أرشيف التصنيف: مقالات

خرائط عبد الوهاب المسيري التفسيرية (2-4)

 

النماذج المعرفية

ما هي النماذج المعرفية أو الخرائط الإدراكية؟

هي مفاهيم ومقولات مجردة، يشتغل من خلالها العقل لفهم الواقع وما يقع فيه من أحداث، وما يجري فيه من علاقات، وما يتضمنه من كائنات وشخصيات وأماكن وجغرافيا، يدرك كل ذلك عبر المقولات المجردة. ماذا نعني بمصطلح المقولات؟

خارطة المقولات العشر

المقولة هي اصطلاح منطقي خرائط المسيري 2-4فلسفي موغل في القدم، وقد وضع أرسطو ما يعرف بالمقولات العشر، وهي مقولات الكم والكيف والزمن والمكان والإضافة والجوهر..الخ. هذه المقولات لعبت دوراً كبيراً في تاريخ المعرفة الإنسانية. في الحضارة الإسلامية مثلاً لا تجد فيلسوفا يتجاوز هذه المقولات العشر،لا بد أن يعرض لها ويفصلها، وكأنما أصبح عقل هؤلاء الفلاسفة والمناطقة مبرمجا بهذه المقولات العشر المصاغة وفق المنطق الأرسطي.

مقولة الكيفية في حدود المنطق الأرسطي مثلا، تمثل النموذج الذهني الذي يتيح لك أن تعرف كيفية شيء ما إنسان أو نبات أو ظاهرة طبيعية أو اجتماعية، وما حالاته وتغيراته التي تطرأ عليه، لكي تدرك وتفهم هذا الشيء، لكن مقولة الكيفية مع (أورغانون) فرنسيس بيكون الذي تحدثنا عنه، صارت نموذجاً معرفيا مختلفا، فقد صارت تتيح لك فهم كيفيات الأشياء في الواقع فهماً أكثر تجريبية. وهكذا بقية مقولات المنطق الأرسطي كلها تمثل نموذج إدراكي لفهم الأشياء والإنسان والواقع، والحقيقة أن الحداثة الغربية بدأت بالقطيعة مع مقولات هذا المنطق الذي فقد في القرن السادس عشر أن يرينا الواقع، فقد صار يعمينا عن أن نرى الحياة بشكل مختلف.

خارطة المقولة

لكن ما فكرة المقولة؟

في اللغة العربية حين نقول، قال بكذا أي اعتقد به، وكان هذا الاستخدام مرتبطاً بأصحاب المذاهب العقائدية في تراثنا. وتجد في كتب الملل والنحل أبواب عناوينها القائلون بكذا، القائلون بالتجسيم، القائلون بالتجريد، القائلون بالعدل، القائلون بالإمامة.القائلون هنا بمعنى المعتقدين.

المذهب يعرف بمقولاته المركزية، والمقولة أشبه بالاعتقاد، فالقول بالشيء هو الاعتقاد به. والمقالة مشتقة من الفعل قال، وهي تحمل فكرة أو اعتقاداً أو رأياً، ولدينا كتاب "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين"لأبي الحسن الأشعري، وهو من أشهر الكتب في تاريخ العقائد، وقد حققه عبد الرحمن بدوي. وهذا الكتاب يعرض للأفكار المذهبية (العقائدية) التي شغلت الفضاء العقائدي في الحضارة الإسلامية وانقسم حولها المسلمون مثل المعتزلة والأشاعرة.. إلخ.

المقولة إذا مشتقة من القول. أنت حين تقول بشيء يتحول إلى مقولة، أي إلى فكرة وعقيدة ورأي وأيديولوجيا. وأنت حين تقول بشيء، فأنت تقول جملة مكونة من مبتدأ وخبر بحسب تعبير النحاة أو قضية مكونة من موضوع ومحمول حسب التعبير المنطقي، أو خبراً مكونا من مسند ومسند إليه بحسب تعبير البلاغيين.

هناك ركنان أساسيان يكوّنان فكرة المقولة. حين تقول الله مجسم أو مجرد، أو تقول القرآن مخلوق، أو القرآن غير مخلوق، أو العالم قديم، أو العالم حديث، فأنت تقول جملة مكونة من ركنين، وحين تربط بينهما يتحولان إلى معتقد. فالمقولات هي نماذج ذهنية تركيبة يضعها الإنسان بفعل معرفته وعمله المعرفي.

تخرّق المقولة

هناك جوانب غير واعية تدخل في تكوين مقولاتك ومقولات مذهبك، فهناك تاريخ طويل يسبقك ويكوّن مقولاتك، وهناك تفاعل مركّب من الثقافات والحضارات يتقاطع في مقولاتك. المقولات الفكرية التي نضعها لفهمنا للأشياء؛ لفهمنا للإلوهية مثلا، والدين، والزمن، والإنسان والكرم والشرف والعدل والمرأة . هذه المقولات يتخرّقها تاريخ طويل وجهود بشرية متراكمة، وكل حضارة من الحضارات تضع فيها نَفَسها وما يسميه المسيري تحيزها.

حين تأتي إلى تعريف الإنسان في الحضارة اليونانية مثلاً ستجد أن هذه الحضارة تعرّف الإنسان بأنه حيوان عاقل، أو حيوان ناطق. في الحضارة الإسلامية ستجد التعريف الأقرب هو الإنسان حيوان مُبين. وكلمة مبين هنا، تحيل إلى اللغة والبيان الذي عرفت به الحضارة الإسلامية. إن تعريف الإنسان على إنه حيوان ناطق أو عاقل، تعطي ما تميزت به الحضارة اليونانية من اهتمام بالعقل والفلسفة والمنطق. وتعريف الإنسان بأنه حيوان مبين، يعطي ما تميزت به الحضارة الإسلامية من اهتمام باللغة والبيان والفصاحة.

حمل المقولة

وهكذا إذاً، نجد أن المقولات التي نضعها على المستوى المجرد، فيها نَفَس كل حضارة من الحضارات، لذلك هي تحمل في نفسها تحيزاً يمثل الحضارة التي هي قادمة منها. ما نقوله عن الإنسان أو الله أو اللغة أو الشعر (وغيرها من الموضوعات) يسمى حملاً، أي إنه يحمل رأينا ومعتقدنا ووجهة نظرنا عنه.من هناك نقول إن المقولة مكونة من موضوع (نتحدث عنه) ومحمول (حديثنا الذي نقوله عن الموضوع).

مقولة الشاي

أرجع إلى تعريف المقولة، حين نقول إن النماذج المعرفية التي يتحدث عنها المسيري هي مقولات وخرائط ذهنية، فنحن نقصد هنا أنها أفكار يقولها الإنسان، ليفهم بها حياته ويصنّف من خلالها الأشياء في واقعه، لذلك هي مفاهيم، نفسّر ونفهم من خلالها الأشياء. وإذا كنت أعطيت أمثلة لنماذج من العقائد، فهناك أيضاً نماذج أخرى من المقولات، وهي نماذج معرفية تتعلق بحياتنا اليومية، بعضها يتعلق بسلوكنا اليومي المعيش، وبعضها يتعلق بالسياسة وخطاباتها، واللغة التي نتواصل بها في الشارع والبيت، ونحن نستخدمها بطريقة غير واعية، لكنها تعطي تصوراً عن نمط العقل المكوّن لمقولاتنا وأفكارنا ونماذجنا.

يتميز المسيري، بالمناسبة، بأنه دائماً يعرض لقضاياه الفكرية، بأمثلة من حياته اليومية التي عاشها في الغرب، وحياته التي عاشها في الشرق. ويحاول من خلال هذه الأمثلة التي يضربها، والمواقف التي يحكيها أن يوضح المقولات الذهنية والفكرية التي تقف خلفها. يتحدث في أحد الأمثلة، عن الفرق بين المحاضرة وحفلة الشاي. فعندما عاد من دراسته وكان مدعواً ليقدم محاضرة في جامعة عين شمس، كان مفهوم حفلة الشاي ينتمي إلى نموذج فكري معين، ومفهوم المحاضرة ينتمي إلى نموذج فكري آخر. فأنت حين تقول حفلة شاي أو تقول محاضرة، لديك في ذهنك ليس فقط تصوران مختلفان بل أربع تصورات، تصوران في الشرق وتصوران في الغرب. وليس هناك إرشادات مكتوبة توضح لك ما هو النموذج، عليك أن تدركها كما هي وتعيشها هكذا.

وبالمناسبة لأن المسيري لم يكن يثقف متطلبات نموذج حفلة الشاي، فانخرط في مشروع موسوعته. ولتلك قصة طريفة يرويها في سيرته الفكرية، فقد وجد نفسه في إحدى حفلات الشاي التي ينظمها قسم اللغة الإنجليزية، خارج الجو النفسي لبرتوكل الحفلة، ووجد معه مصادفة فتاة خارج جو الحفل أيضا، وحين سألها عن جنسيتها، وقالت إنها يهودية، ومع تكراره السؤال، كانت تصرّ أن جنسيتها يهودية، أراد أن يفهم ماذا يعني أن تعرف جنسيتك بأنك يهودي في الستينيات في حفلة شاي ينظمها قسم أكاديمي بجامعة أمريكية. لقد وضعته حفلة الشاي هذه على طريق العمل على مشروع الموسوعة.

في الأعمال الفكرية حين نلاحظ نبدأ نكتشف فنشتغل، وقد يستغرق منا العمل سنوات طويلة كما هو الأمر مع المسيري، لقد ظل يحلل سنوات كي يكتشف ما يقبع خلف النماذج غير الواعية، من مقولات ذهنية، تسيّر عمل المفكر والفيلسوف والسياسي والإنسان العادي. وهذا هو جوهر عمل المسيري، وهذه الفكرة التي سأتحدث عنها حين نتحدث عن النماذج المعرفية التي وضعها المسيري لفهم الحضارة الغربية ولفهم الظاهرة الصهيونية.

إذا، شكلت التحولات الثلاثة: التحول من الموضوعية الفوتوغرافية إلى الموضوعية الاجتهادية، والتحول من العقل المتلقي السلبي إلى العقل المولد لنماذجه التفسيرية، والتحول من الرصد الكمي إلى ابتكار فكرة النماذج المعرفية لقراءة الواقع والعالم والانسان ومعرفته. شكلت هذه بمجموعها مسيرة المسيري الفكرية، وقد جاءت مع بعضها البعض ولا يمكن أن نفصل بعضها عن البعض الآخر، وهي قد تشكلت ليس بطريقة سهلة وبسيطة، وإنما أخذت تتفاعل وتطبخ في مسيرته شيئاً فشيء حتى اكتملت رؤيته لهذه التحولات وإدراكه لها. وهو كثيراً ما يشير على أنه في التسعينيات تقريباً استطاع أن يفهم كل هذه التركيبات التي اشتغل فيها في الموسوعة، واستطاع أن يفهم هذه التركيبات فهماً أعمق.

مقولة الواحدية المادية

الآن ما هي هذه النماذج التي وضعها المسيري لتفسير التغيرات والتحولات التي جاءت بها الحضارة الغربية والحداثة وما بعد الحداثة. وكيف أصبح الخطاب الغربي يرى الإنسان ويرى العالم عبر نموذج مادي بسيط، لا يفرق بين الطبيعة وبين الإنسان. سنبدأ بالمفهوم الذي يتكرر كثيراً في خطابه، وهو مفهوم الواحدية المادية.

الواحدية المادية هي رؤية توحد الإنسان بالكون مع استبعاد الإله تماماً، بل هي في تفسيرها للكون والإنسان والمعرفة والعلم، تستبعد ما يسميه المسيري بعناصر التجاوز، وهي العناصر التي يتجاوز بها الإنسان المادة والحس والملموس. على سبيل المثال، الإله هو واحد من عناصر التجاوز، فهو يتجاوز المادة ويتجاوز الحس، فمتى استبعدت الإله من هذا الكون، فأنت تفسر الكون بالواحدية المادية، أي تفسر الكون كمادة ذات بعد واحد فقط، وليس هناك شيء خارجها.

القيم والأخلاق هي أيضا من عناصر التجاوز فمتى استبعدتها وقعت في المادية الواحدية. أيضا الغايات العليا التي يضعها الإنسان لنفسه وحياته، هي من عناصر التجاوز. الواحدية المادية تؤمن أن تركيب الإنسان والكون والمعرفة، يرجع إلى مكون مادي وحيد، هي المادة التي نشهدها، هي ما نفسّر به كل ظواهر الكون، وكل القوانين التي يضعها العلم لا تدخل في أي تركيب منها شيء من عناصر التجاوز.

مقولة التجاوز

قامت هذه الواحدية المادية على فكرة فصل عناصر التجاوز عن الكون وعن الإنسان، فأصبح الكون مكتف بذاته، ومادته، لا يحتاج إلى شيء يتجاوزه، لا يحتاج إلى شيء تحته أو فوقه. من هنا يأت مصطلح الميتافيزيقا. الميتا يعني بعد أو فوق. الفيزيقا تعني المادة. فحين نتحدث عن الميتافيزيقا فإننا نتحدث عن ما بعد الكون، أو ما بعد المادة، أو ما بعد الواحدية المادية، أي عن التجاوز. الواحدية المادية تقيم قطيعة كاملة مع الميتافيزيقيا.

حين تفسر الكون بالميتافيزيقا، أي بعناصر التجاوز، فأنت هنا تتجاوز الواحدية المادية. وفي الحقيقة فإن الحضارة الغربية في حداثتها قامت على محاربة كل ما هو ميتافيزيقي. حاربت كل ما ينتمي لعناصر التجاوز في هذا الكون، ووجدت أن عناصر التجاوز تعيق فهم الانسان للكون، وتوقعه فيما لا يمكن البرهنة عليه، توقعه في الوهم والخرافة، كما ترى.

مقولة السحر

لذلك يعرّف ماكس فيبر الحداثة بأنها نزع السحر عن العالم، فحين تنزع السحر عن الأشياء فأنت تحدّث العالم والكون، فتستطيع أن تتعامل مع الكون برشد أكبر، أي بطريقة نفعية مادية تتيح لك أن تحقق بوسائل بسيطة أفضل النتائج وأفضل الأمور. نزع السحر، في جوهره يعني نزع عناصر التجاوز(الإله والغايات العليا والأخلاق).

ينتهي الأمر بالواحدية المادية إلى أنها في مراحلها المتقدمة تنكر أي ثبات، لأنها ستنكر الماهيات والجواهر، فهذه الأخيرة تنتمي إلى عناصر متجاوزة للطبيعة والمادة، وهذه العناصر لا يمكن الإمساك بها أو الاستدلال عليها، هي تريد أن تبحث عن ما هو متغير ومتحول، عما أسمته بالسيرورة حيث كل ما هو متغير ومتحول.

العناصر المتجاوزة فوق المادة ثابتة ولا تتغير، هي عناصر خالدة ثابتة أزلية لا تعرف السيرورة، لذلك تنتهي الواحدية المادية إلى إنكار كل ذلك، هنا ينفصل الكون تماماً عن كل ما هو متجاوز، ويغدو مكتفيا بذاته، يحيل إلى نفسه لا إلى شيء خارجه. ستنتج عن هذه الواحدية المادية نتائج تغير وجه التاريخ، وهذا ما سنعرفه من خلال النماذج المعرفية التي استخدمها المسيري في مشروعه، كمفهوم الدولة المطلقة ومفهوم الموضوعية الصلبة ومفهوم الدولة المطلقة ومفهوم العلمانية الشاملة والجماعات الوظيفية.وسأتناول هذه المفاهيم بما يأتي.

* هذه المادة التي تنشر على أربع حلقات، تم تفريغها من نص محاضرة علي الديري في 17يوليو 2008، التي أقامتها جمعية مقاومة التطبيع البحرينية، في قاعة فلسطين، في جمعية وعد.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=132574#

خرائط عبد الوهاب المسيري التفسيرية (1-4)

* هذه المادة التي تنشر على أربع حلقات، تم تفريغها من نص محاضرة علي الديري في 17يوليو 2008، التي أقامتها جمعية مقاومة التطبيع البحرينية، في قاعة فلسطين، في جمعية وعد.

خرائط عبد الوهاب المسيري التفسيرية (1-4)

عنون المسيري سيرته الذاتية التي أخرجها في عام 2000 بُعيد ابتداء محنته مع مرض السرطان، عنون هذه السيرة، بـ"رحلتي الفكرية، البذور والجذور والثمار"، وجعل لها عنواناً فرعياً، وصفها فيه بأنها "سيرة غير ذاتية غير موضوعية".

أجد أن الدخول على خارطة المسيري يبدأ من هذا العنوان الفرعي، الذي يمثل متن سيرة المسيري نفسها. فماذا يعني المسيري حين يصف سيرته بأنها سيرة غير موضوعية وغير ذاتية في الوقت نفسه؟

الثالث المرفوع

كأنه يوقعنا في محنة الثالث المرفوع الذي عرفته الفلسفة، وعرفه المنطق اليوناني، وقد اشتغل هذا الثالث المرفوع في الفلسفة اليونانية اشتغالاً كبيراً، وكان محل تطبيقات جدلية في الثقافة الإسلامية، خصوصا في علم الكلام. فما معنى الثالث المسيريالمرفوع؟

حين نحدد لون الورقة، فإنها إما أن تكون بيضاء أو لا بيضاء، كذلك السماء، إما زرقاء أو لا زرقاء، ليس هناك لون ثالث، اللون الثالث مرفوع، وحين نصف المسيري بأنه عربي أو لا عربي، ليس هناك وصف ثالث يخرج عن هذين الوصفين، فهو إن كان عربياً فهو لا عربي، وإن كان لا عربي، فهو ألماني أو إنجليزي أو فرنسي أو أي شيء يقع غير عربي، الصفة الثالثة مرفوعة أي غير موجودة.

إما وإما

في المنطق الأرسطي الذي سيطر على مجمل العقل اللاهوتي الإسلامي، كان الثالث المرفوع ركناً ركيناً من هذا المنطق، إضافة إلى ركن الهوية الذاتية للأشياء وركن عدم التعارض، هذه المكونات الثلاثة، جعلت العقل متأثر بالمنطق الأرسطي متصفا بالأحادية والحدية وعدم قبول إمكان تعدد وجهات النظر وتعدد الحقيقة، فالأشياء إما كذا وإما كذا، إنه منطق (إما وإما).

كان المتصوفة من أشد المعارضين معرفياً لسيطرة هذا المنهج في التفكير، وقد اعتبروا العقل قيداً حين يشتغل بهذا المنطق الحدي، وكان ابن عربي يقول العقل قيد، وهذا جعله يفضل المعرفة التي تقوم على القلب، لأنه حية ومتقلبة الوجوه وفاتحة لإمكانات تأويل.

خارطة أرسطو

يعتبر كتاب على الوردي (منطق ابن خلدون) من أكثر الكتب أهمية في نقد هذا المنطق ودعوة إلى تجاوزه، ولا بأس أن أذكر، هنا، بأن عصر النهضة الأوربية قد دشنه فرنسيس بيكون(1561 – 1626) بكتاب ” الأورغانون الجديد“، لقد نقد منطق أرسطو (الأورغانون القديم) واعتبره صنماً نظرياً يعيق العلوم، وألف منطقاً جديداً سمّاه (الأورغانون الجديد) وهو يشكل جزءا من موسوعة علوم جديدة، لكن هذا الجزء الصغير صار هو الأهم وصار اسم للموسوعة كلها.

لقد وجد أن أورغانون أرسطو القديم، يبعدك عن الواقع ويحجرك في قوالب جامدة ومتعالية على الحياة، ولم يكن يتيح لك أن تجرّب، كان منطقاً صوريا نظريا صرفا، وفتح المعرفة التجريبية، قد بدأ بعد كسر قفل منطق أرسطو.بهذا الكسر، صارت خارطة إدراك الواقع مفتوحة على إمكانات جديدة، لم تكن خارطة أرسطو تسمح باكتشافها.

خارطة المسيري

يبدو أني قد أغرقتكم في مقدمتي بتفاصيل أبعدتنا عن المسيري، لكن لا بأس، فالمسيري، كان من أشد المبشرين بنهج تفكير جديد، يقوم على النماذج المعرفية بدلاً من المنهج الكمي، وهو بذلك يبشر بـ(أورغانون) تفكير جديد، وليس بمعلومات جديدة.وبهذا أنا أبرر هذه المقدمة الطويلة، لأنها تتحدث عن منهج تفكير جديد، وهي التي تجعل من المسيري مشروع تفكير جديد.

بالعودة إلى وصف المسيري لسيرته، نحن نعرف الذاتي بأنه عكس الموضوعي، فإما نقول هذا البحث ذاتي وإما أن نقول هذا البحث موضوعي. فإذا قلنا إنه ذاتي فهو غير موضوعي، والعكس صحيح. فكيف يكون هو لا ذاتي ولا موضوعي في نفس الوقت؟ كأنه يوقعنا في إشكالية الثالث المرفوع، أي كأنه يقول هذه الورقة ليس بيضا وليست لا بيضاء، وهي إشكالية يوهمنا المنطق الأرسطي أن الوقوع فيها يدل على فساد التكفير وخطئه.

هذه الإشكالية، إشكالية الذاتي والموضوع، تكاد تمثل لب مسيرة المسيري الفكرية، وخلاصة بذورها وجذورها وثمارها الفكرية. يتميز المفكرون عادة يما يتمتعون به من إشكاليات، وما يخلفونه بعدهم من تناقضات وإشكالات عميقة تدفع الآخرين لمحاولة حلها، أو لمحاولة إعادة تركيبتهم الذهنية ونماذجهم المعرفية ومنطلقاتهم وفق مقترحاتها، لكي يعيدوا فهمهم لذواتهم وللعالم وللأحداث.

لو عرضت هذه السيرة أو هذا الوصف على أساتذة التربية وهم المشبعون بنماذج البحث الكمي الموضوعي، وقلت بأن هذا بحث غير موضوعي وغير ذاتي، لاتهموك بالتناقض، وبأنك تمارس نوع من العبث أو اللعبة الذي لا تنتمي إلى الكتابة الفكرية أو العلمية. ونحن لم نعرف المسيري عابثاً ولا لاعباً، بل عرفناه مفكراً جاداً. فكيف يصف سيرته بهذا الوصف؟

لكي نفهم هذا الوصف، ونستطيع الدخول على خارطة المسيري، سأستحضر نصاً من سيرة المسيري يتحدث فيه عن ثلاثة تحولات صاغت خلاصة تفكيره، وصاغت مشروعه الأهم في حياته، وهو مشروع "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد ". ما هي هذه التحولات الثلاثة التي تحدث عنها المسيري في سيرته وصاغت مشروعه الفكري؟

أورغانون الموضوعية

التحول الأول هو التحول من الموضوعية الفوتوغرافية إلى الموضوعية النسبية. يعني المسيري بالموضوعية الفوتوغرافية، أنك تتوهم، كإنسان وكباحث وكعقل، بأنك محايد تماماً، أمام الموضوعات الخارجية، الموضوعات التي هي خارجك. أنت عليك كباحث أن تأتي إلى المعلومات، وعليك أن لا تمارس تجاهها أي عمل توليدي، أنت تكون مجرد آلة فوتوغرافية فقط. فحين تأتي إلى الكم الهائل من المعلومات التي تتحدث عن الجماعات اليهودية، وكل ما يتعلق باليهود، عليك أن تكون باحثاً أميناً وموضوعياً ومحايداً وفوتوغرافياً، أن توثق المعلومات كما هي، وتوثقها، كما هي مستنداً إلى المراجع ولا تفعل شيئاً غير ذلك.

والموضوعية مشتقة من الموضوع. والموضوع شيء خارج الذات. الشيء الموضوع خارج الذات عليك أن تحضره في بحثك كما هو، دون أن تتدخل ذاتك في إنتاجه، وفي إعادة التعرف عليه، أو في إعادة تمثيله، فإنك إن قمت بذلك فقد وقعت في الذاتية، فعليك أن تحافظ على الشيء كما هو موضوع في الخارج، على مسافة من ذاتك، وتصبح أنت في هذه الحالة، موضوعياً.

هذه الموضوعية الفوتوغرافية قد تحول عنها المسيري إلى الموضوعية النسبية، وهي الموضوعية التي تدرك أن الكائنات والأشياء الموضوعة في الخارج، حين تتحول إلى علامات، وتتحول إلى لغة، وتتحول إلى مفاهيم، فإن هناك نماذج إدراكية وخرائط ذهنية، تعمل على إعادة إنتاج الخارج والمعلومات. وبالتالي علينا أن نكون موضوعيين، لكن بموضوعية نسبية، وليس بموضوعية فوتوغرافية. علينا أن نجهد على أن نخضع للنقد نماذجنا الإدراكية التي تعمل على إنتاج هذه المعلومات وهذا الواقع، بأكبر قدر من الموضوعية، لكن الموضوعية هنا هي الموضوعية النسبية وليست الفوتوغرافية.

العقل التوليدي

كان من نتائج هذا التحول عند المسيري أن قاده إلى التحول الآخر، وهو أن الخرائط الذهنية التي ندرك من خلالها الخارج، هي خرائط توليدية. وهنا ينتقل إلى التحول الآخر في سيرته، وهو التحول من العقل السلبي، الذي يمثل صفحة بيضاء، تنطبع فيها الأشياء الخارجية، وكأنه لا دخل له في تكوينها إلى العقل المُوَلِّد. والعقل المولد هو العقل الذي يعمل، عبر خرائطه الذهنية ونماذجه الإدراكية على توليد المعرفة، وعلى توليد الخارج، وعلى توليد الآخر، وعلى توليد المعلومات. هذا العقل يستخدم أحياناً نماذج إدراكية غير واعية، وينتج عبرها معرفته، ويستخدم أحياناً نماذج إدراكية واعية، وينتج من خلا لها معرفته أيضاً.

وكان من ننتائج هذا التحول في حياة المسيري، أنه لم يخضع أبداً إلى النماذج الإدراكية التي بلورها الغرب، أو التي أنتجها مفكرون ينتمون إلى ثقافة مختلفة عن ثقافته أو إلى سياق سياسي وحضاري مختلف عن سياقه. فهو أنتج نماذجه الإدراكية الخاصة، وأنتج عقلانيته المولدة للنماذج الإدراكية التي أنتجت أيضاً فهماً مغايراً، لذلك جاءت موسوعته اليهود واليهودية، في عقلها المولد، جاءت بنماذجها المولدة من عقله وابتكاراته.

هذا هو التحول الثاني في مسيرة المسيري الفكرية، وبالمناسبة، هذه التحولات كما يقول المسيري لم تحدث دفعة واحدة، بل كانت تتوضح شيئاً فشيئاً، وتتحول من منطقة العتمة إلى منطقة الوضوح والنور. وهو يصرّ على أن هذه التحولات الثلاثة مترابطة بعضها بالبعض الآخر، ويقود بعضها إلى البعض الآخر. فرفض الموضوعية الفوتوغرافية يجعله يؤمن بفكرة العقلانية المولدة. لأنك إذا لم تكن مجرد شيء محايد، وكأنك أداة كمبيوتر تستقبل المعلومات فقط، ستكون عقلاً مولداً تولد نماذجك المعرفية.

أورغانون النماذج المعرفية

أما عن التحول الثالث عند المسيري، فهو التحول إلى النماذج المعرفية الإدراكية، وهذا هو جوهر التحولين الأول والثاني. فهو بذلك أصبح الآن يدرك الواقع، وكل ما يجري فيه من معلومات وكائنات، كل ما يجري في الواقع، يجري وفق خارطة النماذج المعرفية، ولا يجري عبر الرصد الاستقصائي المعلوماتي المراكم كما تعمل المناهج التقليدية والمناهج السائدة. فهو أمام هذا الكم الهائل، يريد أن يدرك الأشياء عبر نماذج. فهو لا يستطيع أن يدرك تفاصيل كل الأشياء. لا بد أن يضع له نماذج يدرك بها، وهذه النماذج تكون غالباً موجودة بفعل ثقافته وحضارته، وتكون نماذج غير واعية، وأحياناً تكون النماذج واعية ويضعها العقل بقصد واع.

ما تميز به عمل المسيري، يتمثل في النقطة الثالثة، التي جعلته يضع نماذج معرفية للظواهر التي مرّ بها في رحلته الفكرية، وظاهرة الصهيونية، من الظواهر التي وضع لها المسيري نماذجه إدراكية ذهنية، فكانت خرائطه الإدراكية التي تستطيع أن تفسرها بعمق كبير.

هذه التحولات الثلاث تمثل مفاتيح الدخول على خارطة المسيري الفكرية. وهو لا يكفّ في بحوثه وفي موسوعته وفي سيرته الذاتية وفي مقابلاته المعرفية عن الحديث عن هذه التحولات المعرفية، وكأنه يريد أن يثبت أهمية النماذج المعرفية، في إدراك الواقع، وفي كشف التحيزات الموجودة في الواقع.

الآن، ما هي النماذج المعرفية أو الإدراكية، وكيف تصنع هذه النماذج تحيزاتنا؟ وما النماذج المعرفية التي وضعها المسيري في موسوعته المعرفية، لقراءة الحضارة الغربية، وقراءة الحداثة، وقراءة ما بعد الحداثة، وقراءة ظاهرة اليهود واليهودية؟

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=131783

بعد الحداثة هي لحظة نسيان الأسـماء التي علّمهـا الإلـه لآدم

ورقة افتتاحية لحلقة نقاش حول ما بعد الحداثة بأسرة الأدباء والكتاب في 21يوليو2008

ما بعد الحداثة، حمّالة أوجه وحمالة حطب.وجوه معانيها متعددة ووجوه تطبيقاتها متعددة ووجوه تجلياتها متعددة، لذلك هي حمّالة أوجه. وهي حماّلة حطب، في إشارة إلى أم جميل زوجة أبي لهب التي كانت تحمل الحطب وتحرقه أمام بيت النبي، لتهدد الدعوة النبوية التي كانت تبشر بمركز معنى جديد للإنسان.

مفكرو يوم القيامة
ما بعد الحداثة، أحرقت بحطبها كل المركزيات والثوابت ومعايير تمييز الأشياء والحضورات المتعالية وأعلنت نهاية الدعوات السماوية والأرضية، من أديان وأيديولوجيات وفلسفات مثالية، حتى صار مفكروها يسمون بمفكري يوم القيامة، فهو لا يكفون عن إعلان النهايات، نهاية الإله ونهاية الإنسان ونهاية العقلانية ونهاية الحداثة ونهاية التاريخ ونهاية المركز.
لقد أحرقت ما بعد الحداثة المدلول، لم يعد الدال يحيل إلى مدلول أو يتطابق معه، لقد غدا الدال منفصلا ومستقلا وحراً ومختلفاً ومرجأ. وكي نوضح ذلك، علينا أن نتذكر أن العلامة تتكون من ثلاثة مكونات: الدال (الكلمة) والمدلول (المعنى) والمرجع (الواقع).
ذهب سوسير إن نظام اللغة يتكون من علامات، والدوال علاقتها بالمدلولات اعتباطية. فالكتاب (دال) اعتباطي، ليس هناك علاقة سببية أو طبيعية تجعلنا نطلق هذه الكلمة على الكتاب، وكان يمكن أن نسميه قلم، هكذا تتكون اللغة من دوال مختلفة كي تستحضر مدلولات مختلفة. وهي بهذه الطريقة تستحضر الأشياء التي في الواقع (المرجع).

محو الشيء
الدوال ليست مرتبطة بهذه الأشياء التي في الواقع ارتباطاً سببيا وهي ليست موقوفة على الواقع، لذلك الدوال في حل من هذه الأشياء التي في الخارج، ويمكن لهذه الدوال أن تقيم بين بعضها علاقات متحررة من أي مرجع خارج اللغة. من هذه العلاقات يمكنها أن تنشئ واقعاً جديدا، تسميه بطريقتها التي تريدها وترغب فيها.من غير أن تستند إلى شيء خارجها (إله، عقل، واقع، ثابت، مركز، مرجع) يعطيها المشروعية.
سوسير محا فكرة الشيء (المرجع) وأحل محله فكرة العلاقات. والعلاقات ليست لها مركز واضح، إنها مجرد روابط اختلافية. هناك مسافة بين الدال والمدلول، تأخذ شكل ”ثغرة أو هيمنة أو عمل تحكمي”.
يشير مصطفى ناصف في قراءته إلى ما بعد الحداثة إلى ما أحدثته من تحول في البلاغة، فقد قامت البلاغة التقليدية على فكرة القصد ووحدة الجهة والثقة بمعرفة شيء متميز تماما، وقامت البلاغة المعاصرة على ملاحقة ما يسميه نيتشه جيشا متحركا من الاستعارات والكنايات والتجسيمات، حتى أصبحت كلمة اللغة يراد بها أحيانا فكرة الصورة.
ما بعد الحداثة هي، الانتقال من فكرة المعنى الثابت المتميز والبيان والمدلول والعقل والمنطق إلى المتداخل والعلامة والتشكيل والسطوة والدال والرغبة والتأثير[1].
القوة التي تهيمن تصيّر هذه المسافة بين الدال والمدلول لصالحها، هكذا تصير الأشياء في حالة صيرورة (تغير) مستمر، وفق ما يريده القوي، الخطاب الذي يستخدم الحق (الدال) لا يحيل إلى الحق ولا إلى العقل ولا إلى الرب، بل يحيل إلى ما يريده القوي والمهمين حقاً.
واللون الدال على الجميل، لا يحيل إلى قيم مطلقة تمثل الجمال العقلاني أو الإنساني أو الرباني، بل يحيل إلى ما يراه القوي جميلاً، هكذا الموضة يصنعها من يملك قوة التحكم في السوق وساحات التداول.

دوال الاستهلاك
يشير عبدالوهاب المسيري في قراءته لما بعد الحداثة إلى أن هناك مجموعة من الثنائيات الأساسية: الإنتاج مقابل الاستهلاك، المنفعة -البرانية- مقابل اللذة -الجسدية-، التحكم والإرجاء مقابل الانفلات والإشباع المباشر، التراكم مقابل التبديد والإنفاق، الدولة مقابل السوق.
والطرف الأول من الثنائية (الإنتاج والمنفعة والتحكم والإرجاء والتراكم والدولة) يفترض وجود مركز للكون (إنساني أو طبيعي). حين يسود هذا الطرف من الثنائية فإننا ندخل عالم الحداثة.
أما الطرف الثاني من الثنائية (الاستهلاك واللذة والانفلات والإشباع المباشر والتبديد والسوق) فيفترض انعدام الحدود وغياب المركز. ومن ثم تتساوى كل الأشياء، وهذا هو عالم ما بعد الحداثة السائلة [2].
على مستوى الإبداع، لم يعد الأدب خاضعاً إلى تقاليد تسبقه أو شعرية تحدد معاييره أو ملتزماً بأيدلوجيا يتطابق معها، لم يعد ملتزما حتى بالمتلقي، هو يمثل نفسه، هو لا يدل على شيء خارجه. والخطاب السياسي كذلك ليس محكوماً بمنظومة عقلانية أو حقوقية أو إنسانية، كما بشّر بذلك عصر الأنوار، حتى عقلانية عصر الأنوار لم تعد مرجعية. ثمة محو للثنائيات والمسافات وسد للثغرات بين الجسد والروح والسماء والأرض والعقل والخيال والأنوثة والذكورة والدال والمدلول، صرنا أمام دالٍ ابتلع مدلوله، كما يقول المسيري.

التطهر من الميتافيزيقا
سوسير لم يلغ تماماً العلاقة بين الدال والمدلول، كذلك البنيويون، لذلك يتهمهم أنصار ما بعد الحداثة بأنهم مازالوا ملوثين بالميتافيزيقا (كل ما يتصل بالمثاليات والعقلانيات والإلهيات)، أي مازالت العلاقة بين الدال والمدلول قادرة على التواصل وإنتاج معنى. ما فعلته ما بعد الحداثة، هو أنها ألغت هذه العلاقة، فصار الدال يحيل إلى دال آخر لا إلى مدلول، هكذا صارت الإحالة لعبة دوال حرة، ليس هناك مركز يلزمك بالإشارة إليه. فمعنى النص يحيل إلى نص آخر ومعنى الكلمة يحيل إلى كلمة أخرى، لا توجد إحالة إلى شيء بالخارج، لا يوجد شيء خارج النص. دوال مثل الإله الإنسان العقل، لم تعد تحيل إلى نسق ثابت يقع خارج الإنسان، صارت مدلولات هذه الكلمات تحل في الإنسان نفسه، ومصطلح الأسرة الذي كان يشير إلى امرأة ورجل وأطفالهما فقد مدلوله، إذ أصبح يشير إلى أي ترتيب مستمر أو موقت بين أي عدد من البشر من أي جنس: ذكورا كانوا أم إناثا أم من المخنثين. الأسرة مثل أي نص ما بعد حداثي، منفتحة تماما وهي تجمل عددا من المعاني يجعلها أقرب إلى اللامعنى. كذلك دوال الحب والأنثى والجنس، وهذه يرصدها المسيري بدقة في نقده للحداثة.

نسيان أسماء آدم
يمكن القول (ما بعد الحداثة) هي لحظة نسيان الأسماء التي علّمها الإله لآدم.هي لحظة تحرر من معاني هذه الأسماء التي علمها الربّ، ولحظة تحرر من معاني الأسماء التي علمتها الأيديولوجيات والفلسفات المثالية والعقلانيات للإنسان. ما بعد الحداثة أسماء من غير علم (مدلول).
في دفاع الفيلسوف أبوليوس في مدينة صبراته عن نفسه ضد تهمة السحر التي وجهت له بسبب تزوجه من أرملة ثرية بعد أن رفضت كثيرا من الرجال، كان أبوليوس، يقول في قاعة المحكمة ”هل ثمة أمر أسخف من أن تستنتج من تشابه الأسماء تشابه معنى الأشياء؟”[3]
إنه يشير إلى لعبة الدال والمدلول التي استخدمها خضمه ضده، ما دمنا قادرين على إحداث التشابها والاختلافات فنحن قادرين على اللعب بالأشياء ومعانيها، وإذا كانت قوة خطاب أبوليوس مكنته من فضح هذه اللعبة، والدفاع عن حقيقته، فإن الجمهور الواقع تحت سيل من ألعاب الدوال لا يمكنه أن يكتشف سحر هذه الألعاب، وهي تشكل واقع الأشياء والعالم، إنه لا يملك غير خيار استهلاك هذا السحر بواقعية مفرطة الخيال.
قوة الوقف
كانت مهمة الحداثة كشف الحقيقة التي استمات أبوليوس في إثابتها باسم العقل، أما مهمة ما بعد الحداثة فهي التبرير لإرادة القوة والاستجابة لواقع غلبتها وهيمنتها، والتكيف مع الواقع الذي تخلقه. صارت القوة وإرادتها العمياء، إذ ليس لديها عيون تركز بها وفيها أو ترجع إليها، صارت هذه القوة تُوقف الدوال، كما كانت القوة الإلهية توقف الدوال على معانٍ ثابتة تعلمها للإنسان، كي يستقر بها. من يوقف الدوال (اللغة) يهيمن على الواقع. ما بعد الحداثة أوقفت الدوال عن أن تكون تابعاً لمركز أو معنى أو مدلول سابق. صارت القوة هي التي تنشئ الواقع والعوالم ولا حقيقة خارج إنشائها. لقد تحولت فلسفة اللغة من فلسفة صدق وكذب ومطابق للواقع وغير مطابق للواقع إلى ”فلسفة مجازات واستعارات أو تخيلات. نحن أمام دوال لا أمام مدلولات. لقد أزحنا كلمة الواقع أو كلمة المرجع”[4].
لـــذلك نجد إدوارد سعيد يــــوصي بأن نضـــع النــص في الدنيا بدلا أن نضعه في عالم مثل غامضة وأحلام نقية وان نقـــرأه قراءة سياسية. لايمكننا أن نقرأ الخطابات التي تتحدث عن الإرهاب والطائفية والمواطنة وحقوق الإنسان، وكأنها أسماء آدم التي أوقف الله معانيها في الجنة على الحق والصدق والواقع، بل هي دوال في الدنيا ومعانيها ملوثة بالتفاحة التي هبطت بنا إلى هذا العالم.
جذمور ما بعد الحداثة
من أكثر المجازات دلالة على ما بعد الحداثة، مجاز الجذمور Rhizome، الجذمور ساق أرضية تشبه الجذر أحيانا. يكون الجذمور أفقياً وفي نفس مستوى الأرض تقريبا مثل جذمور السوسن أو أعمق بكثير مثل جذمور اللبلاب أو البطاطس.
يشير هذا المجاز عند دولوز[5] إلى ضرورة التخلص من نزعة البحث عن الجذور أو العودة إلى الأصول أو لحظة الميلاد الأولى (الجذر – البذرة)، وكذلك يشير إلى التخلص من الولع بالوصول إلى النهايات وتحقيق الغايات (الثمرة – البذرة) [6] ولهذا كانت حملته على ولع هيدجر ببواكير الفكر اليوناني وفي نفس الوقت حملته على تبني الفلاسفة الفرنسيين للمقولة الهيجيلية حول نهاية الفلسفة. والجذمور أيضا تلخيص لشعاره ”فلنبدأ من الوسط” ويتميز الجذمور عن الشجرة وعن البذرة وعن الجذر في أنه يحقق ثلاثة شروط أساسية وهي:الاتصال والغيرية والتعددية التي لا تميل لأصل يجمعها. ويرى دولوز أن اللغات كلها قد تكونت طبقا لهذه الآلية.
عندما نتصور الفكر مع صورة الجذمور فإن هذه الصورة تكسب الفكر ديناميكية وقدرة على التوليد. وتتبدى الملامح السياسية لفكرة الجذمور في هذا النداء الذي يوجهه دولوز لكل الطامحين في تحرير رغباتهم :”كونوا جذامير ولا تكونوا جذوراً، الشجرة نسب أما الجذمور فهو خلف، الشجرة تفرض فعل الكينونة بين الموضوع والمحمول أما الجذمور فيفترض حرف العطف.
لا داعي للبدء في شيء أو الانتهاء منه، فقط يحسن الخروج والدخول. إن الوسط ليس نقطة بين طرفيه ولكنه اتجاه عمودي وحركة اختراقية تأخذ الطرفين في غمارها”.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=123761

تغطية جريدة الوسط

الهوامش


[1] انظر: بعد الحداثة صوت وصدى، مصطفى ناصف، ص16 وما بعدها.
[2] انظر: عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة.
[3] أبوليوس، دفاع صبراته، ترجمة علي فهمي خشيم، ص.108
[4] بعد الحداثة صوت وصدى، مصطفى ناصف، ص.22
[5] عن مجاز الجذمور، انظر:
– أنور مغيث، سياسات الرغبة دراسة فلسفة دولوز السياسية.
– جان جاك لوسركل،عنف اللغة، ص.251
-عبدالوهاب المسيري، اللغة والمجاز، ص.45
[6] ربما كانت البذور والجذور والثمار في عنوان سيرة المسيري ”رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر، سيرة غير ذاتية غير موضوعية” معبراً ببلاغة عن معارضته ونقده لما بعد الحداثة.
– الورقة عبارة عن ورقة افتتاحية لحلقة نقاش حول ما بعد الحداثة بأسرة الأدباء والكتاب في 21يوليو2008

هل النساء مقياس الديمقراطية؟

مع تزايد الحظوظ النسائية في الفوز بمقاعد نيابية في انتخابات مجلس الأمة 2008، استبدل الخطاب الاجتماعي المضاد لترشح المرأة وتمكينها من حق الانتخاب، بلاغة الهجوم والجدية المفرطة في المعارضة، وأدوات الفتاوي وأحكام الولاية العامة والخاصة، لقد خفف أو استبدل هذه البلاغة، ببلاغة السخرية، وكأنه ضمنياً يعد نفسه لتقبل حقيقة أن المجلس النيابي لن يكون مجلس ذكور ينوبون عن المرأة وغيرها، بل سيكون مجلس إناث أيضا، وسيتولون النيابة عن المرأة وغيرها.

cvhyftryur ولم تجد هذه البلاغة أفضل فاعلية من المسجات التلفونية(SMS)، التي تتداولها النساء قبل الرجال، فإحدى الليبراليات الأكاديميات، حين سألتها عن تقييمها لحظوظ المرشحات في الفوز، أرسلت لي المسج التالي:

مصطلحات برلمانية نسائيه جديدة:

شهالمصاخه : (سؤال نيابي)

شهالعبّو : (نقطة نظام)

شدعوه ياحافظ : (إستجواب)

سليمة تصكك ومالت عليك : (طرح ثقة)

هو هو هو : (اختلاف وجهات النظر)

في النكتة سؤال نيابي، لكنه ليس من نوع (شهالمصاخة)، إنه من نوع ( واخزياه)، بمعنى، أن النكتة تسأل بالنيابة عن الجميع: هل سيوقعنا التمثيل النيابي النسائي في حرج، وذلك بأن يتحول المجلس النيابي إلى مجلس نسائي، تحكمه النساء ببلاغة (شهالمصاخه، شهالعبّو، شدعوه ياحافظ) التي تقارب الأشياء وتحكم عليها، بأعراف المجالس النسائية، وهي أعراف توطن نفسها للنيل من الآخرين من منطلق الذاتية والمزاج والغيرة والهوى، على عكس البلاغة الرجالية التي تحكمها أعراف الحق والعدل والعقل والحكمة والجدية وابتغاء وجه الله والحقيقة.

كان هذا منطق الديمقراطية اليونانية التي هي آدم الديمقراطيات، كانت تضع النساء والصبيان والعبيد في خانة من لا عقل لهم ولا بلاغة لهم، من ثم فهم لا يستطيعون أن يكون في مجلس المدينة. وهذا وجه من وجوه هذه الديمقراطية التي لم تمثل الإنسان مجرداً عن جنسه ولونه وعرقه.

كما كانت الديمقراطية اليونانية تقول الإنسان مقياس الأشياء كلها، يمكننا أن نقول المجتمع مقياس الديمقراطية، فالديمقراطية تأتي وفق معايير المجتمع ومقاييسه وأحكامه، والديمقراطية الكويتية في موقفها من المرأة، إنما تكشف مجتمعها ومنسوب حظه من الديمقراطية ومنطقها، وهو يعيش اليوم منتصف عقدها الرابع.

كانت المرشحة (رولا دشتي) الأكثر حظاً بالفوز تقول:" أنا أفكر بطريقة منفتحة وأقدم خطابا جديا وعمليا . خطابا يعتمد على الحلول وليس الشكوى". كأنها بهذا الخطاب ترد ضمنيا على منطق ديمقراطية مجتمعها الكويتي الذي لم ينصفها بعد، ولم ينصف تقييمه لبلاغتها التي ما زال يراها بلاغة مجالس نسائية وليست مجالس نيابية.

(هذه الفقرة نشرت خطأ بالجريدة وأعيد نشرها مصححة)

في يوم الاقتراع، اختلقت جريدة ”الشاهد” الأسبوعية، صورة قديمة لرولا دشتي مع السيد حسن نصر الله مرتدية الحجاب. تأتي هذه الصورة كأداة انتخابية توظفها الجريدة ضد دشتي، في وسط ذو ذائقة سياسية معينة. وكأن بلاغة الخطاب المضاد حين أعجزته بلاغة المرأة التي ظهرت بها رولا دشتي، لجأ إلى حيلة أخرى، وكي يحمي نفسه قانونياً وإعلامياً وأخلاقيا، استخدم بلاغة مفضوحة يقول فيها " ويقال إن الصورة مفبركة". ولكن البلاغة المفضوحة لا تحمي صاحبها من الاختلاق والفبركة. فالاختلاق ليس تركيب صورة، بل تركيب خطاب الصورة. وحتى لو كانت الصورة صحيحة، فالخطاب ليس صحيحاً بل مختلقاً ومدان أخلاقيا حتى لو كان بريئاً قانونياً.

يرصد أحد التقارير شعبية (رولا دشتي) بقوله أن شعبية (رولا) تمتد حتى في أوساط الرجال الذين يرون فيها امرأة رصينة وتتحدث بطريقة واقعية وليست " نسائية شعبية". لا أحد يقول عن مرشح رجل إنه يتحدث بطريقة واقعية وليست "رجالية شعبية". لماذا لا يقول أحد ذلك؟ لأن الشعبية تصف بلاغة النساء (عقلهم ومنطقهم ورؤيتهم للأمور) لا لغتهم، فالرجل حتى لو تكلم بالعامية، تبقى بلاغته واقعية ورصينة.

هكذا، الديمقراطية مازالت بعد لم تنصف حتى منطق بلاغة النساء فضلا عن النساء، ومازالت تجد فيها بعد أربعة عقود، مادة للسخرية، وإمعاناً في منطق السخرية، تسوق نكتة أخرى، شكل المجلس الجديد الذي ستشكله هذه البلاغة، بقولها:

"المجلس اليديد :

حمرة طايحة تحت الكرسي .

شيلة شوارسكي ناسينها .

علج بصري لازق على الطاولة .

فاتورة الجمعية بين الأوراق .

ووحدة تكلم السايق : بابو عقب ماتقط سبجو المدرسة مرني ، وييب وياك نص دينار سمبوسة"

للنكتة قدرة تمثيلية وقدر نيابية، فهي تمثل الأصوات الاجتماعية على اختلافها، وهي تنوب عن القوى الاجتماعية في التعبير عن موقفها من الأحداث والتغيرات والمستجدات. وربما تكون النكتة النسائية هي الأكثر تمثيلاً والأكثر نيابية، وذلك لأنها تعبر عن قطاع لا يملك قوة كافية للتعبير الصريح، ولأنها من جانب آخر تعبر عن القطاعات المحافظة التي تجد حرجاً في معارضة المشاركة النسائية في ظل الوعي الجندري، وفي ظل غلبة الخطاب الإعلامي الداعم للمرأة ولحضورها في الميدان العام.

تبقى البلاغة النسائية قادرة ترطيب المصطلحات البرلمانية الجافة (استجواب، نقطة نظام، طرح الثقة) بلغة أقرب إلى الشعب، ومن يملك اللغة الأكثر قرباً من الشعب، فهو الأجدر بتمثيله والنيابة عنه، فهل سيشهد البرلمان الكويتي

فهل سنقول لرولا دشتي أو أسيل العوضي أوسلوى الجسار (قرة عينش) بشوفة قاعة المجلس المستطير بعيون الرجال التي لا تبرد قلب الوطن.أم سنقول (غميضة) ولا قرة عيون الرجال؟

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=6968

http://www.awan.com.kw/node/69709

صك الولاء

يتبدى مفهوم الولاء في الدولة، ليس من خلال دعوات السياسيين والمثقفين بضرورة التحول من الولاءات الضيقة والخاصة إلى الولاء العام للدولة، فتلك لا تتجاوز أن تكون أمنيات في أحسن الأحوال، وفي أسوأها تلاعبات خطابية، لكن مفهوم الولاء، تظهره أصوات الخطابات الاجتماعية حين تشتد أزماتها في موقع الدولة.
خطاب الزميل محمد المحميد في عموده اليومي بصحيفة ”أخبار الخليج”، الذي كان تحت عنوان ”الشعوب ليست سامان ديغة”، يمثل خطاباً من خطابات الجماعات السياسية في الدولة، ومع أن العمود اليومي، هو مكان للرأي الذي يمثل الشخص، غير أنه هذه المرة لم يكن يمثل الشخص، بل كان صوت الجماعة فيه ينطق بما يدور فيها. غير أن هذا لا يعني أن هذا العمود محسوب على جماعة، بل هو محسوب على صاحبه فقط، وإن كان ينطق باسم جماعة و”الناطق باسم المجموعة هو الذي يؤكد على وجودها من خلال شرعية كلامه التي يظهرها[1]” وشرعية كلام هذا الخطاب تأتي من حجة صك الولاء الصامت.
ما الذي يقوله هذا الخطاب؟ وما المفهوم الذي يصدر عنه للولاء؟
يقول ”ونقولها اليوم وبكل جرأة وصراحة لأصحاب القرار والحكم في تلك الأوطان، جمهورية أو إمارة أو حتى مملكة، إن كان من يحرض على القتل والتحريض والتخريب وقلب نظام الحكم يكون ثوابه اليوم اللقاء معكم والجلوس عندكم واستلام العطايا والمناصب منكم، فإن الشعوب الصامتة في 2387079716_da5833c9bcأوطانكم بيدها أن تفعل ما يفعلونه وأكثر، وأن صك الولاء والصمت الأبدي الذي تتصورون أنكم ملكتم به الشعوب فإنها في حل منه، وليس له وجود ولا اعتبار وقد تم إلغاؤه، في اللحظة التي تشعر الشعوب أنها مجرد «سامان ديغة» أو «طنبور طين»، وهذا ما لا ترتضيه لكم ولا لها، لأن وجودها مرتبط بوجودكم، ومستقبلها موثوق بمستقبلكم، غير أن ما تقومون به أثار التساؤلات والاستفهامات والاستغرابات، مما يجعل بعض الشعب مضطرا لأن يطالب بإعادة ترتيب البيت والمستقبل بكم أو حتى من دونكم.. اقرأوا التاريخ.. وأعيدوا تقليب صفحاته، وناقشوا مستشاريكم ومن حولكم، فإن الشعب الصامت يوشك أن يتحرك ويثور جراء السياط والمظالم التي تنزل يوميا على ظهره بسبب قراراتكم وتحولاتكم ولقاءاتكم وعروضكم[2]”.
يصدر هذا الخطاب عن مفهوم للولاء، لا يتسق وشكل الدولة الوطنية الحديثة، فهذا الخطاب يتمثل الولاء وكأنه طاعة خاصة تقدمها جماعة لولاة الأمر، وفي مقابل هذه الطاعة الخاصة على ولاة الأمر أن تعطي هذه الجماعة وحدها مما عندها من ملك، كي تلزم صمتها، ويتهدد هذا الصمت بالثورة وإعادة ترتيب البيت من دون ولاة الأمر في حالة أن الجماعة لم تحصل على مبتغاها من أعطيات ولاة الأمر أو ذهبت إلى جماعة أخرى لا تلتزم صك الصمت الذي تلتزم هي به. هذا الخطاب ناطق إذن باسم جماعة تفهم مواطنيتها في صيغة صك سكوت. لقد قلت إن هذا المفهوم للولاء لا يتناسب وشكل الدولة الوطنية الحديثة، لأن صك الولاء القائم على صك الصمت يغلق الدولة، لأنه يغلق المواطنة التي لا تقوم إلا بحق النطق بالاحتجاج في الميدان العام.
هذا الصك يغلق الدولة على جماعة، ويغلق أبوابها العامة المفتوحة على المجتمع، والمجتمع المفتوح هو المجتمع الذي لا تغلق الدولة أبوابها من دون نطقه. الدولة جامع الولاء، أو هي مجمع الولاءات. الدولة ليست عقداً تصكه جماعة معها، بل هي تقوم على عقد يصكه المجتمع معها (Social Contract)، وهو ليس عقد صمت بل عقد نطق، وذلك لأنه حدق ينص على أن تحمي الدولة نطقهم المختلف والمتعدد والمتضارب المواقع والمصالح، بمعنى أن تكون الدولة نطاق نطقهم الآمن.
وإذا كانت الدولة (السلطة) في طور من أطوارها البدائية، تعطي صكوك غنيمة لجماعة من دون جماعة مقابل صكوك ولائها الصامت، فإنها لن تستطيع أن تكون دولة حديثة ووطنية من دون استيعاب جميع الجماعات المتعددة ضمن صك واحد، هو صك العقد الاجتماعي.
لذلك فهذا المفهوم للولاء، يجعل من صاحبه ناطقا لا باسم الولاء للدولة، بل باسم حقه من الولاء الشخصي أو الجماعي للسلطة في الدولة. ومجاز الصك يحيل إلى السوق وعمليات البيع والشراء، فالصك نوع من أنواع الأوراق التجارية، وكأن الولاء هنا هو عملية بيع تجارية تتم بورقة تجارية، وحين لا يكون لهذه الورقة ما يعادلها، في الخزينة أو في الحساب تفقد قيمتها، وتسقط من قانون التبادل التجاري. الولاء للدولة في شكلها الحديث، لا يمكن أن يستوعبه مجاز الصك، لأن ولاء الصك محكوم بأفق الغنيمة، فمن يملك صك الولاء ينتظر غنيمة من الدولة، والغنيمة في العرف القبلي، هي ما تأخذه القبيلة بالقوة عن طريق الغزو، وتعطيه لحلفائها وشركائها. وهذا النمط من الولاء الذي ينطق بك هذا الخطاب، يعزز من الصور النمطية التي عمل على تكريسها كثير من الكتاب الغربيين والتي هي اليوم محل مراجعة نقدية وعلمية.
فهذه الصور ترى أن دول الخليج [3] ليست إلا قبائل بأعلام tribes with flags، وأن الخليجي لا يشعر بمواطنته في دولة حديثة بل كعضو في تحالف قبلي واسع يمحض فيه ولاءه للشيخ المترئس للتحالف مقابل حصوله على نصيبه من الغنائم. وأن التراث القبلي الطويل المتسم بشراء الولاء والإخلاص تعزز عبر أُعطيات الدولة التي توزع المنافع والمنح لسكانها. والتي يتم توظيفها في شراء الشرعية من خلال الإنفاق العام إضافة إلى الأعطيات الممنوحة لأغراض كسب الولاء الشخصي.
إن منطق الدولة الوطنية الحديث، لا يمكن أن يتناسب وشكل هذا الولاء الذي يصدر عنه الخطاب الذي كان (المحميد) ناطقا باسمه، إنه يفرغ مفهوم الولاء الوطني من قيمته الجوهرية القائمة على أن الدولة وطن لكل الجماعات، وهي تعطيك لمواطنتك، لا لجماعتك، ولولائك لقوانينينها. وحتى لو خالفت قوانينها، فهي تعطيك ما تقرره هذه القوانين أيضا، أما مفهوم الولاء الذي يضيق بأي جماعة تشاركه في الغنيمة، وتزاعمه في النفوذ والسلطة، فهو يناسب القبيلة قبل أن تكون دولة. وهذا المفهوم للولاء المقرون بالغنيمة هو ما يؤكده نطق هذا الخطاب ”وتقديم الهبات والعروض والمناصب والمسؤوليات.. الأموال والمناصب فأعطوهم ما تشاءون، ولكن لا تبخلوا ولا تمنعوا الخير عن أبناء الوطن الآخرين المخلصين[4]”.

http://alwaqt.com/blog_art.php?baid=6747

الهوامش

[1]علي سالم، البناء على بيار بورديو، ص98.

[2] ، [4] جريدة أخبار الخليج، العدد 10987 ،الثلاثاء22 أبريل 2008 م

http://www.akhbar-alkhaleej.com/ArticlesFO.asp?Article=235003&Sn=RYTH

[3] انظر:محمد عبيد غباش، سلطة أكثر من مطلقة.. مجتمع أقل من عاجز .. الدولة الخليجية

http://editorials.blogunited.org /