أرشيف التصنيف: بروفايل

المرأة في الانتخابات الكويتية

مرآة الطائر

المرأة في الانتخابات الكويتية

"غالبية الحيوانات لا تدرك فكرة أن الصورة في المرآة متصلة بهم وليس بحيوان آخر. لقد أدركت هذه الحقيقة بقوة في أحد فصول الربيع. كان ذكر طائر الكردينال عندما تكون الشمس على ارتفاع معين، يخوض قتالا شرسا مع صورته المنعكسة على نافذة غرفة معيشتنا. من الواضح أنه كان يرى صورة منافس له على مقاطعته" جيمس ترفيل

كنت في الكويت في انتخابات 2006 و2008، كنت أمثل صفتي الشخصية، وهي صفة تسمح لي أن أكون حراً في الشق الذي أرى من خلاله الديمقراطية الكويتية في حدث الانتخابات.

عاينتها في 2006 من خلال شق وحيدةالبدون (بدون جنسية بدون ملكية بدون صوت بدون بطاقة انتخابية بدون اعتراف بدون جواز بدون مواطنة بدون رأي) ([1]).اخترت أن أرى الانتخابات كعلامة نقص على الديمقراطية، لا علامة كمال، وذلك من خلال ما تستبعده هذه الانتخابات وتهمشه وتصادره وتسلبه حق الفعل في تقرير مصير البلاد.

وفي هذه الانتخابات حاولت أن أعاينها من خلال شق المرأة من خلال علاقتها بمرآتها. والمرأة هنا ليست موضوع تنمية، بل موضوع ثقافة، وعلى الرغم من العلاقة بين التنمية والثقافة، لكني معني بشق الثقافة الذي يكاد لا يُرى أكثر من عنايتي بموضوع التنمية الذي يمكن الاستدلال عليه بمؤشرات إحصائية.

الديمقراطية تجربة تتيح لثقافة المجتمع أن تتغير، فما الذي أتاحته تجربة الديمقراطية الكويتية من تغيير يتعلق بالطريقة التي ترى بها المرأة نفسها ويرها بها المجتمع؟

خطة بدون صورة

كنت ضمن الوفد البحريني المشارك في (ندوة خطة التنمية الثقافية في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية) ([2]) لم تقل الندوة شيئاً جديداً، لكنها أتاحت لي مدخلا لقراءة الانتخابات، والمدخل لم تتحه أدبيات الندوة التي لم تتوفر على ضوء جديد، بل أتاحته الثقافة الممارسة في الندوة، والفعل (الممارسة) أبلغ دوماً في الدلالة من القول، بل هو يفضح أقوالنا وخططنا الاستراتيجية وعناويننا (أستاذ، دكتور، باحث، متخصص، ناشط) التي تسبق أقوالنا، ونستخدمها حججاً لإثبات ما نقوله.

كانت إحدى (النساء) الأكاديميات المشاركات في (ندوة خطة التنمية الثقافية في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية) قد رفضت أن ترى نفسها في مرآة الصحافة، لم تقبل أن يلتقط لها مصور جريدة (أوان) الكويتية صورة من فوق منصة الندوة. يبدو أنها وجدت أن منصة الصحافة ستضع صورتها في قاعة المجتمع العامة، حيث ما يظهر فوق هذه المنصة يصبح قابلاً للتداول والتعميم، وهما فعلان تعطيهما الثقافة للرجل كمنقبة، وتعطيهما للمرأة كمنقصة، فالرجل بقدر ما تتداول صورته وتعمم في ميدان المجتمع العام يشكل حضوره منقبة يفتخر بها، والمرأة بقدر ما تتداول صورتها وتعمم في الميدان العام، يشكل حضورها منقصة تعيبها وتعيب أهلها.

عداوة الصورة

المرأة في هذا النموذج غير المتصالح مع صورته، لا ترى في صورتها الظاهرة في مرآة المجتمع العام ذاتها التي تفتخر بها، بل ترى فيها صورتها التي لا تريدها، تراها صورة أخرى تحاربها وتعاديها، وهي تشكل لها مصدر تهديد وفضح وإمكان استغلال وإساءة.

في هذه الصورة تصير المرأة عدوة نفسها، لا ترى نفسها في مرآة الميدان العام، سواء جاءت هذه المرآة في شكل صورة صحفية أو مرشحة نيابية أو ناشطة سياسية، المرأة لا تتعرف على نفسها في هذه النماذج وترى فيها صورة مغايرة لذاتها فتحاربها وتصير عدوة لها. المرأة في هذا النموذج لا ترى نفسها في مرآة الميدان العام.

كان عنوان الورقة التي تقدمها هذه (المرأة) الأكاديمية (الاستراتيجية العملية الممكنة لتنمية ثقافة الطفل). وهو عنوان يحيل إلى عناوين أصبحت رائجة اليوم، خصوصا عند التيارات الدينية والمحافظة والجهات التربوية التي تعمل بنظام البرمجة الآلية، وذلك بفضل تقدم نظريات التخطيط والبرمجة والإدارة والجودة، لذلك تجد في هذه الأوساط، مهما كان حظها الثقافي، تتداول بكثافة مصطلحات: الخطة والاستراتيجية والأهداف والرؤية والرسالة. وهي عناوين تركز على طريقة العمل وتنظيمه وإنجازه والطريقة التي نصل بها إلى الآخرين ونشكل عبرها قناعتهم.

وهذه العناوين ليست معنية بطبيعة الثقافة التي تروّج لها، ولا بوظيفة التنوير التي كان وظيفة الثقافة والمثقفين في عصر الأنوار الأوروبي ومرحلة النهضة العربية، بقدر ما هي معنية بأن يكون محتوى ما تقدمه يطابق السائد والأعراف وجماعات المصالح والتدين التقليدي أو التدين السياسي أو أي نسخة من نسخ التدين.

هي تريد من محتوى الاستراتيجية والخطة أن يعمل على جعل الذات تطابق كل هذا التقليدي والعرفي، وهي ترسم خطة تهدف إلى أن ترى الذات نفسها في مرآة هذا السائد المستقر المتعارف عليه، ومتى صارت الذات ترى نفسها بنورها الخاص في مرآتها الخاصة المتفردة، صارت الصورة خارج الخطة والاستراتيجية، وبمنطق الاستراتيجية الحربية، تصبح الذات في مرآتها الخاصة عدوة ذاتها والمجتمع ويجب محاربتها، فالمرأة مثلا متى صارت ترى نفسها في مرآتها الخاصة بعيدا عن مرآة المجتمع، صارت صورتها في هذه المرآة مضادة وخارجة ومتمردة وشاذة عن المتعارف عليه، وعلى المرأة قبل المجتمع أن تحارب هذه الصورة، وألا ترى فيها نظيراً لشخصيتها أو شخصية المجتمع، فهي نظير للشيطان العدو.

صورة بلا نظير

ويبدو أن غياب هذه المهمة التنويرية وما تقتضيه من نقد وتشريح ومواجهة مع مصالح المستفيدين من استقرار ثقافة المجتمع في شكل لا تاريخي، قد أصاب أجواء ندوة(خطة التنمية الثقافية في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية) فأغلب أوراقها مكتوبة بروح ما قبل حتى خطة (1987) التي اعتمادها المجلس الأعلى لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في دورته الثامنة في الرياض1987. كانت بذرة هذه الخطة الأولى ندوة عقدت في 1985بالكويت تحت مسمى «ندوة العمل الثقافي المشترك بين دول مجلس التعاون».

يبدو أن هذه الخطة غير قادرة في 2008 على تجاوز خطة 1987 أو ابتكار نسخة جديدة لها. وهذا ما أشعرني بتململ أثناء الاستماع إلى أوراق الندوة، فرحتُ أعالجه بقراءة كتاب عالم المعرفة (هل نحن بلا نظير؟). وجدت فيه فقرة أذهلتني، لأنها منحتني مفتاحاً تفسيرياً لحادثة الأكاديمية التي هاجمت الصورة التي التقطها مصور جريدة أوان، أي هاجمت صورتها في مرآة الكاميرا (كاميرا الجريدة)، وستكون مفتاحاً تفسيرياً أيضا لعدم نجاح حملة جريدة (أوان) لمناصرة المرأة في انتخابات 2008.

لم تنجح (أوان) في إقناع الأكاديمية لإيصال صورتها إلى الميدان العام، ولم تنجح أيضا في إيصال صورة المرأة وصوتها في الانتخابات إلى الميدان العام. ويبدو أن عدم النجاح في الحالتين، يؤكد أنهما يمثلان حالة واحدة. وهذا ما يدعونا إلى أن نتساءل: ألم يحن بعد أوان الصورة؟ ما مشكلة الصورة؟ هل الصورة عقدة؟ أليست الصورة نظيراً للشخص؟ هل المرأة لا تدرك شخصها النظير في الصورة كما يدرك الرجل؟ هل الرجل بلا نظير في قدرته على إدراك شخصيته في الصورة؟ هل الرجل أوهم المرأة أن ظهور صورتها في المرآة العامة يضر بها، فراحت ترى في الصورة العامة صورة عدوتها لا صورتها؟ هل المرأة بلا نظير في استعداء نفسها؟

عقدة الكردينال

في كتاب (هل نحن بلا نظير) جواب أجده بلا نظير في قدرته على إيضاح الإشكالية النظرية التي أريد أن أوضحها. يقول:"غالبية الحيوانات لا تدرك فكرة أن الصورة في المرآة متصلة بهم وليس بحيوان آخر. لقد أدركت هذه الحقيقة بقوة في أحد فصول الربيع عندما كنت أعيش في جبال بلو ريدج. كان ذكر طائر الكردينال قد أقام مقاطعته قرب منزلنا. وكل عصر عندما تكون الشمس على ارتفاع معين، يخوض قتالا شرسا مع صورته المنعكسة على نافذة غرفة معيشتنا. من الواضح أنه كان يرى صورة منافس له على مقاطعته. لحماية نافذتي.أخذت مرآة جانبية لشاحنة نقل قديمة وثبتتها على جدار المنزل. صار الطائر بعدها يقضي وقته في مهاجمة المرآة، تاركا نافذتي لحالها"([3]). عقدة طائر الكردينال أنه لا يرى صورته في المرآة بل يرها صورة عدو منافس.

كانت المرأة الأكاديمية حادة في رفض الصورة وغطت وجهها في وجه الضوء (فلاش الكاميرة) القادم من حضارة مكّن ضوؤُها الإنسانَ من أن يرى كلَّ شيء ويراه كلَّ شيء، من غير أن يرى صوره المتعددة في كاميرا الواقع أعداء يحاربها، حتى أنه 454069499_db42955b93تصالح مع صوره الخاصة، وصارت برامج تلفزيون الواقع التي تعرض صور الإنسان في أحواله اليومية مادة للظهور والتنافس لا للرفض والغياب.

فهل كانت المرأة الأكاديمية ترى صورتها في الصحافة صورة منافس يريد أن يظهرها في شكل عدو لها؟ وهل النساء في الانتخابات الكويتية، يرون في صور المرشحات أعداء منافسات؟ هل النساء لا يمتلكن وعياً كافياً بأن المرشحات هنّ أنفسهن أو هنّ صورهن في الميدان العام؟ هل النساء يشبهن طائر الكردينال؟ هل ضوء الديمقراطية الكويتية لم يمكّن النساء، بعد أربعة عقود من التجربة الديمقراطية، من أن يتجاوزن عقدة وعي (طائر الكردينال)؟

متبقي الصورة

يبدو أن الديمقراطية ما زالت تغطي وجهها وتحجب ضوءها حين يكون الموضوع وجه امرأة تريد أن تجعل صورتها تُرى في مجتمعها وميدانه العام.

كتاب (هل نحن بلا نظير) يتساءل: هل الإنسان متفرد في الخلق؟ وهل يمتاز بصفات لا تشاركه فيها بقية المخلوقات؟ وهل البشر يشكلون نوعا من الارستقراطية البيولوجية؟ هل الإنسان نسيج وحده ولا نظير له؟ نتيجة هذه الأسئلة نجدها في عنوان الفصل الأول الذي صاغه الكاتب في شكل تساؤل: هل تبقى شيء لنا؟ وهو سؤال يوحي بأن الإنسان لم يتبق له شيء يميزه عن بقية المخلوقات.

بقدر ما يخفف الإنسان من حدة تمايزه ينسجم أكثر مع العالم ومع نفسه، وهذه الأسئلة عن علاقة التمايز بين الإنسان والحيوان، يمكن أن نطرحها على العلاقة بين الرجل والأنثى: هل بقي شيء للرجل يميزه عن المرأة؟

هناك مسافة ثقافية وليست بيولوجية تحول دون أن تدرك النساء أن صور النساء المرشحات هي صورهن، وليست صور منافسة لهن أو أعداء لهن. وهذه المسافة تحتاج إلى وعي كما الإدراك يحتاج إلى وعي، وهو وعي تحتاجه المؤسسات والناشطات في مجال دعم المرأة وتمكينها.

منار الصورة

كانت رئيسة مؤسسة نحو أداء برلماني متميز «منار» الناشطة السياسية (عائشة الرشيد) تقول([4]) إن وسائل الإعلام المختلفة دأبت على ترديد عبارة أن المرأة عدو المرأة، وهذا المصطلح الذي ظهر فجأة عندما أعطيت المرأة حق الترشيح والانتخابات فقط، مشيرة إلى أن هذا المصطلح هو مصطلح ذكوري يحاول الرجال ترسيخه، منوهة بأن المرأة ليست عدوة المرأة، والدليل على ذلك ما حصل في الانتخابات السابقة 2006، موضحة أن من قام بمساندتها في حملاتها الانتخابية هن النساء، ومن صوت لهن أكثرهن من النساء.

قد تكون وسائل الإعلام التي يديرها منطق ذكوري، هي من يروج لهذا المصطلح، من أجل استغلاله لصالح الرجال الذين مصالحهم تنطق (هل تبقى لنا شيء بعد أن صار للمرأة حق الترشح والانتخاب؟) لكن نفي رئيسة مؤسسة (أداء) بأن المرأة ليست عدوة المرأة، بدليل انتخابات 2006، تنقضه انتخابات 2008 التي لم تفز فيها المرأة بأي مقعد، وتنقضه الإحصائية([5]) التي تنص على أن هناك 361 ألف ناخب وناخبة، منهم 200 ألف ناخبة و161 ألف ناخب، ولم تحصد المرأة على أكثر من 7 ٪ من أصوات المقترعين في عموم الدوائر مع الأخذ بعين الاعتبار أن تعداد المرشحات النساء لا يزيد على 27 مرشحة مقارنة بتعداد المرشحين الذي وصل إلى 273 مرشحا في عموم الكويت.

لقد حصلت أسيل العوضي على ما نسبته 13٪ من أصوات المقترعين في دائرتها الانتخابية الثالثة  (5173 صوتا) وحصلت الدكتورة رولا دشتي 11.2 % (4464) صوتا، وفي الدائرة الأولى حصلت الدكتورة فاطمة العبدلي على 2184 صوتا أي ما نسبته 9.6 من إجمالي عدد المقترعين.

نسبة الأصوات التي لم تصوت لأسيل في دائرتها 87% ولرولا 89% ولفاطمة 91%. لو فرضنا أن نصف هذه النسب أصوات نسائية، ألا يعني هذا أن هذا النصف يدخل تنطبق عليه مقولة:المرأة عدوة المرأة. أو بتعبير أقل عنفاً، المرأة لا ترى صورتها في المرأة أو المرأة ليست مرآة للمرأة.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=117601

http://www.awan.com.kw/node/77072

الهوامش


[1] )جريدة الوقت، العدد128، 28يونيو2006، الانتخابات من عيون عائلة «بدون» …كيف تبدو الديمقراطية الكويتية من دون «البدون»؟

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=4959

[2] ) ندوة «خطة التنمية الثقافية لدول مجلس التعاون لدول الخليج»15-13 مايو 2008، تنظيم المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.

[3] ) هل نحن بلا نظير؟ جيمس ترفيل، ترجمة ليلى الموسوي،العدد 323، يناير2006، ص.46

[4] ) انظر: جريدة أوان، http://www.awan.com.kw/node/55025

[5] ) انظر:

– دبي الحربي، أوان تكشف الدلالات الانتخابية والاجتماعية والسياسية في البيانات الإحصائية

http://www.awan.com.kw/node/71126

– تصريح مدير إدارة شؤون الانتخابات علي مراد:

http://www.awan.com.kw/node/50151

– موقع: voteforkuwait

http://voteforkuwait.com/2008a4/

في انتظار تركيا.. من يقتل أتاتورك؟ 3-3

من يقتل كمال أتاتورك؟
من يقتل كمال أتاتورك؟

لتنزيل بروفايل جريدة الوقت من يقتل كمال أتاتورك؟ pdf

تتفاوت البلدان بتفاوت أفق انتظارك لها، هناك بلد تنتظره بأفق وبلد تنتظره من غير أفق، حتى كأنك لا تنتظره، تركيا، تكاد تكون البلد الأكثر انتظاراً بالنسبة إلى أفقي، والانتظار ليس حالة سلبية، كما تخبرنا أدبيات انتظار الخلاص، فهو حالة توقع، تدفعك إلى أن تمدّ عينينك إلى الأمام مرة وإلى الخلف مرة، والإنسان لا يمدّ عينيه إلا ليقرأ بهما ويؤول من خلالهما، لذلك فالانتظار نشاط تأويلي محكوم بأفق السياق الذي تعيشه. كانت تركيا، بالنسبة إلى أفقي، الجغرافيا التي لم أعاين تاريخها ب حواسي كلها، والتاريخ يكون عصياً على الفهم حتى تمشي بقدميك في جغرافيته التي حدث فيها، وتاريخ تركيا عصي على الفهم أكثر لأنه تاريخ مازال يشتغل في الحاضر بلغات متعددة وحضارات متعددة وجغرافيا متعددة، فكيف يمكنك أن تقيم صلة أليفة مع هذا التاريخ، من غير المشي فيه؟
في الحلقة السابقة صارت العلمانية الأتاتوركية مقدسة ومحنطة وأنتجت موظفين بيروقراطيين يخشون النقد ويحرصون على أن يقدموا وجهاً رسمياً ينفي النقص. وصار على الإصلاح أن يفتح الدولة لتشكيل هوية أعراقية (جمع عرق) دستورية متساوية، لا يشعر فيها عرق بأنه فوق عرق آخر في الدولة.

جامعة تشقروّة
مع مترجمنا الآخر موسى ألب، الذي أتاحت لنا ترجمته الفورية لكلمة المحافظ، أن نفهم جزءاً من معاناة الدولة الكمالية، من خلال الجدل الذي دار حول كلمة «معاناة الكتاب»، دخلنا «جامعة تشقورة» المقامة على سواحل بحيرة سيحان التي تشغل مساحة 2200 هكتار، والمرتفعة عن المدينة. «ألب» الذي يعني الشجاع، أستاذ شاب للغة العربية، يدرس في كلية الاهوت، وقد أكمل دراسته العليا في الأردن، وهو متحمس للقيام بمشروعات ترجمة بين العربية والتركية، ولإعجابه بتجربة الصديق علي الجلاوي، وعد أن ينجز ترجمته التركية لديوانه الجديد «تشتعل كرزة نهد» في ستين يوماً.
هناك على المرتفعات المطلة على بحيرة سيحان، تعرفنا على مفهوم جديد للعلمانية التركية، وهو مفهوم «قليل من الإسلام»، حين طرحه «ألب» للمرة الأولى ظننت أنه يعني مفهوم «الأقلي والأكثري» في الإسلام عند عبدالكريم سروش، لكنه نفى معرفته بسروش، وراح يسرد قصة طويلة لتركي ويهودي، ينتهي بهما الصراع إلى أن يقول اليهودي «بي قليل من الإسلام»، في جوابه على سؤال يهودي آخر «هل أصبحت مسلماً؟». لكن ما هذا القليل من الإسلام الذي في هذا اليهودي؟
إنه شيء من حكم فقهي، ويمكن معرفته بقراءة تفاصيل القصة، فالمقام من الناحية الأدبية لا يسمح بذكره، لكن المهم أن هذا الحكم يعبر عن قدرة التركي على فهم الحكم الفقهي بطريقته الخاصة، وهذه الطريقة الخاصة، قد لخصها «ألب» بقوله: أنتم العرب تفهمون القرآن، لكننا نحن الأتراك نؤوله.
وفي التأويل يمكنك أن تمدّ حواسك كلها مسافة أطول مما يسمح به الفهم الحرفي للقرآن. وكي نعرف هذه المسافة الأطول، قمنا بجولة عند بحيرة نهر سيحون، هناك كان الطلبة والطالبات يمدون حواسهم وفق تأويلاتهم، فتلتقي الحاسة بالحاسة ولسان حالها يردد عبارة ابن عربي «الشرف كله في الحواس». حين اقتربنا من جيتار أحد الطلبة، وجدت صورة كمال أتاتورك على خشبة الجيتار، سألته: ماذا تعني لك؟ قال «أنا أصولي عربية، وأفتخر بأتاتورك، لقد أعطانا شخصية نفخر بها، أنا أحبه كثيراً، والحرية التي تجدها هنا كما هي مجسدة بين الطلبة والطالبات تدين إلى هذا الأب كمال أتاتورك». فيما كان الصديق على الجلاوي يجرب جيتار شاب آخر، كان الفنان التشكيلي ناصر نعسان الآغا، يختبر معرفتهم بالموسيقى العربية، كنت أنا أوجه سؤالاً إلى الأختين بتول المحجبة وسيجدم (Cigdem Gem) غير المحجبة. قلت لهما هل الغناء الذي يمارسه هؤلاء الشباب حرام؟ أجابتني بتول بشخصيتها الواثقة «نحن لسنا ”طالبان”، نحن طالبات محجبات منفتحات، ونمثل نموذج الإسلام التركي». هي تعني نموذج «القليل من الإسلام» أو الإسلام الذي يقوم على التأويل، أو الإسلام الذي يعيش في سياق العلمنة الأتاتوركية، بتول ذهبت العام الماضي إلى الحج و«Cigdem Gem» تنتظر اللحظة المناسبة لترتدي هذا القليل من الإسلام، فهي تعتقد أن الحجاب ليس واجباً، لكنها ستشترط على من يتقدم إليها أن يأخذها أولاً إلى مكة، تريد أن تحج أولاً قبل أن تتزوج.
ا لقليل من الإسلام والكثير من العلمانية وإصلاح الكمالية سيتيح فرصة كي «تزداد التعددية في المجتمع التركي بعد عقود من سيطرة الدولة، يوجد الآن أكثر من 300 محطة تلفزيونية وألف محطة راديو تبث كل شيء من أغاني الروك الصاخبة إلى الفولكلور التركي، ومن تقارير «bbc» إلى الأخبار الكردية والإسلامية»(x).

الشعر وأصول الحكم
في محاضرتي عن «حركة النقد في العالم العربي» التي قدمتها في مركز أضنة الثقافي المطل على نهر سيحون، بدأتها بالإشارة إلى أن تاريخ تأسيس جمهورية تركيا في 22 مارس/ آذار 1923 والمرتبط بإلغاء الخلافة أو لنقل في البداية بفصلها عن أن تكون شأناً دنيوياً زمنياً يدير الحكم، وحصرها في الجانب الروحي فقط. إن هذا التاريخ لا يعد عاماً مفصلياً للأتراك فقط، لكنه عام مفصلي للعالم الإسلامي كله، وهو ليس مفصلياً على المستوى السياسي فقط، بل على المستوى الثقافي والحضاري، وفعل النقد ليس حركة تدور حول النص الأدبي فقط كما نفهمه اليوم غالباً، بل هو فعل تتحدد حركته وفق دوران كل ما هو ثقافي وحضاري. ولأدلل على ذلك، استشهدت بكتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي» وكتاب علي عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم».
هذان الكتابان صدرا في أجواء هذا التاريخ المفصلي (1923)، لقد كتب عميد الأدب العربي طه حسين الذي كان أستاذ الآداب بالجامعة المصرية، كتابه (1926)، وهو يمثل محاولة نقدية جريئة ليس لأصول الشعر العربي فقط، بل وللمرحلة التاريخية التي تمثل أصل الحضارة الإسلامية، كان كتابه فعلاً نقدياً، يشكك في أصل الشعر الجاهلي، ويذهب إلى أنه من اختراع العصر الإسلامي، وقد تم انتحال هذا الشعر بسبب الصراعات السياسية والاحتجاجات المذهبية.
هذه الروح النقدية، التي كان يكتب بها طه حسين، تفوق في أهميتها أهمية صحة الفرضية التي كان يطرحها، وصحة طريقة معالجته لها، وهي روح لم يكتب لها أن تتواصل في العالم العربي مع الأسف. لقد تطور النقد عندنا وصرنا على اطلاع بحركة النقد العالمية في أشكالها المتعددة البنيوية وما بعدها والتفكيكية والوجودية والهرمونطيقية، لكننا فقدنا الروح النقدية التي كانت لدى طه حسين، صار النقد حركة باردة حول جمالية النص.
في 1925 صدر كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لقاضي محكمة المنصورة الشرعية الشيخ علي عبدالرازق، كانت عائلته تقود حزب الأحرار الدستوريين، وأطروحة الكتاب تنفي علاقة الإسلام بالسلطة والحكم، وتذهب إلى «أن الخلافة ليست أصلاً من أصول الإسلام، وأن هذه المسألة دنيوية سياسية أكثر من كونها مسألة دينية، وأنها مع مصلحة الأمة نفسها مباشرة، ولم يرد بيان في القرآن ولا في الأحاديث النبوية في كيفية تنصيب الخليفة أو تعيينه.. والتاريخ يبين أن الخلافة كانت ن كبة على الإسلام وعلى المسلمين وينبوع شر وفساد». وقد جاء في سياق الرد على المحاولات الكثيرة في العالم الإسلامي التي حاولت أن تتلقف وراثة الخلافة العثمانية التي فصلها أتاتورك في 1923 ثم أسقطها ,1924 بعد فرار السلطان العثماني محمد السادس، لقد صارت الخلافة «أداة لمساومة سياسية مبتذلة»(xi). وصارت الصحف المصرية تروج إلى أن الملك «فؤاد» هو الأصلح لحمل لوائها. هذه الأداة المتعاضدة مع الفكر التقليدي، هي التي حظرت الكتاب فيما بعد، كما حظرت كتاب طه حسين، وأجبرتهماعلى التراجع عن أفكارهما، بل وأجبرت روح النقد أن على أن تتراجع، وكأننا ودعنا في الثقافة العربية آخر محاولة ليبرالية أو تنويرية ودخلنا مرحلة محافظة تعاني اليوم من آثارها الوخيمة. قلت لهم «أنتم الأتراك ذهبتم بعيداً في مشروعكم التنويري والتحديثي، ونحن مازلنا مبتلون بالخلافة في صور جديدة منذ تأسيس حركة الإخوان المسلمين، في صيغة صور إسلام حركي أو راديكالي أو طالباني أو قاعدي أو ولائي أو محافظ أو تقليدي. باختلاف صوره هو إسلام مؤمن بحاكمية الإسلام في المجال السياسي والدنيوي».

مرسين الإنسان
في نادي مرسين للفنون، في محافظة مرسين الأنيقة، افتتح الجلاوي الجلسة بقصيدته «المسيح البحراني»، ولأن الشعر لا يمكن أن تتوافر له ترجمة فورية، اكتفى مترجمنا الصديق أسعد جوناي بتقديم شرح مؤثر لقصة إنسان هذه القصيدة الذي أشكل على صالبيه (أي من قاموا بصلبه بالرصاص) شكل إنسانه، كان الشرح قد سبق القصيدة، ويبدو أن نبرات إلقاء الجلاوي الأخاذة قد ترجمت القصيدة في قلوب المتلقين بشكل جعلهم يكسرون حاجز اللغة، حتى أن فتاة يسارية تحلم بتغيير العالم أخبرتنا فيما بعد، أنها كادت لفرط تأثرها تقوم بحضن الشاعر على المنصة، لكنها خشيت أن المترجم يستصعب ترجمة هذه الصورة الشعرية (الحضنة).
كان الطقس مناسباً، كي أفتتح محاضرتي «عن الإنسان والرأسمالية» بمقولة أبو حيان التوحيدي «إن الإنسان قد أشكل عليه الإنسان»، وجدت أن هذه الجملة مكثفة المعنى ستوقع المترجم الفوري، رغم كفاءته، في إشكال، فوجدت أن أفضل طريقة هي أن أقوم أنا بترجمة مقولة التوحيدي، لكن لن أترجمها باللغة التركية، بل سأترجمها بالثقافة التركية، استعنت برواية «القلعة البيضاء» التي رافقتني طيلة سفرتي، حتى صار الشاعر الصديق ماجد أبوغوش، يتندر بها للنيل مني. وجدت أن الروائي التركي باموق يرهان الفائز بجائزة نوبل ,2007 المشغول بالإنسان وإشكالاته العرقية، قادر على أن يترجم مقولة التوحيدي، فكلاهما يحمل همَّ الإنسان – رغماً عن المحافظ الذي قال إن الكتاب الأتراك بلا هموم – وكلاهما يشتغلان على الأدب بروح فلسفية، وكلاهما عانيا من وباء يأتي في شكل الإنسان، الأول أحرق كتبه احتجاجاً على عصره الذي لم يستوعبه إنساناً، والآخر غادر تركيا، حين وجهت إليه تهمة «التقليل من شأن القومية التركية» وفق أحكام المادة 301 من الدستور، لقد قال أورهان باموك إنَّ مليون شخص أرمني وثلاثمئة ألف كردي قتلوا في تركيا ولهذا السبب رُفعت ضدَّه دعوى.
هل أشكل الإنسان على أورهان باموق في دفاعه عن الإنسان الأرمني والإنسان الكردي، أم هل أشكل الإنسان على المادة 301 التي حاكمت 527 إنساناً مثقفاً بدعوى «التقليل من شأن القومية التركية» أم أشكل على الصحافي الأرمني هرانت دينك الذي صورته هذه المادة الدستورية بصورة عدو تركيا وفيما بعد تم اغتياله غدراً.
كانت العبارة التي استعنت بها لترجمة مقولة التوحيدي، من قلعة أورهان باموك البيضاء، تقول «الوباء يأتي إلى الإنسان في صورة إنسان، ويأتي إلى الحيوانات في صورة فأر» هكذا إذاً، يشكل فهم الإنسان على الإنسان، لأن الشر يأخذ شكل إنسان، فتتداخل الأشكال على الإنسان، فيظن الوباء إنساناً لأنه جاءه في صورة إنسان. والمادة 301 تقدم نفسها في شكل إنسان لتقضي على الإنسان نفسه. هكذا أيضاً الأيديولوجيات والقوميات والمذاهب والموجات الفكرية، تستوي في ذلك الرأسمالية والاشتراكية. فهي قد جعلت من الإنسان سلعة قابلة للاستغلال، مرة في شكل عبدو مرة في شكل قن ومرة في شكل عامل، ومرة في شكل جهد وعمل، ومرة في شكل فائض إنتاج، ومرة في شكل عقيدة تفوق قيمة الإنسان، هكذا الإنسان تُشكل عليه أشكاله المتعددة. وعلمانية الدولة الأتاتوركية، قد أشكل عليها أيضاً الإنسان، فظنت أن الإنسان الذي لا يأتي في صورة القومية التركية، وباء ينبغي التخلص منه، لتتحقق كماليتها خالصة العرق.

وباء المثقف
حين أنهيت محاضرتي، قال لي مثقف تركي: «هل أنت كمثقف، صوتك مسموع ومفهوم في مجتمعك؟». قلت له: «لا، فصوتي يشكل على الإنسان الذي في مجتمعي، ويظنه دوماً وباء، فهو يعتقد أن المثقف لا يجلب إلا الوباء. وقد صدق المثقفون في مجتمعي العربي ذلك، وراحوا، يكفون وباءهم عن المجتمع، حتى صاروا في حجورهم الصحية المعزولة، ولا يخرجون إلا حين يطلبهم سلطان القلعة البيضاء، كي يحكوا له حكاية تسليه وتطمئنه بالبقاء الدائم». قلت له لن تجد في مجتمعي العربي 500 مثقف وأكاديمي ينشرون بياناً ضد التهديد بالانقلاب العسكري، يقولون فيه «لا نعتقد أن الجمهورية العلمانية يمكن أن تقوى من خلال إبداء الجيش رأيه ولكن فقط عن طريق الديمقراطية». مثل هذه الكلمات لا يجرؤ مثقفونا أن يقولوها كما فعل مثقفوكم العام الماضي، حين لوّح الجيش بالتدخل على عادته في انقلابات (1970 و1980)، ربما يقولونها في ملجأهم السياسي، وفي الأحوال الأخرى هم ينتظرون أن يقولها أحد، كي يقطفوا هم الثمار فيما بعد. يبدو أن المثقف قد أشكل عليه المثقف.

هوامش

(xi)مجلة الثقافة العالمية، تركيا تتجه غربا، بقلم سولي أوزيل، العدد,147 مارس/ آذار – أبريل/ نيسان ,2008 ص .38
xi ) جورج طرابيشي، هرطقات عن العلمانية كإشكالية إسلامية – إسلامية، ص .133

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=115010

في انتظار تركيا.. من يقتل أتاتورك؟ 3-2

من يقتل كمال أتاتورك؟
من يقتل كمال أتاتورك

لتنزيل بروفايل جريدة الوقت من يقتل كمال أتاتورك؟ pdf

تتفاوت البلدان بتفاوت أفق انتظارك لها، هناك بلد تنتظره بأفق وبلد تنتظره من غير أفق، حتى كأنك لا تنتظره، تركيا، تكاد تكون البلد الأكثر انتظاراً بالنسبة إلى أفقي، والانتظار ليس حالة سلبية، كما تخبرنا أدبيات انتظار الخلاص، فهو حالة توقع، تدفعك إلى أن تمدّ عين ينك إلى الأمام مرة وإلى الخلف مرة، والإنسان لا يمدّ عينيه إلا ليقرأ بهما ويؤول من خلالهما، لذلك فالانتظار نشاط تأويلي محكوم بأفق السياق الذي تعيشه. كانت تركيا، بالنسبة إلى أفقي، الجغرافيا التي لم أعاين تاريخها بحواسي كلها، والتاريخ يكون عصياً على الفهم حتى تمشي بقدميك في جغرافيته التي حدث فيها، وتاريخ تركيا عصي على الفهم أكثر لأنه تاريخ مازال يشتغل في الحاضر بلغات متعددة وحضارات متعددة وجغرافيا متعددة، فكيف يمكنك أن تقيم صلة أليفة مع هذا التاريخ، من غير المشي فيه؟
في الحلقة السابقة: تركيا بحاجة إلى قتل الأب، أي التخلص من سلطته التي تمارس حضوره الطاغي عليها، ويحول دون تخطيها أو تجاوزها له. وهناك قلنا إن تركيا تقاوم قتل أبيها الحديث، وهناك من يقف دون ذلك، وهناك من يهدد بالثأر إن حدث ذلك، وهناك من يطلق صيحات التحذير التي تقرأ في كل حركة تهديداً بهذا القتل.
الكنيسة الكمالية
ي مكن معاينة هذا الخوف على هذه الأبوة الرمزية، من خلال تقرير «ماذا يجري في تركيا؟» الذي أعده الصحافي الألماني المقيم في إسطنبول، غونتر زويفرت، عن الجدل العام الذي رافق المظاهرة التي خرجت العام الماضي أمام ضريح أتاتورك في أنقرة التي شارك فيها مئات الألوف، كانت «جمعية الفكر الأتاتوركي»، أحد محركات هذه المظاهرة، وتضم في مجلس إدارتها القائد السابق للشرطة التركية والبروفيسور نجلاء أرادت المدافعة عن تدخل الجيش في الحياة السياسية «لماذا نقلق إذا عندما يفصح الجنود عن رأيهم؟».
لابدّ من أن يبدي الجيش رأيه حين تهدد «الرجعية الدينية» علمانية الدولة. وقد حددت رئيسة المحكمة الدستورية العليا سومرو شورت أغلو في خطابها بمناسبة الذكرى الـ 139 السنوية لتأسيس المحكمة مفهوم «الرجعية الدينية» بقولها «كل حركة لا تتفق مع مبادئ وإصلاحات أتاتورك هي رجعية دينية».
يعترض الكاتب والمفكر الليبرالي في إسطنبول مراد بلجه، على هذا التعريف الاختزالي، ويتساءل ماذا عن النماذج السياسية الاشتراكية والليبرالية والديمقراطية التي لا تتفق كثيراً مع العالم السياسي لأتاتورك.
لقد خاطب عضو مجلس إدارة «جمعية الفكر الأتاتوركي»، البروفيسور علي أرجان، أثناء مظاهرة أنقرة أتاتورك في ضريحه قائلاً «القائد الكبير مصطفى كمال أتاتورك.. لقد مضى على رحيلك 24992 يوماً، وها نحن نقف اليوم أمامك وكلنا عار وحزن عليك».
وقد علّقت الكاتبة التركية بريهان ماجدن في عمودها بشكل ساخر: «ليتني كنت عضواً في الكنيسة الكمالية وأعيش مثل طفل موصَى عليه للأبد. أتمنى أن أضع جبهتي على رخام ضريح أتاتورك وأقبّل التمثال على القبر وأقول: يا والدي إنني أشعر بأني وحيدة! ثم يأتي صوت من الظلام يقول: إنك لست وحيدة! بجوارك رئيس أركان الجيش التركي الجنرال يسار بويوك أنيت الذي يعتبر نفسه نائباً عني، وبجوارك أيضاً دنيز بيكال الذي يعتبر بمثابة رئيس حزبي (حزب الشعب الجمهوري)، وبجوارك مئات الألوف من الإخوة والأخوات الذين لا يفقهون كثيراً من الديمقراطية مثلك».
الكنيسة العلمانية
في سخرية الكاتبة بريهان ماجدن كثير من الحكمة، وجملتها الأخيرة التي صاغتها ساخرة على لسان أتاتورك «وبجوارك مئات الألوف من الإخوة والأخوات الذين لا يفقهون كثيراً من الديمقراطية مثلك» فيها قلب الحكمة، والجملة قابلة لأن نتصرف فيها، وذلك بتقليبها، لنقول: إن بجوار هذا الأخ كثير من الإخوة والأخوات الذين لا يفقهون كثيراً العلمانية ليس بمعناها العام فقط، بل حتى بمعناها الأتاتوركي القابل لتأويلات حديثة، تناسب الحداثة السياسية التي يجب ألا تتوقف عندها الدولة.
يمكن فتح معنى العلمانية الأتاتوركية، باسترجاع خطابات أتاتورك التي قدمها في بدايات تأسيس الجمهورية التركية، فهذه الخطابات تكشف أن أتاتورك لم يكن يسعى إلى تأسيس دولة لا دينية أو معادية للدين، ولا حتى دولة تريد أن تسقط الخلافة بقدر ما تفصلها.
لقد أجرى الصحافي الفرنسي موريس برنو، في العام ,1923 مقابلة مع أتاتورك عن معنى الإصلاحات السياسية التي قام بها، وكان مما قاله له «لقد أمر نبينا أتابعه بأن يهدوا أمم العالم إلى الإسلام، لكنه ما أمرهم بتولي حكم هذه الأمم، إن سياستنا ليست فقط بعيدة عن أن تكون لا دينية، بل إننا نشعر أيضاً أنه مازال ينقصنا، من المنظور الديني، شيء ما.. ينبغي أن يصير الشعب التركي متديناً أكثر، أقصد متديناً بقدر أكبر من البساطة.. إن ديني، الذي أؤمن به إيماني بذات الحقيقة، لا ينطوي على شيء يناقض العقل»(iv).
لن نقول إن أتاتورك كان صاحب مشروع إصلاح ديني، لكنه لم يكن صاحب مشروع دولة لا دينية، كان يريد دولة منفصلة عن الدين، وقادرة على أن تتيح للإنسان أن يمارس تدينه بشكل عقلاني وخاص، وهذا يتطلب رفض أشكال التدين المتخلفة التي كانت تستغلها الخلافة لتثبيت نفسها، وإذا كان مشروعه لم يكتفِ بأن يحقق ذلك فقط، بل ذهب بعيداً عن ذلك، فبالإمكان التعويل على مقاصد خطابه، كي لا يشعر أتباعه بالعار عند ضريحه، وكي يتمكنوا من توسيع تعددية الدولة من دون شعور بذنب خيانة الأتاتوركية.
كان خطاب أتاتورك يدعو الأتراك إلى أن يتركوا وهم سيادتهم للعالم عبر فكرة الخلافة التي لا تعني شيئاً «كما أنني وجهت تحذيراً إلى الشعب بقولي: ينبغي أن نكف عن خطأ اعتبار أنفسنا سادة العالم»(v). ومع أن أتاتورك أعطى للقومية التركية حساً سيادياً، لكنه يحسب له أنه أبقى هذا الحس في إطار الدولة لا في إطار العالم، لكن لا يحسب له أن جعله خاصاً بالعرق التركي، لا بالمواطن التركي، لذلك كي تمضي الدولة في مشروع التخلص من وهم السيادة العرقية الخاصة بجماعة في إطار الدولة، عليها أن تفتح الدولة لتشكيل هوية أعراقية (جمع عرق) دستورية متساوية، لا يشعر فيها عرق بأنه فوق عرق آخر في الدولة.
هكذا نخرج الدولة من الكنيسة الكمالية، ومن الكنيسة العلمانية. لكن ذلك لا يمكن أن يتحقق من دون مشروع يأتي من خارج الكنيسة، إنه مشروع عضوية الاتحاد الأوربي.
شرعية الاتحاد الأوربي
يبدو مشروع عضوية الاتحاد الأوربي، الذي بدأت تركيا تتطلع إليه منذ 1963 وتوقف بسبب الانقلابات العسكرية في 1970 و,1980 اليوم، هو وسيلة الضغط على المؤسسة العسكرية، كي تفتح علمانيتها على ديمقراطية تعددية، وبحكم منطق التغيير فهذه المؤسسة اليوم مضطرة إلى إصلاح نفسها وتقليص وصايتها وإعادة تعريف مفهومها للكمالية، «لقد قامت المؤسسة العسكرية مراراً بإعادة تعريف الكمالية لكي تكون معاصرة لبيئتها»(vi).
يمكننا أن نقرأ هذه الإعادة من خلال انقلاب طريقة الجيش في الانقلاب، لقد قام الجيش بأربعة تدخلات مباشرة في الدولة، لكن تدخله الأخير وصف بأنه انقلاب ناعم، أو انقلاب ما بعد حداثي(vii)، وهو انقلاب 28 فبراير/ شباط 1997 عندما حشد الجيش الرأي العام ووسائل الإعلام لفرض استقالة حكومة تحالف يقودها حزب الرفاه الإسلامي. لقد أخرج الجيش حزب الرفاه من السلطة السياسية، لكن من دون أن يسيطر سياسياً على السلطة. لقد فهم حزب العدالة والتنمية اللعبة، وجد أن شرعيته السياسية لن يكتسبها بإقناع الجيش بالخروج من كنيسته الكمالية أو كنيسته العلمانية، سيكتسبها، من المضي بمشروع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلى الأمام، فقام بالتخلص من قياداته التقليدية، وحدّث خطابه السياسي، قبل بمبادئ السياسة الليبرالية، خصوصاً ما يتعلق باقتصاد السوق، وتمكن بعد فوزه في انتخابات 2002 من إنعاش الاقتصاد التركي، أزال ستة أصفار من العملة التركية في ,2003 وصار معدل النمو 7%(viii).
بهذا الإصلاح سيتمكن الأتراك من الخروج من وهم سيادة العالم الذي صاحب مشروع الخلافة، وقد جاء مشروع أتاتورك ليخرجهم منه، وسيتمكنون من الخروج من وهم سيادة العرق التركي، ومن وهم كمال الدولة الأتاتوركية، ومن وهم الكنيسة العلمانية، وسيدركون من موقعهم الجغرافي وحراكهم الثقافي والسياسي بالفعل أنهم وسطاء بين الحضارات «في العادة يرى عامة الأتراك أنفسهم كوسطاء بين الحضارات»(ix).
معاناة المحافظ
لا أدري ما هو المقابل اللغوي لمفهوم المعاناة في اللغة التركية، لكن هناك مشكلة تثيرها هذه الكلمة، ففي افتتاحية هذا المهرجان (مهرجان تشقروّة العالمي «Cukurova») قدم الكاتب السوري مالك صقر كلمة نيابة عن الكتاب العرب المشاركين في المهرجان، وأشار إلى أن الكتّاب الأتراك والعرب يشتركون في هموم المعاناة الإنسانية، فكل كاتب يعاني هماً إنسانياً يدفعه للكتابة. عبر الترجمة الفورية فهم المحافظ الذي جاء لافتتاح المهرجان، المعاناة بمعنى محافظ، فأشار في كلمته التي تلت كلمة الكتاب العرب إلى أنه يختلف مع مقدم كلمة الكتاب العرب، في مسألة المعانة، فالكتاب الأتراك لا يعانون من شيء، وكل الأمور ميسرة لهم، ولا قيود عليهم، وأن وضعهم على ما يرام.
لقد فسر البعض الاختلاف إلى خلل في الترجمة، يتعلق بالكلمة المعبرة عن المعاناة، لكن الأمر بدا فيما بعد أقرب إلى أن يكون سوء فهم يتعلق بمفهوم معاناة الكاتب وسوء فهم يتعلق بمفهوم الكتابة نفسها، فالمحافظ يبدو كان حريصاً على أن يظهر الدولة التي يمثلها كراعية وحاضنة للكتاب، وأنها تبلغ في تقديرها لهم أنها لا تترك فرصة للمعاناة كي تقترب منهم. والكتاب لا يختلفون عن بقية أصحاب المهن في الدولة في مفهوم المحافظ، ويبدو أنه قد فهم تعبير معاناة الكتاب بفهمه لتعبير معاناة العمال نفسه. لقد أصبحت كلمة المعاناة مادة أثيرة للسخرية بين الكتاب المشاركين في المهرجان، وصار الكتاب العرب، ينالون من الكتاب الأتراك حين يقولون لهم: أرجوكم أن تسكتوا فأنتم ليست لديكم معاناة.
في كلام المحافظ وجه مما تعانيه تجربة العلمنة الأتاتوركية، فقد صارت هذه العلمنة مقدسة ومحنطة وأنتجت موظفين بيروقراطيين يخشون النقد ويحرصون على أن يقدموا وجها رسمياً ينفي النقص، فالنقص ضد الكمال، والكمال في مفهومهم مشتق من مصطفى كمال أتاتورك الذي يعني الدولة الكمالية التي هي نفسها الدولة الكاملة. هنا تقع الدولة في تأليه لا نفسها، بل في تأليه نموذج منها، فتظل محنطة في هذا النموذج حتى يتحول إلى عبء عليها.

هوامش

جورج طرابيشي، هرطقات عن العلمانية كإشكالية إسلامية ـ إسلامية، ص118
v ) جورج طرابيشي، هرطقات عن العلمانية كإشكالية إسلامية ـ إسلامية، ص127
vi ) مجلة الثقافة العالمية، مسيرة العسكريين الأتراك نحو الاتحاد الأوربي، بقلم إرسل أيدينلي، نيهات علي أوزكان، دوغان أكياز، العدد,147 مارس/ آذار – أبريل/ نيسان ,2008 ص58
vii ) مجلة الثقافة العالمية، تركيا تتجه غرباً، بقلم سولي أوزيل، العدد ,147 مارس/ آذار – أبريل/ نيسان ,2008 ص.38
viii ) مجلة الثقافة العالمية، تركيا على الحافة، بقلم فيليب غودون وعمر تاسبينا، العدد ,147 مارس/ آذار – أبريل/ نيسان ,2008 ص.25
ix ) مجلة الثقافة العالمية، تركيا على الحافة، بقلم فيليب غودون وعمر تاسبينا، العدد,147 مارس/ آذار – أبريل/ نيسان ,2008 ص .40

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=114830

انتظار تركيا.. من يقتل أتاتورك؟1-3

من يقتل كمال أتاتورك
من يقتل كمال أتاتورك

لتنزيل بروفايل جريدة الوقت من يقتل كمال أتاتورك؟ pdf

تتفاوت البلدان بتفاوت أفق انتظارك لها، هناك بلد تنتظره بأفق وبلد تنتظره من غير أفق، حتى كأنك لا تنتظره، تركيا، تكاد تكون البلد الأكثر انتظاراً بالنسبة إلى أفقي، والانتظار ليس حالة سلبية، كما تخبرنا أدبيات انتظار الخلاص، فهو حالة توقع، تدفعك إلى أن تمدّ عينينك إلى الأمام مرة وإلى الخلف مرة، والإنسان لا يمدّ عينيه إلا ليقرأ بهما ويؤول من خلالهما، لذلك فالانتظار نشاط تأويلي محكوم بأفق السياق الذي تعيشه. كانت تركيا، بالنسبة إلى أفقي، الجغرافيا التي لم أعاين تاريخها بحواسي كلها، والتاريخ يكون عصياً على الفهم حتى تمشي بقدميك في جغرافيته التي حدث فيها، وتاريخ تركيا عصي على الفهم أكثر لأنه تاريخ مازال يشتغل في الحاضر بلغات متعددة وحضارات متعددة وجغرافيا متعددة، فكيف يمكنك أن تقيم صلة أليفة مع هذا التاريخ، من غير المشي فيه؟
زهرة القطن
إذاً، لابد من المشي إلى تركيا وإن تأخر السفر، إنها زيارتي الأولى لتركيا، وهي تأتي تلبية لدعوة من «مهرجان تشقروّة العالمي» (Cukurova) الثاني، كنت بمعية الصديق الشاعر علي الجلاوي. كانت تجربة غنية في قراءة تركيا من جزئها الأقرب إلى العالم العربي، ففعاليات المهرجان الذي اتخذت من تفتح زهرة القطن البيضاء في الأراضي الزراعية المنخفضة شعاراً لها، كانت في مناطق أضنة ومرسين وأنطاكية التي يمكنك أن تراها من مدينة حلب السورية.

في هذه المنطقة الجغرافية لن تعدم عرباً أتراكاً، يتقنون العربية والتركية، ويحملون باتجاهاتهم اليسارية هموم القضايا العربية السياسية، ويسعون بحماس للانفتاح على الأدب العربي والثقافة العربية، وجزء أصيل من رسالة هذا المهرجان تكمن في التعريف بأدباء الشرق، وهذا ما دعا الأديب التركي الذي يتقن العربية بطلاقة محمد قراصو إلى أن يطلق على هذا المهرجان الذي يقام سنوياً ف ي أنطاكية في شهر مايو/ أيار عنوان «تلاقي أدباء الشرق الأوسط». وقراصو عضو في أكثر من عشرين جمعية أدبية في العالم، وهو باحث وقاص، وله مجموعة من المؤلفات الإبداعية والبحثيّة، كما له جهود عظيمة على صعيد التواصل الثقافي بين الثقافتين التركية والعربية، وهو بصدد إصدار أنطولوجيا عن الكتاب في الأردن وفلسطين.
أنت خبز
مع أنك لا تلمس حضور جلال الدين الرومي في الثقافة التركية بمقدار حضوره في الثقافة الإيرانية، التي تسمي كتابه «مثنوي» «قرآن بهلوي» أي «قرآن الفارسية». إلا أن تركيا كانت وفية لرأسه الذي لم يسقط فيها، لكنه استقر فيها، وأقامت فيه متحفاً باسمه، في «قونية» التي وصلها وفي الرابعة والعشرين، وتوفي فيها في 17 ديسمبر/ كانون الأول العام .1273
لكن هذا المكان قبل أن يكون قبراً وقبل أن يكون الآن متحفاً، كان تكية أنشأها جلال الدين لتكون بيتًا للصوفية، وتُعد من أجلِّ العمائر الإسلامية وأكثرها روعة وبهاء بنقوشها البديعة وزخارفها المتقنة، وثرياتها الثمينة، وطُرُزها الأنيق، ويظهر على الضريح بيت من الشعر يخاطب به «جلال الدين» زواره قائلاً:
يا من تبحث عن مرقدنا بعد شدِّ الرحال
قبرنا يا هذا في صدور العارفين من الرجال..
لقد جعلت اللغة التركية جزءاً منها لصيقاً باسم الرومي، حين منحته من تقاليد لغتها لقب «مولانا»، أي أستاذنا وسيدنا باللغة التركية، ومع أن الكلمة عربية، لكنها في هذا الاستخدام تركية. صار هذا اللقب خاصاً به، ولا يحضر اسم جلال الدين إلا مسبوقاً بـ «مولانا». لقد استحق جلال الدين هذا اللقب، لأنه أستاذ في هداية القلوب والعقول وتوجيهها لتبحث عن ذاتها وتكتشفها، ويمكنك أن تعرف عما تبحث، وعما تبحث في تركيا خصوصاً، ومن أنت، أو من ذاك الذي يمكن أن تكونه في تركيا، حين تقرأ عبارته «إن كنت تبحث عن ضيفك فأنت إنسان، وإن كنت تبحث عن لقمة خبز فأنت خبز، وإن كنت تعرف هذه الجملة يعني أنك تعرف العمل.. عن ماذا تبحث فأنت ذاك». كانت عبارة «مولانا» مصباحي في تركيا، عن ماذا كنت أبحث في تركيا؟ التجربة العلمانية لتركيا، هي ما كنت أبحث عنه، وهي الأكثر انتظاراً في أفقي المشحون بتاريخ تركيا الطويل، وجدت نفسي أبحث عن العلمانية الأتاتوركية، ومع أني أعرف أني علماني، لكني لست علمانياً أتاتوركياً، وللدقة أنا كنت أبحث عن مآلات العلمنة الأتاتوركية، فأنا علماني يحسن الإصغاء إلى هذه المآلات.
دكتاتورية إصلاحية
منذ المرحلة الثانوية، بدت العلمانية الأتاتوركية، لأفقي الإسلامي، تغريباً، يحاول النيل من الإسلام، ولاحقاً بدت العلمانية الأتاتوركية – كما تلقيتها من محمد أركون – لأفقي العلماني، دكتاتورية تمارس استبداداً، باسم الحداثة. لم تكن تمثل العلمانية القائمة على احترام تعددية الحقيقة والعرق والدين والثقافة. وبسبب غياب هذه التعددية أصبحت هذه العلمانية شكلاً من السلطة لم تعرف حتى التعددية الحزبية إلا بعد مضي 23 عاماً من حكم الحزب الواحد الذي تمكن من التغلغل في الدولة والاستفراد بالنطق باسمها وباسم مصلحتها وسياستها العليا وأمنها الأعلى، وهذا جعل العلمانية الأتاتوركية دكتاتورية إصلاحية(i)، يصعب أن يُطلق اسم «الديموقراطية» عليها، كما يقول أستاذ التاريخ واللغة التركية في الجامعة الألمانية كلاوس كرايزر. غير أن هذه الدكتاتورية الإصلاحية، هي أساس جمهورية تركيا، الذاهبة اليوم بعيداً في سباق أن تكون دولة أوربية، مكتملة التجربة.
الأتاتوركية ليست مجرد صفة تاريخية للعلمانية التركية، أي مجرد صفة تشير إلى لحظة تاريخية تذكر باسم شخص، بل هي تشير إلى حدث تأسيسي يشبه الحوادث التأسيسية للديانات التي تظل مرتبطة بأسماء أنبيائها، ولا تغادرهم، فكما نقول الديانة المحمدية، نقول العلمانية الأتاتوركية، وكذلك نقول الدولة الكمالية، بالمعنى نفسه الذي يشير إلى نمط الدولة التي أسسها كمال أتاتورك «الكمالية أي عبادة الدولة الموضوعة فوق المجتمع والمكلفة بصنع الأمة»(ii).
لقد استندت الكمالية في تحقيق فوقيتها إلى الجيش الذي مازال إلى حد كبير، يختزل الحداثة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في القومية، من دون أن يتمكن من أن يستوعب أن «القومية مرحلة معينة بتاريخ الشعوب»(iii)، وأنها قابلة للتحديث باستمرار. ويعتبر «مصطفى كمال باشا» المولود في العام 1881 في المدينة المقدونية تسالونيكي، التي كانت حتَّى العام 1912 عاصمةً لإحدى الولايات العثمانية، مؤسس جمهورية تركيا الحديثة. أمَّا لقبه «أتاتورك» فقد أُطلق عليه بأمر منه مع نهاية مسيرة حياته في العام 1934 من قبل مجلس الشعب التركي (البرلمان). إلاّ أنَّ العالم يعرفه باسم «أتاتورك» (أبو الأتراك) – هذا الاسم يختلف عن اسمه الأوَّل «مصطفى» ويختلف عن الاسم الذي أطلقه معلِّمه عليه «كمال». كذلك لم ينس الناس في تركيا اسميه الفخريين «غازي» و«خلاصكار» (أي المنقذ والمخلِّص).
قتل أتاتورك
تركيا بحاجة إلى قتل الأب، والقتل هنا، ليس حرفياً، فقتل الأب مفهوم، يحيل في الميدان النفسي والأدبي إلى التخلص من سلطة الشيء الذي يسبق ويمارس عليك حضوراً طاغيا يحول دون تخطيك أو تجاوزك له، تركيا، تبدو اليوم، في مخاضاتها العسيرة، تقاوم قتل أبيها الحديث، وهناك من يقف من دون ذلك، وهناك من يهدد بالثأر إن حدث ذلك، وهناك من يطلق صيحات التحذير التي تقرأ في كل حركة تهديداً بهذا القتل. وليس هناك أكثر قتلاً لأب الأتراك أو تهديداً بقتله أو الخطوة على طريق قتله، من الحجاب ووصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وحركات الأكراد الانفصالية التي أتاح لها غزو العراق إمكانات انفصال تراها الدولة ممكنة أكثر من أي وقت مضى.
يأتي الخوف من هذا القتل من جهات عدة: من جهة الأقليات العرقية التي لم تتسع لها علمانيته القومية، ومن الاتجاهات الإسلامية التي لم تتعدد بها علمانيته، ومن الاتجاهات الليبرالية التي لم تتمقرط وفقها علمانيته، ومن الاتجاهات اليسارية الأممية التي لم تستوعب علمانيته إنسانها.
كانت تركيا تمثل أبوة العالم الإسلامي، وهي بهذه الأبوة الإسلامية استوعبت في عاصمتها أعراقاً مختلفة، وإذا كانت علمانية أتاتورك، قد تمكنت من قتل هذه الأبوة الرمزية متعددة الأعراق والثقافات بأبوة خالصة التتريك، أي بأن يكون أبو تركيا أباً للأتراك وحدهم، فإنه لم يتمكن من قتل هذه الأعراق فعلياً رغم تاريخ الاضطهاد، ولم يتمكن من قتلهم رمزياً ليكونوا أتراكاً بالعرق والثقافة، بدل أن يكونوا أتراكاً بالمواطنية.
الخط الأحمر
حين سألت مرافقنا ومترجمنا الدائم أسعد جوناي: ما أبرز القضايا الساخنة في تركيا؟ قال تغلغل التدين في جسد الدولة والمجتمع عبر واجهته الأبرز «حزب العدالة والتنمية»، والهويات القومية غير المستوعبة في الدولة، وفي مقدمتها القومية الكردية.
أسعد جوناي، في العقد الخامس من عمره، عربي تركي، درس الطب في سوريا حتى السنة الرابعة، وعمل في إذاعة دمشق أثناء دراسته الجامعية، انخرط في اليسار الماركسي منذ سنواته الجامعية، يمتاز بشخصية مبدئية وفية لتكوينها الأيديولوجي، فهو يساري في IMG_3779كل شيء، يترحم على الاتحاد السوفيتي، ويلعن بنبرة صوتية (شيعية علوية) مفككي الاتحاد السوفيتي، يتحدث عن علويته التي غادرها منذ صباه، بروح علمانية، لكنه لا ينسى أن يشيد بانحياز (الطائفة العلوية) للحق والعدالة التي كانت تجده في نموذج الإمام علي، وهو يتحدث عن الإنسان الأممي الخارج من أطره الدينية والقومية والمذهبية، ويتحدث عن العمال وانخراطه في نقابتهم، وعمله اليدوي اليومي الذي يفاخر به، بالمستوى الذي يفاخر به بقراءاته للأدبيات الماركسية الأساسية وإلمامه بحركات المعارضة والثورة في التاريخ الإسلامي، وهو لا يكف عن تكرار أن الإنسان مجرداً من أية إضافة هو مرجعيته في النظر إلى الأمور.
يقول «لدينا حرية في تركيا، لكن هناك خطاً أحمر، اسمه أتاتورك، لا يمكنك أن تتجاوز هذا الخط، لقد صار مقدساً، وعليك أن تلتفت يمنة ويسرة فقد يكون هناك مخبر، مهمته حراسة هذا الخط الأحمر من جرعة الحرية التي قد يفهمها الناس بشكل يفوق سقف هذا الخط. هناك خوف ليس على الدولة، بقدر ما هو خوف على تراث الأبوة الرمزية لمؤسس الدولة».
هوامش
i ) موقع قنطرة:

http://www.qantara.de/webcom/show_article.php/_c-340/_nr-39/_p-1/i.html

ii ) جورج طرابيشي، هرطقات عن العلمانية كإشكالية إسلامية ـ إسلامية، ص102
iii ) جورج طرابيشي، هرطقات عن العلمانية كإشكالية إسلامية ـ إسلامية، ص102

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=114529

تطهـــير المخيلــة

لم نكن في الثمانينات نعي أن منطق الثورة، قد جعل من مطهري الدعم الثقافي للثورة الإسلامية بما كان يقدمه للثورة من صيغة إسلامية يرون فيها نقاء خالصًا مستمدًّا من كتاب الله وسنة نبيه وتعاليم الأئمة دون تحريف أو تعديل أو تصحيف. وأن هذا المنطق نفسه وجد في مطهري الذي اغتيل في 1980 صيغة آمنة من اختراق قيم الثقافة الغربية التي كان يحمل روحها علي شريعتي في ثقافته الإسلامية. مطهري ثقافة خالصة وشريعتي ثقافة مشوبة، والثورات لا تعرف غير مشتقات (خ ل ص) والتي منها: التخلص والإخلاص والخلوص والخالص والخلاص والخلاصة. لقد تخلصت الثورة من شريعتي لأنه غير خالص الثقافة الإسلامية، ومن ثم فثقافته لا تصلح لأن تكون خلاصاً للشعب الذي عانى من التغريب، ولا يمكن تقديم حتى خلاصة أفكاره. لقد تعزز حضور الشهيد مطهري في ثقافتنا الدينية ووجداننا الثوري، طوال الثمانينيات، لذلك حين جاء كتابه ‘’الملحمة الحسينية’’ باللغة العربية في 1990 يحمل نقداً لبكائيات كربلاء ورواياتها المشهورة التي استقرت في الوجدان الشيعي، لم يواجه هذا النقد بأي اعتراض، على رغم عنف لغته وتعارضه مع مسلمات كربلائية مستقرة اجتماعياً، وذلك يعود للمكانة التي كان يمثلها مطهري. كنت قد قرأت الكتاب في عام صدوره، وتحمست له، وشكل موقفي الفكري والسلوكي مما أسميه ‘’المخيلة الكربلائية’’ كما هي مجسدة في كثير من المجالس التقليدية الحسينية الرجالية وكما هي مكرسة في كل المآتم النسائية. في العام 1997كتبت ورقة لملتقى ثقافي خاص عنوانها ‘’المتخيل والتاريخ: كربلاء نموذجا’’ رجعت فيها موقفي من كتاب مطهري، ووجدته على رغم السجال الفكري الذي أثاره، يعاني من مشكلتين، الأولى هي أنه لا يتوفر على معرفة نقدية حديثة بعلوم الإنسان التي تتفهم عمل المتخيل الاجتماعي وحضوره الثقافي والديني، والمشكلة الثانية أنه لا يتوفر كذلك على معرفة بـ(الفللوجيا) المختصة بمنهجية تحقيق وتدقيق النصوص ومقارعتها ببعضها البعض ودراستها على الطريقة التاريخية الحديثة.
لا شك أن مطهري، مثقف موسوعي كبير، ومصلح اجتماعي حاذق، ولديه تكوين فلسفي وحوزوي وعقائدي وكلامي، ولديه سعة أفق معاصرة، و هذا ما يجعل من الساحة الإيرانية الثقافية تتحدث اليوم عن حاجة الرجوع إلى مطهري، لكن هذا لا ينفي قصور منهجه في معالجة موضوع (الملحمة الحسينية). وربما يكون استخدامه لمصطلح (التحريف) مشحوناً بشحنة دينية وثورية ايديولوجية تفوق شحنته المعرفية، الأكثر دلالة على هذا القصور، وهذا ما جعله يعتبر التحريف، منكراً، والمنكر حكم فقهي وليس مفهوماً إجتماعياً، لذلك تأتي دعوته إلى النهي عن المنكر الذي يتمثل في ما يقال على المنابر من كذب وافتراء، ويقرر أن من يعلم ذلك فواجبه ألا يجلس في مثل هذه المجالس، لأنه عمل حرام والواجب يتطلب منه مقاومة هذا الكذب وفضحه.(الملحمة الحسينية،ص14). كان الحس الأيديولوجي يغلب الحس المعرفي في نقد مطهري، وهو حس مبرر بلحاظ السياق السياسي والاجتماعي للتاريخ الذي كان يتحرك فيه، إلا أننا اليوم في سياق آخر، يسمح لنا بنقد خطابه، وهو نقد مبني على إعادة الاعتبار للمخيلة الكربلائية، فالمخيلة هي ما يبقى بعد أن ننسى كل شيء، بما فيه كتاب مطهري وسياقه السياسي والثوري والأيديولوجي، في هذا لبروفايل نعيد الاعتبار لهذه المخيلة، مؤمنين بأنه إذا كانت الأيديولوجيا تزيّف الواقع، فالمخيلة تجعل الواقع ممكناً، والأيديولوجيا وهي تجعل الواقع مزيّفاً، همها إلغاء الأشياء، أما المخيلة فهمها ابتكار الأشياء. الأيديولوجيا تستبعد، وتضيّق وتفرض وتجعل الأشياء أحادية. والمخيلة تكثّر، وتتسع، وتقترح، وتُعدد. المخيلة تقدّس الأشياء لتبتكرها، والأيديولوجيا تقدّس الأشياء لتحتكرها. الأيديولوجيا هي ما يذهب مع الأشياء والمخيلة هي ما يبقى بعد ذهاب الأشياء. الأيديولوجيا تُطهّر (من التطهير وليس من مطهري) بمنطق الحق والباطل، والمخيلة تُحي بمنطق الممكن والمحتمل.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5816