أرشيف التصنيف: مقالات

إمامة الطائفة

«أنا خارج الطائفة» ليس إعلان براءة كما فهمها كثير من المتلقين، بل هي إشكالية معرفية ووجودية واجتماعية وسياسية، وأحاول عبر سلسلة هذه المقالات أن أفهم من خلال هذه  الإشكالية «أنا خارج الطائفة» أناي ومجتمعي ودولتي وجماعاتي التي أعيش معها.
في «كتابه إمامة الشهيد وإمامة البطل: التنظيم الديني لدى الطوائف والأقليات في العالم العربي»، يحلل فؤاد إسحاق الخوري علاقة الطوائف والأقليات في العالم العربي بالسلطة المركزية في الدولة، وهو يدرس وضع ست طوائف: الأباضية، الإمامية، الدروز، الزيدية، العلويون، اليزيدية، والموارنة.
يضع (الخوري) الطوائف في مقابل السنّة. فالسنّة ليسوا طائفة، هم من الناحية السوسيولوجية جماعة الأكثرية، وأهل الحكم والسلطة، فهم يمثلون الحكم والمركز، وعلاقتهم بالسلطة علاقة تطابق، في حين تبدو علاقة الطوائف بالسلطة من الناحية السوسي141020081057 ولوجية والسياسية، علاقة مزدوجة وملتبسة. ولخبرة إسحاق الخوري بالبحرين، فقد خصها منذ كتابه (القبيلة والدولة)، بما يشبه دراسة الحالة، حتى غدا مختصاً بالوضع الاجتماعي والديني والسياسي لهذه الجزيرة.
وكتاب الخوري (القبيلة والدولة)، وإن كان ممنوعاً من التداول، إلا أنه يحظى بمكانة خاصة ومقروئية عالية في أوساط الجماعات السياسية التي لا تنتمي للمولاة، إلا أن هذا الحضور يبدو حضوراً انتقائياً، فهو يقرأ ما يدين خصمه ويظهره صاحب القوة والظلم ولا يقرأ النقد الموجه له، فهو يبحث عن ظالم ومظلوم ولا يقرأ التحليل الذي يقدمه لبنية هذه العلاقة والأطراف الفاعلة فيها.
كتاب خوري عن القبيلة والدولة في البحرين، على خلاف الكتب الأخرى التي كتبت البحرين، وتناولت الشأن السياسي في البحرين، فهي لم تحظَ بالمكانة التي حظي بها كتاب إسحاق الخوري. ربما يعود ذلك إلى المنهج الانثروبولوجي والاجتماعي الذي مكّن الخوري من مقاربة تفاصيل الحالة البحرينية، لكن هذا السبب وحده ليس كافياً، وربما يكمن السبب الأكثر قوة في تحليله لنظام السلطة القبلية، وهذا التحليل أظهر تسلط نظام القبيلة في الحكم واستفراده بالثروة والقوة، وأظهر من جانب آخر مظلومية الطائفة الشيعية. الأمر الذي ربما أشعر معارضتها بشيء من الإنصاف العلمي والتاريخي. وهذا ما جعل للكتاب حظوة كبيرة وأهمية معرفية وتاريخية.
وهو الأمر نفسه الذي جعل على الكتاب لعنة من قبل السلطة، وهي لعنة ما زالت إلى اليوم تطارده وتمنع تداوله. وذلك لأن تحليل الخوري وتفسيره بشأن ممارسة السلطة يبدو مازال فاعلاً، وقادراً على أن يفهمنا بدرجة تفسيرية عالية مآلات السلطة اليوم.
لقد أخذنا بتشخيص الخوري للسلطة، واعتبارنا كلامه حجة على ظلمها وعدم ديمقراطيتها وقبليتها، لكننا لم نأخذ بتشخيصه لطبيعة السلطة الدينية وإدارتها الاجتماعية وعلاقتها بالسلطة. بل ولم نستفد منه في تقريره لكثير من مآزقها، خصوصاً وأنه باحث معني بمسار العلاقة بين الدولة والدين.
في كتابه «إمامة الشهيد وإمامة البطل»، يلفت الخوري أنظارنا إلى أهمية أن تفهم الطوائف الدينية مآزق سلطتها. كما لفتنا في كتابه «القبيلة والدولة» إلى أهمية أن تلتفت السلطة السياسية إلى مآزقها، وإن كان هو في الحقيقة يحلل السلطتين في الكتابين، لكنه يبدو في كتابه الأول معنياً بالسلطة السياسية ومأزقها القبلي، كما هي في البحرين، أكثر مما هو معني بنقد السلطة الدينية ومأزقها الطائفي. والطائفي هنا لا يعني ممارسة التمييز والإقصاء، بل يعني الوجود ضمن إطار الطائفة، واعتبارها مرجعاً في ممارسة السياسية.
ولطبيعة المقاربة الانثروبولوجية والسوسيولوجية، فقد بدأ الخوري باحثاً يريد أن يفهم الظواهر، أكثر من أن ينقدها أو يصلح أوضاعها، لكنه في كتابه «إمامة الشهيد وإمامة البطل»، يتخلى عن هذه المحافظة الأكاديمية وينخرط بحرارة في مشكلات السلطة والدولة والطائفة. لذلك نجده يوجه رسالة رجاء في مقدمته يحرض فيها القارئ على أن لا يكتفي بقراءة الفصول الخاصة بطائفته في كتابه، بل يرجوه أن يقرأ فصول الطوائف الأخرى ليعرف المآزق المشتركة التي تعاني منها السلطة في تنظيمات الطوائف المختلفة.
لقد كتب الخوري كتابه تحت وقع الأزمة التي تعاني منها الدولة في العالم العربي وعلاقتها بالطوائف والأقليات والدين. وهو بحكم تخصصه الأكاديمي كان معنياً بشكل السلطة التي تتبدى في الممارسة الاجتماعية والتنظيمية، بعيداً عن المصادرات الأيديولوجية أو الأحكام الدينية التي تتبادلها الطوائف عن بعضها.
كان يصغي بعمق لأشكال التنظيم الاجتماعي، ويحاول أن يفهم رؤية هذه التنظيمات لذاتها وأشكال علاقتها بالدولة. الدولة حاضرة في مجال اهتمامه، ليس بصفتها المجردة، أو بشخصيتها القانونية والسياسية، بل الدولة بما هي شكل تنظيم اجتماعي وسياسي، تدير جماعات مختلفة في عرقها ودينها وطائفتها وتراثها.
كان السؤال المقلق بالنسبة له هو كيف يمكن أن تنتظم العلاقة بين الدولة وهذه التنظيمات بشكل لا يُقصر هذه التنظيمات قسراً يجبرها فيه على الانصهار في الدولة، بل كان يسعى لفهم هذه التنظيمات فهماً يعينها على إعادة تشكيل سلطتها التنظيمية لتكون في الدولة. كما أنه لم يكن يدافع بحسه الانثروبولوجي عن بقاء الطوائف في شكل فسيفساء غير قادرة على أن تتمثل في جسد دولة.
لقد وجد إسحاق الخوري من منظوره الانثروبولوجي والسوسيولوجي في العلمنة حلاً لبناء دولة مجالها العام ليس فسيفساء الطوائف، فما هو هذا المنظور؟ وما مفهومه للعلمنة؟ هذا ما سنحاول أن نجيب عليه في المقالات المقبلة.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=8372

خرائط عبد الوهاب المسيري التفسيرية (4-4)

 

الجماعات الوظيفية

من أهم المفاهيم التي تناولها المسيري في موسوعة مفهوم (الجماعات الوظيفية) وهو يحاول عبر هذا المفهوم أن يفهم الصهيونية والجماعات الوظيفية اليهودية، في إطار نزعة العلمنة الشاملة في الحضارة الغربية.

الجماعات الوظيفية هي مجموعة بشرية صغيرة، يقوم المجتمع بإسناد وظائف معينة إليها.وهي وظائف يرى أعضاء المجتمع أنهم لا يمكنهم الاضطلاع بها almas5eryلأسباب شتى. مثل أن يعتبر المجتمع هذه الوظيفة مشينة، كوظيفة البغاء، أو التنجيم، أو الربا. هذه الوظائف أشبه أن تكون بمهمات قذرة في وجهة نظر المجتمع، لذلك الجماعات الوظيفية هي التي تقوم بهذه المهمات القذرة.

الإنسان الوظيفي

في المجتمعات التقليدية التراحمية التي يسودها التقديس، الناس لا تريد لنفسها أن تتلوث بهذه الوظائف، لذلك فهي تسندها إلى مجموعة قليلة ليست منها لتقوم بها. بهذه الطريقة تحافظ الجماعة الوظيفية على البعد التراحمي والبعد التقديسي للمجتمع الذي تعمل فيه، فهي تتولى القيام بالوظائف التي تعرّض طاهرة المجتمع للمس.

لكن لو أخذنا هذه الجماعات الوظيفية في إطار أبعد من ذلك، في إطار العلمنة الشاملة، سنعثر لها على تأصيل في مفهوم الإنسان الوظيفي والإنسان الطبيعي الذي قد بلورته العلمنة الشاملة.

الإنسان الوظيفي هو الذي يقوم بمهمة محددة، ومعزولة العلاقة عن بقية المهمات وبعيدة عن أي إطار مرجعي متجاوز، سواء تجلى في شكل أخلاق غائية أو إله مفارق أو قيم ثابتة أو أي شيء يتجاوز الأرض. هو إنسان يقوم بوظيفة محددة وغير ملتبسة بأي شيء خارجها. ينظر هذا الانسان إلى وظيفته بشكل عقلاني بارد أدواتي رشيد دون أن يربط هذه الوظيفة بأي شيء خارج النطاق الدنيوي المادي.

الإنسان الطبيعي

يطلق المسيري على هذا الإنسان مصطلح (إنسان طبيعي) بمعنى أنه محكوم بطبيعة المادة البسيطة الأحادية المحايدة التي لا ذاكرة لها أو تركيب ذهني معقد، وليست محكومة بغاية تتجاوز طبيعتها أو أخلاق توجه سلوكها، وليست لديها وجهة نظر أو مواقف مبدئية. هذه المادة الطبيعية هي إطاره المرجعي الذي يستند إليه في وظيفته التعاقدية مستبعداً أي عنصر يتجاوز إطاره المرجعي، أي أن وظيفته تستند إلى عقد مجرد من أي شيء آخر، على عكس الإنسان التراحمي الذي هو دائماً يستند إلى إطار مرجعي متجاوز، فهو يضع أمامه رضا الله ومرجعيته الأخلاقية والغاية التي يستهدفها العمل وتقبل المجتمع.

الإنسان الوظيفي يقوم بهذه الوظيفة وفق قواعد العقل الرشيد، إذ هو يرشد حياته في ضوء وظيفته، ويختزل تعدديته وتركيبته المعقدة في بعد واحد، علاقته تعاقدية لا تراحمية مع المجتمع. لذلك نجد أعضاء الجماعات الوظيفية يقومون بمهمتهم في سياق منعزل عن المجتمع، لا يشعرون أنهم يقعون في وطن هذا المجتمع. هم يفهمون تماماً أن وظيفتهم تقودهم إلى أن ينعزلوا عن المجتمع، ويبقون في غيتوات مغلقة، وجيوب معزولة، يؤدون مهماتهم ببرود تام، ويجدون أن الولاء هو لوظيفتهم التي يؤدونها فقط، لذلك يتعاملون بموضوعية باردة مع وظيفتهم.

حرفة البغاء مثلاً، تتطلب من الإناث الممارسات لها أعلى مستوى من مستويات الموضوعية, والبعد عن أي تآلف أو تراحم أو عواطف. البغي تستخدم جسدها الطبيعي بكل طاقته التشغيلية، دون أن تفكر في أي بعد يتجاوزه، لذلك فهي تفكر في إطار المرجعية المادية الكامنة، كل شيء يكمن في هذا الجسد، وليس هناك ما هو أبعد منه، وهذا نموذج لاختزال النشاطات الإنسانية المعقدة والمتعددة في بعد مادي أحادي.

مهمات التحديث

لكن ليس بالضرورة أن تكون مهمات الجماعات الوظيفية قذرة، ربما تكون في المجتعات التقليدية كذلك، لكن حين تتعقد المجتمعات، فإنها تصير في حاجة إلى جماعات وظيفية، لأن بعض الوظائف تتطلب بشرا تكون تركيبتهم أحادية لا تعرف بعداً آخر غير الوظيفة، كي تؤدي دورها على أتم وجه، فمهمات الجماعات الوظيفية ليست من نوع واحد، وقد تؤدي أدوراً تاريخية غير مقصودة.

تتميز كثير من الجماعات الوظيفية، بأنها قد تكون من أكفأ الناقلين للأفكار التحديثية والمسهمة في علمنة المجتمع، بل إنها قد تكون من أهم مكونات تحديث المجتمع. لأنهم غير مرتبطين بتراث هذا المجتمع الذي عادة ما يعمل ككابح أو كمعيق لعملية التطور، فهم متخلصون من هذا البعد، فيعملون على دفع المجتمع نحو مناطق جديدة تتطلبها وظيفتهم ومصلحتهم.

يذكر المسيري شخصية محمد علي كنموذج فقد قدم إلى مصر ضمن جماعة وظيفية قتالية، هم الألبان. كان ينظر إلى مصر نظرة محايدة. خلاف الانسان الذي عاش فيها فينظر إليها نظرة غير مجردة، فهو يرى عمليات التحديث اقتلاع لجذوره وخيانة لذاكرته واستعمار لثقافته. لم يكن (محمد علي) يعرف لغة أهلها وتقاليدها، لكنه كان يدرك أن في مصر إمكانات عالية، فاستولى على الحكم وبدأ واحدة من أكثر عمليات التطوير والعلمنة في العصر الحديث. كذلك كمال أتاتورك، وربما يكون رضا بهلوي شاه إيران كذلك، هؤلاء دفعوا بحركة المجتمع إلى حيوات جديدة.

العلمنة المركبة

من هناك فاليهود كنموذج للجماعات الوظيفية، قاموا بعمليات طوال التاريخ معقدة ولا تنتمي إلى نوع واحد، وهم يختلفون من بلد إلى بلد آخر. وربما يكون مدخل الجماعات الوظيفية، لدراسة اليهود يجنبنا الوقوع في الأحكام الإطلاقية والأيديولوجية والعرقية. لذلك لا يستخدم المسيري مصطلح اليهود، بل يستخدم مصطلح الجماعات الوظيفية، لأنه ينظر إليها أنها جماعات مختلفة السياقات، مختلفة الوظيفة التعاقدية التي تؤديها في كل مجتمع، لذلك كان يدرس كل جماعة على حدة، كل جماعة وتاريخها ومجتمعها وشأنها ووظيفتها التي أسندت إليها في مجتمع من المجتمعات.

علينا أن نلاحظ هنا أن المسيري حاول أن يفهم الجماعات الوظيفية اليهودية في سياق العلمنة الشاملة. وهذا السياق وفرّ له ضمانة علمية كي لا يقع في تحيزات عرقية أو دينية أو إيدلوجية، تقرأ الجماعات اليهودية قراءة مغلقةعلى ذاتها، أو قراءة محكومة فقط بصراعها الفلسطيني الصهيوني الحديث، لا شك أن هذا البعد حاضر، لكن الجهد العلمي الذي يبذله المسيري، يجعل من اللحظة الحاضرة لحظة متولّدة عن تاريخ طويل، وليست لحظة حاكمة ومسيطرة على رؤيته على هذه الجماعة.

أقول ذلك أنا أشير هنا، إلى مجموعة من الملحوظات التي تؤكد هذا المنحى الذي نحاه المسيري في دراسته لليهود كجماعات وظيفية.

الملحوظة الأولى هي أن المسيري لا يفسر ظهور العلمانية، كما هي عند بعض متبني نظرية المؤامرة، بأنها ظاهرة يهودية، أو ظاهرة نشأت بسبب أن هناك جماعة من اليهود أرادوا شراً بالعالم، فوجدوا في العلمانية مدخلاً لهذا الشر. بل هو يرى أن العلمنة الشاملة هي حركة مركبة تاريخية وفلسفية واجتماعية واقتصادية وحضارية، لا يمكن أن ترجع إلى جماعة أو إلى فرد أو إلى تاريخ معين. هي حركة مركبة من فكر الاستنارة وحركة الاصلاح الديني وظهور فكرة الدولة المطلقة، وظهور القومية، وعصر الصناعة، وتطور حركة العلم. هذا الكل المركب، لا يمكن أن نعزوه إلى فرد أو جماعة أو تخطيط معين، إنما هي حركة متدافعة من عدة مراكز قادت في النهاية إلى العلمنة الشاملة، لذلك نجد أنها بالنسبة للمسيري عملية لا تتم في فترة معينة وإنما أخذت لها فترة تاريخية طويلة.

هذه الملاحظة الأولى التي تجعلنا نثمن عمل المسيري وجهده العلمي في هذا المنحى ولا نرده إلى تحيزات فجّة إيدلوجية أو عرقية.

السياق السسيولوجي

الملحوظة الأخرى أنه يتحدث عن الجماعات اليهودية من نواحي سسيولوجية اجتماعية، لا يتحدث عنهم فقط من نواحي عقائدية، كأن يكتفي بالإحالة إلى التلمود، وكأن هذه النصوص التلموذية العقائدية هي مرجعه في النظر إليهم وتفسيرهم. إنما نجده يحيل إلى الأبعاد السسيولوجية لهذه الجماعات وهي أبعاد مختلفة، نشأت في بلدان وفي تواريخ مختلفة. الأبعاد السسيولوجية أكبر من أن تكون خاضعة إلى إرادة جماعة معينة، إنما هذه الجماعات تشكل وتتشكل ضمن هذه النواحي الاجتماعية التاريخية السياسية المركبة.

الملاحظة الثالثة، سنجد أن المسيري وهو يفسر ظهور العلمنة، يلجأ إلى الأطروحات الغربية كأطروحات مدرسة فرانكفورت وأطروحة (ماكس فيبر) ويناقشها بعمق ويبين وجه استفادته منها، ويطرح بدائل تفسيرية قبالها، تقدم تفسيراً أكثر أو أقل للظواهر التي يقرأها. لذلك نجده يصرّ على أن يصف النماذج المعرفية التفسيرية، بأننا نحكم عليها بأنها نماذج تفسيرية أكثر أو أقل، ولا يحكم عليها بمعايير الصحة والخطأ.

فالمسيري مثلا، بعد أن يستعرض أطروحة (ماكس فيبر) التي تذهب إلى أن التوحيد اليهودي الذي يتحدث عن إله مفارق، هي أحد عوامل نشوء الرأسمالية الغربية، ويربط (فيبر) هذه العقيدة بتزايد نسبة الترشيد العقلاني، باعتبار أن الايمان بفكرة اله متجاوز هو إيمان عقلاني وترشيدي يقود الانسان إلى الدخول في العقل الترشيدي. المسيري يضع نموذجه التفسيري المخالف للنموذج التفسيري الذي يقدمه (ماكس فيبر) لنشأة العلمانية الشاملة ودور الجماعات اليهودية في ذلك تأثراً وتأثيراً.

الحلولية الكمونية

يرى المسيري أن الحلولية الكمونية المادية، والحلولية الكمونية الروحية لا تختلفان، في الحلولية الكمونية الروحية ينزل الإله إلى العالم ويسكن أو يحل أو يكمن في الإنسان وفي الطبيعة، وتبقى روحه المفارقة حالة في الأشياء.

والحلولية الكمونية المادية تُنزل الإله إلى الكون والمادة وتسلب منه اسم الإله فيتحول إلى القوة المطلقة أو الطاقة أو الطبيعة أوالمادة. المسيري يقول إن العلمانية الشمولية وُلدت من هذه الحلولية، وليست من التوحيد اليهودي الذي يؤمن بإله مفارق، كما هو الأمر مع النموذج التفسيري الذي قدمه ماكس فيبر. لكن كيف تمّ ذلك؟

هو يرى أن حلول وكمون الإله في المادة أو الطبيعة، وليس تجاوزه لها، جعل المادة أو الطبيعة تكتفي بما فيها، أي تكتفي بعالمها الطبيعي المادي، هي تكتفي بما تعلمه في عالم هذه الطبيعة، كذلك مجالات الحياة الأخرى، كالاقتصاد، والسوق، الأدب، كل واحد منها يكتفي بعالم مادته وما يحل فيه أو يحايثه (حيث هو فيه) ولا يحتاج إلى شيء خارجه يفسره. فالسوق مكتفية بقوانينها الداخلية، وليست بحاجة إلى قوانين إلهية أو قوانين أخلاقية غائية، تجعلنا نحكم على السوق بهذه الأخلاق. فالأخلاق الرأسمالية تعلمنت بهذه النزعة الحلولية التي أصبحت لا تقيم مسافة بين الأرض والسماء، ولا تقيم ثنائيات بين الروح والجسد والشكل والمضمون واللفظ والمعنى والدال والمدلول والإله والإنسان. كل شيء صار واحداً يفسر وفق إطار الأحادية المادية.

المطلقات

في القرن الثامن عشر، بسبب وجود نوع من الأخلاق المتجاوزة، كان هناك قانون في فرنسا يمنع الإعلانات، باعتبارها نوع من ملاحقة الزبون ونوع من الغش والخداع. هذه الأخلاق ترجع في هذه النقطة إلى أخلاق متعالية متجاوزة. بينما أخلاق السوق التي تتوسع وتريد أن تنتشر لا يمكن أن تعبأ بهذه القيمة الأخلاقية في موقفها من الإعلان، تعتبر أن موقفها من الإعلان لا بد أن ترتبط بحركة السوق نفسها وصيروتها، وهي ما أطلقت عليها المسيري (أخلاق الصيرورة)، أي أنه لا بد أن تكون الأخلاق متحركة، في صيرورة، مرتبط بحركة السوق ونشاط السوق وغايتها ثراء السوق وليس شيئاً آخر.

المسيري إذا، يفسر نشوء العلمانية بفكرة الحلول، وعلينا أن نفهم هذه الفكرة عميقاً، لأنها ستكون مسؤولة عن العلمانية الشاملة التي فصلْت الأشياء كلها عن الإله والغايات والأخلاق، وجعلت المادة مطلقة والدولة مطلقة والسوق مطلقة والأرض مطلقة والجسد مطلق والدال مطلق والنص مطلق والفن مطلق والمجتمع مطلق، كل هذه المجالات مطلقة من أي تقييد متجاوَز، ليس هناك مركز أعلى يضبط أو يتحكم في الأرض وما عليها.

تصوف الحلول

نأتي الآن إلى الجماعات الوظيفية اليهودية، ما علاقتها بفكرة الحلول وفكرة الكمون؟ لقد قلنا إن المرجعية المادية والعلمانية الشاملة يرجعها المسيري إلى فكرة الحلول والكمون، وهنا يحيلنا المسيري إلى جانب عقيدي يهودي، يتعلق بمجموعة من المذاهب والعقائد، مثل مذهب القبالاه، واليهودية الحاخامية. الجانب العقيدي في هذه المذاهب أقرب إلى فكرة التصوف الذي يُحل الإله في الكون وفي الطبيعة والانسان. هذا الحلول هو الذي قاد فيما بعد، لأن تصبح مرجعية الطبيعة ومرجعية الإنسان مستقلة، وكأن الإله بعد أن يحلّ في الإنسان والطبيعة، يتمّ الاستغناء عنه، أو هو يستغني عن العالم، ويبقى العالم مستقلاً بذاته أو مكتفٍ بمادته وطبيعته.

لكن المسيري لا يفسرّ العلمانية الشاملة بهذا البعد فقط، بل يحيلنا إلى أبعاد سسيولوجية تتعلق بالجماعات اليهودية في أوربا. فهي لكونها لا تشعر بالانتماء للأوساط المجتمعية والتجارية التي وجدت فيها، فقد ظلت تعيش في كانتونات معزولة، وجيوب هامشية، أتاح لها أن تعيش عالمها وعقائدها الخاصة وعالمها الاجتماعي الخاص، من دون أن تكون للأعراف الحاكمة للمجتمعات التي تعيش في هامشها، سلطة عليها.

حركة السوق

حين تتصل هذه الجماعات بالسوق والمجتمع، هي متخففة من الالتزام بالقيم والأخلاق التي تُلزم من يقيم في هذا المكان، هي لا تقيم في هذا المكان، ولا تشعر بالانتماء إليه، وغير مضطرة للالتزام بأعرافه الخاصة بالمقيمين. لذا هذه الجماعات لا تجد حرجاً بأن تقوم بعمليات تجارية أخلاقياتها لا تتفق مع هذا المجتمع، لأنها لا تنتمي إليه، كما هو الأمر مع أخلاق الربا. لماذا أصبح التاجر اليهودي والجماعات اليهودية هي التي تتعامل مع الربا أكثر من الجماعات الأخرى؟ لأن هذه الجماعة غير منتمية لهذا المجتمع ولا تنتمي لأخلاقياته، لهذا لن تشعر بأنها قامت بأي إثم أو عيب، وهذا ما يفسر لنا لماذا الجماعات الوظيفية تُجلب للقيام بدور المجتمع لا يقوم به.

هذا الوضع المعزول اجتماعيا للجماعات اليهودية، جعلها في وضع أخف حركة. فثقل الحركة تستمده الجماعة من التراث الذي تنتمي إليه، لأنها لا تستطيع أن تقوم بأية حركة، إلا وعليها أن تراعي الأعراف والتقاليد والمسلمات والأحكام الدينية التي يؤمن بها هذا المجتمع، اليهودي في هذا المجتمع يريد أن يحرك السوق ويربح ربحاً نقدياً، ورأس المال النقدي هو أخف الأشياء، ولأنه ليس لديه عقار، إذ لا يجوز له باعتباره أجنبيا أن يملك عقاراً، لهذا عليه أن يحرّك الأسواق ويوسعها وينتقل بالبضائع بأكبر قدر ممكن، فموطنه السوق والسوق من غير حركة لا يعول عليه، لذلك كان الكثير من الحكام والملوك يعولون في تحريك السوق على الجماعات اليهودية، وحركة السوق ستؤول فيما بعد إلى الرأسمالية التي يرجع جزء من تفسيرها إلى تنشيط حركة السوق وفتحها.

تتمثل في الجماعات الوظيفية شخصية التاجر الذي تحدث عنها (دافيد لو بروتون) في كتابه (انتروبولوجيا الجسد والحداثة) فهو يشير إلى أن التاجر هو المثال النموذجي للفرد الحديث للإنسان الذي تتخطى طموحاته الأطر القائمة، الإنسان الكوني (الكوزموبوليتي) بامتياز الذي يجعل من مصلحته الشخصية المحرك لأعماله، حتى ولو كان ذلك على حساب الخير العام. كانت هذه المصلحة الشخصية التي لا تعبأ بالخير العام، هي محرك السوق، وقد مثلتها الجماعات الوظيفية اليهودية خير تمثيل.

هكذا إذا، الجماعات الوظيفية اليهودية (بملاحظة تفصيلات أخرى يعرضها المسيري)، كانت قد أسهمت (ببعد عقائدي واجتماعي وسياسي) في عمليات ترشيد السوق وترشيد الاقتصاد والدولة، فبالتالي هي لعبت دورا كبيرا في تنشيط العلمنة، بما هي حركة يتخفف فيها الإنسان من حكم المركز الذي يتجاوز أرضه وسوقه وطبيعته ومادته، ويكتفي فيها الإنسان بذاته، لكي يدير العالم.

علمنة اليهودية

حركة العلمنة الشاملة هذه، التي أسهمت الجماعات الوظيفية فيها، سنجد الجماعات اليهودية نفسها ستقف فيما بعد ضدها، حين تبدأ حركة هذه العلمنة، سواء كانت جزئية أو شاملة تضرب اليهودية ذاتها في بعدها الديني العقيدي. سنجد مذاهب يهودية تقف موقفاً عنيفاً وممانعاً، كأي حركة دينية، ضد عمليات الإصلاح الديني، إلى أن أجبرت منتصف القرن التاسع عشر، وزجت في حركة الإصلاح في سياق التدافع العام السياسي والاجتماعي والحضاري في هذه الفترة التاريخية.

وهنا يذكرنا المسيري، بأنه عندما تفاعلت عمليات العلمنة في المجتمع الغربي، أصبحت اليهودية الحاخامية في أزمة، لأن القبالاه الحلولية بدأت تسيطر على الجماهير، هكذا إذا الجماعات الوظيفية أسهمت في العلمنة الشاملة، ولم تكن تدري أن وظيفتها في حركة السوق ستأتي على ديانتها وتعلمنها.

لقد تحدثنا عن الجماعات اليهودية في سياق العلمنة الشاملة، لكن لم نتحدث عنها في سياق ظهور الصهيونية وبناء دولة حلولية في فلسطين. وذلك موضوع آخر، يفصله المسيري في موسوعته.

* هذه المادة التي تنشر على أربع حلقات، تم تفريغها من نص محاضرة علي الديري في 17يوليو 2008، التي أقامتها جمعية مقاومة التطبيع البحرينية، في قاعة فلسطين، في جمعية وعد.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=133095

خارج الطائفة

ذات أمسية سألني الصديق جعفر الباقر، بحدة الغيور، لماذا تبدو وكأنك تجاهر بخروجك من طائفتك؟ قلت له، بعفوية غير طبيعية، أنا خارج طائفتي!
لا يمكن أن تكون مثقفاً داخل طائفتك، ولا يمكن أن نراهن على مثقف داخل طائفته، وظيفة المثقف أ ن يُوسّع إطار الجماعات، ليكون بمقياس الوطن لا مقياس الطوائف. وتلك المهمة تتطلب منه أن يمارس نقداً حقيقياً لأطر الطائفة، ويحولها من مسلمات عقيدية لا يطالها الشك إلى معطيات تاريخية لا ترقى إلى اليقين. وتتطلب هذه المهمة أن 2515177284_766f2fa7eaيكون المثقف من الناحية المعرفية خارج طائفته.
وحجة التمييز مع إقراري بوقائعه الفاقعة، لا أجد فيها تبريراً لبقائي داخل الطائفة، فالمثقف الذي يبقى داخل طائفته، يظلم طائفته ووطنه؛ لأنه يوهمها بأن هذا هو شكل نظامها الطبيعي بل والإلهي، ويميز وطنه بدوائر مغلقة على بعضها.
ما معنى أن أكون خارج طائفتي؟
يعني أن تكون طائفتي موضوعاً أشتغل عليه، لا إطاراً أستند إليه. ما الفرق بين الحالتين؟ ما الفرق بين أن تكون الطائفة موضوعاً تشتغل عليه، وأن تكون إطاراً تستند إليه؟ في الحالة الثانية تكون أنت في الطائفة، تستند إليها في تعريف ذاتك وتحديد هويتك وتعيين مركز قوتك في علاقتك بالآخرين.
الإطار يسندك حين تبحث عن منجاة خلاص أخروية تضمن بها الجنان، أو حين تبحث عن قوة تستند إليها وسط صراعاتك الاجتماعية. الإطار هنا طوق ينجيك ويقويك. وحين تكون خارج هذا الطوق تفقد قوتك ونجاتك. فأنا خارج طائفتي هنا، بمعنى أني خارج هذا الطوق، بمعنى أن لا نجاة لي ولا قوة.
والإطار من جانب آخر يحدد لك إمكان الرؤية، فأنت ترى العالم والغيب والآخرة والناس من خلال إطار. والطائفة بما تتوافر عليه من قيم وأوامر ونواهٍ تؤطر لك ما هو صحيح وما هو خطأ، ما هو حلال وما هو حرام، ما هو أفضل وما هو أدنى. بهذا الكل المركب تمثل الطائفة إطارَ رؤية، وأنا خارج طائفتي بمعنى خارج إطار هذه الرؤية.
إذاً أنا، بالنسبة لمن هم في طائفتهم، بلا رؤية ولا قوة ولا نجاة. وحين تدفع بهذا الخروج إلى مآلاته الأكثر قتامة، فأنا أعمى وضال وضعيف وهالك، هكذا يمكن أن تقابل بين الرؤية في طوق الطائفة والعمى في الخروج من هذا الطوق، والقوة في إطارها والضعف في الخروج من إطارها، والنجاة في طوقها والهلاك في الخروج من هذا الطوق. إنه السقوط إذاً. الخروج من إطار الطائفة هو سقوط في جحيم العمى والضلال والضعف والهلاك.
أنا خارج طائفتي، يعني أن أُعرِّف «أناي» تعريفاً لا يستند إلى هذا الإطار، التعريف بهذا الإطار يجعل «أناك» داخل الطائفة، يجعلك محتوى بها، ولأنها تسبق وجودك، فهي تمنحك تعريفها الجاهز قبل ولادتك. هي تضع بطاقتها المعتَّقة على «أناك»، فتكون ابنها البار. وحين تكون «أناك» من غير هذا التعريف، الذي يسبقك، تكون خارج طائفتك. أي خارج ما يسبقك. التقدم يتحدد بهذا السبق. أن تُمّكن طائفتك من أن تسبق أناك، أو أن تُمّكن أناك من أن تسبق طائفتك. حين تتقدم أناك على طائفتك فأنت تسبقها. وحين تتقدم طائفتك على أناك فهي تسبقك. من هنا فأنا خارج طائفتي، بمعنى أني متقدم عليها في تعريف ذاتي. وأكون طائفياً بقدر ما أسمح لها أن تستبق تعريفي.
أنا خارج طائفتي، يعني أني خارج إطارها المعتمد. وإطار الطائفة المعتمد هو مجموع النصوص التي ثبّتتها في التاريخ بوصفها كافية وصحيحة لتعريف ذاتي والعالم والأشياء، ليس إطاري المعتمد في فهم العالم «الكافي»، ولا «صحيح البخاري»، هما ليسا معتمدين لدى «أناي» الخارجة.
أنا خارج طائفتي، أي خارج هذين المعتمدين. لا أعطيهما الحق في أن يسبقا «أناي» في تعريف ذاتي وتعريف عالمي وتحديد نجاتي وتبصير رؤيتي وتقرير خلاصي. أنا خارج طائفتي حين أجعل من هذين المعتمدين موضوعاً أشتغل عليه، لا إطاراً يشتغل فيّ. حين أُخضعهما إلى التاريخ وصراعاته ودنيويته ونسبيته وسلطته في تشكيل الحقيقة.
من غير تحويل الطائفة ومعتمدها الذي يحدد هويتها وأساسها الذي تقوم عليه، إلى موضوع اشتغل عليه، لا يمكن أن أكون خارج طائفتي. ومن لا يكون كذلك سيبقى طائفياً.
أن أكون خارج طائفتي بهذا المعنى، أجعل الدولة خارج الطوائف. والدولة التي لا يكون مفهومها في بناء المواطن قائماً على هذا الخروج، لا يمكنها أن تكون إلا دولة طائفة، ودولة الطائفة لا تجد مهمتها الطائفية إلا في تثبيت هذا الإطار وتمكينه من أن يحكم قبضته على الوطن، كما هو الأمر عندنا. كي يتخلص الوطن من طائفيته على الدولة أن تبحث لها عن مهمة غير طائفية، عن مهمة مدنية، تُمكّن الإنسان من العيش في المدينة. كيف يكون ذلك من جانب الدولة وجانب الطوائف في سياق حالتنا البحرينية؟ سأجيب عن ذلك من خلال الإنصات إلى خبير الحالة البحرينية الباحث فؤاد إسحاق خوري.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=8305

خرائط عبد الوهاب المسيري التفسيرية (3-4)

 

الدولة المطلقة

من المفاهيم التي عمل عليها عبد الوهاب المسيري في موسوعته في سياق فهمه للعلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية، مفهوم الدولة المطلقة، وحاول عبر هذا المفهوم أن يفسّر ظاهرة الجماعات اليهودية والصهيونية . فما العلاقة بين هذين الاثنين؟ كيف يمكن أن نفسر تاريخ الجماعات اليهودية من خلال مفهوم الدولة المطلقة؟ وما علاقة ذلك بمفهوم العلمانية الشاملة؟

العقل الرشيد

يسمى المسيري الدولة المطلقة تسمية أخرى وهي الدولة الرشيدة. ويعني بها ما يعنيه بالعقل الرشيد، ومفهوم الترشيد وضعه (ماكس فيبر) ليفسر به ظهور الرأسمالية في الغرب وتاريخ تطورها. كما هو معروف خرائط المسيري3في ثقافتنا، الرشد هو العقل، والعقل هو ما يهديك إلى الطريق الصحيح الرشيد في السلوك والتفكير واتخاذ القرار وتنفيذ المهمات. لكن لكل ثقافة رشدها في تحديد هذا الطريق، ولها إطارها المرجعي في تحديد الرشد والغي.

الرشد في المفهوم الغربي الحديث مستمد من إطار مرجعي وهو إطار مرجعية الواحدية المادية التي سبق لنا أن فسرّناها. بمعنى أن رشد العقل هنا يتمثل أنه يبحث عن الوسائل الناجعة التي تدرّ عليه ربحاً من دون النظر إلى غاية أخلاقية سماوية أو إلى هدف متجاوز للإنسان ومصلحته، أو اعتبار يتعلق بالإله أو الغيب أو بقيمة مطلقة.

الترشيد يعني أن نحوسل العقل أي نحوّل علاقتنا بالأشياء إلى علاقة وسائل من أجل المنفعة الدنيوية الصرفة، لذلك فهو عقل أدواتي، كما يطلق عليه هابرماس ومدرسة فرانكفورت الألمانية التي وجهت نقداً للحداثة الغربية وعقلها الأداتي بعد الحرب العالمية الأولى، فقد وجدوا أن هذا الرشد الأداتي المحوسل، قد أوصلهم لحرب كونية راح ضحيتها الإنسان نفسه، وملايين من بني جنسه المحوسلين، أي الذي تمّ تحويل إلى أدوات ووسائل في صراع مصالح القوى. ورواد هذه المدرسة بالمناسبة، يمثلون مرجعية أساسية للمسيري.

هابرماس يدعو إلى عقل تواصلي، يتجاوز مأزق هذا العقل الأداتي الذي يحسب حسابه للوسائل والنتائج، وهي وسائل مادية محسوبة القيمة، والعقلية الرشيدة تبحث عن أيسر الطرق والوسائل التي توفّر لها مصلحتها المادية بأكبر قدر من الأرباح. والعقل الصناعي الذي نقل الحضارة الغربية من الحضارة الزراعية إلى الحضارة الصناعية الرأسمالية، هو هذا العقل الرشيد. لقد تمّ نقل الرشد من إطار البحث عن الدين الحق والطريق الصحيح للآخرة، إلى البحث عن الدنيا الحقيقية والطريق الذي يقود إلى إنتاج أوفر للإنسان في هذه الدنيا، بل صار الرشد يكمن في تجاوز ذاك الطريق الذي يقودك إلى الخروج من الدنيا. لقد تمّ إذن تحرير العقل أي إطلاقه من أي غاية أو هدف يتجاوز الدنيا، هذا هو الرشد.

الدولة الرشيدة

وهذا هو معنى الدولة الرشيدة أيضاً، ولكي تحقق ذلك، فإنها تحتاج لأن تكون دولة مطلقة من أي مرجعية متجاوزة. أي أنها تطلق نفسها من مرجعيات الإله والغايات البعيدة المتجاوزة للإنسان، وهي الغايات التي لا يمكن أن تكون مقاسة ومحوسلة، بهذا تتحول إلى دولة مطلقة من كل ما هو متجاوز للدنيا، وبهذا تكون الدولة دولة دنيا لا دولة آخرة، ولتحقيق ذلك لابد أن تطلق نفسها من الدين، ولا تشغل نفسها بالبحث عن طريق الرشد الأخروي، فتلك ليست مهمتها، فرشدها يكمن في الدنيا. لقد تمّ ذلك في إطار الواحدية المادية، لقد خلصنا المادة من أي مرجعيات متجاوزة تفسرّها، فأنتجنا العلوم الطبيعية الحديثة، كذلك خلصنا العقل والدولة، من أي مرجعية متجاوزة تحكمهما، فأنتجنا العقل المادي التجريبي الحديث والدولة الحديثة المطلقة.

المطلقات الدنيوية

وتجربة الدولة الغربية قامت على التخلص من هذه المطلقات، وتاريخها يتحقّب لا بالخلاص بل بالتخلص، فالخلاص ارتبط بالحركات الدينية، والتخلص ارتبط بالحركات العلمانية، لقد أطلقت نفسها من الدين، فلم تعدّ الكنيسة هي المرجع الذي يحكم الملك أو الدولة. لقد تخلصت من ذلك بعد تاريخ طويل من الحروب الأهلية والدينية ونضالات فكرية عميقة استغرقها القرن الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر. الفلاسفة في هذه المرحلة جاءوا ليحرروا الدولة من هذه المركزيات المتجاوزة. ولعل الثورة الفرنسية تمثل النموذج الأبرز في هذا البعد حينما حطمت الكنيسة، وثارت على الملك، وأحرقت آلاف الرهبان والراهبات، وتخلّصت من كل ما يمت بصلة إلى هذا المتجاوز الذي كان يتحكم في الدولة.

بعد أن تمكّنت الدولة من تحقيق مطلقيتها، أصبحت هي الإله، هي المرجع، هي صاحبة السيادة العليا، هي التي لا يمكن تجاوزها، ولا يمكن تجديفها، ولا يمكن الهرطقة تجاهها، أصبحت هي المطلق، وكان هيجل من أبرز الفلاسفة المتحمسين للدولة المطلقة التي تحكم قبضتها على كلّ شيء، ولا تغادر الإنسان في أي جزء من جزئياته، حتى شبهها هوبز بالتنين، الكائن الوحشي الذي يستطيع أن يلتهم الجميع في فمه دون أن يخرج أي شيء على سلطته. أصبحت هي السلطة المطلقة، أصبح الإله ليس في السماء، بل في الأرض، مجسّداً في الدولة، لكن لا ليحكمها هو باسمه. أصبح الإله دولة. لم يعد الاله سماء، صار الإله أرضاً تحكم، لكن لا يحكم هنا باسمه المتجاوز، يحكم باسمه المحايث. هذه القوة المطلقة حين كانت في السماء كانت تسمى الله، الغيب، لكن لما صارت في الأرض، صارت تسمى القوة المطلقة والدولة المطلقة التي يرجع إليها الجميع، هي التجسيد الأبرز لهذه القوة.

الدولة الضابطة

هناك ثلاث تشبيهات استخدمها عالم الاجتماع الهولندي (باومان) ويستحضرهما المسيري في موسوعته ليوضح لنا فكرة الدولة المطلقة، كان يشبه (باومان) الدولة التي بدأت تتأسس منذ الثورة الفرنسية وصولاً إلى شكل الدولة القومية، يشبهها: بالبستاني، والمهندس، والطبيب.

مجازات (باومان) الثلاثة، تفسر لنا بطريقة مكثقفة فكرة الدولة المطلقة. فالبستاني يقلم من الحديقة (الدولة)، العناصر غير المفيدة، يرعاها، يضبط أشجارها، يخلصها من السموم، فهو يعمل كآلة ضابطة للحديقة. والدولة المطلقة كيان صناعي يضبط الإنسان. هذا الكيان الصناعي قوة محايثة في الأرض، وليست إلها في السماء. وهذه القوة الضابطة (البستاني) تخلص الدولة من سموم المرجعيات المتجاوزة وتدخلها، وتجعل الدولة محكومة بمرجعيات مادية بسيطة واضحة، يمكن قياسها وحسابها برشد مادي.

التشبيه الثاني، هوالطبيب، الذي يرشد الناس إلى الطرق السليمة في التغذية وإلى كيفية العناية بأجسادهم، ويرشدهم إلى الوسائل الناجحة التي تضمن لهم نتائج أفضل وصحة أقوى، فالناس في الدولة يرجعون إلى هذا الطبيب ليضبطوا كلّ شيء فيهم بدقة ومقدار واحد، وهو يصدر لها شهادات فحص تثبت صلاحيتهم. بهذا يمثل الطبيب هذا الكيان الصناعي الذي نسميه دولة.

كذلك المهندس يضبط الدولة، إذا ما أعتبرنا أن فضاء الدولة هو المدينة، فالمهندس يضبط شوارعها، يحدد نقاط المرور فيها، ويحدد أرقام الشوارع ومساحاتها وحجومها، المهندس أيضاً يعمل كآلة ضبط، يجعل بناء المدينة كله مضبوط وفق ومقاس واحد. نلاحظ أن المجازات الثلاثة تشترك في الضبط. يتحول الإنسان في هذه الدولة إلى جهاز مضبوط بعمل هذا الكيان الاصطناعي (عمل البستاني والطبيب والمهندس).

هذا الضبط المطلق هو ضبط رشيد، هو مرجعية نهائية، بمعنى أنه ليس لدى الطبيب مرجعية يرجع إليها غير طبه، وليس للفلاح مرجعية غير خبرته النباتية والزراعية ، وليس للمهندس مرجعية غير هندسته، ليست هناك مرجعية ترجع إلى السماء. لذلك الدولة المطلقة مرجعها مادي مضبوط. الدولة هنا طبيعية، بمعنى أنها محكومة بنفس آليات الطبيعة، وهي آليات بسيطة وواضحة ومحددة ولا تخضع إلى تفسيرات متباينة.

الدولة النازية

لهذا فالدولة المطلقة، دولة مركزية، لديها مركز، عاصمة مركزية ، حكومة مركزية، قوانين مركزية، دستور مركزي، مفهوم مركزي للإنسان لا يقبل التعدد، لذلك كان نموذجها التاريخي الأبرز، الدولة القومية، التي تنصهر فيها الأعراق كلها في نموذج واحد. ومثال الدولة القومية الأوضح في هذا الضبط هي الدولة النازية. كانت خالصة العرقية، كانت تنظر إلى ما لا يتماثل مع وحدة عرقها، أنها طفيليات زائدة ينبغي التخلص منها أو دمجها في نفس العرق وإعادة تأهيلها.

هي تشبه البستاني الذي لا يمكن أن يتسامح مع أي شذوذ في حديقته، لا بد أن يزيل أي ورقة صفراء أو أي نبات ضار، وهي تشبه المهندس الذي لا يقبل أي شذوذ يقع في خطوط مدينته، وتشبه الطبيب الذي لا يقبل أي خطأ في الجسم، فالأخطاء يراها عاهات وعيوباً خلقية، كذلك الدولة النازية لا تقبل أي شيء يقع خارجها، خارج عرقها، أو خارج مفهومها للإنسان النافع، تراه هذا الخارج كائنا ضارا ينبغي التخلص منه. لذلك كانت لا تنظر إلى المعاقين أو الذين يعانون من احتياجات خاصة، مواطنين كاملين، كانت كثيرا ما تتخلص منهم أو تتعامل معهم ككائنات تمثل عبئا عليها. من هنا فاليهود الذين لم يستوعبهم هذا العرق النازي الأحادي قد تمّ التخلص منهم بالحرق والهولوكوست والتهجير لأنهم كائنات زائدة، تضر هذا الضبط الذي بدونه تفقد الدولة مطلقيتها.

القومية المطلقة

الدولة القومية المطلقة لا تقبل الأديان المتعددة، لأن الأديان المتعددة تُعطي تفسيرات مختلفة، وولاءات مختلفة، ونماذج مختلفة، وهذا يقوض فكرة المركز. هي تريد وحدات متشابهة (من البشر والشوارع والبيوت والمصانع) يمكن قياسها والتحكم فيها، الكل ينصهر في بوتقة واحدة هي بوتقة الدولة المضبوطة.

الدولة المطلقة وجدت نفسها في نموذجها النازي لا يمكنها أن تقبل باليهود الذين لا يمكن استيعابهم ضمن الهوية الواحدة القومية المضبوطة، وينبغي لها التفكير في التخلص منهم بأي طريقة كانت بأن توجههم إلى مناطق أخرى، كما يتخلصون من نفايات أو من أي شكل لا يمكن أن يخضع لشكل الوحدة المضبوطة، وهي الوحدة التي يشتغل بها المصنع، والمصنع هو نموذج الدولة المطلقة.

يذهب المسيري، إلى أن إنشاء الصهيونية هي عملية رشيدة بمقياس الدولة الرشيدة، وذلك لأنها تأتي في سياق التخلص من هذه الزوائد الطفيلية، فقد وجدت الدولة الغربية أنها تريد أن تتخلص من الزوائد الفائضة على عرقها، فدفعت بالجماعات اليهودية التي لم يمكن صهرها إلى خارجها.

هذه الدولة المطلقة واجهت تحديات كبيرة بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، وهذه التحديات جعلتها تتخذ أشكال أخرى تتفتت فيها هذه الوحدة الصلبة التي تقوم عليها، وهذا موضوع آخر.الآن علينا أن نعرف علاقة الدولة المطلقة بالعلمنة الشاملة.

الطلاق الشامل

يمكننا من خلال فهم كلام المسيري أن أصيغ معادلة على هذا النحو: كلما توسعت عمليات الإطلاق، ازدادت العلمنة شمولاً. وتحولت العلمانية الجزئية إلى علمانية شمولية. وأعني بعمليات الإطلاق أن تطلق العناصر المتجاوزة (الأخلاق، الغائية، الإله) من اعتبارها مراكز للمعنى والتفسير والحكم، تُطلِّقها، تتخلص منها، وبهذا الاستغناء تنفصل عن الغيب ومقتضياته الروحية، تنفصل عما كان يعبر عنه ماكس فيبر بالسحر.

بهذا الانفصال تحقق الطلاق الشامل، فتبدأ تؤسس مطلقات أرضية أخرى، مركزها كان في البداية هو الإنسان. في عصر النهضة والأنوار صار الإنسان مركزاً بعد أن كان الإله مركزاً، لكن مركزية الإنسان ستُخْتَزل في بعد مادي واحد.

بمعنى أن الواحدية المادية أصبحت هي المركز، فأصبحنا نتعامل مع الإنسان كآلة متقنة الصنع، وقد حلل المسيري مجاز الإنسان الآلة تحليلا بارعاً في مشروعه. هذه الآلة لها قوانينها، ويمكن تجريبها، والتعرف عليها بالحواس الخمس، ويمكن ضبطها ضبطاً تاماً. بالتالي أصبح الإنسان، بعد أن جردنا ما فيه من روحانيات ومطلقات وتراكيب، وكأنه وحدة متشابهة.لم يعد الإنسان هو المركز، بل جزء من الإنسان، هو الجزء الطبيعي أو الجزء المادي، والطبيعة والمادة دائماً محكومة بقوانين راشدة، لا تعرف التعاطف ولا الغيب ولا المتجاوزات ولا السحر. لا تعرف إلا موضوعها، لذلك هي موضوعية تتعامل مع وحدات متشابهة.

العلمانية المطلقة

بهذا الطلاق والتحول من إطلاقيات عناصر التجاوز إلى إطلاقيات المادة، ستتسع عمليات العلمنة بالتدريج، بعد أن كانت جزئية لا تتجاوز فصل السلطة السياسية والشأن الإداري عن السلطة الدينية ورجالها، وهذا الأمر كان في تجربة الدولة الغربية في بداياتها قبل أن تصبح غولا يلتهم كل شيء بما تتيحه لها وسائل السيطرة. مع اطراد الإطلاقيات المادية ستتحول العلمنة الجزئية إلى علمانية شاملة، سيموت الإله والإنسان والغايات الخلاصية والإنسانية، وسيكون المجتمع والإنسان والدولة وكل شيء في الحياة بلا مركز متجاوز. ستكون العلمنة مطلقة من كل شيء يتجاوز المادة والدنيا.

إطلاق اليد الخفية

سيمكننا أن نسيطر على كل شيء في الإنسان وفي الطبيعة بهذا الإطلاق، وسيكون لدينا مراكز تحكم قوية بالحياة، ومضبوطة جداً، يمكننا استعمالها ببرود من دون حس أخلاقي. عملية التحول إلى هذه العلمانية الشاملة المركزية المطلقة سنجدها تعبر عن نفسها بعدة صور، عبر عنها فلاسفة ومفكرون غربيون، وهي صور تعبر عن نفس المفهوم لكن بزوايا مختلفة. نأخذ مثلاً تعبير "اليد الخفية وآليات السوق" لآدم سميث، "وسائل الإنتاج" عند ماركس، "الجنس" عند فرويد، "البقاء للأقوى" عند دارون، "إرادة القوة" عند نيتشة، "الروح المطلقة" عند هيجل. كل هذه المصطلحات ترتد في النهاية إلى مركزية الإنسان التي هي في النهاية مركزية المادة والطبيعة، كل هذه التحولات ستقود لهذه المركزية كما نشهدها اليوم في الحضارة الغربية.

بذلك تتحول الدولة باعتبار الجهاز الأكثر ضبطاً، إلى الإله الجديد الذي سيحكم الإنسان بآلياته الضخمة. ستتخذ الدولة صيغة العلمنة الشاملة التي لن تبقي على جزء دون جزء، ستشمل الإنسان كله، ستتوغل في كل شيء، ستكون غولاً وتنينا يكتسح كل شيء في الإنسان، لن تصبح هناك مساحة للإنسان كي يتحرك وقد ضبطته الدولة ضبطاً متقناً.

* هذه المادة التي تنشر على أربع حلقات، تم تفريغها من نص محاضرة علي الديري في 17يوليو 2008، التي أقامتها جمعية مقاومة التطبيع البحرينية، في قاعة فلسطين، في جمعية وعد.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=132665

تقريب القرضاوي

عقد في سبتمبر2003 في البحرين، مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية، تحت رعاية جلالة الملك، وهي رعاية تحمل في دلالتها الضمنية معاني مؤتمرات التقريب التي أصبحت واجهة سياسية للمشاريع الإصلاحية، يمكنك عبرها أن تلمع ما تريد وأن تمرر ما تريد وأن تَظهر بما تريد.

في هذا المؤتمر الذي استمتعت فيه كثيراً بوجبة الفطور الفاخرة، ولم تنغصها المشادة الكلامية التي أثارها التقريبون فيما بينهم، بسبب فلتة من فلتات بعضهم على بعضهم. كان الشيخ القرضاوي مشاركاً بعلامة اعتداله الظاهرة على جنبه، فقد كانت إلى جنبه زوجته الشابة بحجابها الأنيق، تسنده بثقة امرأة عصرية منفتحة على الحياة.

2_4334_1_11

على هامش المؤتمر، كنت والأستاذ عبد الجبار الرفاعي، والسيد هاني فحص، والدكتورة زينب شوربا، بين الجد والهزل نسخر بمرارة من استنفاد مؤتمرات التقريب لمفاعيلها، وتحولها إلى واجهات يُفيد منها السياسيون والدعاة ورجال الدين. لاحقاً كتبت (زينب) في جريدة السفير مقالة نقدية رصينة عن انطباعاتها عن مؤتمرات التقريب، ووصفت الكلام الذي يدور فيها بأنه (استعادة أبدية) وهو يكرر نفسه في كل مؤتمر، ويلتزم بشرط الاقتصار على الايجابيات والابتعاد عن السلبيات وعدم الاقتراب من حقل الألغام، حقل المسكوت عنه واللامفكَّر فيه، حقل السلطات، سلطات الأنظمة والفقهاء[1].

ما يؤكد ذلك، الزوبعة التي هي بالتأكيد ليست في فنجان بين الأطراف الأكثر فاعلية في مشاريع التقريب التي اندلعت مؤخراً، بعد مقابلة الشيخ القرضاوي الداعية والأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وأحد أبرز نجوم مؤتمرات التقريب، مع جريدة المصري اليوم، التي قال فيها: "..أما الشيعة فهم مسلمون، ولكنهم مبتدعون وخطرهم يكمن في محاولتهم غزو المجتمع السني وهم مهيئون لذلك بما لديهم من ثروات بالمليارات وكوادر مدربة علي التبشير بالمنهج الشيعي في البلاد السنية"[2]

إذا كانت مؤتمرات خمسين سنة تقريب، لم تتمكن من إصلاح لغة داعية وعالم دين ورئيس مجلس علماء عالمي ونجم تقريب بحجم الشيخ القرضاوي، ولم تتمكن أيضاً من إصلاح لغة خصومه التقريبيين، فعلى الجميع أن يواجه نفسه بحقيقة أن مصطلح التقريب لم يكن، ولم يعد، فاعلاً في إنجاز خطاب عيش مشترك، وعلينا أن نقرّ مع السيد هاني فحص، بأن العيش المشترك لم يعد من مهمات مؤتمرات التقريب والدعاة، بل من مهمات مؤسسات المجتمع المدني. بل علينا أن نقرّ أن الدعاة يقربون الناس إلى دعواتهم الخلاصية، لا إلى العيش المشترك.

إن (الأزمة، أو الفتنة، أو التراشق، أو السباب والشتيمة، أو حملات التشويه أو القذف أو ..) التي أعقبت خطاب الشيخ القرضاوي، مرآة للدعاة ولعلماء التقريب ولخطاباتهم الهشة عن الوحدة والتقريب. يجب على هؤلاء الفاعلين في مجال التقريب، ومنهم الشيخ القرضاوي والشيخ محمد علي التسخيري، الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، لسماحة والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهم، أن يروا في هذه المرآة أزمة خطابهم. وعليهم أن يعيدوا النظر في توصيفاته التي دأبوا على ترديدها بأنها اعتدال ووسطية وتقريب ووحدوية.

وعلى المثقفين أيضاً، الذين اتخذوا إستراتيجية الاصطفاف، كما فعل الدكتور رضوان السيد، والإعلامي داوود الشريان[3]، وغيرهم ممن وقعوا بيان باسم المثقفين في موقع المسلم[4]. عليهم أن يفكّوا خطابهم من ورطة الاصطفاف والتبرير لهذه الخطابات. فمهمة المثقف لا تكمن في الاصطفاف، فتلك مهمة السياسي. المثقف مهمته النقد الذي يفتح خطابات الأزمة على رؤى جديدة.

مفهوم الابتداع الذي استخدمه الشيخ القرضاوي، تعبيراً عن رؤيته للشيعة، وتدليلاً على وسطيته واعتداله في مقابل من يقول بتكفير الشيعة، يحيل إلى ساحات احتراب الطوائف، لا ساحات التقريب ولا ساحات العيش المشترك. فهو يحمل شحنة دينية عقائدية فقهية، تحدد الحكم على الآخر أكثر مما تحدد رؤية الآخر. وهو حكم يقضي بقطيعة مع الآخر وإثارته واستفزازه، وما حدث من تراشق دليل على مفعول هذا الحكم (الابتداع) القاطع والمثير والمستفز. النظر إلى الآخر من خلال مصطلحات فقه القرون الوسطى، لن يقرّب غير العداوات والمشاحنات.

والعيش المشترك يقتضي استبدال معجم المصطلحات الفقهية التي تعبر فيها الجماعات عن بعضها بالشك والريبة والغيرية والضلال والابتداع والنصب، بمصطلحات تنتمي إلى المجتمع المدني، الذي لا يفاضل بين الناس على أساس بوليصات ضمان دخولهم الجنة، بل على أساس حقهم في العيش المشترك.

إذا كان خطابات القرضاوي، والتسخيري والسيد فضل الله، تقدم نفسها بصفتها داعية تقريب ووحدة، فعليها أن نواجه مصطلحات (البدعة والتكفير والنواصب والروافض والفرقة الناجية) [5] بقطيعة معرفية شجاعة وبدون حيل فقهية. فهي تنتمي إلى صراعات تاريخية، ليس من الحكمة استعادتها اليوم من قبل دعاة التقريب.

إن صراحة القرضاوي التي دفعته لاستخدام (مبتدعين) مقابل (الفرقة الناجية) التي عبر عنها بقوله ".. ونحن أهل السنة نوقن بأننا وحدنا الفرقة الناجية، وكلُّ الفرق الأخرى وقعت في البدع والضلالات"[6]

ومبدئيته التي عبر عنها بقوله: «ما قلته عن محاولات الغزو الشيعي للمجتمعات السنية، أنا مصرٌّ عليه، ولا بد من التصدي له، وإلا خنَّا الأمانة، وفرطنا في حق الأمة علينا. وتحذيري من هذا الغزو، هو تبصير للأمة بالمخاطر التي تتهدَّدها نتيجة لهذا التهوُّر»[7]. بحاجة إلى أن تتحول إلى شجاعة لمواجهة الذات ومآزقها بدون الحاجة إلى استحضار أوهام الأعداء وخطاب التهويل والتحذير والعويل التي يتفنن فيها الدعاة ويرقصون عليها أتباعهم. لا نجاة في الدنيا ولا في الآخرة لأحد وحده. وإذا كنا لا نستطيع أن نتحرر من أوهام الفرقة الناجية وسياقها السياسي التاريخي الذي روّج لفكرتها، فكيف يمكن أن نحرر ذواتنا وننجيها من حروب الماضي.

وإذا كان الشيخ القرضاوي ينبهنا من أجل المستقبل " عندما نبهت لهذا الأمر أردت أن أحول دون الفتنة الكبرى المستقبلية، وهو نوع من استشراف المستقبل، ومن الاحتياط للغد حتى لا نقع في معارك بين أبناء الأمة بعضهم البعض" [8] فلنا أن نسأله: هل يمكن استشراف المستقبل بمفاهيم تحيل على الماضي؟ وهل يمكن أن نتجنب معارك بين أبناء الأمة بعضهم البعض بالمفاهيم التي أنتجت معارك الماضي؟ وهل يمكن أن نحول دون الفتنة بمفاهيم الفتنة نفسها ومفاتيحها؟ مفاهيم مثل (البدعة والتكفير والنواصب والروافض والفرقة الناجية) كلها تنتمي إلى تراث الاحترابات الماضية، واستشراف المستقبل يكون بالقطيعة مع هذه المفاهيم التي ترينا المستقبل بعيون الماضي.

مؤتمرات التقريب مع الأسف لم تعمل على استشراف المستقبل إلا عبر عيون هذه المفاهيم، والتقريبيون أهون عليهم أن تفقأ عيونهم ولا تفقأ عيون هذه المفاهيم. فهي تقرّب المستقبل من الماضي، وتقرّب معارك الماضي إلى المستقبل، فتدخر للأمة وأبنائها معاركهم المؤجلة.

يمكننا أن نقول مع فهمي هويدي (أخطأت يا مولانا) [9]، لكن ليس بمنظور فقه التوازنات والأولويات الذي تحدث عنه فهمي هويدي، بل بمنظور استشراف المستقبل.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=8289

الهوامش

[1] زينب شوربا ، انطباعات عن مؤتمر التقريب بين المذاهب، جريدة السفير،2003/10/13.

[2] جريدة المصري اليوم، الثلاثاء ٩ سبتمبر ٢٠٠٨

http://www.almasry-alyoum.com/article2.aspx?ArticleID=177870&IssueID=1158

[3] انظر:

– رضوان السيد، الشيخ القرضاوي والمحنة الشيعية ـ السنية، جريدة الشرق الأوسط، الجمعة 26 سبتمبر2008.

– داوود الشريان، المد الإيراني والقرضاوي، جريدة الحياة، السبت 27 سبتمبر.

[4] انظر موقع المسلم:

http://almoslim.net/.

[5] انظركتاب: جورج طرابشي، هرطقات2، عن العلمانية كإشكالية إسلامية – إسلامية، دار الساقي،2008.

[6]، [2] انظر:بيان القرضاوي

http://www.islamonline.net/Arabic/Doc/declaration/2008/09/01.shtml

[7]، [8] انظر موقع العربية نت:

http://www.alarabiya.net/save_print.php?print=1&cont_id=57243

[9] فهمي هويدي، أخطأتَ يا مولانا، صحيفة الدستورالسبت– 21 سبتمبر 2008

http://dostor.org/ar/index.php?option=com_content&task=view&id=3838&Itemid=51