكوثر نقائضها وتعدُّدها، الشك المدني ليس طرداً للنقائض، بل جلب لها وإحضار، من أجل التعايش والحياة، هكذا تتجاوز المدينة تناقضاتها. 

اليقين الذي يطرد الشك، يطرد الإنسان بتجريده من إنسانيته، ومتى تمكَّن اليقين الميتافيزيقي من السيطرة على الإنسان، طرد شكل ممارسته المدنية (شكِّه المدني) وأحال شبه حياته يقيناً لا ماء فيه. اليقين الميتافيزيقي يرى الأرض سماء لا يجوز الشك فيها، لذلك يبقى يطارد الشك المدني بتهم الشك الميتافيزيقي، فالشك في الأرض شك في السماء.

إنني أرى في الشك إقداماً وعلماً ونوراً وإيماناً وحياةً ومسافةَ أمانٍ وقوسي نجاةٍ واستشكالَ سؤالٍ وإرادةَ إنسانٍ. لنتذوق الشك بطعم الشوكولا، لا بطعم الشوكران. إلهي هَبْ لي شكاً أستضيء به من مدلهمات اليقين. 

  • الشك في السيادة.

الشك في مشروعية السيادة (التي تجعلك في آلة قبيلة أو طائفة أو مذهب أو عرق أو عائلة أو دين) الخطوة المدنية الأولى، لتكون مواطناً مدنياً، مواطناً بمعنى الفرد الذي يملك حق الشك الذي يُجنِّبه الإذعان والتسليم لسيادات الآلة في أشكالها التسلطية الجماعية، أي الحق في أن تضع هذه السيادات بين قوسين نيتشويين، فأن تكون مواطناً يعني أن يكون إنسانك في ذاتك، لتكون ذاتك لك، لا لغيرك فـ“كلّ إنسان في ذاته فذاته له، وكل إنسان في آلة فذاته لغيره” كما يقول الفارابي في مدينته الفاضلة. أن تكون مواطناً يعني أن تُحدَّد واجباتُك وتُشتق حقوقُك من ذاتك الفردية لا من عضويتك في جماعة سيادتها ليست لها، أي ليست لإرادتها، فالسيادة إرادة، كما الشك إرادة، إرادة السيادة عنصر سياسي وثقافي وفلسفي، وهو ما يخلق الأمة الحديثة التي هي أمة المواطنين حسب تعبير عزمي بشارة، وإرادة السيادة هي الوجه الآخر لإرادة الشك، فالشك المدني إرادة كما السيادة المدنية إرادة.

بهذا المعنى، تكون المواطنة هي الوجه الآخر لسيادة الأمة، قبال سيادة القبيلة أو الطائفة أو المذهب أو الدين أوالعائلة أو العرق، المواطنة تكتسب وتتكَّون وتتشكَّل ويعاد تشكيلها، كل مرةٍ في صيرورات لا تنتهي، بالشك في هذه السيادات التي تصوغها مركبات إطلاقية، ترهن حقوق الفرد بعضويته في مجموعة هذه السيادات التي تسود بيقينياتها المفرطة.

ما معنى أن المواطنة هي الوجه الآخر للسيادة؟

الشك يمنحك حق السؤال الذي تُصادره هذه المركبات، وبهذا الحق تكون سائلاً فاعلاً وسيداً يطلب، لا مَسوداً يُطلب منه الخضوع الدائم والتسليم، تكون سيداً يُسائل يقينيات هذه المركبات: كيف تمَّ تثبيت محمولاتها؟ وكيف صارت سيدة الأمر والنهي والمعنى؟ وكيف صارت مرجعية تُقاس بها مواطنية الإنسان؟ 

هذا الشك في السيادة، يمكننا من تحقيق مفهوم المواطنة المنفكة من المرجعيات المطلقة وبهذا المفهوم تكون الديمقراطية، ويكون المجتمع المدني، فيكون الإنسان الذي به تكون الأمةُ جماعةَ المواطنين في دولة. الأمة جماعة مواطنين لا جماعة آلة. بهذا يمكننا القول: الشك شرط المواطنة.

  • الشك في الجامع

الشك المدني، شك في مفاهيم هذه السيادات التي بها تحوَّل المركب والتاريخي والمصنوع معطى بدهياً فطرياً غير قابل للمساءلة والاعتراض، الشك المدني شك في جامع جماعتك، وتحويله من معطى سابق إلى مركب مدني، الشك المدني جعل الحق مشتق من الفرد لا مشتق من الجماعة.

إن مهمة المجتمع المدني الممارس للسيادة، تتمثل بتحصين هذه السيادة التي تجعل من الإنسان مواطناً ضد سيادات الآلة، وتحصين مواطنية الإنسان، تكون بتحصين قوله وفعله من الارتهان لما هو خارجه، ولا قول ينمو في المدينة ويتكوثر ويتحصن ضد العقم والتصلب والقولبة إلا بالشك الذي هو حياة.

تفكيك السيادات المطلقة العمودية، هو الوجه الآخر للشك فيها، بجعلها دنيوية تاريخية تقوم بها إرادة حرة، هي إرادة السيادة التي هي شرط الأمة الحديثة، أمة المواطنين المؤمنين بالإنسان. فهل نشك في أمتنا ومواطنيتنا وإنساننا؟!!! هل نضعهم بين قوسين؟!!! هل نختبر مدنيتهم؟!!!

 

  • حالات الشك 

يرصد ميشال إسحاق في كتابه “المعاني الفلسفية في لسان العرب” ما يسمِّيه مصاعب الوصول إلى المعرفة والعلم، وهي: 

حال الشك

حال الريبة

حال الالتباس

حال الاشتباه

حال الظن

حال الضلال

حال التردد

حال الحيرة

الشك هو حقل هذه الحالات، أو لنقل هو حقل مقتضيات هذه الحالات، أو لنقل حقل الوعي بهذه الحالات، أو لنقل حقل وعي النقص بهذه الحالات، أو لنقل حقل الحاجة إلى هذه الحالات، أو لنقل حقل تحويل هذه الحالات صيرورات لا تنفد، أو لنقل حقل مصاعب الوصول إلى الطمأنينة، أو لنقل حقل مصاعب الوصول إلى اليقين.

بكل هذه الأوَّات( جمع أو) يتخصَّب حقل الشك، وينتج معرفة لا يسكن القلب بها ولا يطمئن، فـ”كل طمأنينة يسكن القلب بها لاَ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا” كما يقول ابن عربي.

  • الشك وعي بالنقص. 

كيف يكون الشك حاجة؟ وكيف يكون وعي نقصٍ؟

يدرس هيجل التطوُّر التاريخي للمجتمعات وفق مقولته “الحاجة وعي النقص” أي لا تكون الحرية حاجة إلا حين نعي نقصنا لها، وعي النقص بالحرية يعني الحاجة إلى الحرية، متى انتف الوعي بنقصها انتفت الحاجة إليها، تظل الحاجة إلى الحرية ما دام هناك وعي بها، وكل عصر وكل تاريخ يتشكَّل وفق هذا الوعي بالنقص، وكأن التطوُّر التاريخي يكون هكذا سدّ حاجة يعقبها وضع جديد، ينشأ فيه وعي بنقص آخر يتحوَّل إلى حاجة يتمّ البحث عن سدّها.

هكذا يمكننا أن نفهم الحاجة إلى الشك بوصفه وعياً بنقص معرفتنا للشك، غياب الشك نقص في معرفتنا، نقص في وعينا لا وعي بنقصنا، لذلك تظل الحاجة إلى حقل الشك قائمة، ما دام هناك وعي بالنقص.

بهذا يمكننا أن نستثمر مقولة النفري “العلم المستقر هو الجهل المستقر”، بأن نجعل الجهل المستقر/العلم المستقر يماثل عدم الوعي بالنقص، أي أن العلم المستقر هو جهل بالشك، هو عدم وعي بالشك، هو عدم وعي بنقصه للشك، لذلك تغيب حاجته إلى الشك.

بهذا يمكننا أن نقرأ تاريخ الشك، بقراءة تاريخ العلم، كما يمكننا أن نقرأ تاريخ الشك بقراءة تاريخ الجهل. لقد بدأ تاريخ للمعرفة حديث، حين بدأ تاريخ للشك حديث، حين بدأ ديكارت يشك، وبدأ تاريخ للشك ما بعد حديث حين بدأ نيتشه، يشك في يقين علم ديكارت المستقر.

بهذا الوعي بتاريخ الشك، يكون الشك معرفة لا تعرف الاستقرار، معرفة تحذر الجهل المستقر، لأنها تحذر العلم المستقر. 

 

  • حقل الشك

كي يكون الشك منتجاً، لا بدَّ أن يكون له حقل، أي بقعة مزروعة، فالمفهوم لا يفهم معناه، أي لا يكون مفهوماً، ولا تتسع دلالته، ولا تستشكل أسئلته، ولا يُنتج معرفة، ولا يكون مجالاً للتفكير إلا حين يحتقل، أي إلا حين يتخذ له حقلاً هو بمثابة نطاق منتج، الحقل هو تربة المفهوم ومزرعته ونطاقه، المفهوم لا ينمو معزولاً وحده، بل ينمو في تربة مختلطة.

 يحتقل المفهوم بحسب هذه المقالة، بكل طرق التأثيل التي يفصِّلها طه عبد الرحمن في كتابه فقه الفلسفة، وهذه الطرق تتضمن أنواعاً من التأثيل، هي التأثيل المضموني والاستعمالي والنقلي والبنيوي والحقلي، وبهذا لا يقتصر حقل المفهوم على التأثيل الحقلي. فالاحتقال هنا يحيل إلى معنى الحياة، أي كل ما يمد المفهوم بالحياة ولوازمها من الاتساع والحركة والنمو والتمكن والامتداد، والتأثيل عند طه عبد الرحمن يحيل إلى هذا المفهوم، إذ كل ما يُزوِّد المعنى الاصطلاحي للمفهوم بدلالات مضمرة، تُمكِّن المفهوم من الحياة، يعد تأثيلاً.

ومتى كان للمفهوم حقل كانت له حياة، ينمو فيها ويتسع ويتمكن ويمتد، والحقل يكون حياة باستشكالاته، أي بالأسئلة التي ينتجها، فهي أدوات حرث تربته، وبالمجازات التي يتسع بها ويرى ويعْبر ويُقلِّب وجوه المعاني، وكما تكونُ الحياةُ حياةً بمتناقضاتها ومتضاداتها، يكون الحقلُ كذلك حياةٌ بالمفاهيم المتقابلة فيه، من هنا فالشك ليس إقصاء لليقين، ولا هو تابع له ولا هو خطوة تقود إليه، هو مفهوم به، وحقل به، وحياة به.

بهذا يكون الحقلُ وسطاً للتفكير، نحن نفكِّر في حقول، وبهذا يكون وسطاً للحياة فالإنسان يحيا بالتفكير ويتمكن ويمتد ويتصرَّف، وبهذا يكون دخولُ الحقل دخولٌ للحياة ومقتضياتها (النمو والاتساع والتمكن والامتداد). فكيف يكونُ الشكُ حقلَ حياةٍ؟

  • الشك حقل حياة. 

يكون الشك حقل حياة بما يقتضيه من سؤال ونقد وحيرة، وبما يقابله من يقين وطمأنينة ووثوق، وبما يجاوره من ريب وظن وتردد. يغدو الشك مفهوماً بكل هذه المقتضيات والمتقابلات والمتجاورات. هذا الحقل بمثابة السياق الذي نستند إليه لفهم الشك، وتجريد الشك من حقله، يعني انتزاعه وعزله عن حيوية الحياة وقوتها. وفي لسان العرب“الشك الاتصال واللصوق.. كل شيء إذا ضممته إلى شيء فقد شككته”، من هنا فالشك لا يفهم، إلا في اتصاله ولصوقه وانضمامه إلى حقلٍ، يكون بمثابة التربة التي فيها ينمو. 

 

بهذه الحياة، الشك ليس حالة تردد مطلقة، وليس حالة وسوسة، وليس حالة عزلة، وليس حالة تفكير غير عملية، وليس حالة استقالة من الواقع، وليس عزلة عن الحياة، بل رغبة في حياة أخرى، أو رغبة في الحياة على نحو استشكالي، أي على نحو لا يعرف الاستقرار المطلق فـ”العِلْمُ الْمُسْـتَـقِــرُّ هُوَّ الْجَهْلُ الْمُسْـتَـقِرُّ” كما يقول النّفري، ولا المعرفة الأحادية، “المَعْرِفَةُ إِذَا لَمْ تَـتَـنَوَّع مَعَ الأَنْفَاسِ لاَ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا” كما يقول ابن عربي، من هنا ليس الكامل من يكون واحداً مستقراً، بل “الكَاملُ مَنْ عَظُمَتْ حَيْرَتُهُ“، هكذا كان ابن عربي يرى كماله المحتار، والحيرة مقتضى الشك، أي الحيرة مقتضى الحياة الاستشكالية التي لا يكف فيها الإنسان الكامل أو الإنسان الأعلى عن السؤال والإشكال والامتداد والتناقض والتضاد والتقابل، أي لا يكف عن أن يكون “مزيجاً من العالِم والشاعر والمفكر والعاشق وقيصر والمسيح” كما يصف نيتشه إنسانه الأعلى، الذي لا يكف عن الحياة المزيجة بإرادته.

إنسان ابن عربي الكامل وإنسان نيتشه الأعلى، هو إنسان حقل الشك بامتياز، هو إنسان الحيرة بامتياز، هو إنسان المزج بامتياز، هو إنسان الحياة بامتياز.

 

 “فيا أيها الصديق لا تطمح أن تجد في حافظ استقراراً أو نوماً هادئا”ً وكأن حافظ الشيرازي، كان يَحْذَرُ الطمأنينةَ التي لا يُعَوِّلُ عليها ابن عربي “كل طمأنينة يسكن القلب بها لاَ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا” 

  • ترجيس الشك

يورد ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني (ت/329هـ) في كتابه الكافي، وهو أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عند الشيعة، في  البَاب  المخصص للشَّكِّ، الأحاديث التالية:

1- عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ كَتَبْتُ إِلَى الْعَبْدِ الصَّالِحِ (ع) أُخْبِرُهُ أَنِّي شَاكٌّ وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ (ع) رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى وَأَنِّي أُحِبُّ أَنْ تُرِيَنِي شَيْئاً فَكَتَبَ (ع) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ مُؤْمِناً وَأَحَبَّ أَنْ يَزْدَادَ إِيمَاناً وَأَنْتَ شَاكٌّ وَالشَّاكُّ لَا خَيْرَ فِيهِ وَكَتَبَ إِنَّمَا الشَّكُّ مَا لَمْ يَأْتِ الْيَقِينُ فَإِذَا جَاءَ الْيَقِينُ لَمْ يَجُزِ الشَّكُّ وَكَتَبَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ قَالَ نَزَلَتْ فِي الشَّاكِّ. 

2-  عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ لَا تَرْتَابُوا فَتَشُكُّوا وَلَا تَشُكُّوا فَتَكْفُرُوا. 

3-  عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَلَفِ بْنِ حَمَّادٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْخَزَّازِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) جَالِساً عَنْ يَسَارِهِ وَ زُرَارَةُ عَنْ يَمِينِهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِيمَنْ شَكَّ فِي اللَّهِ فَقَالَ كَافِرٌ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَالَ فَشَكَّ فِي رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ كَافِرٌ قَالَ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى زُرَارَةَ فَقَالَ إِنَّمَا يَكْفُرُ إِذَا جَحَدَ. 

4-  عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عِمْرَانَ الْحَلَبِيِّ عَنْ هَارُونَ بْنِ خَارِجَةَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ قَالَ بِشَكٍّ. 

  5- الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ إِنَّ الشَّكَّ وَالْمَعْصِيَةَ فِي النَّارِ لَيْسَا مِنَّا وَلَا إِلَيْنَا. 

6-  عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ مَنْ شَكَّ فِي اللَّهِ بَعْدَ مَوْلِدِهِ عَلَى الْفِطْرَةِ لَمْ يَفِئْ إِلَى خَيْرٍ أَبَداً. 

7-  عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ لَا يَنْفَعُ مَعَ الشَّكِّ وَالْجُحُودِ عَمَلٌ. 

8-  وَفِي وَصِيَّةِ الْمُفَضَّلِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) يَقُولُ مَنْ شَكَّ أَوْ ظَنَّ وَأَقَامَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَهُ إِنَّ حُجَّةَ اللَّهِ هِيَ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ. 

9-  عَنْهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ رَزِينٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا (ع) قَالَ قُلْتُ إِنَّا لَنَرَى الرَّجُلَ لَهُ عِبَادَةٌ وَ اجْتِهَادٌ وَ خُشُوعٌ وَ لَا يَقُولُ بِالْحَقِّ فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ شَيْئاً فَقَالَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّمَا مَثَلُ أَهْلِ الْبَيْتِ مَثَلُ أَهْلِ بَيْتٍ كَانُوا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ لَا يَجْتَهِدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً إِلَّا دَعَا فَأُجِيبَ وَإِنَّ رَجُلًا مِنْهُمُ اجْتَهَدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ دَعَا فَلَمْ يُسْتَجَبْ لَهُ فَأَتَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ (ع) يَشْكُوا إِلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ وَيَسْأَلُهُ الدُّعَاءَ قَالَ فَتَطَهَّرَ عِيسَى وَصَلَّى ثُمَّ دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ يَا عِيسَى إِنَّ عَبْدِي أَتَانِي مِنْ غَيْرِ الْبَابِ الَّذِي أُوتَى مِنْهُ إِنَّهُ دَعَانِي وَفِي قَلْبِهِ شَكٌّ مِنْكَ فَلَوْ دَعَانِي حَتَّى يَنْقَطِعَ عُنُقُهُ وَتَنْتَثِرَ أَنَامِلُهُ مَا اسْتَجَبْتُ لَهُ قَالَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ عِيسَى (ع) فَقَالَ تَدْعُو رَبَّكَ وَأَنْتَ فِي شَكٍّ مِنْ نَبِيِّهِ فَقَالَ يَا رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ قَدْ كَانَ وَاللَّهِ مَا قُلْتَ فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ يَذْهَبَ بِهِ عَنِّي قَالَ فَدَعَا لَهُ عِيسَى (ع) فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَقَبِلَ مِنْهُ وَصَارَ فِي حَدِّ أَهْلِ بَيْتِهِ.

ضمن أي فضاء معرفي تشتغل هذه الأحاديث؟ وما علاقتها بالحروب الكلامية بين الملل والنحل؟ هل من المجدي قراءتها قراءة توفيقية؟ هل مفهومها للشك هو مفهوم السمك الرعاش؟ هل تُرجَّس هذه الأحاديث مفهوم الشك المدني؟ هل نشك في أحاديث الكليني التي كان المحدث الاسترأبادي يراها كلها أحاديث قطعية الصدور؟

  • الشك في المعتمد

 

(canon) بحسب المعجم يعني: قائمة ثقة للمؤلفات، الصحيح من النصوص الدينية، الشريعة، القانون، المبدأ، قواعد، لائحة بالأسفار المعترف بأنها تؤلف الكتاب المقدس.

يشير المعتمد أو القانون (canon) إلى مجموع الكتابات الدينية المسيحية المقبولة بوصفها نصوصاً صحيحة ومن ثَمَّ مقدَّسة. وقد انتقل هذا المفهوم إلى الدراسات الأدبية والثقافية والنقدية ليشير إلى مجموع النصوص أو الأعمال المعتمدة ضمن تراث محدَّد، وفي حقل من حقول المعرفة، بوصفها تنضبط ضمن معايير أو قيم معينة، لتشكِّل وحدة نصية متجانسة، أو تشكِّل أعمال مؤلف ما. (انظر: دليل الناقد الأدبي، ميجان الرويلي، سعد البازعي).

الكتب الستة (صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن البيهقي، سنن أبو داود، سنن الترمذي، سنن ابن ماجه) تمثل عند أهل السنة والجماعة (معتمداً لذلك سُميَّت بالصحاح، لأن أحاديثها وما تحتويها مثل الراوي والسند والمتن حائزة لشروط الصحة، والصحيح اصطلاحاً، هو الحديث الذي اتصل سنده عبر رجال.

وهذه الكتب الستة تشكِّل الركن الأصلي لجوامع أهل السنة، فهم يرجعون إليها ويعتمدون عليها في العقائد والفروع والتفسير والتاريخ، واشتهرت فيما بعد بالصحاح الستة، ويطلق تارة على صحيح البخاري (ت 256 ه‍( وصحيح مسلم (ت 262 ه‍(الصحيحين، وعلى الكتب الأربعة الأخرى بالسنن.

والكتب الأربعة (الكافي للكليني، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق، والتهذيب والاستبصار للطوسي) تمثل عند الشيعة (معتمداً)، وقد ورد في الحديث “ما في الكافي لشيعتنا كافي” وهي تسمية أقرب إلى التعميد بالمفهوم الذي نستخدمه هنا، أي اعتماد نصوص كتاب ما مرجعاً موثوقاً وصحيحا، ويحتكم إليه.

إذن المعتمد يمثل الكتاب الصحيح أو الكافي الذي تعتمده جماعة معينة ضمن حقل معين، لكن المعتمد حين يكون كتاباً دينياً، فإنه لا يمثل حقلاً محدداً من حقول المعرفة، بل يمثل الحقول كلها، حقول الإنسان كلها التي يعيش فيها ويحيا وبها يرى، وبهذا يكون المعتمد الديني معتمدَ حياة جماعة ما، لذلك نجد عناية هذا المعتمد بتفاصيل حياة الإنسان، وهذا ما يجعل الجماعة تعتمده نصاً لحياتها، تجد فيه تفاصيل دقيقة لكل شيء، فهو شامل ويقدِّم للإنسان الحياة المعتمدة في أكله وسلوكه وزواجه وأعماله وعلاقاته وجسده وروحه ومقدساته وتاريخه ودنياه وآخرته ومستقبله وماضيه وأصله وسمائه وأرضه وخصومه ومعرفته ورؤيته وقيمه. على سبيل المثال يتضمَّن صحيح البخاري الكتب التالية: كتاب الصلاة، كتاب الجماعة والإمامة، كتاب الكسوف، كتاب الجنائز، أبواب فضائل المدينة، كتاب السلم، كتاب الحوالات، كتاب الكفالة، كتاب المزارعة، كتاب الخصومات، كتاب المظالم، كتاب الشركة، كتاب الصلح، كتاب المرضى، كتاب الطب، كتاب اللباس، كتاب الأدب، كتاب الفتن…إلخ 

هذه الكتب، نصوص بها يحيا الإنسان وفق نموذج ما محدَّد ومرسوم ومعطى سلفاً. الخروج عليها خروج من الحياة، حياة الجماعة الصحيحة المعتمدة الكافية، وخروج من قواعدها وشريعتها وقوانينها ومبادئها.

وفي الوقت الذي تُثبِّت فيه هذه المعتمدات حياة الجماعة وفق نمط خاص، فإنها تُقصي أشكالاً أخرى من الحياة والوجود، وتُقصي معها ذوات أخرى تعيش على نمط مغاير لنمط حياتها، وذلك لأنها تتحول إلى مركز يُهمِّش عداه، ويستثنيه، ويَظهر شكلُ هذا التمركز في تحيزات عرقية أو جنسية أو طبقية أو دينية أو مذهبية.

وبقدر ما تُشكِّل هذه التحيزات الحياةَ على نمطٍ معيَّن، فإنها في الأصل مُشكَّلةٌ وفق حيوات سياقات تاريخية معينة، وجدليةُ التشكيل هذه تَظهر في صورة ثقافة جماعية، تُعتمد هذه الكتب بعد أن يكون رجالها المعتمدون قد أضفوا عليها قيمة رمزية تصل إلى حد التقديس، وأضفوا على أصحابها تبجيلات وكرامات، وحين تعتمد الثقافة هذه الكتب تتحول كل محاولة نقدية لها إلى عمل فردي خارج على الثقافة، لذلك تصب عليه الثقافة لعناتها وتطرده ولا تعترف به، ولا تعتمده ما دام هو ضد معتمدها المقدس، وشكوى كبار علماء الدين ممن يطلقون عليهم مسمَّى العوام، هو في جوهره شكوى من الثقافة التي هم (العلماء) جزء منها.

كتاب الجماعة أو معتمدها، لا بدَّ أن يُحصَّن من الشك والنقد، لتبقى حياة الجماعة محصَّنةً ومتجانسةً ومطمئنةً، وهو بهذه الحصانة، يرقى لمرتبة الاعتماد، وعملية التحصين كما هي عملية التشكيل، متبادلة بين الكتاب والجماعة، فالمعتمد يجرم ويُرجِّس الشك في معتقدات الجماعة، والجماعة تجرم وتُرجِّس الشك في صحته وكفايته. 

لذلك لا يمكن أن تقف المعتمدات من الشك غير موقف الترجيس، وذلك كي تحمي نفسها، وتحمي جماعتها وتحمي مذهبها في الحياة. والخطورة تكمن حين يتسرب ترجيس الشك من نطاق الإيمان بالله والنبوة ليمتد إلى الإيمان برجالات المذهب ومعتقدات المذهب وثوابته، ثم ينداح هذا الترجيس إلى محيط الحياة والتاريخ، فيصبح الشك كفر في كل تجلياته، فتعتمد الثقافة هذا الحكم التكفيري بإيعاز من معتمدها الذي يصوغ لها الحياة. هكذا يمكننا أن نفهم باب الشك في المعتمدات، ومادام المعتمد حياة بنمط معين، فالشك فيه شك مدني لا ميتافيزيقي.

  • الشك في محمول المُعْتَمَد

النقد نشاط فكري يتخذ من محمولات الثقافة موضوعاً لشكه. هناك مجموعة من القضايا المركبة من موضوع ومحمول، تسمَّى في أبواب الجدل من كتب المنطق بالمشهورات، لأن الجماعة تؤمن بها وتسلم بها، فتشتهر بها فتصير ثقافتها. توجد هذه المشهورات في الثقافة أو لنقل تُوجِدُ هذه المشهوراتُ الثقافةَ فتكون هناك جماعة، فلا ثقافة بلا مشهورات تُوَحِّد قيم الجماعة ورؤاهم وأحكامهم وسلوكهم.

حتى إننا يمكن أن نقول: الثقافة هي مشهورات الجماعة التي تشكِّل مُعتمدَها. تصوغ هذه المشهوارت/الثقافة أقوالَ الجماعة ونصوصَها وحِجاجَها وأدبَها وتدينَها وسياستَها وحياتَها. ولأن هذه المشهورات تُشكِّلُ مُعتمدَ الجماعةَ، فإنها تهيمن على جميع الأفراد وتتحول إلى سلطة وقوة تفرض نمطاً من الممارسة الجماعية.

الثقافة في كل لحظة تاريخية تسند إلى موضوعات العقل والإنسان والله والأدب والتاريخ واللغة والطبيعة والدين والمرأة والرجل، محمولات تأتي في صيغة أحكام أو صفات أو تعريفات، فتقول مثلاً: 

“نحن لا نجادل في أن الفطرة أعدت المرأة للاشتغال بالأعمال المنزلية وتربية الأولاد” قاسم أمين، “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان” هوبس، “المشاعر الأخلاقية عند الزنوج ضعيفة للغاية أو هي معدومة إن شئنا الدقة” هيجل.

في هذه الأقوال المرأة موضوع، ومحموله معدَّة للاشتغال بالأعمال المنزلية، والإنسان موضوع ومحموله ذئب، والزنجي موضوع ومحموله ضعف مشاعره الأخلاقية.

لكل محمول من هذه المحمولات سياقه الثقافي التاريخي، الذي يسمح له أن تعتمده الثقافة قولاً من أقوالها الشائعة المقبولة، وتستعين الثقافة بحججها وأدلتها ونصوصها، لتثبيت هذه المحمولات.

 وبهذا التثبيت تكتسب الموضوعات وجودها، فالمرأة موجودة في الثقافة وفي عقول الجماعة الثقافية، بوصفها مُعدَّة للاشتغال بالأعمال المنزلية، والإنسان موجود بوصفه ذئباً، والزنجي موجود بوصفه صاحب مشاعر أخلاقية ضعيفة، هكذا يمكننا أن نتحدث عن الوجود بما هو محمول، أي بما هو مسند في ثقافة ما لموضوع، فالموضوع يتحدَّد وفق المحمول. ولأن هذا التحديد ثقافي وتاريخي وغير ثابت أو فطري أو طبيعي، فإننا لا يمكننا أن نمارس النقد في ثقافتنا كنشاط فكري إلا بالشك في المحمولات التي تعمل الثقافة على تحويلها ثوابت لموضوعاتها. والشك في المحمولات هو شك في أقوالنا، لأن المحمولات هي ما نقوله عن هذه الموضوعات، ماذا نقول عن المرأة؟ ماذا نقول عن الآخر؟ ماذا نقول عن الشك؟ ماذا نقول عن التاريخ؟ ماذا نقول عن الأدب؟ ما نقوله من محمولات، هو ما يشكِّل مفاهيمنا لهذه الموضوعات.

النقد بما هو شك في المحمول، حركة تجديد، وتحويل وتغيير، فالنقد تحريك الموضوع بتغيير المحمول، إلا أن الثقافة في لحظة اهتزازها، تحمل على هذه الحركة بمحمولات التخريب والهدم والعدم والعبث والتهديد، فتصير حركة النقد حركة شك مشبوهة ومُرجَّسة، ذلك لأن حركة النقد، هي شك في المحمول الواحد، ومقاومة ضد استبداد المحمول الواحد الجامع المانع، فالنقد يُكوثر محمولات الموضوع بتفكيك سلطة هذا الواحد المستبد، والمستبد لا يقبل أن تتعدَّد الأشياء بتعدُّد محمولاتها.

حوارات سقراط وارتعاشاته، كانت تقوم بهذه الوظيفة النقدية، التي تستعين بالشك لتتفحص محمولات الثقافة اليونانية، التي تسندها لموضوعات الفضيلة والنفس والخلود والعدل.

والحمل كي يُنتج قضية جديدة، أو موضوعاً جديداً، أو فكراً جديداً، أو وجوداً جديد، لا بدَّ أن يكون أصيلاً بِسَبْقه، ومَرِناً بقبوله للتعدُّد، وطلقاً بحرية انفكاكه من سلطات تقييد اللعب الحر أو ما يسمِّيه نيتشه بالمعرفة المرحة.

من هنا فالنقد توسيع إمكان الحمل، ذلك لأن النقد تحريض على حمل جديد، والنقد ضد موانع الحمل، والنقد حمل ضد الشرعية المُسلَّم بها، والنقد ضد طمأنينة المحمول، وضد استقراره في الموضوع. النقد شك في الحمل.

*نشرت هذه المادة في شكل أعمدة صحفية في الصفحة الثقافية في جريدة الأيام البحرينية في العام 2004.

السيد محمد حسن الأمين: الخطاب الشيعي يشكِّل عامل تجاوز وتحد ومغامرة داخل التراث الإسلامي

 

محمذ حسن الأمين (2003)
محمذ حسن الأمين (2003)

أجرى الحوار/ علي أحمد الديري، الشيخ فضل مخدِّر، فاضل عنان

سماحة العلامة السيد محمد حسن الأمين، من الشخصيات الإسلامية الثقافية البارزة على الساحة اللبنانية والإسلامية، ولد عام 1946 في جنوب لبنان في بلدة شقراء، وهو من أسرة دينية تليدة، تلقى الدروس في مدرسة شقراء حتى نهاية المرحلة المتوسطة، حيث سافر إلى النجف الأشرف بالعراق لتلقي العلوم الدينية وذلك عام1960 وقضى في النجف الأشرف 12 عاماً، وعاد عام 1972 بعد تلقي العلوم المقررة في جامعتها وفي كلية الفقه. بعد عودته إلى بلده قضى في مسقط رأسه (الشقراء) سنتين وبالمنطقة للقيام بالمهمات الدينية الطبيعية لعالم الدين، ثم تولى وظيفة القضاء الشرعي بعد ذلك في مدينة صور ثم في مدينة صيدا، ويتولى الآن مقام المستشار القضائي في محكمة الاستئناف العليا في بيروت.

في هذا الحوار الذي أجريناه معه في منزله بصيدا، تحدثنا عن المؤسسة الدينية وإشكاليات تحديث الخطاب الديني

علي الديري: كيف ترون مشكلة تحديث الخطاب الديني؟

محمد الأمين: الكلام عن تحديث الخطاب الديني يرتبط إلى حد بعيد بما يشكل موضوعاً أساسياً وهو التراث وعلاقتنا بالتراث. إنَّ رؤيتنا وعلاقتنا بالتراث ذات تأثير فاعل على موضوع الخطاب الديني الحديث أو المعاصر. ذلك أن التراث يشكِّل أحياناً عائقاً أمام الخطاب المعاصر أو الحديث. دون أن يعني ذلك أنَّ التراث يمكن الاستغناء أو الانفصال عنه. لأن كل عملية تجديد لا بدَّ وأن يكون لها تواصل مع هذا التراث. بمعنى أنَّ هذا التراث كائن حيّ ينمو في الاجتماع الإنساني وفي التاريخ الإنساني. هذا التراث لا توجد حلقات منه تفرض التوقف عندها بصورة نهائية. لأن كل الكلام عن أنَّ المعرفة والسلوك والعلوم  قد تمَّ إنتاجها في الماضي، هو كلام أخطر من أشكال الانفصال الكلي عن التراث. 

يوجد لدينا مستويان في النظر إلى التراث الإنساني، مستوى يرى أنَّ التراث في الماضي قد أنجز مهمات العلوم والمعرفة والأدب وما شاكلها من ما ينتجه الإنسان، واتجاه آخر متطرف يرى أنه لا يمكن أن ننتج المعرفة وأن ننتج تراثنا الراهن إلا بقطع العلاقة الكاملة مع التراث، لأنه يشكل إعاقة. إنَّ الإعاقة التي نتوهم أنها تأتي من التراث هي ليست من التراث، وإنما هي من التعاطي مع التراث والاعتقاد بأن التراث في الماضي قد تمَّ فيه إنجاز كل المهمات التي تطمح الأمة في إنجازها، وأنَّ على الأمة في الوقت الحاضر استعادة هذه الحلقات من هذا الإنجاز. والآن نحن نتساءل هل يوجد عندنا نحن المسلمين أو المعنيين بهذا الخطاب الديني مشكلة في هذا المجال؟ وما هي هذه المشكلة؟ بالطبع أنا لا أنفي أنَّ المرحلة الراهنة ومنذ عقود متعددة بدأت تتبلور فيها الإمارات والسمات لإنتاج خطاب إسلامي معاصر، ويداهمني شعور بأن هذه العملية ما زالت محفوفة بمحاذير كثيرة وبمخاطر كثيرة. وأهم هذه المخاطر ناجمة عن علاقة التقديس غير الطبيعية بالتراث، أي عن علاقة التمجيد الذي يتجاوز حدوده الطبيعية بالتراث، بما يجعلنا نشعر بالكثير من المغامرة والحرج، بأننا مسئولون عن إبداع ما يضيف لهذا التراث وينفصل عنه. لأن كل عملية إبداع في الحقيقة هي تتضمن عنصرين، عنصر الاتصال وعنصر الانفصال أيضاً. إنك لن تستطيع أن تبدع، وأن تضيف للتراث إلا إذا مارست عملية انفصال آنية مع هذا التراث. عملية الانفصال عن التراث تبدو عملية صعبة ومحرجة، وربما كانت هذه الحلقة بالذات هي التي تشكِّل حلقة الشعور بالحرج وبالعجز عن إطلاق الخطاب الإسلامي المعاصر في مداياته الرحبة والكثيرة أمام هذه التحديات الصعبة التي تواجهنا.

علي الديري: ماذا عن مشكلة تحديث التراث الشيعي؟ ما العقبات التي تواجه تحديثه؟

محمد الأمين: هنا أود أن أكون صريحاً بالقول إنني لا أعتقد أن هناك إمكانية لإنتاج خطاب شيعي مذهبي ومعاصر ومستقبلي. لا بدَّ أن يكون الهم متوجهاً إلى إنتاج الخطاب الإسلامي الشامل، ذلك أن اللون الشيعي داخل الحضارة الإسلامية لم يكن منفصلاً إطلاقاً عن البنية الكاملة لإنجاز الخطاب الإسلامي الشامل. إذا كان ثمة عناصر إيجابية في الخطاب الشيعي، فهو أنه شكَّل في مراحل متعددة من مراحل نشوء التراث الإسلامي، عنصراً يدفع إلى التحوُّل وإلى التغيير داخل البنية الإسلامية العامة. لذلك لم ينفصل التراث الشيعي أو المسار الشيعي داخل التراث الإسلامي عن مجمل هذا التراث الإسلامي، لقد ميَّزه التشيع ومنحه سمات وألوان مختلفة، ولكنه ظل ضمن التراث الإسلامي. أعتقد أنَّ إنتاج خطاب إسلامي لا بدَّ أن يتم باستحضار عناصر التحوُّل والعناصر الديناميكية داخل التراث الإسلامي، وسوف نجد أنَّ التشيع ونشوء التشيع داخل التراث الإسلامي يشكِّل عناصر ديناميكية فعلاً، وعناصر تحوُّل. أسبابها التاريخية معروفة ويطول الكلام عليها. ولكن أهم ما يلفتني في هذا المجال أنَّ التراث الشيعي إلى حد كبير ظل خارج سيطرة التحكم الخارجي في المعرفة، بسبب الموقف السياسي للشيعة ولعلماء الشيعة الذين لم يدخلوا تماماً في هيكلية السلطة الإسلامية. والسلطة هي محاولة لتثبيت الرائد في الواقع، فعندما جاءت السلطة واختارت من المذاهب الفقهية الإسلامية الأربعة، وكرستها كمذاهب نهائية لتشكِّل مرجعية كاملة للخطاب الفقهي، ومنها يتفرع الخطاب الفقهي وكذلك في الإطار السياسي أيضاً، أي تجنيد لحظة ما وفقاً لمقتضيات الثبات السياسي.

 من هنا كان الخطاب الشيعي يشكِّل عامل تجاوز وتحد ومغامرة داخل التراث الإسلامي. وكل من درس عناصر الثبات والتحوُّل في تراثنا، وجد أن التشيع كان عنصراً فاعلاً في الحيلولة دون تحويل عناصر التحرك وعناصر التحوُّل في التراث إلى عناصر ثابتة.  

 

علي الديري: لو أننا وسعنا مفهوم السلطة وأخذناها بمفهومها الأوسع، حيث السلطات الرمزية التي تقف على العقل رقيباً وعلى الروح حسيباً، حين تتجاوز حدودا معينة. فلو أخذنا التحديث الذي بدأنا به بمعنى أنه مقاومة لأية سلطة من هذه السلطات وتحد لها ومحاولة لتجاوز سلطتها. فسنجد أن الخطاب الشيعي أيضاً له سلطته الثقافية التي ترفض محاولات التحديث، ذلك لأنَّ الخطاب الشيعي يتضمن مؤسسات لها بُناها الصلبة التي تعيق عملية التحديث. فكيف يمكن تحديث هذا الخطاب بلحاظ هذه التعقيدات؟

محمد الأمين: أوافقك تماماً على ما تفضلت به. أنا أعتقد أنَّ السلطة هي أوسع من الإطار الشيعي الذي هو أحد تجليات هذه السلطة. يوجد كما أشرت هذا النوع من السلطة في التراث. التراث هو سلطة. الفقه في تجلياته وإنتاجه عبر عصور الازدهار هو نوع من السلطة. أستطيع أن أستذكر هنا      في تاريخنا الشيعي بالذات فترة من الفترات الحية من هذا التاريخ أيضاً، وهي ما بعد الشيخ الطوسي. فالشيخ الطوسي اقتحم مجال الفقه والاجتهاد وحقق نقلة نوعية في هذا المجال. وبدأ بعد الطوسي بحوالي مائة عام أن إمكانية تجاوز الطوسي وتجاوز آرائه الفقهية والاجتهادية بدا وكأنه مسألة مستحيلة تقريباً، لقوة السطوة التي شكَّلها في مهماته الإبداعية التي حققها في هذا المجال، فصار الطوسي سلطة أيضاً إلى أن جاء بعده ابن إدريس واستطاع أن ينتج مدرسة جديدة ويعمل على إقامة تحوُّلات جديدة في الفقه الشيعي وفي الاجتهاد الشيعي. 

السؤال الآن الذي يواجهنا في التراث الشيعي نفسه هو: هل حقاً ما زال باب الاجتهاد مفتوحاً؟ وماذا يعني أنه مفتوح أمام الشيعة؟ أنا أعتقد أنه يجب أن لا نبالغ وأن لا نذهب بعيداً بالقول أنَّ باب الاجتهاد ما زال مفتوحاً، وأن لا نمارس عملية استلاب ضد الاجتهاد الحقيقي.

 نعم يوجد اجتهاد ولكنه محدود جدً، ولا توجد فروق كبيرة بين مجتهد ومجتهد. توجد فقط اختلافات جزئية واختلافات ذات طابع فني وأصولي وله علاقة بعملية الاستنباط بمعناه التقليدي، لا يوجد لدينا اتجاهات ولا يوجد لدينا تيارات مختلفة وإذا صحَّ التعبير متصارعة داخل هذا الاجتهاد. أعتقد أنَّ عملية الاجتهاد صارت تعني استنباط الحكم الشرعي بصورة آلية، إننا أوجدنا الآليات التي نستنبط بها الحكم الشرعي، واعتبرنا أن هذه هي مهمة الاجتهاد وحدها، فيما أنَّ عملية الاجتهاد كما أظنها وكما أحدس بها في إطارها الأوسع والأشمل، هي عملية تتجاوز موضوع استنباط الحكم الشرعي إلى إنتاج موضوعات وإنتاج اتجاهات فكرية في قراءة النص وفي استعادة النص وفي التواصل مع النص.

 هنا تأتي السلطة التي أشرت إليها، لتشكِّل عائقاً دون نشوء هذه الاتجاهات، فيـأتي علم الأصول وتأتي قواعد الفقه، هذه التي تمَّ إنتاجها ببراعة عالية في الماضي، لتشكِّل الآن إعاقة، تجاوزها وتجاوز التفكير فيها والاجتهاد في الاتجاهات الفكرية التي تشكَّلت على قاعدتها هذه القواعد، تبدو هي المهمة المطروحة أمام الفكر الشيعي الحديث. فالفكر الشيعي الحديث تواصل مع حركة الاجتهاد ولكنه الآن مطالب بأن يوسع إطار حلقة الاجتهاد، لكي تشمل ما هو أوسع من استنباط الحكم الشرعي بالآليات المتتابعة والمعروفة لدينا.  

علي الديري: يوجد في التراث الشيعي مدونات عقائدية وفقهية وأصولية، لم تتعرض لغربلة ولم يشتغل فيها عقل نقدي ولا عقل اجتهادي، وقد تحوَّلت هي إلى مسلَّمات وقضايا كبرى يقاس الحاضر الآن عليها. أليست هذه المدونات بحاجة إلى تحديث وتفكيك؟ ولماذا أجهضت محاولات شريعتي وأمثاله من المفكرين في قراءة هذه المدونات وطريقة تشكلها التاريخية؟

 

 محمد الأمين:  إنَّ سلطة النص التي تفضلت بالحديث عنها، كانت سلطة أقوى. كان علي شريعتي أو نمط آخر من المفكرين، فهم كمن يقوم بمهمة كسر أو تحطيم صخرة معينة، فيطلق ضرباته في اتجاه هذه الصخرة، فيأتي غيره ويطلق ضربات أخرى وهكذا. ومجموع هذه الضربات سيشكِّل القوة من أجل تحطيم هذه الصخرة. وأنا أعني هنا بالصخرة ما يحول دون تجديد التراث، أي التجديد النقدي، بمعنى القدرة والجرأة على نقده وإعادة تشكيله وفق الحاجات الملحَّة ووفق ما تفرضه عملية الزمن والتطور، تماماً كما اجترح آباؤنا وأجدادنا علومهم وثقافاتهم ورؤيتهم للإسلام، اجتراحاً إبداعياً، ولم يَحِل التراث الذي سبقهم بينهم وبين ذلك، نحن علينا أن نتابع هذه المهمة.

 يوجد لدينا وهذا ما سوف أقوله بصراحة، أي لدى المسلمين ونحن الشيعة من بينهم هول من السلطة الدينية، لفتح أي موضوع من موضوعات الحداثة، هل توجد سلطة دينية؟ أي هل أن الدين ينتج سلطة؟ يقال إن الدين ينتج سلطة لتحمي الدين، فهل هذا صحيح؟ فهل تتم حماية الدين بالسلطة؟ سواء كانت سلطة معرفية أو سياسية؟ أعتقد أنَّ الإسلام تعرَّض عبر تجربته التاريخية لمفهوم السلطة، فكانت هناك سلطة دينية أيضاً. تحرير الدين من السلطة هو أحد تحديات الخطاب الإسلامي المعاصر.   

شيخ فضل: موضوع الاجتهاد التشريعي والاجتهاد المفتوح في الحوزة الشيعية عبر زمن طويل من الطوسي إلى الإدريسي إلى الحلي حتى وصولاً إلى المرحلة الأخيرة في الحوزة العلمية، تطور تطورٌ فاعل، صحيح توجد حالة من التطابق، فلا يوجد نهج عقلي آخر يختلف عما بدأ مع الشيخ الطوسي، ولكن عملية التطور التي تمَّت كإلغاء بعض القواعد بشكل نسبي وتوليد قواعد جديدة ومسائل جديدة فقهية. المشكلة لعلها تكمن في  سلطة هذه القواعد على عملية التجدد وعدم وجود مجدِّد في أصول هذه القواعد. نحن مع حركة تجديد المعاملة مع النص، ولكن عدم وجود المجدِّد الذي يعمل على تغيير أصل القواعد في داخل نفس المدرسة يمثل مشكلة..

محمد الأمين:  إنني أوافقك على هذا الشيء الذي تفضلت به. وأحياناً عبر مرور التاريخ تخرج منارات عاصفة من التجديد، وهذا موجود. الذي أرمي إليه بدقة تماماً أنَّ ميدان الاجتهاد الديني الذي فتحه الشيعة صار لاستنباط الحكم الشرعي، وهذه ميزة إيجابية كبيرة جداً، فيما المسار المذهبي الآخر اقتصر على مجتهدِين محدَّدين في التاريخ، سواء الأربعة أو العشرة، فكانت اجتهاداتهم نهائية وبات من المقرر الرجوع إليها، وإذا لم يكن لهم فتوى في شأن من الشؤون، نعم يرجع إلى فقيه معاصر لكي يستقرئ أيضاً من قواعد المجتهد السابق فيستخرج فتوى معينة.

 عند الشيعة استمر باب الاجتهاد مفتوحاً، لكن مجال الاجتهاد انحصر في مجال  استنباط الحكم الشرعي. أما المسائل الفكرية والمسائل الاجتماعية والمسائل الاقتصادية وغيرها التي تتعلق بحياة المجتمع، فقد اعتبر التفكير فيها ليس شكلاً من أشكال الاجتهاد. بمعنى أنَّ حركة الاجتهاد التي تعتمد الآن على قواعد علم الأصول والفقه لدينا، هي مؤسسة على ما أسمِّيه بمعطيات المنطق الأرسطي. المنطق الأرسطي الموجود الذي يضع قواعد المعرفة وقواعد الفلسفة والفكر الإنساني. بقيت حركة الاجتهاد الإسلامي في معزل عن التأثر والتفاعل مع اللغة والنص، فقد حال هذا المنطق بصرامته بينها وبين الإنصات إلى لغة النص.

 وفي قراءة النص نفسه ولدت اتجاهات متعددة، نلاحظ أنها لم تقترب من دائرة الاجتهاد، ودائرة عمل الفقيه الذي كان يشتغل بالقواعد نفسها، علم الأصول فيه مثلاً تجديد وفيه تغيير، هذا صحيح، ولكن ضمن إطار محدَّد من الشيخ الطوسي أو من ابن أدريس وصولاً للأنصاري الذي أبدع بنية مهمة، ولكن بقي مجال الاجتهاد يقوم على استنباط الحكم الشرعي ضمن هذه القواعد، ولم نلاحظ وجود محاولات لاقتحام هذه القواعد، أو لدراسة الاجتهاد بناء على المعطيات الاجتماعية. مثلاً عندما نأتي ونحن طلاب إلى دراسة الفقه، ألا تلاحظ أننا نبدأ بدراسة المسائل الفقهية ولا نقرأ المسائل الفقهية في إطار إنتاجها تاريخياً؟ لأننا لا نؤمن أنَّ هناك علاقة بين النظرية الفقهية وبين الزمن الذي تمَّ إنتاج النظرية الفقهية فيه، فهذا لم ندخله في عنصر الاجتهاد، لذلك نحن نبدأ بكتاب الطهارة، ثم ننتقل منه إلى كتاب الزكاة وإلى كتاب الخمس وكتاب المعاملات، ولكن متى تمَّ إنتاج هذه المعطيات الكبيرة فيه؟ في الطهارة وفي الزكاة وفي المعاملات؟ ألم تتم في زمن تاريخي محدَّد؟ أم أنها تمَّت بمعزل عن التاريخ؟ هل تمَّت ذهنياً أم بمعزل عن التاريخ؟ عندما جاء الشهيد الصدر عمل مقدمة، وقد كانت هذه محاولة بسيطة جداً منه، ولكن يُشكر عليها لأنه التفت إلى أنَّ علومنا كلها…  حتى في النحو وليس فقط في الفقه، إننا نبدأ في النحو بأن  “كلامنا لفظ مفيد كاستقم”، طيب، أنا عندما أكون طالبا وأصل للتو إلى النجف، ماذا يعني عندي “كلامنا لفظ مفيد كاستقم”؟! كل ما عليك هو أن تفهم أنَّ الكلام لفظ مفيد، وهو يتألف من اسم وفعل وحرف، ولكن كيف تمَّ إنتاج هذه المعرفة ومتى تشكَّل هذا العلم؟ الوعي والخلفية التاريخية لتاريخ العلوم والمعرفة الفقهية لدينا مغيَّبة كل التغييب، وهذا ما ينطبق على كل العلوم، حتى عندما نقرأ منطق أرسطو، من هو أرسطو؟ وفي أي سياق تاريخي جاء أرسطو؟ وما هي الأفكار التي سبقته؟ وكيف انتهى أرسطو إلى إنتاج هذا المنطق الذي هيمن فيما بعد على الفكر الإسلامي بصورة كاملة؟ لا يوجد المناخ التاريخي الذي يرافق عملية تلقين المعرفة لدينا. فهل المعرفة ظاهرة تاريخية أم هي ظاهرة ذهنية فقط مفصولة عن التاريخ؟ هذا السؤال يشكِّل تحديا أمام الفكر الشيعي كما يشكِّل تحديا أمام الفكر الإسلامي بصورة عامة.

علي الديري: إذا كان للمعرفة بعد تاريخي، فهل هناك معنى لأن ننتظر مجتهداً أو فقيهاً أو مفكراً ليحل لنا هذه المعضلة؟ أليست هي معضلة تاريخ وزمن تجتمع فيها كل العلوم مع بعضها لتمكِّن الفقيه وتمكِّن المفكِّر وتمكِّن المتأمل لكي ينظر إلى هذه المسائل كلها نظرة جديدة؟ هل ننتظر فقيهاً أم ننتظر تاريخاً؟

محمد الأمين: أن ننتظر فقيهاً للقيام بهذه المهمة هو انتظار عقيم. أنا أعتقد أنَّ الشهيد الصدر رحمة الله عليه، في هذا المجال قام بعمل مهم جداً ولكن عمل لا ينجزه فرد، فهذه المهمة أوسع من مهمة فرد، لأنها موجة فكرية جديدة وشاملة ولكن الشهيد الصدر أسس لها وأنجز في مجالها أشياء مهمة، وقد لا يكون أهمها هو أن يكتب مقدمة لعلم الأصول، أو مقدمة فقهية لرسالته العملية تشير ولا تقول صراحة بأن إنتاج العلوم هو إنتاج دائم. هو أيضاً تحدَّث عن القرآن الكريم وقال بالتفسير الموضوعي، فعندما طرح فكرة التفسير الموضوعي، ماذا كان يعني بالتفسير الموضوعي للقرآن؟ الشهيد الصدر   لم يكن متاحاً له أن يتكلم تماماً وبصراحة. لقد كتب التفسير الموضوعي ولكن في الحقيقة أنَّ الصدر كان يعتقد أنه لا بدَّ من نقد كل أشكال التفسير التي سبقت. فعندما يقول إننا بحاجة إلى تفسير نطرح فيه فكرتنا وفكرنا عن الحياة وعن الكون والمجتمع، فكرنا الذي استخلصناه من خبرتنا ومن تجاربنا ومن ثقافتنا نطرحها على القرآن الكريم، فماذا كان يعني؟ كان يريد أن يقول إنَّ السابقين فسروا القرآن الكريم وفقاً لأسئلتهم، ونحن لم نفسر القرآن الكريم وفقاً لأسئلتنا الراهنة، إذاً هو يطرح عملية تجديد حقيقية في هذا المجال، وكأنه يريد أن يقول أنَّ التفسيرات الأخرى كانت تاريخية، وأنَّ التفسيرات التاريخية مرتبطة بزمانها. تقول لي هل ننتظر مفكِّراً أم ننتظر عالماً أو فقيهاً؟ من الممكن أن يوجد عالِم استثنائي أو فقيه استثنائي أو مفكِّر استثنائي له فاعلية في هذا المجال، ولكني أعتقد أنَّ الخطاب الإسلامي الحديث أو الخطاب الشيعي الحديث، هو خطاب أوسع من أن يقوم بمهماته فرد واحد، حتى لو كان هذا الفرد استثنائياً، الفرد الواحد قد يؤسس، ولكن لا بدَّ أن تشكِّل تياراً.

فاضل عنان: نلاحظ أن هؤلاء مارسوا التجديد من خلال سلطة رجل الدين ومن خلال السلطة التي يمتلكونها، منذ الطوسي وابن إدريس إلى الأنصاري، فالصدر لم يكن قادراً على ممارسة التجديد مع وجود كبار المرجعيات التي تمتلك السلطة الدينية، فكان بالنسبة لهم شابا وقد طرح مرجعيته. فلو لم يكن للمراجع سلطتهم الدينية، لكان عطاء الصدر أكثر من هذا، بالعودة للسؤال المطروح، هل ننتظر فقيهاً أم ننتظر تاريخاً؟ مشكلتنا هي أنَّ المجدِّد لن يستطيع أن يحقق شيئاً ما لم تكن لديه سلطة دينية، ويستطيع فرض ما…

محمد الأمين: بالعكس، ولو قاطعتك، فالفكرة واضحة لديّ، أنه كلما استقرت سلطة ما يصبح كل إبداع هو إلغاء لهذه السلطة، وبالتالي لو أخذنا السلطة سواء بمعناها السياسي أو بمعناها المعرفي، فهي سلطة تدافع عن الثابت، لأن التحوُّل يعني التغيير، والتغيير لا يقتصر على ميدان واحد، وهو يصيب جميع الميادين بما فيها السلطة القائمة، وهذا لا ينطبق على الفقه فقط، ففي المجال الفلسفي مثلاً وجدت سلطة لا نستطيع إنكارها تمثلت في عبقرية الشيخ الغزالي، الذي كتب (تهافت الفلاسفة) وانتهى إلى أن سفَّه الفلسفة كلها. ولكن بعد مائة سنة من موت الغزالي، وبعد أن ظلت آراؤه وعبقريته الخاصة سائدة بسطوة وبقوة، جاء ابن رشد وأعاد للفلسفة قدرها، ولكن في عصر الغزالي إلى قبل مجيء ابن رشد، مارست أفكار الغزالي سلطة حقيقية. 

عندما تكتمل سلطة الإبداع تصبح تقليداً وتصبح سلطة تحول دون الإبداع الجديد، كل إبداع يكتمل ويؤسس لسلطة يصبح ثابتاً يقاوم حركة التجديد الأخرى، حتى في ميدان المرجعية التي نتحدَّث عنها، فالمرجع أيضاً يصبح أسير سلطة، وعندما يصل إلى درجة المرجعية، فإن هذه المرجعية لا تعطيه حق التجديد والخروج على المعطيات المكرَّسة، بالعكس نلاحظ أنَّ المرجع يمارس الحذر أكثر من الشخص المتقلد المنطلق من سلطة ومن آلة المرجعية، ومما ترتبه هذه الآلة من سلطات حقيقية، تفرض عليه أن يحافظ على قداسة ما هو قائم.

فاضل عنان:: الآن أمامنا محك أو إشكالية، نحن الآن في بداية النهاية، بمعنى أن النجف هذه الأسطورة، الذي خرج العلماء الكبار، الآن بدأ في بداية النهاية، فالمرجعية الرمزية في النجف انتهت بالسيد السيستاني رحمة الله عليه، والمرجعيات الحالية أمامها أسئلة كثيرة حاضرة تنتظر الإجابة عليها. كيف تقيمون الوضع الآن؟

محمد الأمين: في الحقيقة إنَّ هذا موضوع آخر ليس في نفس الإطار الذي نتحدَّث عنه. لأن المرجعية تفرض التمييز بين حقلين من الحقول، الحقل المعرفي وسلطته والحقل السياسي. إنني أوافقك الرأي وأنا قلق على هذا المسار المرجعي الذي نعرفه، والذي عمره ليس أكثر من مائتين أو ثلاثمائة سنة في النجف، فالمرجعية بمعناها المعاصر الذي نعرفه جديد، ولكن لا بدَّ من العودة إلى الفكرة الأساسية التي شكَّلت عصب هذا البحث، والتي تتمثل في تاريخية المرجعية الدينية. هل تظن أنَّ المرجعية هي ظاهرة غير تاريخية؟ إنَّ المرجعية أيضاً ظاهرة تاريخية، من هنا يصبح يمكن الحديث عن نهاية المرجعية أو نهاية هذه الصورة من المرجعية، وهذه نتيجة طبيعية لكون المرجعية ظاهرة تاريخية وليست منزَّلة، فالمنزَّل قليل ومحدَّد، بينما المرجعية ظاهرة تاريخية. إذاً فالمرجعية إما أن تنتهي بانتهاء حاجتها التاريخية، أو أن تتجدَّد وفق الحاجات التاريخية الجديدة الراهنة. ولكن عندما تريد أن تتجدَّد، فالتجديد يجب أن يطال العناصر الجوهرية في بنية المرجعية وليس في تغيير الشكليات. فإذا آمنا بأن المرجعية ظاهرة تاريخية، فبإمكانها أن تعيش قرنا أو قرنين أو ثلاثة، لكن في النهاية هذه الظاهرة التاريخية سوف تسقط نفسها لاعتبارات ولظاهرات تاريخية قادمة أيضاً.

  ما هي اتجاهات تطور المرجعية الآن؟ هذا بحث أساسي وبالغ الأهمية، وأعتقد أنَّ الذين يتناولون المرجعية بالبحث، لم يطرح أحد منهم المسألة الجوهرية، والتي تتمثل في أنَّ المرجعية ظاهرة تاريخية. أنا أعتقد أنَّ المرجعية انتهت بوفاة السيد الخوئي، ليس بوصفه شخص فذ وعبقري فقط، ولكن هذا هو الحد الذي وصل إليه رمزنا التاريخي خلال فترة طويلة، أما الآن فنحن على مفترق طرق، وهنا يكمن التحدي الشيعي، ما هي الاتجاهات المستقبلة لفكرة المرجعية؟ ما هي التجليات المرتقبة أو التي نتنبأ فيها لوجود المرجعية؟ هذا بحث أساسي. 

فاضل عنان: سلطة المرجعية أيضاً..

محمد الأمين:  فكرة السلطة بحاجة إلى إعادة نظر. هل يجب أن يكون للمرجع سلطة دينية ومدنية؟ أم أنَّ هناك صورة تختلف عن ما عرفناه سابقاً عن المرجعية؟ أنا كمتفكر بالأمور أعتقد أنه من الصعب علينا أن نتنبأ بصورة دقيقة لما سيؤول إليه المستقبل فيما يتعلق بمسار المؤسسة المرجعية، التي هي حدث تاريخي وظاهرة تاريخية، لربما تكون قد أعطت ما يجب أن تعطيه، ولكن بحكم تطور التاريخ يجب أن تتغير. إنَّ هذا الأمر يعيدنا إلى الخطاب الشيعي المعاصر، فهل هو يقارب المسألة بهذا الشكل ويضعها في مجال التحليل والرؤية والابتكار؟ أعتقد أن الخطاب الشيعي ما زال خطاباً متردداً إزاء موضوعات كثيرة، كموضوع المرجعية وموضوع السلطة، وموضوع الدين والسلطة أساساً.

 فالخطاب ما زال متردداً وإن كانت هناك بعض الأصوات الجريئة، ولكنها ما زالت فردية موجودة هنا وهناك، ولم تشكِّل تياراً بعد.   

علي الديري: ما علاقتك أنت بهذه المؤسسة؟ 

محمد الأمين: بالتأكيد أنا ابن هذه المؤسسة وخرِّيجها. وأنا لا أعرف جَداً لي حتى السابع لم يكن عالماً مجتهداً وخرِّيجاً لهذه الحوزة. من هنا أشعر في علاقتي بها بأنني ابنها. وعندما أتحدث عن نقدها أشعر بأن الوفاء لهذا التراث الذي يشكِّل جذوري يفترض حالة نقد دائمة، والقرآن الكريم يثني على النفس الناقدة التي تعيد النظر. إنَّ تراثنا القريب أو البعيد لم يتعرض لنعمة النقد، أقول نعمة النقد، وبالتالي بما أني ابن هذا الكيان وهذا التراث، فأنا معني به، ولكن بصورة أخرى قد تبدو مختلفة عن الصور التي تتجلى في الكثير ممن يعتقدون أنَّ صيانة التراث تتمثل في تقديسه وفي عدم نقده، هناك من يرى أن الوفاء لهذا التراث ولهذه الحوزة يتمثل في التقديس. أنا أعتقد أنَّ الوفاء الحقيقي يقتضي أن نمارس عملية نقد حقيقية لكي نجعل هذا التراث كائناً حياً قادراً على أن يستمر.

علي الديري: أنت الآن ذاتا معاصرة تعيش في لحظتها التاريخية، تجتهد لفهم زمنها وفي الوقت نفسه تحمل هذه الذات في بنيتها تاريخاً عائلياً ضاربا بعلاقته الوطيدة بهذه المؤسسة، ووفاء لهذه العلاقة انخرطت أنت فيها فخالطت ذاكرتك وهويتك ووجدانك وأصبحت تحمل بصمات هذه المؤسسة. كيف بهذا التكوين المركب استطعت كذات فردية أن تعيد علاقتك بهذه المؤسسة إعادة تقوم على المحبة والوفاء والنقد؟

محمد الأمين: إنني لا أكتمك أنَّ التساؤلات التي تبلورت في ذهني أخيراً، لم تأت إليّ من فراغ، فقد كنت أهجس بها في إحساسي منذ الصبا الأول، فقد كانت لديّ أسئلة عديدة، وكنت أعاني من ألوان القمع التي تواجه هذه الأسئلة. 

عندما ذهبت إلى النجف الأشرف وكان عمري أربعة عشر عاماً، أي ما زلت فتى صغيراً، كانت تراودني أسئلة كثيرة تبدأ من التجليات المادية للحوزة وللعلاقات وغيرها، ولم تكن تنته لديَّ الأسئلة الأكثر خطورة في ذلك الوقت. وبدأت أشعر أنَّ في هذه الأسئلة تحد وفيها خطورة حتى فيما يتعلق بقيافة رجل الدين، حيث كانت التربية صارمة بما يتعلق بالقيافة، فشعرت منذ البداية أنَّ ما يُفرض على طالب العلم الديني وعلى الجو الديني يأتي من خارج البنية الأساسية الجوهرية للدين، وأن هناك أسباباً أخرى هي التي جعلت هذا الواقع على ما هو عليه. وبالتالي فإني كنت أطرح بعض هذه الأسئلة، وكنت أؤجل البعض، وكانت لديَّ قناعة اتجاهها، فقررت أن أبحث وحدي، ورأيت أنَّ المناهج الدراسية على أهميتها لا تجيب على كل الأسئلة، ورأيت أنَّ العلاقة بالمعرفة في جزء منها يجب أن تكون علاقة حرة، وليست علاقة مقيدة بمناهج. 

هذا ساعدني على أن أبدأ قراءاتي المختلفة داخل الحوزة نفسها، ومنذ الصغر بدأت قراءاتي بالموضوع السياسي والموضوع الفلسفي والموضوع التاريخي إلى ما هنالك، فبدأت تتفتح في ذهني بالفعل الأسئلة وإجاباتها أيضاً. فبديت أنا المسؤول عن إجابات أسئلتي، فما دامت هذه الأسئلة لا يجيبني عليها أحد، فلماذا لا أعمل أنا للإجابة عنها، وهذا ما جعلني من بين الذين يطمحون لأن يطلقوا مؤشرات ما يسمى بـ«الخطاب الإسلامي» الذي هو الشكل الحيّ من أشكال التواصل مع هذا التراث العظيم، الذي نمونا من جذوره ومن أصوله.

علي الديري: هل قادتك هذه الأسئلة إلى قراءة معينة؟

محمد الأمين: طبعاً. بدأت أكثر شيء بالقراءات في تاريخ الأديان وفي المسيحية أيضاً، وفي كل مرة كنت أشعر بأنني بحاجة لإعادة قراءة التاريخ الإسلامي والتاريخ الفقهي للإسلام  بصورة جيدة. كنت أجد في كل مرة أستعيد هذه القراءة أنَّ ثمة مجالات وآفاق رحبة تتفتح لي أكثر من قبل، وتؤكد لي أنَّ جملة ما نشكو منه هو بسبب أننا لم نقرأ تاريخنا، وبالفعل إنَّ العرب والمسلمين لم يقرؤوا تاريخهم بالمعنى الحقيقي، وإنما مع الأسف تولى الاستشراق قراءة هذا التاريخ وتقديمه لنا. بالطبع أنا أمام تحديات نهوض المستوى العربي والإسلامي، فما سُمِّي بحركة النهضة التي نشأت في أواخر القرن الماضي واستمرت إلى أوائل القرن العشرين والتي تمثلت بالشيخ محمد عبده والطهطاوي وغيرهم، ولكني أعتقد أن شخصية جمال الدين الأفغاني بالذات كانت شخصية مهمة جداً في إطلاق عصر المفكر الكبير والموسوعي الضخم.

 لقد تأثرت كثيراً بفكر جمال الدين وقد قرأته جيداً، وأدركت أنني مسؤول تجاه جمال الدين الأفغاني أيضاً، لأنه بافتتاح هذا العصر العظيم، قد وضع أمامنا تحديات يجب أن نجيب عليها. لقد حصل هذا مع الاهتمام بأننا جزء من حركة النهضة، فحتى عندما أتحدث عن نفسي كشيعي وعن همومي الشيعية، فهل أنَّ همومي الشيعية هي هموم خارج نهوض الأمة؟ بالطبع لا، وإن كنت شيعياً حقيقياً فيجب أن أجترح نظرية نهوض للأمة تساوي هذا التراث الشيعي العظيم.

 لقد طرح عصر النهضة الأسئلة الرئيسية، مثل ما هي علاقة الغرب بالإسلام؟ وهذا موضوع طويل لن أدخل فيه الآن، ولكن في عصر النهضة تشكَّلت ثلاثة اتجاهات في هذا المجال، اتجاه يقول بالاندماج الكلي مع الغرب، واتجاه آخر يرى أنَّ العلاقة بالغرب يجب أن تكون علاقة صِدام، وبالتالي يجب أن يكون هناك حاجز بيننا وبين الغرب، فلا نتأثر به ولا يتأثر بنا، وهذا بالطبع منطق لا معقول، والاتجاه الثالث هو الاتجاه الانتقائي الذي مثله جمال الدين الأفغاني وبعض المفكرين الآخرين. فهؤلاء أرسوا لنا مناهج في التعامل مع إشكالية المسلمين والغرب.

 إنَّ التاريخ السياسي والتاريخ المعرفي منذ قرن من الزمان أو أكثر، يعمل في حقل هذه العلاقة، العلاقة بين المسلمين والغرب، وهذا الحقل ما زال قائماً حتى اليوم. وربما هو الآن في أشد حالات حضوره، بما يجعلنا نطرح بصورة متقدمة هذه الأسئلة أو هذه التحديات، الذي يفرضها علينا انتماؤنا إلى جيل يفكر بأن يحدث ما يسمَّى بـ«عصر النهضة» بشكل حقيقي في المرحلة التي يعترف فيها الجميع بأن العالم الإسلامي والفكر الإسلامي أمام تحديات كبيرة، والاجتماع الإسلامي أمام تحديات كبيرة.

 إنني لا أعمل في المجال السياسي، لكني أعتقد أنَّ هذا التحدي لا بدَّ أن نعمل في مواجهته في حقلنا، ما هو هذا الحقل؟ هو ما أسمِّيه أنا بـ«الحقل المعرفي». و«الحقل المعرفي» هو حقل حساس ودقيق ومهم جداً وفاعل جداً، وأعتقد أنه لا يمكن أن تقوم النهضة والتجاوز الذي نطمح إليه بدون جهاد على مستوى هذا الحقل المعرفي، الذي يوجد فيه إشكاليات، وأهم هذه الإشكاليات أنه يواجه سلطة «السائد»، «السائد» في مجال المعرفة الدينية وفي مجال المعرفة التاريخية، سواء على المستوى الإسلامي أو حتى على مستوى الإطار الشيعي.

علي الديري: هناك قراءات متعددة لمفكرين ومثقفين من مختلف الاتجاهات، حاولت أن تشتبك بأسئلتك وهواجسها، كيف تعاطيت معها؟ 

محمد الأمين: أنا معني بقراءة جميع المطروحين، فكما قلت قرأت مفكري عصر النهضة وفيما بعد الإسلاميين الإحيائيين كالسيد قطب وغيره، وقد كانت أهم قراءة لي لهؤلاء الإحيائيين هو ما كتبه الدكتور محمد البهي في الفكر الحديث وعلاقته بالاستعمار الغربي. لقد كان كتابا مهما جداً ويشبه في أصوليته الإسلامية وإنتاجه لبنية العلاقة مع الغرب وقوة هذا الاقتراح يشبه ما قاله الغزالي، لقد كان البهي أنضج هؤلاء في كتابه الفكر الإسلامي وصلته بالغرب، لقد كان ذلك في الخمسينيات أو في أوائل الستينيات.

 بالنسبة للحداثويين فهم أصدقائي ولي علاقات طيبة بهم، وأحياناً أقرأ كتبهم، وأتناقش معهم في أمور متعددة، أمثال محمد أركون وغيره. إنني أعتقد أنَّ كل واحد من هؤلاء يعمل في مجال معين، ولكن سوف يشكِّل هذا النوع من العمل ظاهرة سيكون لها شأن في المستقبل القريب. لا شك أنَّ هناك إرهاصاً بعملية تفتح مختلفة عما شهده القرن الماضي، وسوف تكون واعدة إلى درجة أنها ستأخذ مجالها وانعكاساتها حتى في التفكير الفقهي وفي التفكير المباشر. نحن يجب أن نكون بعيدين عن الإساءة إلى حركة الحداثة، الحداثة الفكرية موضوع عالمي، والإسلام عالم، فألا يحتاج إلى حداثة؟ 

شيخ فضل: ربما لأن الحداثيين يأتون من خارج الفكر السائد، لذلك يواجهون بالرفض.. 

محمد الأمين: صحيح. أعتقد أنَّ الإسلام أوسع من أن يخوض فيه فقط المتدينون، حتى غير المتدينين يستطيعون أن يخوضوا في هذا الحقل. إنَّ عملية إنتاج المعرفة قد تأتي من غير المؤمنين ومن الملحدين أحياناً. يجب أن نميِّز بين الإنتاج المعرفي وبين السلوك، لأن الإسلام عالم قائم بذاته، فمن الممكن أن يأتي مستشرق وينتج معرفة ذات أهمية كبيرة. 

شيخ فضل: إننا نتحدَّث عن سلطة المرجعية إن صح التعبير، السلطة السائدة..  

محمد الأمين: لنأخذ مثلاً السلطة التي تكفِّر، فتقول لا يجوز لك أن تبحث في الموضوع الفلاني أو لا يجوز لك أن تنتهي إلى رأي يخالف الرأي السائد

شيخ فضل مخدِّر: إنَّ حالة القداسة الموجودة لدينا لها مركزية كبيرة، وهي ترتبط بالحوزة وبالحالة الدينية العامة، وبرجال الدين. لذلك فإنَّ النقد من خارج إطار هذه القداسة يكون عادة تأثيره، وكأن الفكر لكي  يكون إنتاجه مؤثراً ومتواصلا لابدَّ لأن  يكون مدعوماً من داخل الإطار الديني السائد، أليست هذه إشكالية خطيرة؟

محمد الأمين: خذ مثلاً محمد عابد الجابري إنه من خارج السلك الديني وربما علماني، وهو متدين ومشغول ومهجوس بالفكر الإسلامي، ولديه أسئلة يطرحها، فلم لا تؤثر عليّ؟ إن لم أكن أنا، في الإطار الديني، قادراً على تلقي الآخر، فإن البنية الدينية لهذا الإطار ستشكل حاجزاً وانغلاقاً كاملا، ولا تسمع الأصوات الأخرى، فهذا في تقديري مظهر من مظاهر الموت.

 أنا أعتقد أنَّ هذه البنية الدينية يجب أن تكون على تواصل مع ما يُقال في هذا المجال، ومع هذه الأصوات التي شئنا أم أبينا لديها أسئلتها المطروحة. هل نقف موقف سلبي تجاه ما يُطرح ولا نتعامل معه؟ أم يجب أن نستمع إلى ما يُطرح ونتعامل معه؟ ونعتبره تحديات نحن مساءلون عن محاولة الإجابة عنها؟!

 من الممكن أن توجد شخصيات فكرية غير إسلامية ولكنها فاعلة وحاضرة. عندما تطرح إشكاليات حتى في الفكر الإسلامي، لماذا لا نتأثر بما يقال وندخل معه في سجال؟ ماذا يفيدنا أن ننغلق على أنفسنا؟ إنني أدعو إلى الانفتاح عليهم، لأن هذا الانفتاح سوف يجعلنا أقدر على بلورة الفكر الإسلامي في الحضارة الإسلامية، ولإنتاج طور جديد للحضارة العربية الإسلامية للانطلاق. البعد عن هذه الاتجاهات سوف يجعلها تتجه نحو تكوين آخر وتيار تغريبي مختلف ومنفصل عن هذا التراث، وهذا ليس في مصلحة تطلعاتنا الحضارية وتطلعات التطوُّر التي نطمح إليها.

 يوجد كلام عن الفكر الإسلامي، ما هو الفكر الإسلامي؟ هل الفكر الإسلامي هو فكر فئة معينة؟ هل هو فكر المسلمين؟ هل هو ما يُنتج داخل دائرة العالم الإسلامي؟ حتى عندما يكون هناك فكر إلحادي يصنف على أنه إسلامي، الراوندي مثلاً في التاريخ أديب ومفكر وكلامي ولكنه متهم بالزندقة، وبالفعل لديه أفكار إلحادية، ولكنه مع ذلك يُصنف ضمن سلسلة المفكرين الذين نشأوا في الإسلام، لأن موضوع فكره كان هو الإسلام، وعندما يكون الإسلام هو موضوع الفكر، فما ينتج عن هذا الفكر فهو فكر إسلامي، كهؤلاء الذين تحدثنا عنهم الآن، خذ محمد أركون مثلاً عندما يكتب حول التراث أو حول التفكيك أو غيره، قد لا توافق على أفكاره وقد ترفضها، ولكن أفكاره بالتأكيد تنتج فكراً إسلامياً، لأنه يتحدى ويجعل من موضوع تفكيرنا الإسلام والتراث الإسلامي. فهؤلاء سوف يكون لهم تأثيرهم ولكن ليس بالصورة التي نحتكرها للتأثير والتعبئة، لأن أركون ليس معبئاً إسلامياً، ليس خطيباً لكي يعبئ، هو ينتقد وعدم استحضاره في هذا المجال ليس مفيداً.

فاضل عنان: هل نحن بحاجة إلى رجل الدين الجالس في حوزته وفي محيطه، ويصدِّر ما يصدِّر من فتاوى وأفكار وإرشادات بدون أن ينخرط في المجتمع، ألا يضع في ذهنه أنَّ المجتمع خارج الإطار الذي يعيشه؟ هذا النوع من رجال الدين يصدِّر مشاكلاً أكثر مما يصدر حلولاً..بعض رجال الدين يتعاطون مع الساحة بشكل جداً إيجابي، وعندما اتجهوا إلى الحوزة، رجعوا بأفكار رجعت إلى الوراء، أو دعني لا أقل الأفكار بل طريقة تعاطيهم مع الآخر، الذي أصبح بشكل سلبي جداً. ولكن العلماء في لبنان الذين يعيشون ضمن المجتمع، نراهم أكثر انفتاحاً على الآخر من العلماء مثلا في البحرين أو السعودية. ما هي الأسباب التي أدَّت إلى وجود هذا الاختلاف؟ 

محمد الأمين: من المؤكد أنَّ أقرب الأسباب هو الانفتاح الموجود في لبنان. أنا مثلاً رجل دين شيعي، أين أسكن الآن؟ إنني أسكن في بلد اسمه صيدا، وهو بلد سني، ليست علاقاتي مقتصرة على المحيط الشيعي. ولنأخذ لبنان وليس صيدا فقط، إنني قادر ودون مبالغة على أن أعمل ندوات في أماكن مسيحية أكثر من الأماكن الإسلامية، هذا بسبب انفتاح لبنان على الأفكار التي من خارج لبنان. إنَّ لبنان بلد تُنتَج فيه الأفكار منذ زمن طويل، وليس فقط منذ الآن، حتى التيارات الخارجية الغربية أول ما تصل تصل إلى لبنان، ألا تعتقد أن هذا سيكون له أثر؟ هل رجل الدين صخرة لا يؤثر فيها شيء؟!!