أرشيف التصنيف: مقالات

طنين التوحيد مرض المملكة

رواية طنين للأمير السعودي سيف الإسلام بن سعود بن عبدالعزيز

على خلفية موجة الاعتقالات الأخيرة في السعودية، قال وزير الخارجية عادل الجبير “لقد فصلنا آلافا من الأئمة من المساجد بسبب التطرف، وقمنا بتحديث نظامنا التعليمي من أجل استبعاد إمكانية سوء تفسير النصوص”.

قالت سارة ليا ويتسن، مديرة قسم الشرق الأوسط في هيومن رايتس ووتش: “يبدو أن لهذه الاعتقالات دوافع سياسية… ستضيع الجهود التي يبذلها السعوديون لمعالجة التطرف هباءً إن بقيت الحكومة تسجن كل شخص بسبب وجهة نظره السياسية”.

لا يمكن أن تحارب التطرف بانتهاك حقوق الإنسان، فذلك تطرف آخر ودعوة لممارسة تطرف مقابل، أنا من المشككين في إمكانية ولادة مشروع إصلاح سياسي في السعودية، والحجة التي أستند إليها تتعلق بفهمي لميثاق تأسيس السعودية وحضوره اليوم في الدولة. يقول محمد بن عبدالوهاب لمحمد بن سعود في هذا الميثاق الشفاهي “من عمل بكلمة التوحيد ونصرها، ملك البلاد والعباد”، ويبشره بالملك فيه وفي ذريته “فأرجو أن تكون إماما يجتمع عليه المسلمون وذريتكم من بعدكم”.

إنه، ميثاق المُلك السعودي، كلمة التوحيد هي كلمة السر، لا يمكن أن ينسى الإمام كلمة السر، فيخسر كنزه الدنيوي (الُملك). لقد نجح محمد علي باشا في تدمير (الدرعية) لكنه فشل في تفكيك هذه الكلمة، لقد أخذ معه 250 من العائلة السعودية أسرى إلى القاهرة، وأخذ معه 150 من عائلة محمد بن عبد الوهاب (آل الشيخ)، أخذهم من رمال نجد إلى ماء النيل وحضارته، لكنه لم يتمكن من نزع مفاعيل التوحيد الوهابي.

أبناء رجل الدعوة درسوا في الأزهر وخالطوا مدارس فقهية وعقائدية متنوعة، لكنهم ظلوا يحملون صلافة توحيد الدرعية، واحد من أهمهم هو الحفيد الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، لازم دروس جده قبل المراهقة فقرأ عليه التوحيد إلا قليلاً، وكان ضمن الأسرى الذين أخذهم إبراهيم باشا للقاهرة، هرب بعد عشر سنوات من الأزهر إلى الدرعية، وهناك أكمل دور جده في  فوضع شرحاً لكتاب جده (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد).

في رواية (طنين) الصادرة في العام 2006 يسرد علينا الأخ الشقيق لآخر أمراء الدولة السعودية الأولى (خالد بن سعود) وقائع تدمير (الدرعية) التي عايشها وهو ابن 14 عاماً. إنه يسرد هذا التاريخ بوعي مفارق لزمن الحادثة، فقد شب هذا الأمير في القاهرة، وشرب من ماء النيل، وتعرف على مشروع النهضة الذي حمله محمد علي باشا، وانفتحت له كتب العالم، وحفظ أقوال التنويريين في مصر وتركيا والبلدان الأوروبية عن ظهر قلب “لعلها تنفع وأنا أخاطب أهالي نجد” كما يقول.

بعد أن كان محصوراً في نجد في الكتب المحدودة الأفق التي يقررها محمد بن عبدالوهاب لأبناء العائلة الحاكمة. صار هذا الأمير الشاب بعد 18عاماً،، معداً كما خطط له باشا مصر، ليتولى حكم الدولة السعودية الثانية، بكلمة سر أخرى، هي الحضارة الحديثة والنهضة. يعود هذا الشاب متوجاً بجنود الجيش المصري إلى الرياض، ليعيد بناء دولة الدرعية بكلمة مصرية بدل الكلمة الوهابية، فيفشل بعد ثلاث سنوات، ويخرج خائباً طريداً ليموت منفياً في مكة تحت حكم العثمانيين.

اعتبره التاريخ خائناً وعميلاً، فجاءت هذه رواية (طنين) لتعيد له الاعتبار، عبر تقنية الرسائل التي ابتكرها مؤلف الرواية الأمير سيف الإسلام بن سعود بن عبدالعزيز، نقرأ في رسائله التي كتبها لصديق طفولته في الرياض، شهادته على تاريخ تشكل الدولة، من منظور مغاير للرواية الرسمية للدولة كما كتبه ابن غنام وابن بشر، ووجه المغايرة يكمن بالذات في نظرته النقدية لمفهوم التوحيد الذي جعل جعل الدعوة الوهابية تقود الدولة إلى التصرف بتطرف على قاعدة إن أبناء الدرعية هم “مصلحو الكون، خلفاء الله على الأرض وأمناؤه”.

يطرح الأمير في رسائله مجموعة من الأسئلة العميقة: لكن ماذا سيحدث بعد ذلك؟ ماذا سيحدث إن توسع المُلك الديني إلى حد اصطدامه بالمُلك الدنيوي للأقوياء الآخرين؟ ماذا لو أن أحد الأطراف أخلّ ضمناً أو علانية ببنود الميثاق والعهد؟ وماذا لو تبين لأحد أطراف العهد أو كليهما أن آخرين يَدّعون أنهم يعملون بكلمة التوحيد، وإنهم يقومون بنصرتها، وأن الشيخ والأمير أو من يأتي من أعقابهما ليسوا مخولين بالانفراد بمهام فرز من هو مسلم حقاً ومن هو كافر؟ ماذا لو أعلنت طائفة مستجدة الحرب على أطراف الميثاق، بحجة خروجهم من مقتضى الإسلام الأعم أو الإيمان الأخص؟

إنها أسئلة راهنة، ويطرحها كاتب الرواية بحذر موارب على الدولة السعودية الحالية. تزداد هذه الأسئلة إلحاحاً مع تقدم الزمن، يجيب عليها الزمان بتأكيد أهميتها وثقلها وبيان حجم حرجها، لقد توسّع المجال الديني الذي يحمل رسالة التوحيد الوهابي الغليظة، احتل مناطق من العالم الإسلامي على تنوعه، وصار يزاحم عقائد الآخرين ويُكفّرها، ووصل إلى الغرب وصار يصنع خلايا متفجرة، باختصار أصبح عبئاً على العالم، ولا قدرة لأحد على مواجهة هذه الأسئلة بصراحة نقدية.

مع غياب الجرأة على مواجهة هذه الأسئلة، ظهرت داعش والنصرة، وقبلها جماعة التوحيد والجهاد (العراق)، جماعة التوحيد (ألمانيا)، جماعة التوحيد والجهاد (مصر)، التوحيد والهجرة (مصر)، التوحيد والهجرة (العراق)، حركة التوحيد والجهاد (غرب أفريقيا)، جماعة التوحيد والجهاد (بيت المقدس)، جماعة التوحيد والجهاد (المغرب الأقصى). صارت تتنازع هذه الجماعات تمثيل التوحيد الوهابي وامتلاكه. صاروا يزايدون على بعضهم في تطبيق شروطه من تكفير للآخرين وضيق بالمختلفين واعتبارهم مشركين ودعوة إلى التبري منهم بالتخلص والقتل.

مازال (طنين) التوحيد يُحرك البنية العميقة للمملكة، إنه مرضها المزمن، كما كان طنين الأذن مرض الأمير خالد بن سعود المزمن. كان رجال مخابرات الامبراطورية العثمانية يسجلون عليه يومياته الأخيرة، ويرسلون تقاريرهم اليومية، وبالتأكيد هناك رجال ورثوا مسؤولية القيام بهذه المهمة بعد أن صار مرض دولة لا مرض رجل في الدولة.


*مقال معد لصحيفة الاتحاد اللبنانية قبل إغلاقها

رباب النجار في رواية "الحرون": بيوت المنامة أمهاتكم

“كنت أتمرد كثيراً وأعترض لأنتقم من العالم”

تقنياً، رواية “الحرون” للكاتبة البحرينيَّة رباب النجار، بسيطة ومباشرة. تظلّ تحدّث نفسك وأنت تقرأها، يمكنني أن أكتب مثلها بسهولة، لكنَّك لن تفعلها، ستظلّ معلقاً فيها منذ أول سطر حتى آخر صفحة، ستشعر بأنك تقرأ فيها شيئاً منك، شيئاً افتقدته وتريد أن تتَّصل به.

هي حكاية جليلة الحرون؛ الفتاة التي عاشت في النصف الثاني من القرن العشرين، طفلة في الخمسينيات، وصبية في الستينيات، وشابة في السبعينيات، وامرأة حرون بعد الزواج في الثمانينيات من القرن الماضي.

لحظة لقاء خاطفة في حيّ المخارقة بين الأم والبنت جليلة، تُعرض الأم كميلة عن ابنتها، تُطيّر نظراتها في السماء، لا تريد أن تنظر في وجه ابنتها. البنت تخز فيها، تريد أن تعرف سرّ هذا الإعراض والغياب عنها. نظلّ نلاحق هذا السر، ولا يتكشف لنا إلا جزء منه في نهاية الرواية، ولا تغيّر هذه المعرفة شيئاً في رأس الحرون.

ليس السرّ هنا بمعنى اللغز الذي يجعل منها رواية بوليسية، بل هو سرّ يتعلق بحكاية متعدّدة الأطراف، حكاية زواج ينتهي يوم صبحية العروس، ويخلّف حملاً يفرض فيه الجد على الأم عدم الزواج أو تسليم البنت. تسلّم الأم البنت لحظة ولادتها من دون أن تنظر في وجهها خشية أن تتعلّق بها. لا نعرف طوال الرواية سبب وقوع كلّ ذلك على وجه التفصيل. هناك إشارات خاطفة إلى وجود الأب في مكان ما في حالة غير طبيعية، لكن لا تكشف الرواية ولا تعرف جليلة ماذا حلّ بالأب وجعلها تقع ضحيةً لهذا الفقد الشديد الوقع على نفسها ومصيرها.

تظلّ جليلة طوال الرواية شديدة الحساسيّة والملاحظة، لكلّ حركة فيها أثر أم. في المدرسة تنظر إلى تسريحات شعر كل بنت وتقارنه بتسريحة شعرها التي لا أم لها، تحدثها زميلاتها كيف كنَّ يلجأن إلى أمهاتهن حين تُربكهن العادة الشهرية أول مرة في حياتهن، فيشتدّ عليها أثر الفقد، وتجد نفسها من غير أمومة تفضي لها باكتمال أنوثتها.

لا تجد جليلة غير غرفتها ومرآتها في الطابق الثاني من البيت العود. تنعزل هناك هروباً من العالم ونظراته القاتلة، حتى زوار جدتها من النساء الفضوليات تتجنّب الاختلاط بهن، تشعر بأن أسئلتهنّ تعمّق من مأساة انفصالها عن والديها، وتعليقاتهنّ تترك جرحاً على جرحها. تتذكَّر هذه التعليقات بألم كبير، تسمع إحداهن تقول إنها نحس على والديها، وأخرى تنصح جدتها بأن تبحث عن شامة شؤم في جسدها لتقوم بكيِّها، فتسبّب لها رعباً يدعوها لتتفحص جسدها في مرآتها خوفاً من وجود هذه الشامة التي ربما تتسبّب في حرقها، أخرى تأمر جدتها بمراقبتها أثناء النوم، لتتأكّد أنها لا تحرص بفكها وأسنانها وتصدر صوتاً أثناء النوم، فإن ذلك يجلب النحس.

هناك في غرفتها تتحدَّث مع مرآتها وشخصيات الروايات العالمية التي كانت تشتريها من مكتبات المنامة (مكتبة عبيد، مكتبة قصر المعرفة). تُركب واقعها من خلال هذه الشخصيات وما تمر به من أحداث. صارت تملأ الفراغ الوجودي الذي تركته أمها وخلّفه أبوها بالخيال الذي تستمده من هذه الشخصيات: كوازيمودر في رواية أحدب نوتردام، وكوزيت في رواية البؤساء وغيرها.

صارت جليلة تألف أوراق الكتب وتستوحش الناس، تعرف كتبها من روائح الورق، فلكلّ كتاب رائحة تميّزه. صار عالمها مكوناً من أربعة جدران، وأربع شخصيات؛ جدتها وأخيها سامي وصديقة طفولتها أمينة وجارتهم الضريرة فاطمة. ضمن هذا العالم الرباعي، يمكنها أن تجد شيئاً من ذاتها الضائعة منها. هذا لا يعني أنها كانت في عزلة عن العالم الخارجي، فقد كانت تخرج في (فريق المخارقة) وشارع المتنبي وشارع الشيخ عبدالله وباب البحرين، لكنها ما كانت تختلط بالناس، تظلّ تراقبهم وتحدّث نفسها لتعود إلى عالمها الرباعي.

تستفيض جليلة في وصف معالم فريق المخارقة وثقافته، وكأنَّها تريد أن تترك لنا إرثاً كي لا نُصاب بما أصيبت به من فقد للأمومة، تريد أن تقول لنا إنَّ في هذه الذاكرة أمومتكم الوجودية، لا تفقدوها، كي لا تتشوه أرواحكم كما تشوهت روحي. لا تُطيّروا نظراتكم في الهواء مداراة عنها، ستزهق أرواحكم إذا فقدتم هذه الأمومة، كما فقدتها أنا فزهقت روحي.

تقدم جليلة مادة اثنوغرافية حية ومفعمة بالحيوية، من خلال سرد سيرتها الذاتية في المنامة في فريق المخارقة حيث البيت العود، تحت شجرة البنسيانة. تقدم هذه المادة لتملأ الفراغ الوجودي في ذاكرتنا وأرواحنا التي تعاين بحسرة اختفاء مظاهر حية وحميمة من ثقافتنا وعاداتنا.

مليئة الرواية بأرشيف اثنوغرافي ثري وحي، قدمت من خلاله الرواية وصفاً لثقافة المنامة، مطبخ بيوتها بأوانيه وبهاراته وديكوره وأطباقه الشعبية: الكِشْري، والعصيدة، والمجبوس، وفتيتة التمر، شارع المتنبي وشخصيات الحي، ودكاكين الحي، ومشاكل العوائل الخاصة التي كانت تخرج إلى الحي.

يبدأ إعداد الشاي الظهيرة بعد أن تنفض السفرة قرب البنسيانة كي تلتقط العصافير بقايا الطعام، وما هو أكبر من البقايا يذهب إلى بقر الجار مسعود. في هذه الأثناء، يكون جمر الشاي قد نضج بعد أن تم إشعاله قبل الغداء، تضع الجدّة الإبريق المعدني على النار، تمسح خرطومه من الداخل بالزبدة وعينها على الماء، تغسل أوراق الشاي، وقبل أن يبدأ الغليان تسكبه على ورق الشاي مباشرة، وتتركه على الجمر، بعد دقائق تتشممه بنفس عميق وهي مغمضة العينين، وبخبرة الذوق تقرر إن كان (اتسكر) أو ما زال يحتاج إلى مزيد من الطبخ.

بهذا النَفَس الَّذي تُعدّ به جدتها الشاي، تصف رباب النجار عبر جليلة مظاهر الحياة وثقافتها في ذلك البيت والحي في النصف الثاني من القرن العشرين. لقد تركت جليلة لنا مادة ثرية نعالج بها أرواحنا وذاكرتها من آلام الفقد وشدائده؛ ذاك الذي عانته وكانت شاهدة على آخر فصوله التي انتهت ببيع البيت العود.

الميادين

غربة "آريا مهر نامة"

”إن الوطن هو مكان الولادة، لكنها الآن تقبلت أن يكون مكان الوفاة هو الوطن الجديد“.

منذ أيار مايو الماضي وأنا أترقب اللحظة المناسبة للدخول في أجواء رواية الدكتور عقيل الموسوي (آريا مهر نامه). وصلتني وأنا أضع اللمسات الأخيرة على كتابي الجديد (من هو البحريني؟). وضع لي عقيل فخاً في إهدائه: إلى الأخ العزيز علي الديري، لنا في هذه الرواية كلام عن الغربة.. عساه يكون سلوى لك في حياتك الجديدة“.

وضعني الإهداء في حالة ترقب، ما الذي يمكن أن تقوله رواية معنية بتاريخ إيران السياسي والثقافي والحضاري، عن الغربة؟ رحت أربط الإهداء بسؤال كتابي الذي هو في معنى من معانيه: لماذا يغدو المواطن غريباً؟ إنه سؤال في السياسة والفلسفة والأدب.

أزحت الرواية جانباً، فلدي زيارة صيفية لمدينة مشهد، وهناك سيكون للرواية طعم خاص، في هذه المدينة لدي فائض غربات ثلاث، ولعل ما في الرواية من كلام عن الغربة، يفتح لي ثغرة أعالج منها كثافة الغربات.

تفتتح الرواية فصلها الأول بعنوان (تأبين في الغربة). يا للهول! شعرت وكأن الرواية تعبث بي، فأنا في جوار قبر والدي الذي أقمنا تأبينه الأول في الغربة، وأنا أترقب وصول كتابي (بلا هوية.. إسقاط الجنسية كما شرحتها لأماسيل)، وفي مقدمته أتحدث عن قبري ودفني في الغربة، والأكثر من ذلك إني أحمل في شنطتي قنينة تراب طلبت إحضارها من أرض  قريتي (الدير) كي يخلط بتراب قبري، كي تخف غربة تراب القبر. فوق كل ذلك، فكاتب الرواية شخصية بحرينية شهد أحداث “الربيع العربي”، واختار أن يعيش في المهجر لفترة من الزمان، ومن هناك هو يكتب الرواية.

دفعتني هذه التطابقات لمتابعة الرواية متابعة جدية، رحت أضع علامات بقلم الفلاش، على كل جملة ترد فيها كلمة (غربة). صارت القائمة طويلة، ووجدت فيها معالجة لحالتي.

ينشغل الكاتب في الفصل الأول، بملاحقة خبر انتحار علي محمد رضا ابن (الشاه) محمد رضا بهلوي. لقد انتحر في غربته الوجودية والجغرافية. تواجه والدته الشاهبانو فرح بهلوي غربة مضاعفة، فأحفاد العائلة البهلوية يعيشون غربة ثقافية، ولا يعرفون طقوس حفل التأبين على الطريقة الإيرانية. لقد سدّت هذه الفجوة الثقافية، بمشهد رمزي يُعطي دلالة على أصالتها: صفت أعضاء العائلة البهلوية، شيوخاً وشباباً وأطفالاً، في حداد ملابس سوداء أنيقة، ونثروا بوقار، واحداً تلو الآخر، تراباً جُلب من إيران على جثمان الراحل.

إنه، مشهد آسر، الغريب الذي لا تستقر روحه إلا حين تمتزج طينته بطينة تراب بلاده. شخصياً، تحسست برودة هذا التراب، ورحت أتخيل بالتذاذ تراب قبري يغدو تربةً بتراب الدير“ المقدسة. شعرت بأني بالغت في ما ذهبت إليه، لكن الكاتب الغريب الذي يعيش في منفى ما بعد أحداث الربيع العربي“، كان مصراً أن يُبقيني في المشهد، وكأنه كان يخاطبني: “إنه لمن الطبيعي أن تتعلق أرواحنا الرقيقة ببقعة من العالم محببة لنا، نولد فيها، ونتشكل منها، ونسمّيها أرض الآباء، أو الوطن… والغربة بسبب النفي أشد على النفس، لأنها تشقّ الأرواح عن الوطن وتبتر الذوات عن أرض الآباء”.

بدت لي هذه المخاطبة إشارة اطمئنان، وعلاجاً يخفف من آلام هذا البتر، إلا أنَّ ختامها كان أشبه شيء بالكي، فآخر الدواء الكي: “ولا يبدو أنَّ لغربة المنفى أي علاج، ربما، إلا الانشغال بحلم الرجوع إلى الوطن”.

هل مقدر على كل منفي أن يشغل حياته بحلم هذا الرجوع؟ إنه أشبه بمرض منه بعلاج، والدليل على ذلك، كما تقدمه الرواية، هو انتحار ليلى بهلوي قبل أخيها بعشر سنوات، وهي أصغر أبناء الشاه الأربعة من فرح بهلوي.

بين أن تموت منتحراً أو تعيش مريضاً بحلم الرجوع، هكذا يبدو حال الغريب المنفي، في رواية (آريا مهر نامه). إنه ليس أي رجوع بل حلم رجوع المنتصرين، بيقين الطبيب من تشخيص مريضه، يقرر الكاتب إنه “في المنفى تسيطر على كل منفي مثلي قصة متخيّلة لرجوعه إلى الوطن رجوع المنتصرين”.

تطلّ الرواية على التاريخ الإيراني من خلال شرفة عائلة بهلوي، من زمنهم الحالي حيث الغربة والمنفى وحلم رجوع المنتصرين. يتوغل كاتب الرواية، الذي يعيش مثلهم في منفاه السياسي، في تفاصيل تاريخ الدولة الأخمينية والدولة الساسانية والفتح الإسلامي والدويلات الحاكمة، وصولاً إلى الدولة الصفوية، فالقاجارية، فالبهلولية، إنه تاريخ طويل ومعقد.

في عام 1941 تولى السلطة محمد رضا بهلوي عن أبيه الذي نفاه الإنجليز إلى جنوب أفريقيا ليموت هناك غريباً، فيدفن في مصر قبل أن ينقل جثمانه إلى إيران.

ورث الشاه من أبيه وصية في شكل درع بهلوي مصمم في عام 1932 على الشكل التالي: أسدان يقفان على الشريط الملكي الأزرق الملكي مكتوبة عليه عبارة من ملحمة الشاهنامه للفردوسي بالعدل يأمرني وبه سيحاسبني“، يحمل الأسدان سيفين مشهرين يحميان التاج البهلوي، ويحوي الدرع صورة جبل دماوند في طهران ومن خلفه الشمس المشعة، كذلك يحوي الفراوهر الشعار الزرادشتي ووردة النيلوفر والسيمروغ وسيف (ذو الفقار) مع زهرة لاله.

يعتبر الشاه هذه الوصية خطة عمل لحكم العائلة البهلوية، ووصية عامة للشعب الإيراني. وجد الشاه نفسه بحاجة إلى تفكيك إشارات الدرع ورموزه، لفهمها والعمل بها، فاستعان بالبروفسور فرشاد عليخاني، مدير متحف إيران الوطني، ورئيس قسم الدراسات التاريخية في جامعة طهران سابقاً، ليتولى شرح إشارات الدرع بالتفصيل الذي يكشف أسرار الهوية التاريخية لإيران المودعة في هذا الدرع.

يتولى البروفيسور ترتيب رحلات ميدانية إلى مواقع أثرية، ليشرح للشاه بتفصيل تاريخي أسرار الدرع. يستغرق ذلك التفصيل التاريخي أكثر من نصف الرواية، يأخذنا فيها البرفيسور في رحلة ممتعة وسلسة في التاريخ الإيراني.

يتحول تاريخ الإخمينيين والساسانيين ونور الآريين ونار الزرادشتيين من الغربة إلى الألفة. ينجح البروفيسور في إزالة ركام الظلام عن هذه الحضارات وديانتها، ليجعلها ضمن خطة عمل الشاه لبناء الهوية القومية الإيرانية التي جبّت بإسلامها ما قبلها.

نحتاج إلى وقفة نقدية لتقييم خطاب الرواية في تحويل هذا التاريخ من الغربة إلى الألفة، ونكتفي هنا بإثارة هذه الأسئلة: هل حوّلت المادة التاريخية الرواية إلى خطاب تاريخي؟ هل أثقلت معلومات الراوي البروفيسور الذي سيطر على أكثر من نصف السرد، الرواية لتغدو رواية تعليمية؟ هل كنا أمام بروفيسور يلقننا عِبَر التاريخ ووقائعه أم كنا مع بروفيسور يروي لنا ما يفتحنا على جدل التاريخ ومكره وصراعاته؟ أو لنقل هل بقي (فرشاد عليخاني) أستاذ تاريخ أم غدا شخصية روائية مركبة الأبعاد؟

هذه الأسئلة تحتاج إلى تحليل معمق لخطاب الرواية، ربما أترك ذلك لمقالة أخرى.

الميادين

رسالة إلى أبي…

 

(توفي والدي في 2009 في مدينة مشهد، ودفن في حرم الإمام الرضا (ع) في مقبرة بهشت ثامن الأئمة)

هذه المرة كان الطريق إليك طويلًا وشاقًّا من أقصى الأرض، إنها أطول مسافة غياب زمانًا ومكانًا بين آخر زيارة في أبريل 2014 وهذه الزيارة في أغسطس 2017.

أعود إليك هذه المرة وكأني أؤول إليك، فقد فقدت جنسيتي التي منحتني إياها في العام الذي استقل فيه وطننا، وكنت واحدًا من الذين أسهموا في ورشة بنائه العمرانية.

لقد أسقطوا جنسيتي وكأنهم أسقطوا أصلي الذي يؤول إليك. طوال السنوات الثلاث ونصف وأنا أحن إليك حنين الشيء إلى أصله.

أقف على قبرك بلا هوية رسمية، أحمل معي كتابي “بلا هوية.. إسقاط الجنسية كما شرحتها لأماسيل” أضعه على قبرك وأعرف أنه لا يكفي لأشرح لك كيف آلت بي الأمور لأغدو خارج الوطن، خارج ذلك المكان الذي أعطاني هويته بك، ملعونًا من نظامه السياسي.

أعرف أن أسئلتك أكثر من أسئلة حفيدتك أماسيل، ما زالتْ تتباهى بأغنيتك لها “أماسيل تسقي الورد”. إنها تفاخر بماء اسمها مني، وماء هويتها منك.

أقف على قبرك بكتابها، وأستمد من بحرانيتك العلامة التي لا تزول، أضعها مجاورة لهوية كتابي، لتقول بهذه المجاورة ما لا تستطيع حروفي متجاورة أن تقوله.

أدرك هذه اللحظة وأنا على أعتاب قبرك، القدر الإلهي الذي اختار لك هذه البقعة المقدسة، كنت أظنها مجرد كرامة لحبك لهذا المكان وهذا الإمام، حسبتها شاهدًا على سيرتك الروحية المشهدية فقط، هي بيقين الحب الذي فيك كذلك، لكنها بما صرت أنا إليه، أَجِد فيها سرًّا آخر يتعلق هذه المرة بي وبغربتي، وكأنك ادخرت لي بقعة وطن آوي إليها من تعب الهجرة. هنا تتقاطع ثلاث غربات، غربة الإمام المقدس وغربتك وغربتي، كل غربة تحن على الأخرى لتأتلف معها، فتشكل الغربات معًا وطنًا أرجع إليه.

أقف هذه المرة على قبرك لائذًا لا زائرًا، لاجئًا لا عابرًا. هكذا كعادتك تسلب منا المبادرات، وتمنحنا البركات. منحتنا كل شيء، ما زلت ضنينًا أن نمنحك شيئًا، حتى زيارتي لك، صارت لجوءًا يمنحني الأمن والأمان (وطن) بعد أن كنت أظنها برًّا ووفاءً مني إليك، هكذا تظل أبوتك فاعلة دومًا فوق التراب وتحت التراب، تُعطي وتمنح وتفيض.

تحت بركات تربتك ألتقي اليوم بالعائلة، لقاء يشبه العودة للوطن، معنا ستة عشر طفلًا من أحفادك، جمعهم تراب قبرك وهجرة ابنك، قرأنا لك فاتحة الكتاب، أردت أن تتفتح  ذاكرتهم هنا على ما صرنا إليه، قلت لهم تذكروا أن هذا المكان منذ هذه اللحظة سيغدو وطنًا يجمعني بكم.

إلى أبي 1

إلى أبي 2

ثُؤلول المثقف العربي في رواية ميس العثمان

  • سلوى، ما أكثر ما يُسعدك؟
  • القراءة. الهروب الطيب نحو ما أنتجه الآخرون وحكاياتهم وتاريخهم ومعاناتهم. أقرأ مذكرات “آن فرانك” اليوميات التي وثقت لتجربتها الأليمة خلال الاحتلال الألماني لهولندا.. إنها الحرب! الحرب ما تحيل الإنسان الطبيعي لفُاتت لا جامع له” رواية ثُؤلول، الروائية الكويتية، ميس العثمان.

هي الفتاة سلوى التي وجدت نفسها وسط حرب (الغزو الصدامي للكويت 1990) لا تفهمها، والغزو هو أحد أشكال الحرب التي تنعدم فيه موازين القوى، أحالتها تجربة الاغتصاب من قبل جندي عراقي إلى فتاة لا جامع لها، منذ فقدت براءة الطفولة، صارت سيرة فُتات لا فتاة، لم تتمكن أن تجتمع على ذاتها، ولا أن تجتمع على حب يلملم روحها، حتى ابنها (جابر) لم تستطع أن تضمه ضمة الابن، ولا أن تحمل صفة الأمومة به، فقد سجل باسم أبيها، وصار أخاها الصغير.

الثؤلول هو هذا الفُتات الذي ينبت فجأة على سطح ناعم بشكل بشع يُستعر منه، منذ ظهر هذا الثؤلول على سطح عائلتها الناعم، فقد كل شيء وضعه الطبيعي.

أصبح فتاتها قدرا قاسيا في سيرتها، ينتهي بها الأمر إلى أن تدخل رحلة علاج نفسي تمتد إلى زواج ابنها جابر من فتاة عراقية،

الحرب أفقدتها صديقتها (سحر) فقد فرت من الغزو ببكارتها إلى السعودية، وحافظت على شرف العائلة، لكنها فقدت طفولتها البريئة، فقد عادت بعد الغزو مجلببة بالسواد، تحمل آثار الغزو الوهابي لنمط تدينها وثقافتها، وينتهي بها الأمر أن تتزوج بعد المدرسة برجل يحمل هذا النمط من التدين الذي منعها من الدراسة الجامعية، وأفقدها مرحها وفصلها روحيا عن صديقتها. لم تستطع (سلوى) أن تسترجع صديقتها منذ تحولها الوهابي خلال 1990، وهذا ما ضاعف من غربتها، وجعلها تشعر أنها تعيش تجربة (فُتات) الحرب.

تفتت صداقتها وتفتت علاقتها الطبيعية مع مجتمعها الدائم السؤال والملاحظة والمراقبة، فيما تريد هي أن تلوذ بنفسها وصمتها من الفضيحة.

لا بد من الهرب، نحو الكتب وتجارب الآخرين وتاريخهم وحروبهم، تذهب (سلوى) لقراءة مذكرات “آن فرانك” الفتاة اليهودية ذات 13 عاما التي عاشت تجربة الاضطهاد النازي في الحرب العالمية الثانية، وتركت مذكراتها شاهداً على الفُتات الذي عاشته حتى انتهى بها الأمر إلى الموت قبل أن تتمكن من نشر مذكراتها.

تفقد أخاها سالم، فلم يعد قادراً على أن يحتمل التعايش مع (الثؤلول) فهو يذكره بضعفه وخذلانه وإذلاله الذي جعل العائلة كلها في صمت لحظة اغتصاب اخته، وتكون (الثؤلول) الذي يلاحقهم حتى مع أنفسهم، فيهاجر إلى أمريكا ويتزوج هناك من أمريكية، ويعيش بعيدا عن عائلته وأخته، وهذا ضاعف في نفس سلوى تجربة (فُتات) الحرب.

المفاهيم الكبرى تفتت وتهشمت في وعي (سلوي) الذي تربت عليه، مفاهيم العروبة والوطن والوحدة والدين، صارت تشك أكثر مما تؤمن، وتقلق أكثر مما تطمئن، وتتوجس أكثر مما تثق.صارت تعيش في مربع التاءات٬ تذوي، تضمر تنتهي تذوب تختفي. باسم هذه المفاهيم تم انتهاك وطنها وجسدها وطفولتها “تؤلمني الخدع الكبيرة التي قدموها لنا”ص126 فصرنا نرى اغتصاب الوطن من خلال اغتصاب هذه الفتاة، والفُتات الذي صارت له هذه الفتاة صار له هذا الوطن، ففقد إيمانه بعروبته وطمأنينته وقضاياه الكبرى. صارت (سلوى) تجد النور الذي تشعله هذه الكتب لا النور الذي تشعله الأفكار العامة عن الدين والقومية والعروبة.

ما فعلته (سلوى) هو ما فعله المثقف العربي في أفضل حالاته، وهو الهروب نحو ما أنتجه الآخرون وحكاياتهم وتاريخهم ومعاناتهم، ليس من أن أجل أن يمنع ما حدث ل(سلوى) بل من أجل أن يعيش ويدع الضحية تعيش ما عاشه الآخرون في تاريخهم وتجاربهم.

غير أن (سلوى) سردت (ثُؤلولها) بمنظور روائي عميق وجريء وتمكنت من خلاله ممارسة جرأه نقدية في نقد مجتمعها وعالمها، ونقد مفاهيمه الكبرى وأوهامه وصولا إلى الربيع العربي. لكنه منظور لا يضج بالتعارضات والاختلافات، تبدو الشخصيات المختلفة مع (سلوى) من غير منطق قوي ولا قدرة حجاجية وكأنها كائنات متخلفة ثقافيا وفكريا ومغلقة وتمارس الكذب والنفاق الاجتماعي، قبال وعي (سلوى) وانفتاحها وصدقها مع ذاتها، وهذا ربما يرجع إلى أن الرواية بحاجة إلى تعقيد تركيب حبكة الرواية، والتعقيد هنا لا يعني الغموض ولا الصعوبة، بل يعني إضافة مستويات وشخصيات وأحداث تتيح للحكاية أن تنتج خطاباً تعدديا.