أرشيف التصنيف: مقالات

قبض وبسط الأخلاق

الأخلاق تقع ضمن المتغيرات. ليس بمعنى أن الكذب يصبح قيمة إيجابية، بعد أن كان من الثابت أنه قيمة سلبية، وليس بمعنى أن الغش يصبح من أخلاق الكرام بعد أن كان من أخلاق اللئام. الأخلاق متغيرة، بمعنى أن وصف المختلف معك في الدين بالضلال والكفر بعد أن كان قيمة دينية تحدد المهتدي والمؤمن، أصبح استخدام هذه الصفات غير مقبول في المجتمعات المتعددة الأعراق والأديان. والأخلاق المتغيرة، بمعنى أيضاً أن المبدأ الأخلاقي الذي يضع دين الشخص معياراً للقبول به، أصبح غير مقبول أيضاً. أخلاق التمييز والتفرقة وهي أخلاق تتبرأ منها الدولة الحديثة التي هي اليوم الجهة الحامية لأخلاق التعايش والقبول.
ARP_8322 هل نحتاج إلى أن نفهم مبحث الأخلاق بأخلاق جديدة؟ أقول نعم. ودعوني أوضح هذه الفكرة من خلال مؤتمر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية حول «أخلاقنا بين النظرية والسلوك»، الذي أقيم تحت رعاية الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء، في الفترة 3-4 نوفمبر/ شباط 2008 بفندق الدبلومات بالبحرين. من خلال استعراض أسماء المشاركين في هذا المؤتمر، سنلاحظ ثمة قيمة أخلاقية قد تغيرت في مفهوم المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية. وهي قيمة التقارب بين أصحاب المذاهب المختلفة، فقد شارك في هذا المؤتمر الشيخ مرتضى واعظ جوادي، والشيخ عبدالعظيم المهتدي البحراني.
إذاً ثمة تغير في أخلاق القبول بعد أن كانت أخلاق الرفض أو الاستبعاد أو الإقصاء هي التي تحكم المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وهذه الأخلاق ثابتة في مجالس الإسلام في بلدان إسلامية أخرى، لكنها حتماً ستؤول إلى التغيير. مقابل هذه القيمة الأخلاقية المتغيرة ثمة أخلاق أخرى لا تتغير بالنسبة للمجلس الأعلى، فالمجلس مثلاً، لم يشرك حقولا معرفية أخرى على صلة بمبحث الأخلاق، مثلاً أصحاب الاتجاهات الفلسفية، ومعلوم أن مبحث الأخلاق يقع ضمن مباحث الفلسفة الأصيلة.
والفلاسفة المسلمون كمسكويه وابن رشد والفارابي وابن طفيل، كانوا يستندون في مبحث الأخلاق في الفلسفة إلى الفلسفة اليونانية ممثلة في أرسطو خصوصاً وأفلاطون. والفلسفة الحديثة أيضاً لم تخرج الأخلاق من نطاق اهتمامها. بل هي تتحدث اليوم عما يسمى بالأخلاق التطبيقية، وهي الأخلاق الخاصة بالمهن وما يجب فيها من التزامات، كمهنة الطب، والصيدلة، والهندسة. وهناك أيضاً ما يسمى بأخلاق العناية وهي اتجاه فلسفي أخلاقي يركز على العلاقات بين الأفراد عوضاً عن ميولهم، وهي تضع أخلاق المحبة ضمن أهم الأخلاق التي تحدد العلاقة بين الأفراد، حتى إنها صارت تتحدث عما تسميه بعمل المحبة في الناس.
الأخلاق تندرج ضمن ما يسمى بالعقل العملي، وهي تحدد لنا الأفعال التي من الواجب أن نقوم بها والأفعال التي علينا أن نتجنبها، ليس تجاه الخالق فقط، بل تجاه أنفسنا والآخرين والبيئة والمهنة والدولة والجماعات. تجربة الأخلاق تحمل في طياتها تجربة الدولة، والتفكير في الأخلاق هو تفكير في الدولة والمجتمع، والدولة تكتسب صفة «مربية المربين» لأنها تحمل مشروع تربية وأخلاق وأدب [1].
لذلك اعتبر الفيلسوف السيد الطباطبائي الأخلاق من «سنخ المجازات» فهي في نظريته من جنس الاعتباريات، وليست حقائق نظرية قاطعة.
الدين مصدر من مصادر الأخلاق، لكنه ليس المصدر الوحيد، وليس هو المصدر النهائي. كما أن الخلاق المستمدة من الدين ليست واحدة، بل هي تتنوع وتتعدد باختلاف الناس وتغيرهم واتساعهم وضيقهم. واختلاف الجماعات الدينية يجد شيئا من تفسيره في اختلاف مفاهيمهم الأخلاقية ومفاهيمهم للأخلاق. وهذا ما تناولته في نقدي لحملة «ركاز» الأخلاقية[2]. فالأخلاق عند الجماعات الدينية، تكاد تكون محصورة في الموضوعات المتعلقة بالنهي عن الذنوب واقتراف السيئات والأمر بالطاعات وإيتاء ما يوجب الحسنات.
إن النصوص الدينية، غير كافية لوضع نظام قيمي أخلاقي يحكم الفرد الحديث الذي لم يعد مجرد عبد يطيع خالقه، كما فهمه الفقهاء. وغير كافية لوضع نظام أخلاقي يحكم الدولة الحديثة التي لم تعد «ولي أمر» مفترض الطاعة أو «ولي فقيه» واجب الانقياد.
هكذا إذاً، اتسعت أخلاق القبول في مؤتمر الأخلاق، لكنه اتساع لا يشي بتغير أخلاقي كبير، فمازالت دائرة المشاركة محصورة في دائرة الشأن الديني والشأن الإسلامي. ومازال هذا الضيق يحول دون فتح الأخلاق على الفلسفة الحديثة وعلوم الإنسان الحديثة، كما كانت في تراثنا مفتوحة على الفلسفة وبقية العلوم. وهذا ربما ما جعل من الأوراق المقدمة في المؤتمر تأخذ الطابع التقليدي والمحافظ والتكراري.
ستتسع أخلاقنا متى اتسعت رؤيتنا للأخلاق، والأخلاق تنقبض وتنبسط [3] بحسب رؤيتنا ومسبقاتنا وثقافتنا، أو بحسب معرفتنا الدينية التي هي غير الدين بحسب نظرية القبض والبسط عند سروش.

الهوامش
[1] انظر: صحيفة الوقت، «الدولة مربية المربين»، الأربعاء 21 يونيو/ حزيران ,2006 عبر الرابط:
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=238&hi
[2] انظر: جريدة الوقت، ركاز.. «نيو لوك» أو «نيو أخلاق»، الخميس 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2007 عبر الوصلة: http://www.alwaqt.com/art.php?aid=80624
[3] انظر عبدالكريم سروش، «القبض والبسط النظري للشريعة».

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=9736

هندسة الخروج

هندسة الخروج أو كوجيتو الذات الخارجة

الخروج يحتاج إلى هندسة أيضا، لا يمكنك أن تخرج من غير خارطة هندسية، وربما يكون كتاب أمين صالح (هندسة أقل خرائط أقل) أفضل بيان هندسي يقودك لخارطة الخروج من هندسات البرامج المعدة لاستقبال سقوطك في الدنيا وما قبله وما بعده.
يبدو أن(الخروج) من أكثر الأفعال ثورية وذماً في ثقافتنا، فالثورات قرينة الذم، لذلك لا عجب أن يشتق منه اسم (الخوارج) الذي أطلق على الجماعة التي شقت عصا الطاعة وخرجت على إمامها وخليفتها، بل إنها خرجت على فكرة الإمامة والخلافة نفسها، فهي الفرقة الوحيدة التي ذهبت إلى أن الخلافة حق من حقوق المسلمين يتساوى فيه العربي وغير العربي، كما يتساوى فيه الأحرار والأرقاء. والخلافة ليست للقرشيين وحدهم وإنما هي حق للأفضل من جميع المسلمين على اختلاف ألوانهم وأجناسهم.
(أنا خارج طائفتي) هي صيغة مفهومية، أحاول عبرها أن أقرأ إطار الطائفة في تكوين الذات. وهي ليست إعلاناً ولا براءة ولا تمرداً ولا عقدة ولا استنكافاً.
حين أخرج من هذا الإطار، ما الذي سيحدث لرؤيتي وموقفي وذاتي وحريتي وعلاقاتي؟ الصيغ المفهومية لا نحكم عليها بالصحة والخطأ والحق والضلال والخيانة والشجاعة. هي صيغ تفسيرية ويمكنك أن تحكم عليها بأنها أكثر تفسيرا أو أقل تفسيرا وأكثر قدرة أو أقل، على أن ترينا الواقع.
صيغة (أنا خارج طائفتي) أراها تتيح لي أن أرى ذاتي بشكل مختلف، وأرى مواطنتي بشكل مختلف، وأرى تاريخي بشكل مختلف، وأرى دولتي بشكل مختلف. والاختلاف حق لا يمنحك إياه أي تشكيل ولا أي إطار ولا أي برنامج، عليك أن تخرج وتأخذ حقك بعقلك، عليك أن تهنّدس لك طريقاً يريك الأشياء خارج طائفتك.
لماذا صيغة ”أنا خارج طائفتي” ليست إعلانا، ولا براءة، ولا تمرداً، ولا عقدة ولا استنكافاً؟
هي ليست إعلانا، لأن الإعلان يتطلب خفة في الطرح. وصيغة ”أنا خارج طائفتي” تحمل ثقلاً في المفهوم وتعقيداً في الإشكال. وهذا ما أظهرته كثرة التأويلات التي دارت حول معنى الخروج في هذه الصيغة، وتباين وجهات النظر حول جدواها على صعيد الفكر والواقع. وهذا أيضاً ما أظهرته كثرة التداولات في المنتديات الالكترونية والمجموعات الحوارية والرسائل الشخصية.
وهي ليست براءة، لأن البراءة تتطلب قطيعة وجودية واجتماعية عن كل ما يتصل بطائفتك، وهذا ما لا تدعو إليه هذه الصيغة، ولا تفسيراتها التي تضمنتها مقولة ”خارج الطائفة”، بل هذه الصيغة هي أقرب إلى أن تكون مفتاح حل لتحقيق ”العيش المشترك الاجتماعي” الذي يتطلب اتصالاً، لا انفصالاً.
وهي ليست تمرداً، لأنها خروج من الطائفة وليست خروجاً على الطائفة. الخروج مرتبط بالعصيان والتمرد والثورة وشق الجماعة، وهي دلالات تحف بهذا الفعل، وتحضر في استخدامه حضوراً يكاد يكون ملازماً. لكن هناك استخدامين في لغتنا للفعل خرج، يفيدان في تنويع معنى الخروج، الأول هو (خرج على) والثاني هو (خرج من).
الاستخدام الأول يحيل على العصيان والثورة والحرب والعداوة. أما الاستخدام الثاني فهو لا يحمل هذه الدلالة المقترنة بالعداء والبراءة دوماً، بل هو أقرب إلى الحياد، أن تخرج يعني أن تغادر منطقتك ودائرتك التي كنت فيها، من دون أن تأخذ موقفاً معادياً. و”أنا خارج طائفتي” تحيل إلى المعنى الثاني، لا الأول، لكن ظلال الأول تحضر في التلقي، بسبب ارتباط الخروج في ثقافتنا بالتبرّؤ لا البراءة (الحياد).
لذلك لا يمكن أن نفهم صيغة (أنا خارج طائفتي) من خلال ما فعلته إحدى الرائدات البحرينيات حينما حرقت عباءتها وسط الشارع العام. وهي الحادثة التي استحضرتها إحدى الناشطات النسويات في سياق محاولة فهمها لمعنى (أنا خارج طائفتي) فهي ترى أن الخروج الحقيقي ليس مقولة نبتكرها لتغيير ذواتنا، بل فعل خارجي لا يدع مجالا للشك والتأويل، كما هو فعل إحراق العباءة في الشارع العام، فهو فعل يثبت أنها خارج العباءة، فالخروج في مفهومها يتحقق بقدر ما يكون (خروج على) لا (خروج من).
وصيغة (أنا خارج طائفتي) ليست عقدة ولا استنكافاً، لأن العقدة تتطلب نقصاً نفسياً، لا نقصاً معرفياً. في النقص المعرفي أنت تستكمل ذاتك بفتح مغلقاتها وأطرها على مصادر معرفة جديدة، وفي النقص النفسي، أنت تهرب مما يعيبك، وتتبرأ منه، وتستعيض عنه بتقليد الغالب، كما هي عبارة ابن خلدون ”إن المغلوب يميل إلى تقليد الغالب دائماً”.
وصيغة ”أنا خارج طائفتي”، تأتي في سياق إشكالية نقص الذات، حين تنغلق على إطار طائفتها، وليس في سياق ضعف الذات واستكانتها في بقائها داخل طائفتها، بل إنه بالنظر إلى سياقنا، فالذات خارج طائفتها لا قوة لها. كما هو الأمر بالنسبة لذاتي الخارجة، فأنا لا إطار اجتماعي ديني يسند ضعفي، ولا موقع لي في الدولة التي لا تعرف الفرد إلا بصفته الطائفية.
لكل ذلك، يمكنني أن أعتبر (أنا خارج طائفتي) كوجيتو الذات الخارجة، كما هي صيغة ديكارت (أنا أفكر إذن أنا موجود) كوجيتو الذات الموجودة والمفكرة والحرة والفردية والحديثة.

 

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=8861

ضد التبسيط.. بيان المثقفين الشيعة

للوهلة الأولى حين هاتفني الصديق محمد فاضل، يخبرني عن البيان الذي الذي أصدره مثقفون شيعة. قلت له كيف مثقفون وشيعة؟ المثقف لا صفة دينية له. قلت ربما هو التبسيط الذي يجعل من استخدامنا للصفات استخداماً متخففاً من العمق والجدية.
القراءة الأولى للبيان جعلتني أستحضر صفة التبسيط التي ظهر فيها بيان الليبراليين العرب الجدد الذي أصدره شاكر النابلسي في يوينو/ حزيران 2004 تحت عنوان ”من هم الليبراليون العرب الجدد، وما هو خطابهم؟”.
في يونيو/ تموز 2005 أصدر مجموعة من المثقفين الليبراليين العرب ”غير الجدد” بياناً عنوانه ”ليبراليون عرب: صرخة ضد التبسيط” كانت ديباجة البيان ”ما نحاوله نحن الموقّعين أدناه، صرخة ضد التبسيط إزاء العناوين الأهم في حياتنا.. نذهب إلى أن الليبرالية التي نقول بها، ولاءٌ لقيم تحديثية وتنويرية أولاً وأساساً، وليست أبداً ولاءً للولايات المتحدة كائناً من كان المقيم في بيتها الأبيض”.
وهذه هي مؤاخذتي الرئيسة على بيان المثقفين الشيعة الذي اقترن في تلقيه بصفة الجرأة، والجرأة لا تقترن بالعمق والجدية، بقدر ما تتصل بالخفة والتبسيط. لكنها لا تلازمها دوما، فهناك جرأة تقترن بالعمق في الفهم، وهذا ما أشك فيه بالنسبة لهذا البيان، لذلك أقرن هذا البيان بالتبسيط لا بالجرأة.
علينا أن نلاحظ أن البيان في العادة يصدر في سياق عام، وهو يخاطب جمهوراً عاماً مُبيناً موقفا عاماً، وهو يحاكم في نقده وقراءته من قبل متلقيه بالحاظ هذا البعد. أي أن البيان وهو نوع أقرب إلى حقل السياسة، على خلاف المقال، يحاسب في ضوء قدرته على التعبير عن موقف عام مبني على قراءة الواقع العام قراء تفصّل التباساته. وهو يحاول ألا يتورط في إصدار أحكام إدانة ضد طرف من الأطراف المتصارعة في صياغة الواقع إذا ما كان هدفه إخراج الأطراف المتصارعة من دوامة الاقتتال والاحتراب.
مقدمة بيان المثقفين الشيعة الجدد لا ترفع التباساً بقدر ما تصدر حكم إدانة ”إن المتتبع لنشاط الطائفة الشيعية الكريمة في معظم أنحاء العالم وبالخصوص في الخليج العربي يلاحظ انشغالها شبه التام بالقضايا الطائفية والصراعات المذهبية ومناوشاتها التي لا تنقضي مع أختها الطائفة السنية الكريمة”.
البيان يصدر في موقفه من هذه الإدانة المستفزِة، ليس للعقل ولا للواقع، بل للمشاعر والمواقف. تحمّل جملة الإدانة التي يقوم عليها البيان، الطائفة الشيعية ما يحدث لأختها الطائفة السنية، وكأن هناك أختين إحداهما مشاكسة ومستفزة وتسبب المشاكل، وهناك أخت طيبة مسكينة تعاني من مناوشات أختها. وتبدو الأخت المناوشة لا همّ لها إلا استفزاز مشاعر أختها. هذا التبسيط المخل للواقع الذي تصوغه الأختان يجعل من البيان مبنياً على صورة مجازية لا تبين الواقع بقدر ما تزيده التباسا وغمامة، بل إنها صورة فقيرة ولا خيال خلاّق فيها يمكننا من رؤية الواقع المشحون بالصراعات رؤية نستبين فيها مواضع الخلل.
هل بالفعل الطائفة الشيعية في الخليج مشغولة انشغالا شبه تام بمناوشة أختها الطائفة السنية؟ أين نضع انشغالاتها واشتغالاتها السياسية الوطنية المطالبة بحياة ديمقراطية تقوم على المواطنة والحرية السياسية وتداول السلطة وعودة الحياة البرلمانية، وتجربة الإصلاح السياسي في البحرين، هي ثمرة من ثمرات هذه الاشتغالات والانشغالات السياسية، حتى قيل مسموح لكم أن تنشغلوا بالسياسة، لا أن تشتغلوا بها. مهما كانت نضالات الإسلام الحركي الشيعي مؤطرة بمنطلقات تصدر من تراث الطائفة السياسي والفقهي، فإننا لا يمكن أن نصادر على وطنيتها، ومهما كان اختلافنا السياسي ومهما كان اختلافنا الفكري أيضا. ولعل هذا الإقرار بوطنية المعارضة الشيعية، هو ما يجعل من تحالفاتها مع التيارات الوطنية أمرا واقعا ومقبولاً.
وهذا التحالف هو ما أزعج سياسات التشطير العمودي الذي مازال هو السياسة الفاعلة في نظام حكم الدولة، وهي السياسة نفسها التي تجعل المناوشات بين الأختين لا تنقضي دوما. لكن البيان لا ينص على هذه السياسة التي تمثل معطى موضوعيا يشكل ساحة الصراع السياسي والاجتماعي، هناك واقع موضوعي يشكله من يملك القوة، وعلى البيان أن يوضحه ويكشف دوره في صياغة شكل الصراع.
يبدو أن البيان يريد أن يتصالح مع هذه السياسية أكثر مما يتصالح مع فكرة الدولة وما تتطلبه من إصلاح ديني، فالبيان يدعو إلى التخلص من نظام التقليد والمرجعية في الفقرة 2 من البيان ”نعتقد بأن نظام التقليد والمرجعية الحالي لم يظهر إلا في المائتين عاما الأخيرة فقط ، وكان الناس قبلا يرجعون لأي رجل دين في مسائلهم الفقهية العبادية التقليدية من دون تخصيص ”لكنه يدعو في الفقرة 18 إلى إنشاء مرجعيات وطنية ”نطالب الشيعة العرب بالعمل الجاد لإنشاء مرجعيات دينية وطنية في كل البلدان العربية التي يتواجد فيها الشيعة”، كأنه يريد أن يجعل من المرجعية الدينية نظاماً بوحدة ضبط وطني (بمعنى محلي وليس بمعنى حقوقي دستوري) يسهل لهذه السياسة التي تقوم على التشطيرات العمودية التحكم فيها وإدارتها وتوجيهها بالطريقة التي تريدها.
من المعروف أن أنظمتنا (الوطنية) تريد هي وحدها أن تتحكم في استخدام الدين بما يحقق مصلحتها ويحفظ سلطتها ويسهل إدارتها للناس، وهي لا تريد مرجعيات دينية خارج نطاق نفوذ تحكمها، هذا ما تريده، لكن ليس هذا ما تريده حركة الإصلاح.
فالإصلاح لا يتحقق بجعل نظام المرجعية الدينية وطنيا محليا، بل بجعل المرجعية الدينية خارج لعبة الاستخدام والتوظيف من قبل السلطة السياسية التي مازالت دون فكرة الدولة بمعناها الحديث، ومن قبل التيارات السياسية والجماعات المتصارعة. أي لتكن الدولة خارج لعبة (طاعة ولاة الأمر) وخارج لعبة (ولي الأمر الفقيه).
إن هذا البيان قد وقع فيما وقع فيه بيان الليبراليين الجدد من تبسيط إزاء العناوين الأهم في حياتنا، كما تقول صرخة بيان المثقفين الليبراليين غير الجدد، كعناوين: (انسجام الشيعة مع أوطانهم وأخوانهم في الدين والوطن) و(السقطة الحضارية المهولة التي تعيشها الأمة العربية) و(ولاؤنا فقط لأوطاننا وشعوبنا وأمتنا) و(عدم الانشغال بمناقشة القضايا التاريخية، ونطالبهم بالتفاعل مع قضايا أمتهم وواقعهم المعاصر ومستقبلها).
حين تتحول هذه العناوين إلى مقدمات لا تتوافر على حساسية مرهفة في قراءة الواقع والتباساته، فإنها تعجز عن بيانه لأنها تعجز عن رؤيته، فتزيده التباسا، وتكون عرضة للاستخدام والتوظيف من قبل الأطراف المتصارعة، كما بدا الأمر من خلال بعض الجهات التي تلقفت خفة البيان بخفة في التوظيف.
البيان صادر عن سياق سياسي غير معلن، يرى في المحور الإيراني الشر كله، والمشكلة في مكمنها، وكأن أزمة الشيعة والعرب ستحل بمجرد انفكاكهم من المرجعية الإيرانية، وهذا ما تشي به عبارات البيان التي تكثر من استخدام كلمات الشيعة العرب وأوطانهم المحلية ودولهم الوطنية وولاؤهم لأوطانهم. وهذه نبرة قادمة من سياق سياسي، وليس من سياق ثقافي ولا اجتماعي ولا إصلاحي، والسياق السياسي محكوم بمصالح القوى المتصارعة لا برغباتها الإصلاحية. وهذا السياق يتخذ من التشكيك في الوطنية والولاء ذريعة لمهاجة خصومه السياسيين، تماما كما يستخدم المتدينون الكفر ذريعة لمحاربة خصومهم. ولا يليق ببيان إصلاح ديني يقع ضحية استخدام سياسي لا يعيه، وهذا بسبب التبسيط المخل أيضا.
في التبسيط أنت لست ضد الفكرة في ذاتها، لكن ضد أفقها وضد استخدامها وتوظيفاتها وضد نتائجها وضد ما تؤول إليه من تقريرات فجة. مثلا أنت مع فكرة إصلاح ديني ومع فكرة قراءة التكوين الداخلي التاريخي والعقائدي للطوائف، ومع فكرة تفكيك فكرة النيابة، ومع فكرة الحل العلماني، ومع فكرة تحرير السياسة من الدين. لكنك لست مع فكرة توظيف كل ذلك توظيفا سياسيا من قبل قوى متصارعة، ولست مع تبسيط كل ذلك بقراءته خارج سياقات الوضع السياسي والحضاري الملتبس في العالم العربي، ولست مع فكرة توظيف ذلك كإعلان حسن سيرة وسلوك أمام الآخرين، ولست مع فكرة تلفيق خطاب إصلاحي مفصل على وضع سياسي فاسد ومستبد ويعيد إنتاج الأزمات الدينية بأشكال مختلفة.
وهذا البيان بتبسيطيته الشديدة تجاه عناوينا الأهم في حياتنا، ينتج أزمة أكثر مما هو يوضح أزمة، وإحدى جوانب هذه الأزمة أنه جعل من خطابه برسم خدمة ورضاء السلطة السياسية من حيث يقصد أو لا يقصد، وأنه جعل من خطابه الإصلاحي خطاب تشهير وإدانة وإصدار أحكام تستثير ردود فعل مستفزة المشاعر. فعلى سبيل المثال قائمة الأحكام الشرعية التي يقول البيان ”لا نعمل ببعض الأحكام الشرعية التي يقول بها الفقهاء والتي ثبت أنها تخالف كرامة الإنسان وحقوقه الأولية، وهي كثيرة منها ما يلي: جواز الرق وملك اليمين واستعباد البشر .وغزو الشعوب والبلدان الأخرى بعنوان الدعوة إلى الإسلام، جواز الزواج من الطفلة الرضيعة والتمتع بها سائر الاستمتاعات وإرغامها بعد بلوغها على الجماع مع عدم أحقيتها في فسخ العقد”.
معظم الأحكام التي ذكرها البيان، هي جزء من تاريخ الفقه، وتعتبر هامشية وغير معمول فيها. وإبرازها في البيان، سيقرأ كنوع من التشهير وسيستثر الطرف المُشهّر به لوضع قائمة أخرى بالأحكام الفقهية التي تشهر الطرف الآخر وتحرجه.

http://alwaqt.com/blog_art.php?baid=8786

 

 

حكم الطائفة

«الدين يَحْكُم ولا يُحاكَم، والدولة تَحكُم وتُحاكَم[1]» متى صارت الدولة تحكم ولا تُحاكم، صارت ديناً، وفقدت فكرة الدولة ومنطقها، وكذلك الجماعة السياسية، تَحكُم وتُحاكَم، ومتى صارت تحكم ولا تُحاكم، صارت طائفة دينية، وفقدت فكرة الجماعة السياسية ومنطقها القائم على المحاسبة والفوز والهزيمة.
يبدو أن الحكم باسم الطائفة وممارسة السياسة باسم الطائفة، قد غدا بديلاً رابحاً للجماعات السياسة، وملجأ آمنا لها، وقد فتح سوق السياسة على جنات لا نهاية لصورها وتداولاتها. الحكم باسم الطائفة وممارسة السياسية باسم الطائفة يأتي في صيغ عدة تبريرية: استنهاض الطائفة، الدفاع عن ظلامة الطائفة، استرداد حقوق الطائفة، مواجهة طائفية الطوائف الأخرى، استنفاد الحلول السياسية، تحصين الطائفة، مقاطعة أنظمة الجور، طائفية النظام السياسي.
ويبدو أن خصوبة التداول قد جعلت الحديث عن الطائفية، يدخل في مرحلة الفوضى الدلالية، فلم نعد نعرف ماذا تعني الطائفية، أو صارت تعني الشيء ونقيضه، أو لنقل صارت تستعمل في أغراض سياسية بين خصوم متباينين، من دون أن تعني شيئاً مناقضاً عند طرف من دون الطرف الآخر. باختصار، فقدت كلمة الطائفية قدرتها على أن تدل، وفقدت قابليتها على أن تُكذّب. هل تستطيع أن تكذّب أحداً أو جماعة تتبرأ من الطائفية؟
من هنا يأتي الحديث عن الطائفة لا عن الطائفية من أجل تجنّب هذه الفوضى الدلالية، محاولة للدخول عليها من زاوية تؤمن قدراً من الوضوح والتحديد. وقد اخترت أن أدخل على مفهوم الطائفة من خلال فؤاد إسحاق خوري، وذلك لما يتوفر عليه هذا الباحث من معالجة جديدة ودقيقة وحصيفة في قراءة الواقع الميداني.
من جانب آخر يبدو أن الحديث عن الطائفية قد صار بديلاً عن الحديث عن الطائفة، مع أنها مشتقة منها، فلا يمكننا أن نفهم هذا المشتق إذا لم نفهم المشتق منه، أي لا يمكننا أن نفهم الطائفية إذا لم نفهم مفهوم الطائفة. من هنا تأتي أهمية الدخول أو الرجوع، الدخول على موضوع الطائفية من خلال الطائفة، أو الرجوع إلى مفهوم الطائفة لفهم الطائفية.
الطائفة نظام اجتماعي وديني ودنيوي مركب، وما يفعله إسحاق خوري يتمثل في أنه يقدم مادة علمية لفهم هذا التنظيم المركب، وكيف يشتغل في المجتمع. وإذا كان الخطاب الاجتماعي والسياسي والديني قد جعل من الطائفة كياناً مقدساً لا ينبغي ذكره إلا بعبارات التبجيل والاحترام، فنقول الطائفة الكريمة، ونقول الطائفتين الكريمتين، ونقول مقدسات الطائفة، واحترام الطائفة، وحقوق الطائفة، ومصالح الطائفة، ودفع الضرر عن الطائفة، واستنهاض الطائفة.
تشتغل هذه التعبيرات كمسلمات في خطابنا الاجتماعي والسياسي، وهي توحي بأن كل ما يضاف إلى (طائفة) يصبح محصناً عن النقد. وحدها الطائفية فقط الشيطان الذي يتبرأ منه الجميع، وتبقى الطائفة وحدها التي يتحصَّن بها الجميع ويتذرعون. حتى إنها غدت وفق التعبير الانجليزي ملجأ للنذل. أي ملجأ يلتجئ إليه كل من يقومون بأعمال تخدم مصالحهم الشخصية وجماعتهم الحزبية ومرجعياتهم المسيسة، وهم بهذا اللجوء يسترون أفعالهم الشنيعة وفسادهم الأخلاقي، وكأنهم يخفون فسادهم بها.
الإضافة إلى الطائفة صارت آلية تبرير في تقرير المظنونات وإسكات الاعتراضات وتحويل الآراء إلى بديهيات غير قابلة للنقض.
وإذا كنا سنقبل على مضض مؤقت أن الطائفة أمر مقدَّس، والطائفية أمر مدنَّس، فإننا لن نقبل أن يكون تنظيم الطائفة أمر مقدس. ونعني بالتنظيم هنا الآليات التي تحكم بها الطائفة وتدير من خلالها جماعتها، وتنشئ سلطتها عليهم، وهذا المدخل هو ما أرى من خلاله مفهوم الطائفة، ومنه يأتي اشتقاق الطائفية، وفيه تتقاطع إرادات القوة والهيمنة والمصلحة والانفتاح والانغلاق والرغبة في التسلط والاستئثار.
الطائفية ليست مشتقا لغويا من الطائفة فقط، بل مشتقاً فكرياً منها، من نظام سلطتها الدنيوية، وحكمها وأمرها. فليست الطائفة مجموعة من المعتقدات الدينية البريئة من صراعات التاريخ والحاضر، بل هي تشكيلة من الآليات المركبة في هيئة سلطة تعمل على تثبيت هذه المعتقدات في جماعتها والدفاع عنها والترويج لها وتجسيدها في الواقع، فليس مضمون المعتقدات بريئاً من التورط في هذه الممارسة الدنيوية.
هناك «ما يجري في الحاضر من التاريخ[2]». (ما يجري) من صراعات سياسية وتنظيمات اجتماعية وسياسية للجماعات المتصارعة في التاريخ. قدرة هذه الصراعات وأشكال التنظيم على أن يستمر جريانها في الحاضر في صيغة طوائف كريمة، هو ما يُعطي للطائفة سلطتها في أن تَحكم، ولا تُحاكم.
[1]،[2] فؤاد إسحاق الخوري، إمامة الشهيد وإمامة البطل: التنظيم الديني لدى الطوائف والأقليات في العالم العربي. بيروت: مركز دار الجامعة، ط، .198

 

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=8645

قرار الطائفة

مازلنا مع إسحاق الخوري في مقاربته لنظام الدولة ونظام الطوائف. يصل الخوري من خلال المعطيات الميدانية، إلى مفهوم للعلمنة يقول فيه: "إن العلمنة جل ما تفعله هو أنها تعمم المشاركة في اتخاذ القرار الديني على جميع أبناء الشعب، بدلا من أن يكون هذا القرار حكراً على النخبة الدينية، أي علماء الدين فقط. وأن يصبح القرار الديني بمتناول الشعب، لا يعني أن دور النخبة أو العلماء يزول أو أن القرار يصبح قراراً لا دينياً. العلمنة تزيل نخبوية القرار الديني ولا تزيل دينيته"[1].

ماذا يعني هذا التعريف بالنسبة لنا؟ يعني إعادة النظر في آليات اتخاذ القرار، وإعادة النظر هذه تتطلب في سياقنا إعادة تشكيل نظام السلطة في الطائفة. فالطائفة تحتكم في تنظيم شأن جماعتها إلى (شرائع وشعارات ومعتقدات وعبادات) مستمدة من تراثها الفقهي الخاص (الخاص بزمن الغيبة مثلاً)، ويفترض هذا التراث في الطائفة الشيعية مثلاً أن المختص بالشأن الديني (علماء الدين)، هو المختص بالقرار، وهو القادر على تشخيص الواقع، وعلى العوام أن يقلدوه. وان تكون في الطائفة يعني أن يكون قرارك لا فيك، بل في آلة الطائفة، وآلة الطائفة يحركها ويتخذ قرارها علماء الدين. قد يكون القرار وطنياً، لكن آلية اتخاذه ليست مدنية بل دينية.

يفيدنا الخوري هنا بمعلومة ميدانية من الحالة البحرينية، فقد أجرى في السبعينيات مسحا اجتماعيا عاما في أربع قرى (الدراز وعالي وسلماباد وجدحفص) إن هناك مختصا دينيا أو عالم دين لكل أربعة عوام، أي ما نسبته 24% من علماء الدين، في الطائفة الشيعية، مقابل عالم دين واحد لكل 600 شخص عند السنة. والمختص الديني يشمل في مسحه الاجتماعي الفئات التالية: الأئمة والخطباء أو الملائية، والسادة والمجتهدون، وقضاة الشرع وأصحاب الفتاوي.

هناك تفسير لهذه الكثرة يرجعه الخوري إلى كثافة الشعائر الدينية وتلك ظاهرة انثروبولوجية خاصة بالطوائف، حتى عند الطوائف المسيحية، كما هو الأمر عند طائفة الأرمن.

علمنة الطائفة، لا تعني جعل قرارها غير ديني، بل تعني جعل قرارها غير محتكر في فئة علماء الدين. وهذا يعني تحولاً في نظام اتخاذ القرار، وهو تحول ليس يسيراً، لأنه يصطدم بتكوين بنيوي في الطائفة، ويصطدم بتاريخ طويل وتراث غزير. وتحديث هذا التراث يتطلب تحدياً معرفياً واجتماعياً وثقافياً.

ترتبط العلمنة إذاً بآلية اتخاذ القرار، لكن ذلك لا يعني أنها آلية شكلية، بل هي ترتبط بمفهومنا للقرار ومفهومنا لموضوعات الواقع التي ترتبط بهذا القرار. إن كثافة الشعائر الدينية في نظام الطائفة يجعل كل شيء دينياً. جميع الممارسات التي يقوم بها الفرد في حياته اليومية، تتخذ طابعاً دينياً بسبب كثافة الشعائر هذه.

لذلك فالفرد يسلم قراره للمختص الديني في كل ما يتصل بأفعاله اليومية، ومتى وصل الفرد داخل الطائفة إلى قناعة بأن أمراً ما ليس دينياً، فإنه يقرره بنفسه، أو يلجأ إلى مختص خارج الدائرة الدينية. من هنا، فالعيش ضمن نظام الطائفة وليس ضمن نظام الدولة، يجعل الفرد ليس فرداً بل جماعة. وكي يعيش فرديته فهو بحاجة إلى أن يعلمن قراره، وذلك ليس بأن يجعله غير ديني، بل بأن يكون هو صاحب قراره، وسيد قراره. وتلك سيادة دونها الطائفة.

لنتأمل هذه القرارات: قرار ذهاب المرأة إلى الجامعة، قرار سياقة المرأة للسيارة، قرار العمل في الحكومة، قرار عمل المرأة، قرار المشاركة في الانتخابات، قرار تولي وظيفة في القضاء، قرارات التصويت على القضايا المصيرية، قرار إعلان هلال العيد، قرارات أحكام الأحوال الشخصية، قرار السلام على أهل البدع. جميع هذه القرارات وغيرها سواء جاءت في صيغة فتوى أو رأي شرعي أو نصيحة دينية أو حكم فقهي أو استفتاء، تفترض أن وجودك في الطائفة يلزمك بقرارها الشرعي والعقائدي، وتمتاز بمدى التزامك بهذا القرار.

العلمنة تعني فصل نخبوية القرار عن المختص الديني، ففي الطائفة التي يدير سلطتها المختصون الدينيون، يبدو القرار أكثر احتكارية في طبقة علماء الدين، وحجة الاختصاص، تعد حجة دامغة لا يمكن ردها. وشعار (معكم معكم يا علماء) [2] تجسد معيتُه، معية القرار بيد علماء، فهم سور الطائفة، ووجودك مرهون ببقائك داخل هذا السور.

العلمنة تقوم على أن الوجود في العالم أو في الدولة مقابل للوجود في الطائفة. فالوجود في العالم يفترض الوجود في الدولة، فأنت تعرّف نفسك بالدولة التي توجد فيها. وكي توجد في هذه الدولة وفي هذا العالم، عليك أن توجد خارج طائفتك، أي خارج سور سلطتها الدنيوية وخارج قرار نخبوية مختصيها، وتحول انتماءك لها إلى رافد من روافدك المتعددة، وبهذا تكون خارجا منها، لا خارجا عليها.

الطائفة تربيك تربية القصور، فهي تربيك على قاعدة أنك لا تستطيع أن تفكر وحدك أو تتخذ قرارا لوحدك، لابد أن تسدّ قصورك بالرجوع إليها، أي الرجوع الواجب إلى علمائها وفقهائها ومراجعها ومدوناتها المعتمدة.

بقدر ما أنت تقلّص من مساحات هذا الرجوع، تخرج من قصورك، وتكون مثقفا. مثقفا على طريقة عصر الأنوار التي عرّفها كانط (الأنوار خروج الإنسان من قصوره الذي هو نفسه مسؤول عنه) فالمثقف أو المتنور هو القادر على الخروج من قصوره. قصوره من الفكر المهيمن عليه الذي يشعره أنه قاصر عن الخروج منه.

يتفاوت هذا الخروج بتفاوت قصورك، هناك من يخرج في المجال السياسي والاقتصادي، وهناك من يخرج في المجال الديني، وهناك من يخرج في المجال الثقافي، وهناك من يخرج في مجال الأحوال الشخصية، وهناك من يخرج في مجال الحرية الشخصية.

هناك نضالات يخوضها المثقف في سبيل تحقيق مجال أوسع من خروجاته، وهو بهذا الخروج لا يحرر نفسه فقط، بل يحرر الميدان العام المشترك بين مختلف الأعراق والطوائف والاتجاهات، هذا الميدان يتسع بالخروج من أطرنا الضيقة، يتسع فيسع الجميع.

بقدر ما تخرج تصبح قدرتك على هندسة حياتك وقراراتك بعقلك الفردي، لا بعقل جمعي يسيطر عليك باسم الطائفة أو الحزب أو أي جماعة عرقية أو دينية أو أيديولوجية.

في فيلم (The Champ) كان البطل صحفي أوقعه ملاكم في ورطة كتابة قصة بطولة وهمية، فسقط فوق منصة المجتمع حيث الميدان العام لا يقبل الكذب والزيف. الخلاصة التي وصل إليها هو تعريف للمثقف يقول فيه "الكاتب مثل المصارع يجب أن يقف وحيدا. محاولة نشر كلماتك مثل الدخول وحيدا، يضع موهبتك على المحك ولا يوجد مكان لتخبئتها"

قف وحيداً خارج طائفتك، لا تستند إليها لتعطي شرعية لقولك وفعلك، شرعيتك يعطيك إياها الميدان العام المشترك الذي هو مجال لحركة حريتك.

هوامش

[1] فؤاد إسحاق الخوري، إمامة الشهيد وإمامة البطل: التنظيم الديني لدى الطوائف والأقليات في العالم العربي. بيروت: مركز دار الجامعة،ط1، 1988.

[2] انظر:

– جريدة الوقت، إبريل 2006، علي الديري، "معكم معكم يا علماء.. بجرح الكأس المكسورة"

– مدونة هوامل الديريwww.aldairy.ws