أرشيف التصنيف: مقالات

في رثاء الحاج محمد علي المزعل..الحركة والجسارة والدليل

واحدة من الطرائف التي صارت تراثا عزيزا يُتداول في بيت المزعل، أن الحاج محمد علي المزعل ذات يوم وبينما كان يتحدث مع شخص في أحد مجالس البحرين، التحق بهم شخص ثالث صديق للشخص الأول لكن ليس بينه وبين الحاج محمد علي معرفة سابقة، فأراد الأول تعريف الحاج لصاحبه قائلا هذا الحاج محمد علي شقيق الحاجيّةّ الملايّة بنت مزعل، وقبل أن يرحب به الصديق الجديد، غضب الحاج وأخذته الذّكوريّة الشّرقيّة، وقال: صارخاً: هي أختي! تُعرّف بي! لا أُعرف بها.

في بحثي عن سيرة الحاجة سعدة بنت مزعل، افتتح الابن الأكبر لأخيها (علي المزعل) حديثه عن عمته بالجملة التالية “قائمة بذاتها”. وجدت في الشخصيتين تفردا حقيقيا وقيمومة ذاتية مستقلة في سيرة كل واحد منهما. رحت أُعرّف كلا منهما بالآخر، وأفهم سيرة الأخ والأخت بالإحالة على بعضهما، وفي داخلي أكتم ضحكة ساخرة، وأنا أتخيل الحاج محمد علي غاضبا لشأنيته، والحاجة سعدة تضحك وهي تتذكر طفولته وربما حملها إياه وهي تكبره بما لا يقل عن خمسة عشر عاما.

بعد أن انتهيت من سيرة الحاجية سعدة بنت مزعل، سألتني أم جعفر، صديقة بنت الحاج محمد علي المزعل، متى ستبدأ سيرة أبي؟ قلت لها ضاحكا: هو يُعرف بها، وسيُعرف بسيرتها، فلا داعي أن نكتبها مرتين.

رحل اليوم الحاج محمد علي، لكنه ترك فوق مجاميع مخطوطات أخته النادرة خط يده، وهو يسجل عليها وقفياتها:”هذا الكتاب أوقفته سعدة يوسف مزعل إلى مأتمها الذي في بيتها  وهو مأتم الحسين”. ستُعرف مجاميع هذه المخطوطات به كما سيعرف هو بها. بل أنا اليوم أجد أقرب طريق للتعريف به من جهتي، بأنه الأخ الأصغر للحاجة سعدة بنت مزعل، كما أني كنت أعرفها وأنا أكتب سيرتها بأنها أخت الحاج محمد علي المزعل.

التقيت بالحاج محمد علي في 2007 في مجلسه العامر، كنت أعد ملفا لملحق بروفايل جريدة الوقت، خرجت من الجلسة بصفحة كاملة نشرتها في الجريدة، صارت بعد ذلك معلقة في برواز جميل بالمجلس احتفاء بالمادة التي صارت نواة لسيرة تُعرّف لأول مرة بشكل مكتوب ومكثف بشخصية الحاج.

لفتتي شخصيته القوية وأريحيته التي تسمح له أن يبكي أحيانا من غير سبب سوى أنه تذكر لحظة من لحظات نعم الله عليه وسعة الرزق التي أعطاها له، أحببت فيه هذه الأريحية ولمستها بقوة وأنا أتجول معه على الرغم من كبر سنه في مارس 2014 في لبنان من شمالها لجنوبها برفقة النائب السابق محمد المزعل، ابن أخيه الأكبر الحاج يعقوب وزوج ابنته الذي تربى على يديه حتى فاضت الأبوة أكثر من العمومة فيه. كان يوقفنا لحظات وهو يتطلع إلى السماء ويخاطب الله بامتنان الشاكر، الحنو البذخ الذي كان يظهره ابن الأخ لعمه، حنو أبوة فائضة بالحب والامتنان، ولحظتها ما تمكنت أن أفهمها إلا حين عملت على سيرة الأخت الحاجية سعدة، وعرفت كيف أصر الحاج محمد علي على استرجاع أمانة أخيه بعد موته وأصر على إدخاله مدرسة سترة، وقال جملته التي تنم عن بعد نظره “إذا ظل في (الجزيرة) لن يكون إلاّ نخلاويا أو بحّاراً”.

 في لقائي الأول بالحاج محمد علي، كان يحدثني عن عمله في بابكو وكيف تعلم الحسابات وظل يتمرس فيها مدة 14 عاماً وحين خرج منها في 1964 لم يخرج من الحسابات، التحق بـ(ستاندرد تشارترد بنك)، قال لي تعلمت من تجربة الحسابات حكمتين، الأولى “كل حركة بركة” والثانية “فاز باللذات من كان جسورا”.

التحدي ليس أن تتعلم الحكمة، بل أن تحيلها سلوكاً وفعلا ومهارة تتصرف بها، وهذا ما فعله، حين حول مهنة (الدلال) إلى حركة دائمة يجوب فيها البحرين منقبا عن الأراضي ليشتري ويبيع فيها بجسارة استثنائية، حتى صار الجميع يحتكمون إليه في تحريك عجل السوق وتحديد لحظة: بع أو لا تبع.

جسارته في البيع والشراء امتداد لجسارته في تكوين رأيه وموقفه، وهذا لفتني في شخصيته، كنت أتساءل كيف لرجل قروي مثله شديد التدين ومحاط برجال الدين وشديد الاحترام والتعلق بهم، وزوج لابنة أكبر مرجعية دينية بالبحرين (شيخ إبراهيم المبارك) كيف له أن يصبح جسورا في التعامل معهم وتحدي مسلماتهم واختراق سكونهم، يحدوثنه عن الزهد فيحدثهم عن تجارة خديجة، يحذرونه من تعليم البنات، فيفتتح مدرسة، يحدثونه باسم الشرع ويقدمون له عمائمهم ليسكتوه، فيطالبهم بالدليل ويقول لهم لست بحاجة للعمامة بقدر حاجتي لدليل يُريني الطريق الصحيح.

عُرف أبناء الحاج يوسف المزعل بالحركة بصدق والجسارة بدين، بالحركة جالت الحاجية بنت مزعل مجالس البحرين من أقصاها لأقصاها، وبجسارة صوتها وطورها تركت بصمتها الخاصة في مآتم البحرين. 

بسيارته (المرسيدس) السبعينية التي ظلت ترافقه إلى عهد قريب، لا أحد في محيطه الستراوي يملك مثلها حينها، جال الحاج محمد علي  البحرين، السيارة منحته سرعة في الحركة وجسارة في شق طرق لم يطرقها أحد قبله.

لم يكن الهاتف قد انتشر بعد، فكانت نشرة أسعار السوق العقاري يذيعها بسيارته، مقابل فنجان قهوة و10 دنانير. حين طلب أحد التجار من (المزعل) أن يوقف السوق، كان يوقفه، لم يكن له منافس في الدلالة، حين احتج أحد الدلالين الكبار على تفضيل التاجر له، قال له: المزعل صادق وأنت كاذب. ظل المزعل يحكم تدينه في حركته في السوق، فكسب ثقة الكبار.

انفتحت حركة الأراضي، وصار (المزعل) يبيع بسمعته، ويكسب بسمعته، ويدلل بخبرته، صار يطلبه الكبار، ويمنحونه ثقة التقييم ويعترفون له بخبرة لحظة البيع والشراء. كانت تقديراته، يختصرها في (بع) أو (لا تبع)، ولم تخذله يوماً أمام الناس الذين كانوا يجدون فيه جهة تقدير الأرض والعقار.

كان الكبار يقرؤون المستقبل بتقديرات (المزعل) وخبرته في الحركة، لكن الصغار الفقراء لم يكونوا يقرؤون ولا يرون ولا يحلمون بمستقبل. مازال (المزعل) بحسه الديني الحريص على مصلحة من يتوسطه في الدلالة يتذكر بمرارة بالغة القسوة، كيف فرط هؤلاء بمستقبل أراضيهم وأبنائهم، كما فعل أحدهم بدولابه في سار، باعه، ولم يسمع اعتراضاته، ولم يصغ إلى تقدير (لا تبع). فباع، والمفارقة التي أبكت قلب الدلال الجسور الذي صار فيما بعد مقاولا كبيراً يبني الفلل الفخمة، أن مناقصة بناء الدولاب وقعت عليه، وكان أحد العمال قد جاءه يوماً يستحث ذاكرته، فلم يذكره، فقال له: أنا ابن ذاك الذي باع هذا الدولاب يوم قلت له (لا تبع)!!

رحم الله الحاج محمد علي المزعل، ورحم الله شقيقته الحاجة سعدة بنت يوسف، في حركة كل منهما جزء من تاريخنا الاجتماعي وأحداثه، وفي جسارتهما جزء من أسرار التغيير الاجتماعي وتحولاته، لذلك لا عجب أن نُعْرَف بهما معا. 

علي الديري، في رثاء رفيقي البوسطة: حكايات البوسطة المبعثرة

لوحة أحبك يا بوسطة
لوحة أحبك يا بوسطة

خصني رفيقي أحمد البوسطة قبل رحيله عبر إحدى الصديقات المؤتمنات على مسودة من مذكراته تحت عنوان  (شيء من حياتهم وحياتي… حكايات لأوراق مُبعثرة). أتمنى ألا يحدث شيء يعكر العمل على نشرها. سأقف في رثائي على هذا الرحيل المؤلم على فقرتين وضع البوسطة عناوينهما.

الوقفة الأولى القلب المترامي بجدارة

يقول البوسطة: كتب صاحبه  ذات يوم في صفحة (سوق الجنة، جريدة الوقت 2008) غزلاً حميمياً جميلاً بين محبين يختلفان ويتوحدان في فارق الشجن وعشق الحرية، لكنهما قريبان إلى حدٍّ التوحد من الرؤية المشتركة في البياض: “لكل إنسان جنته التي يستريح فيها إلى صوره وتجاربه التي تحكي سيرته وأفكاره. وللبوسطة جنته التي يضنى فيها، رحلته طويلة ومنعرجاتها كثيرة، ويكاد يكون وحيداً دوما في بياضه، تسّود الأشياء حوله، ويبقى مناضلا كي تبقى جنته بيضاء. لا أحد يجيد سخريته الساردة التي تحيل توقيفاته ومنافيه وضياعه في المدن والأوطان جنة ضحك لا تسكت. لا تتوقف حكاياته الحمراء في جنته البيضاء، تفيض دوماً بالسخرية والتجربة” علي الديري،مقدمة سوق الجنة، أحمد البوسطة.

كم أنا فخور يا رفيقي، أنك استعدت مقدمتي في الحديث عنك، سعيد أن أكون صاحبك الذي تتحدث عنه في مذكراتك بكلمات الصحبة والمحبة والعشق والتوحد والقرب.

 لم يمنعك فارق التجربة والجيل والخلفية الثقافية أن تُجسّر المسافة وتعبرها، أحب فيك هذا العبور المبدع، ويذكرني باحتفائك بكتابي (مجازات بها نرى) ذلك الكتاب الذي تحدثت أنا فيه عن المجاز والعبور عبر الاستعارات والحكايات في الخطاب السياسي، العبور من الفكرة إلى واقع الناس السياسي.

 أحب قلبك المترامي بجدارة يا صديقي، إنه قادر أن يمتد ويعبر ويجمع المحبة والمعرفة والثقافة في موقف واحد يعبر عن الإنسان الذي ظل فيك حتى آخر رمق.

لوحة أحبك يا بوسطة
لوحة أحبك يا بوسطة

الوقفة الثانية اسمي لا أحد

يقول البوسطة “صون المبدأ من عدمه يتلخص في مواجهة كلمتين عن الراحلين: أما أن تسمعي يا ابنتي كلمة “مسكين مات وكان طيباً”، أو “يستاهل الموت هذا العفن ابن العفنة!”، إذن، اخترت أن أصون مبادئي. قال هذا الكلام ودمعة كبيرة سقطت من عينيه، اعتقد لوهلة بأنها ستبلل الكون كله، لكنها بللت خده فقط”

ليت تسمع الآن يا رفيقي، ما نقوله عنك: مات عنيدا على الحق، مات شامخ الرأس، مات صائنا النفس، مات محبًا للحرية، مات واقفا بعز. لقد صنتنا أكثر مما صنت نفسك، حفظت شرف الكلمة، وشرف المثقف، وشرف الصحفي، وشرف القلم، وشرف البحريني. 

كلنا ممثلون فيك، كلنا نقول، مات حامل شرفنا وموقفنا وكلمتنا، أنت أمة يا رفيقي، و”أبناء العفنة” الذين دنسوا شرف كلمتنا عفطة عنز. دمعتك يا صديق بللت كوننا كله، رايات محبتك مبللة بدموع عشاقك ومحبيك على امتداد وسائل التواصل كلها.

أكتب الآن يا رفيقي صبيحة اليوم الثاني لرحيلك، أفتش في الصحف التي احتربت فيها من أجل شرف كلمتك وموقفك، ولا أرى صورة تذكرك ولا كلمة ترثيك ولا سطرا يؤبنك، كأنك (لا أحد)، ألا عميت عين لا تبكي فقدك يا رفيقي، وخابت صحافة لا تُقدس اسمك وموقفك وسيرتك.

 

لماذا تكتب سير الملايات ومعلمات القرآن؟

أتعثر أحيانًا في الإجابة على هذا السؤال، ربما بسبب شدة وضوح جوابه في قلبي وعقلي، أو كما يقال في التعبير التقليدي “توضيح الواضحات من المعضلات”.

هذه محاولة لصياغة إجابة أظنني لن أكون راضيًا كثيراً عنها، وربما لا تكون مقنعة للسائل الذي يريد إجابة تشبه الإجابة على سؤال: ما هي آثار الإصابة بفيروس كورونا؟ 

تشدني السمات الشخصية للملايات ومعلمات القرآن، لم أشتغل على سيرة إحداهن من دون أن أقع في حبها، حب شخصياتهن الحقيقية والمفهومية، الحقيقية كما عاشوها وتفاعلوا بها في مجتمعهم، والمفهومية كما عاشوا وتفاعلوا في مخيلتي. وجدتهم قويات قياديات مفعمات بالحب والعاطفة، لديهم فائض من الحماس لممارسة فنونهن في القراءة الحسينية وتعليم القرآن وتمكين (لوليدات) من إتقان القراءة واكتساب مهاراتها التمثيلية. 

أحببت كثيراً شغفهم بالكلمات، يقدسن الخط المرسوم باليد، كريمات في عطائهن لكنّهن ضنونات بمخطوطاتهم، يلاحقن النسّاخين لإنجاز مجاميعهم. أحببت مصطلح (مجموع) حين عرفت أن الملايات يطلقنه على كتبهم. المجموع مخطوط يجمع مجموعة أشعار أو مرويات أو سرديات حول حكاية أو شخصية أو حادثة.  

شدني شعار الملاية سعدة بنت مزعل (1915-1998) “كتبي حجاب صوني” تردده باستمرار، لا تقبل أن ينزع أحد كتاباً من كتبها، تعتبره كأنه ينزع حجابها أو يُفقدها أحد مصادر قوتها وتميزها، بهذا الشعار وضعت حداً صارماً لحرمة كتبها، ولتأكيد هذا الحد تكتب على الصفحة الأولى ديباجة تملكها “أوقفته سعدة بنت يوسف مزعل إلى المأتم الذي يخصها في بيتها”.

لقد أنارت الكلمات مجاميع الملايات وشخصياتهم ومآتمهم وتجمعاتهم النسائية قبل أن يصل نور التعليم الحديث، العتمة بددتها هذه الشخصيات قبل أن تبددها المدارس، لذلك نحن بحاجة لرواية هذه السير والاحتفاظ بما تركته لنا من مخطوطات وتاريخ شفاهي، إنها تحكي التاريخ الاجتماعي من منظور النساء.

أشرت إلى ذلك في مقدمة سيرة عمة والدي (تقية بنت حجي عبدالله بن عيسى 1919-2018) قلت: في القرية نساء قويات صنعن فرادة خاصة تستحق أن تروى، وأنا أستمع لشهادات الرجال الذين تتلمذوا على يد المعلمة تقية لاحظت الإعجاب والإكبار التي تركته هذه الشخصية النسائية في نفوسهم. يفخرون أنهم تعلموا عندها. لاحظت كيف يسرد الرجل تاريخ إعجابه بما صنعته المرأة في عقله وروحه. لم يكونوا يتحدثون عن سيرة حب نسائية بل تحدثوا عن سيرة تكوين ثقافية. شخصيات نساء الدير وغيرها من المناطق في قلب تاريخ القرية ولم يعشن على الهامش، ولابد أن ينصفهن السرد ويعطيهن حيزاً مميزاً في تاريخ القرية.

لفتتني معلمة القرآن الملاية أم السادة، إلى مقطع من الزيارة الجامعة “وآثاركم في الآثار” أذهلتني من طريقة تفاعلها مع هذا النص وتأويلها له وتسييله في كلامها. رحت أفهم كتابتي لسير الملايات من خلال هذا النص، وجدت أني أقتفي آثارهم في التاريخ والهوية والمجتمع وتقاليده الثقافية. الآثار عادة لا تكون واضحة المعالم، تحتاج إلى إنصات عميق، تحتاج إلى رهافة في الحس ورقة في المقاربة، كي تكتشف ما وراءها. وكي تقدم السيرة آثار هؤلاء الملايات نحتاج أن نبتعد عن الأحكام الحادة والقاسية، أذكر أحد الأصدقاء قال لي: هؤلاء كانوا في زمن الظلام والجهل والثقافة التي يمثلونها هي مجموعة من الخرافات. قلت له لو سمعك أحد علماء الانثروبولوجيا المهتمين بدراسة ثقافة الإنسان لانتحر أو غرس قلمه في عينك لتفتح بصيرتك على آثارهن فيك وفي جيلك وهويتك. 

ذكرني جوابه، بموقفي من ملايات مأتم جدتي، كنت أراهم بقايا التخلف ويجب إزالتهم وإلقاء مجاميعهن الخرافية في مزبلة الجهل، ما كنت قادرًا على الإنصات لآثارهم، ولم أملك رهافة الحس في تقدير علاقتهم بالأوراق والكلمات والكتب في زمن يُحرم على المرأة الذهاب للمدرسة وقبل ذلك في زمن لا توجد فيه مدرسة. لذلك أنا أكتب سير الملايات اليوم كنوع من الاعتذار لملايات مأتم جدتي: الحاجية مريوم، والحاجية صفوي، والحاجية شروف. وأفتخر بما تركنه من مخطوطات تحمل آثار جيلهم وآثار الأجيال التي سبقتهم.

أنا أكتب هذه السير، بحثًا عن آثار تُرى بالبصيرة لا بالبصر.

 

“مهاجر في زمن الجدري”: لماذا يهاجر البحراني؟

“توارث أهل الحلة [سماهيج] عن أجدادهم أن الله يفرش للمهاجر في البحر طريقًا يَبَساً”.

 

حين وصلتني رواية الصديق دكتور عمار الخزنة (مهاجر في زمن الجدري) كنت منهمكًا في قراءة رواية (الموريكسي) للروائي حسن أوريدي، تحكي الرواية قصة الموريسكيين. وهذا تعبير قدحي يشير إلى المسلمين من العرب والأمازيغ وغيرهم من الذين طردوا من الأندلس بعد سقوطها والفشل في جعلهم مسيحيين مؤمنين، تعرضوا لمحنة إنسانية أيام محاكم التفتيش، اضطروا فيها لإخفاء إسلامهم ولغتهم.

تعرض الرواية سيرة عائلة مسلمة مكوّنة من الأب (قاسم: دييغو) الذي يضطر لإخفاء إسلامه واسمه وإسلام زوجته (فاطمة) وإسلام أبنائه (أحمد: بيدرو وزهرة: إيناس). يُخفي الأب الفقيه هويته في شكل فلاح مسيحي بسيط، لكنه في الخفاء يحرص في غرفة صغيرة ملاصقة لحظيرة الحيوانات على تعليمهم اللغة العربية والإسلام، ويطلب منهم أن يتكتموا على العالم السري الذي يعيشونه في البيت، كي يحافظوا على الحياة التي هي أعظم ما وهبه الله لنا.

لقد أوقفت قراءة رواية (الموريسكي) وشرعت في رواية (المهاجر) أنهيتها خلال 24 ساعة، ما شعرت أني غادرت الحكاية، فالمشاعر التي تملكتني وأنا أتابع قصة عائلة قاسم هي نفسها المشاعر التي تملكتني وأنا أتابع قصة علي بن غانم وأبنائه عيسى ومحمد وخزنة ونرجس، عاشوا في قرية سماهيج في القرن التاسع عشر، حيث البساتين والنخيل وعيون الماء والبحر وحظور صيد السمك المعروفة وسفن الغوص وعالم اللؤلؤ والنواخذة والغاصة والطواشين.

يصطدم الأب بن غانم ذو الأنفة والعزة والكرامة بفداوية الشيوخ (أولاد إبليس) فيضطر لاتخاذ البحر طريقًا للهجرة إلى البصرة ويبقى هناك حتى موته. وبعدها بعقود من السنوات يعيد ابنه عيسى الذي يحمل طباع أبيه القصة نفسها بعد أن يعمد الفداوية إلى سرقة (حظرته) فيدافع عن كرامته ويقتل اثنين منهم في سر (حظرة الهاشمية) بالحربة التي كان يحملها عادة البحار معه حين يباري مصائده، فيلحق بطريق أبيه حيث يتخذ البحر مهربًا. إنها القصة نفسها التي تعرضت لها العوائل الموريسكية المسلمة فقد سلّط عليهم القشتاليون المرتزقة الذين يستخلصون أجورهم من النهب والسلب.

والحظرة طريقة تقليدية شائعة لصيد السمك القريب من السواحل [انظر الفيديو المرفق] تتكون من شباك مثبتة بأعمدة بشكل شبه مثلث وبها مدود وسر، يجتمع معظم السمك في سر الحظرة وقت الجزر. ولكل حظرة اسم ووثيقة ملكية.

لماذا هاجر بن غانم؟

لأنه لا يريد أن يكون غريبًا داخل وطنه، فضل الغربة عن وطنه، الغربة بالنسبة له أن يفقد كرامته، ويُهدد برجال الشيوخ الإقطاعيين “إنك تتكلم على أسيادك وتحرض الناس على العصيان”. أن يكون هناك فداوي مرتزق نهّاب يحرق حضار (سور) بستانه (مسعّد) ويعبث بحق ملكيته وإرادة تصرفه وحرية قدرته ويحولون بينه وبين بستانه، ما عاد قادرًا على أن يرفع رأسه في مستوى نخيله، صار يشعر بالغربة بين رأسه ورأس نخلته، وما عاد ابنه عيسى قادرًا على أن يحفظ سر حظرته (الجوجبية والهاشمية) مصونًا عن النهّابة المحميين من قبل الشيوخ.

عاش بن غانم على أطراف ميناء البصرة وظلت عيونه لأكثر من أربعين عامًا على البحر، يحلم بالعودة إلى ديرته الحلة (سماهيج)، ينشد معبرًا عن شوقه لبستانه وحظرته وأهله:

يا ناس أنا بي علة

من واحد (بالحلة)

يا ريتني (طير) له

وأسامره طول الليل…

هاجر رجال العائلة، وماتت نرجس من وباء الجدري، وبقيت (خزنة) تحفظ البيت والعائلة والحقل والحظرة، كانت تجهّز زوادة الطريق للمهاجرين من عائلتها وتولّد نساء القرية وتزرع الأمل بالعودة. تركت لنا وثيقة تاريخية مهمة تثبت ملكية الحظرة لأبيها بن غانم. في ذاكرة (خزنة) سر تهجير أبيها، وسر قصته، وسر كرامته، وخزانة حكاية الحلة (سماهيج). لاحقًا صار بيت بن غانم يعرف ببيت أولاد خزنة، وصارت القابلة خزنة واهبة الحياة والكرامة مانحة ألقاب، فأصبح أحفادها يُلقبون باسمها ويُعرفون بعائلة (الخزنة).

رواية"مهاجر في زمن الجدري" للدكتور عمار الخزنة
رواية”مهاجر في زمن الجدري” للدكتور عمار الخزنة

كل مولود لابن غانم يأتي على رأس حلم يشي بسيرهم ومصائرهم في الحياة، حلم تجري أحداثه في (سر حظرته) فيكتسب المولود طبائع شخصيته من طبيعة الحلم الذي يجري في (السر). أودع بن غانم فيهم خير السرّ وبركاته وعلّمهم أن كرامتهم دونه، عليهم أن يحفظوه ليصونوا وطن كرامتهم.

الدرس الذي يتذكره أبناء بن غانم ويروونه لبعضهم بعضًا كان في سر حظرة الهاشمية، قال لهم: السمك كباره وصغاره يموت بصمت إلا سمكة (الزمرور: القرضي) الصغيرة فإنه يُعلّم قاتله إنه لن يموت بصمت، يعكر مزاج قاتله بصوته، لذلك لا تسمحوا لأحد أن يقتلكم بصمت.

حفظ أبناء خزنة هذا الدرس (لا تسمح لأحد أن يقتلك بصمت)، هذه الرواية (مهاجر في زمن الجدري) هي صوت عيسى بن غانم وأبيه وعائلته من أبناء خزنة وأحفادها، ظلوا يروونها جيًلا بعد جيل من خزانة القلب حتى صارت رواية في خزانة الورق.

*كاتب بحريني مهاجر، مقيم في كندا.

رسالة إلى صديقي سجين الرأي محمد النهام

الأستاذ محمد حسن النهام (مواليد1971) مدرس أول علوم في المعهد الجعفري، صديق صباي في قرية الدير، اعتقل في 2017 ضمن ما سُمي بـ(مجموعة الدير) وحكم عليه بالسجن 15عامًا.

إلى صديقي سجن الرأي محمد حسن النهام

أكتب إليك لأنه لم يعد هناك وطن يصلني بك، لم يعد هناك وطن يجمعنا، غادرنا صديقنا الشهيد زكريا العشيري مبكرا في 2011، وأنت لم يتسع لك البحر الذي عشقته وخبرته منذ كنت طفلًا تبحر مع أبيك، ضاق بك فصرت سجينًا، وأنا لم يتسع لي ذلك الذي تأملت أن يكون وطنًا، فصرت مهاجرًا أو منفيًا أو مطرودًا. وُضعنا جميعنا في قوائم الإرهاب، لا أعرف أرهبنا من؟ لكني أعرف فقط قلوب أمهاتنا المرتعشة حزنًا وكمدًا وهضيمة. حكايتنا واحدة في تجليات ثلاث: الشهادة والسجن والهجرة، كلها تعبر عن جوهر واحد، فقدان وطن يلملم بأجنحته أبناءه، ويعطف عليهم بظلاله.

كل منا دفع ثمن صدق ما آمن به، ما كان لنا أن نحافظ على إنسانيتنا وسط هذا التوحش اللاإنساني، وما كان لتربيتنا أن تُعطي إلا ما فيها من أمثولات وأحلام بالعدالة والحرية والحق.

أسترجع الآن الأديب المناضل (برتولد بريخت) في كتابه (حوارات المنفيين) كان يكتب باستمرار لمواطنيه، ويبعث فيه الأمل، ويوقد إرادتهم، ويشجعهم على مقاومة الفاشية والدكتاتورية، لذلك كانت كتبه تحظر وتحرق في ألمانيا الهتلرية، أسترجعه الآن لأنه يُلهمني للكتابة إليك، ولأن هذه الرسالة  محظورة أن تصل إليك، وكتبي كذلك محظورة ومصادرة، أشعر أن (بريخت) أحد الآباء الرمزيين لأمثالنا من المنفيين في أوطانهم أو خارج أوطانهم.

أحتفظ بصورة جميلة لك، من صور الصبا، الفتى ذو الابتسامة الدائمة والضحكة الحاضرة في المواقف والمقالب والحكايا، صاحب الذاكرة النقية القوية الذي يستطيع استرجاع المعلومات وأبيات الشعر والأحداث بشكل مدهش، الفتى الذكي حاضر البديهة القادر على جمع معطيات تفصيلية كثيرة، والقادر على سردها بشكل منتظم وواضح، مادة الأحياء بتفاصيل كائناتها وأجهزتها وأسمائها ما كنا قادرين على تحملها، وكنت أنت متفرد بها، حتى صرت مدرسها الأول قبل اعتقالك.

حاضر بقوة اسم والدتك في مخيلتي (مريم سلطان) تردده أمي بمحبة ووفاء، لصداقة وعشرة دامت بينهم، ما كنت أقول لها إنني في بيت محمد النهام، بل كنت أنسبك لأمك: أنا في بيت محمد ولد مريم سلطان. أسأل أمي عنها، فتقول لي: علاقتنا بجارتنا أم كريم، فتحتنا على مريم سلطان، وصارت واحدة من أهل (الدريشة، دريشة أم كريم) تتبادل معنا الأطباق والمحبة والنغصة، كانت أم محمد “ما تاكل عنا حارة ولا باردة”. 

عل