أرشيف التصنيف: مقالات

استيحاشات نكاح الرضيعة

”والحكم بجواز نكاح الصغيرة لا يختص به فقهاء الشيعة بل إن فقهاء السنة يفتون أيضاً بجواز نكاح الصغيرة بل والرضيعة أيضاً. ومن شاء فليراجع مصادرهم الفقهية ومجاميعهم الروائية فإنه سيجد ذلك جليّاً، فلا معنى لتهريج بعض من لاحظَّ له من العلم على الشيعة بعد أن كان الحكم بالجواز ليس من مختصاتهم”[1] الشيخ محمد صنقور.

http://www.alhodacenter.com/index.php?p=details&lecID=186
صنقور منذ تعرفت في عام 2002 على معجم الشيخ محمد صنقور (المعجم الأصولي) الذي يتناول بالشرح معظم المصطلحات الأصولية وتحرير مسائل الأصول بحسب الترتيب الهجائي، ويقع في حدود الألف صفحة، وأنا أسعى للالتقاء به شخصياً، من أجل التعبير له عن إعجابي بالجهد العلمي الذي قام به في هذا الكتاب، لكن يبدو أن مجريات الشأن السياسي والثقافي والديني وما يترتب عليهم من احترابات ومواقف، كانت تضعف من فرص هذا اللقاء المرتجى، خصوصاً وأن الشيخ قد أصبح الناطق الإعلامي الرسمي باسم المجلس العلمائي، والمدافع عن مواقفه، وقد بدا الشيخ رغم قصوره الفادح في إدارة خطاب إعلامي وسياسي يتناغم وتعددية الساحة الإعلامية والثقافية في البحرين، بدا قادراً على إنتاج خطاب مطابق لمواصفات الحساسية الدينية الحوزوية التقليدية التي يمثلها الرموز الدينيون الذين أودعوا ثقتهم الكاملة في نباهة الشيخ العلمية.
مناسبة هذه المقدمة، هي أن الأوساط النسوية المدافعة عن حقوق المرأة وحماية الأطفال، تتداول هذه الأيام مقالة (وليست فتوى) للشيخ كتبها في ,2005 وعنوانها ( جواز نكاح الصغيرة ومنشأ الاستيحاش) وهي منشورة في قسم (مقالات تعنى بشؤون المرأة) في الموقع الإلكتروني لحوزة الهدى التي يديرها سماحة الشيخ محمد صنقور.
بعد أن يقرر الشيخ في مقالته ثبات جواز نكاح الصغيرة عند السنة والشيعة، يوظف قدراته الحجاجية في إزالة ما يسميه بالاستيحاش من جواز هذا النكاح. يورد الشيخ خمسة مناشئ للاستيحاش، ويحيلها بتقنياته الحجاجية إلى مستأنسات، أي أنه يحيل الاستيحاش استئناساً.
لست معنياً بمضمون خطاب الشيخ صنقور، فتلك مسألة تشغل المختصين بالقضايا النسوية والجندر والدفاع عن حقوق المرأة وحماية الأطفال، لكني معني بـ”درس تقنيات الخطاب التي تؤدي بالذهن إلى التسليم بما يعرض عليه من أطروحات، أو أن تزيد في درجة التسليم”. معني بالتقنية الخطابية التي يزيل بها الشيخ صنقور مناشئ الاستيحاش. هذا الدرس بمثابة أصول تحليل الخطاب، أي كما أن علم أصول الفقه بمثابة علم تحليل خطاب القرآن والسنة، فإن علم أصول تحليل الخطاب هو أيضا علم تحليل لكنه ليس مختصاً بخطاب واحد، كما هو الأمر مع علم الأصول، فنحن هنا مثلا نحلل خطاب الشيخ صنقور، من منظور هذا العلم.
(الاحتجاج بما ورد في كتب الخصوم)، تلك هي الآلية الأكثر حضوراً في المحاججات المبنية على خلافات دينية عقائدية وفقهية، وهي آلية تظهر المحاجِج في صورة المطلع والعالم بمدونات الخصم والعارف بتفاصيلها ودقائقها، كما أن هذه الآلية تخفف من شذوذ المدعى عليه، فهو ليس شاذاً في ما يذهب إليه، بدليل أن المحتج عليه يقول بذلك. وهي إحدى آليات خطاب الشيخ صنقور في إزالة الاستيحاش، وقد أثبت الشيخ عبر الرجوع إلى كتب الفقه السنية المعتمدة، أنها تجوّز نكاح الصغيرة بل والرضيعة كما هو الأمر في كتاب روضة الطالبين لمحيي الدين النووي ج4 ص.”379 يجوز وقف ما يراد لعينٍ تستفاد منه كالأشجار للثمار.. كما يجوز نكاح الرضيعة”.
هو بهذه الطريقة يزيل تشنيع الخصوم، خصوصاً وأن المواقع الإلكترونية المشغولة بالمحاججات العقائدية، كثيراً ما تُشنِّع بفتوى الإمام الخميني في تجويز نكاح الرضيعة. ربما تكون لآلية الحجاج هذه، جدواها عند المحتربين على مستوى المعارك العقائدية، لكنها لا تزحزح موضوعات الخلاف إلى مناطق جديدة، فالخصوم يظلون في المواقع الاحترابية نفسها، ويكتفون بتسجيل الأهداف على بعضهم، وهم من غير أن يقصدوا، يبرهنون على أنهم في الورطة نفسها، وفي المأزق ذاته.
كما أن هذه الآلية، تجعلهم يثبتون صحة أخطائهم ببرهان وجودها عند الخصم، بدل أن يكتشفوا أخطاءهم بالحجاج مع الخصم، هم يثبتونها باكتشاف وجودها عنده، فمادام الخصم يقول أيضاً ما نقول فلسنا بحاجة إلى تصحيح ما عندنا. ولعل جملة الشيخ صنقور ناطقة بكل هذه الوظائف التي تؤديها هذه الآلية، جملته التي يقول فيها ”فلا معنى لتهريج بعض من لاحظَّ له من العلم على الشيعة بعد أن كان الحكم بالجواز ليس من مختصاتهم”.
حظك من العلم بما لدى الخصوم، يزيل عنك تهمة التهريج ويمنحك اطمئنان المنتصر على المهرج الذي يحاول أن يوهمك أنك لا تعرف خدعه. تبدو جملة الشيخ مشحونة بالانتصار والعلم والقدرة على الحسم والإسكات، فلا يدعي أحد أو يهرج علينا بأن الشيعة وحدهم من اختص بتجويز نكاح الصغيرة بل والرضيعة، فالسنة أيضاً من القائلين بالتجويز.
الآن بثقة المنتصر، سيتولى خطاب الشيخ، إزاحة الاستيحاشات ومناشئها، وهنا ستظهر الورطة الأكبر التي كان يظن أنه سيُخلص خطابه الفقهي منها بمجرد أن يثبت وجود التجويز عند خصمه. ليس خصم الشيخ هنا عقائدي ولا مذهبي، فالخصم المذهبي يكفي أن تقول له إن مذهبك يقول بما أقول، فلا تستنكر علي، هو الآن أمام خصم جديد، فهو أمام عصر حديث، له حساسياته الحديثة تجاه الطفولة والمرأة والإنسان والحقوق والزواج، هو لا يتحدث مع هذا الخصم مباشرة، هو يتحدث مع المتماهين معه والمؤمنين بخطابه المذهبي، ويعيشون ورطة هذا العصر وحساسيته، يريد أن يطمئنهم كي لا يستوحشوا من فقههم الذي يجيز ما تستوحشه حساسية الخصم الجديد الذي يحرم هذا الجواز تحت أي ذريعة أو تبرير أو ضمان، وليس لهذا الخصم مدونات حقوقية أو فقهية تجيز هذا الفعل (نكاح الرضيعة) كي يشغل الشيخ آليته الأثيرة في التعامل مع كتب الخصوم.
إنه يريد أن تتجسَّد في ذوات المتلقين المؤمنين بخطابه قناعات ومواقف، كي يحقق وظيفة التواصل الموقفي وهو”حمل المتلقي على الاشتراك مع المخاطب في موقف معين والسيطرة على وعيه وعلى عالمه الذهني كي يتكيف سلوكه مع مقتضيات ذلك الموقف ونتائجه العملية”[2]
يريد أن يعيد تشكيل الموقف النفسي الاستيحاشي، ليجعله في موقف القبول والاستئناس، أو على الأقل عدم الاستنكار.
سيحتاج الشيخ إلى أن يزيل هذا الاستيحاش بآلية أخرى، هي آليه الافتراض والتبرير والتوهين والتخفيف وتجاهل الوقائع. سيُشغّل هنا الشيخ صنقور آليات معجمه الأصولي الضخم (1000صفحة) سيكون مرجعيته التي تسند خطابه، كي يستقيم في وجه هذا الخصم المختلف الحساسية. فهل سيفلح في إزالة الاستيحاش أم سيضاعف من الاستيحاش؟ هذا ما سأتناوله في الحلقة المقبلة.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5223

الهوامش
[1]http://www.alhodacenter.com/index.php?p=details&lecID= 186
[2] الحداد (محمد)، حفريات تأويلية في الخطاب الإصلاحي العربي، ط,1 بيروت: دار الطليعة، .2002ص.117

فتح التاريخ

«ما الذي يريد أن يستنهضه بعض المثقفين من فتح ذاكرة الفعل فتح؟» هذا ملخص اعتراض ساقه قارئ حقيقي، بشأن مقالي «إعراب ذاكرة الفعل فتح» الذي قدمته فيه ملخصاً لمداخلتي في ندوة المغرب عن «الإسلاميون واليساريون والديمقراطية»، والحقيقة أن هذا السؤال يهمس به عشرات من القراء الضمنيين أو الافتراضيين. السؤال في سياقه، كان يحمل عتباً واستنكاراً وتحذيراً، عتباً من فتح ذاكرة التاريخ ونحن نعيش عصراً جديداً، واستنكاراً لإثارة ما يمكن أن يؤدي إلى استنهاض ثارات، ونقداً لتورط شخصيتي الثقافية في إثارة نعرات تاريخية.
قلت للقارئ الذي وصف نفسه بأنه عاشق للفلسفة: حين نفتح كهف 39217 أفلاطون المظلم على النور، سنرى الحقيقة من خلال الشمس لا من خلال الظلال، وحين نفتح ذاكرتنا المُغلَّقة بالقوة الفاتحة، ستفقد هذه الذاكرة سحرها الأسطوري الماضي الذي يشتغل اليوم في جماعات كثيرة أكثر مما يشتغل الحاضر. الظلال تتضخم في الذاكرة المقموعة، كما تتضخم ظلال الكهف في حصار الظلمة، وتصير ضلالاً.
قلت له: دع الجماعات تعيد قراءة ذاكراتها كي لا تتوهم فتستطيل ذاكرتها. دعها تعرب ذاكرتها، كي تتوضح لها العبرة من التاريخ، الإعراب بيان وتوضيح، والإعجام تنكير وغموض والتباس. الذاكرة المعجمة لا تحسن استخلاص درس التاريخ. وذاكرتنا اليوم معجمة، فيها أصوات وجلبات لا تتوضّح معانيها. الفعل «فتح» قد أغلق ذاكرات كثيرة، فراحت تسرد تاريخ ذاكرتها من مطالعها المغلقة، فلم تر وطناً مشتركاً لدولة مشتركة.
الذهاب إلى التاريخ محفوف دوماً بمخاطر الوقوع في اللاتاريخ، لذلك كنت أتحصن بابن خلدون، وهذه المرة، لم تكن معي المقدمة، لكن كان معي، رواية المقدمة، إنها رواية «العلامة» التي كتبها المفكر والمبدع المغربي سالم حِمّيش، لقد حازت هذه الرواية على جائزة نجيب محفوظ للرواية سنة 2002 وتمت ترجمتها إلى لغات عدة منها الفرنسية والإنجليزية على يد البروفيسور روجر ألان. وذلك لما تتوافر عليه من خصوبة بالغة في معالجة شخصية ابن خلدون وتمثل عميقاً مفهومه للتاريخ.
وقد ابتكرت الرواية شخصية «حمو الحيحي» وهو لا وجود له في الواقع، ووظفتها بصفته كاتباً لإملاءات عبدالرحمن ابن خلدون.
لن يكون «حمو الحيحي» كاتب إملاء فقط، بل سيكون مُولّد أسئلة، ومثير إشكالات، وصديق معرفة وصاحب ذائقة قرائية ناقدة، في إحدى ليالي الإملاء، يثير «حمو» سؤالا إشكالياً «إذا كان التاريخ ديواناً لا تحتل العبرة فيه حصتها الوضاءة، ولا دورها الدافع المفيد، فأي معنى يكون للمتغيرات أو للتقلب بين الأطوار والفترات»[1].
يثير هذا السؤال، أعماق تفكير ابن خلدون في التاريخ، وأعماق إحساسه العميق بثقل التاريخ، فيجيبه «سجلها يا حمو قبل انصرافك سجل علة العلل الحيثية قبل أن تفلت مني ناصيتها، أو يعميني نور نصاعتها وتميزها. أم العلل في تعطل العبرة وتراكم الأزمنة اللامجدي، أراها الآن في فساد بذرة التاريخ ودفعة أطواره، أراها في عُوار هذا الأصل المتنطع المتناسخ، العائد دوماً بنفس المعاطب والخروقات»[2].
ما هذه البذرة التي تفسد التاريخ، ولا تجعله ينمو ويعتبر ويتعظ، ليستأنف حياة جديدة، ما الذي يجعل هذه البذرة فاسدة؟ ما الذي يفسد درس التاريخ؟ ويجعله غير مجدٍ، ما سرّ المعاطب والخروقات؟
«أراها يا حمو في بلوى العصبية بالذات والصفات»[,3] «العصبية أم البلايا كالفينق المنبعث من رماده»[4]. «عصبية الولاء والاصطناع التي بتعظيمها وتسعيرها تتنافس العصابات في الاستغلاظ بعضها على بعض»[5].
هذه البلوى العصبية تجعل الدولة بذاكرات كثيرة متشظية ومحتربة ومتكهّفة (من كهف). ما يهدد الدولة ليس فتح تاريخ العصبيات ونقده، بل فتح العصبيات نفسها، فتح باب الدولة لها واصطناعها إياها وتعظيمها لها وتسعيرها (من السعار والسعر) حد الاستغلاظ.
الدولة تكون حين تتعظ بالتاريخ، حين تتعلم درسه العميق، حين تعي بذرة فسادها وتستبدلها ببذرة أخرى، حين تكف عن اصطناع الولاءات الطفيلية العصبية، وإلا سيكون الموت أو الشلل يتربص بها، نحن نفتح الذاكرة كي نعي درس التاريخ، ونكشف هذه البذرة الفاسدة التي تنخر في عمر الدولة، وتجعل من دولنا أشباه دول. نفتح فعل الفتح كي نُعرِبه، كي نخلصه من بلوى العصبية التي هي كالفينق، تنبعث مع كل طور من أطوار الدولة، طور 1924 وطور 1971 وطور 1975 وطور ,2002 مع كل انبعاثة يأتي هذا الطائر في شكل حياة جديدة، لذلك لابد أن نواجهه ونفتح أفعال انبعاثه.
فساد بذرة التاريخ بالعصبية، إنها البذرة التي تجعل عمر الإصلاح في الدولة دوماً قصيراً، كما يقول ابن خلدون. لأنها هذه البذرة تثقل الدولة بعيوب تعجل بها أو تشلها أو تهدد استقرارها، ويعدد لنا ابن خلدون هذه العيوب بنبرة تقريعية عالية الوقع «وازع القرابة والدم في الظفر بالملك عيب. اصطناع المرتزقة والموالي في إدارة دفة الحكم عيب، الاستبداد موفقاً كان أو بائساً عيب، التعويل على مشورة الهَرِمين ومن طبختهم الدولة عيب، تفضيل المتزلفين على المضطلعين الأكفاء في الدواوين عيب[6].
العصبية تصنع العيب، والدولة المبتلاة بعيب العصبية لا يمكنها إلا أن تكون دولة خلدونية، أي دولة تنخر فيها بذرة الفساد ولا تتعظ بعبرة التاريخ. لذلك مادام ابن خلدون قادراً على أن يفسرنا، فلسنا في التاريخ بعد. أن يكون ابن خلدون مازال يفضح عيوبنا فذلك هو العيب الأكبر.
مرة أخرى نحن لا نفتح التاريخ، نحن نفتح هذه البذرة التي تحول بيننا وبين أن يكون لدينا تاريخ، تاريخ أرضه مشتركة، تاريخ من دون عيب، ودولة من دون عيب، الدولة حيث التاريخ أولا تكون دولة، والدولة حيث اللاتاريخ شبه دولة أو دولة ينقص التاريخ من أطرافها.
يسوق ابن خلدون شاهدة في نهاية عمر تاريخه الطويل يسميها «معضلة العبرة من التاريخ»، يسوقها بروح كافرة من أن يكون لنا دولة تعي درس التاريخ وتملك الجرأة على مكاشفته «تريدني الآن في معضلة العبرة من التاريخ. بيد أني قطعت حول التفكير فيها طورين على الأقل: طور هو الأطول لازم عهد فتوتي وحتى كهولتي الأولى، وآمنت فيه أن التاريخ ذو فوائد شتى، وأنه مخزون الدلالات الكبرى وكتاب العبر المثلى، وطور هو الحاصل اليوم، بت أشك خلاله في قدرة أولي الأمر وأرباب الدول على مكاشفة التاريخ والنظر إليه كما وصفته، أو تريبني قابليتهم في ذلك»[7].

الهوامش:
[1] العلامة، سالم حميش، ص .64
[2] المرجع نفسه، ص .64
[3] المرجع نفسه، ص .64
[4] المرجع نفسه، ص .61
[5] المرجع نفسه، ص .135
[6] المرجع نفسه، ص .66
[7] المرجع نفسه، ص .47

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5153

إعراب ذاكرة الفعل «فتح»

كنت في 27 أكتوبر/ تشرين الأول ,2007 بالرباط، في ندوة عن «الإسلاميون والعلمانيون والديمقراطية»، كان الدكتور المعطي منجب، هو المشرف على الندوة، بدعم من مجلس السلام الهولندي (IKV)، ومنتدى المواطنين (Citizens’ Assembly)، والشبكة من أجل التنمية.
كان المطلوب مني أن أتحدث عن تجربة الدولة في البحرين، وجدت أن تاريخ 1783 يشكل مفصلاً من مفاصل تشكيل الدولة، وأن حدث بداية تأسيس الدولة البيروalbinaliقراطية في ,1923 ظل مرتهناً بحدث .1783 ولا يمكن الحديث عن دولة في البحرين من دون الحديث عن هذا التاريخ وظلاله. قلت لهم في مداخلتي الشفوية المرتجلة، أنا قادم من بلد مساحته 700 كلم مربع ولا يتعدى عدد مواطنيه نصف المليون، لكنه ببحرين، أحدهما حلو والآخر مالح، أنا قادم من بحرين يتعايشان بهدوء صاخب. البحر في دولتنا بطبيعته تعددي، والأرض بثقافتها تعددية.
لقد ألغينا تعددية البحر، حين دفنا سواحله الحلوة، ولم نعد نستطيع أن نجلب للأرض الماء الحلو من وسط البحر المالح، طبيعة تعددية البحر، كانت تقوم على حقيقة «بينهما برزخ لا يبغيان» لقد دمرنا برزخ الأمان هذا، وصار المالح يبغي على الحلو، وقد جاء هذا التدمير من اليابسة، من الأرض، الأرض التعددية كان بإمكانها أن تكون صمام أمان للبحر بتعدديته، لكن حين بغت قوة متنفذة (الصحافة تستخدم كلمة المتنفذين) على الأرض، بغت معها قوة البحر المالح، فغيض البحر الحلو.
قلت لهم: في 1923 عرفت السلطة الإقطاعية القبلية أول تجربة حكم مركزي، في شكل سلطة بيروقراطية، كان عاماً مفصلياً، إذ للمرة الأولى تعرف السلطة وحلفاؤها والجماعات المحكومة، فكرة الدولة، وكان الموقف من هذه الفكرة متبايناً، فالسلطة وجدت فيها انتقاصاً من ملكيتها المطلقة، خصوصاً بعد خلع الشيخ عيسى بن علي بقوة بريطانيا وتنصيب ابنه الشيخ حمد، ليكون ممثلا لنظام الحكم الإداري الجديد.
لقد قرأت السلطة الإقطاعية في هذا الفعل تدخلاً في شؤون ملكيتها الشرعية الحقة الخاصة، بحكم مقتضى فعل الفتح، وحلفاؤها وجدوا فيه انتقاصاً من امتيازاتهم الإقطاعية، وإلغاءً لسلطة مجالسهم القبلية التي يديرون من خلالها قضاءهم ويتخذون فيها قراراتهم، والجماعات الشيعية المحكومة وجدوا فيه حماية لوجودهم وحفظاً لحقوقهم المنتهكة.
لقد أصبح كل طرف يطور فكرته عن الدولة بالطريقة التي تخدم مصالحه وتتفق مع تصوراته. كان مجلس القبيلة هو مصدر قوة السلطة، والإصلاحات البريطانية كانت قد هددت قوة هذا المجلس الذي يحكم السلطة و«الدولة». مازال هذا المجلس يستنسخ نفسه بأشكال مختلفة في الدولة، وهو ما يهدد فكرة الدولة.
قلت لهم، مازلنا حتى الآن لا نستطيع الحديث بتعددية عن تاريخ ,1783 ولا عن تاريخ ,1924 ولا عما بينهما وما قبلهما، لذلك لا نستطيع الحديث عن الجماعات وذاكراتها، وهي نفسها الجماعات المتعددة الحالية التي تشكل ما نسميه اليوم «البحرين»، ليس لدينا ميدان حر مشترك يتيح لهذه الذاكرات أن تقول سردياتها ضمن بحرين ديمقراطيين لا يبغي أحدهما على الآخر.
والدليل على ذلك أن كتاب صديقنا الدكتور نادر كاظم «استعمالات الذاكرة: في مجتمع تعددي مبتلى بالتاريخ» المعد للطباعة، مازال في حكم الممنوع منذ أكثر من أربعة أشهر. وهناك حملة تضامنية من المجتمع المدني بمختلف مراكزه، لكن يبدو أن هناك شيئاً خفياً أقوى، يقف خلف المنع، وهذا الخفي الأقوى هو ما يهدد تجربتنا الديمقراطية دوماً، فالديمقراطية شفافة ولا تعرف الخفاء، وحين تكون القوة للخفي والضعف للشفاف، فإن ذلك مؤشر إلى ضعف الديمقراطية أو اختفاء الدولة، أو يجعلنا نقول إن فكرة الدولة غير متحققة، لأنها مخفية ولا نراها. كيف يمكن للجماعات المتعددة أن تشكل تجربة ديمقراطية والدولة أو القوة الخفية التي تديرها لا تحتكر وسائل العنف فقط، بل تحتكر الميدان الحر المشترك الذي يتيح لهذه الجماعات أن تبني أفقاً مشتركاً متخففاً من ثقل التاريخ المؤسطر. قلت لهم، هذا يدعونا إلى أن نطرح من جديد، فكرة الدولة، أن نسائل أنفسنا ما الدولة؟ ليست الدولة مجموعة من الوقائع تتخذ شكل مجموعة من المؤسسات، أو مجموعة من السلطات شبه المفصولة، أو مجموعة من آليات انتخابية شبه نزيهة، الدولة فكرة، وإذا أفرغت وقائعها من الفكرة، فليست هناك دولة، جديرة بأن تكون صاحبة تجربة تعددية ديمقراطية. ما هي هذه الفكرة؟
الفكرة هي ألا نفهم الدولة بالشكل الخارجي بعناصره الثلاثة: الإقليم (المرتبط بمفهوم السيادة) والشعب (المرتبط بولائه لهذه الدولة) والسلطة (القائمة على أجهزة تنظم أوجه الحياة كافة وتؤمن بعض الخدمات للمواطنين).
بل أنْ نفهم الدولة فهماً عقلانياً يجعلنا نحاكم الدولة بغايتها القصوى وهي الحرية، كما يقول سبينوزا «إن الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليست السيادة، أو إرهاب الناس، أو جعلهم يقعون تحت نير الآخرين، بل هي تحرير الإنسان من الخوف، فالحرية هي، إذاً، الغاية الحقيقية من قيام الدولة[1]».
السيادة على الأرض، لا تصنع وحدها دولة، فالدولة اجتماع إنساني وعقلاني، والإنسان إذا فقد السيادة على عقله بأن يجعله مرجعيته في إدارة شؤونه، لا يمكنه أن يقيم اجتماعاً في مستوى الدولة.
لذلك، فالعلمانية – كما أفهمها – هي فصل الخوف من الدين، لا يمكن أن تكون هناك دولة تدير العنف بعقلانيتها، وفي الوقت نفسه هناك من يدير معنى الدين على مقاس العنف. مادامت الدولة فكرة يدور جوهرها حول الحرية، فالحرية تتطلب أن نفتح تاريخ الفعل «فتح» لإعرابات مختلفة، من دون خوف، ومن دون مصادرة، ومن دون منع.
قلت لهم، تجربتنا الديمقراطية مازال فضاؤها الحر المشترك يجد في تاريخها الحديث منطقة محاطة بألغام الخوف والتحذير. فمازلنا لا نعرف. والمشكلة أنه فعل مازال حدثه فاعلاً في طبيعة ديمقراطيتنا، وبحرها الذي صار غير متعدد، وأرضها التي صارت تضيق بالتعدد.
المجتمع ليس مبتلى بتعددية ذاكراته، لكنه مبتلى بأحادية القوة التي تصادر ذاكراته، مبتلى بالقوة التي لا تجعل من الدولة فكرة لإقامة مجتمع مفتوح للذاكرات.
[1] معجم المصطلحات والشواهد، جلال الدين سعيد ص .194

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5090

مشروطية النائيني5

تقريب العصمة..

لقد قلت إن النائيني قد حرر إقامة الإمامة من مفهوم السلطة والدولة، كما كان الأمر عند الشريف المرتضى مثلاً وبقية الفقهاء والمتكلمين الذين يرون إقامة الإمامة إقامة للدولة، ولا دولة من غير إمامة كاملة، ولا إمامة كاملة من غير ظهور كامل للإمام المهدي.
ستكون الدولة مفهوماً أوسع من الإمامة وأكثر تعقيداً، لكنها لن تخرج عن غايتها (أي الغاية من الإمامة) المتمثلة في حفظ حقوق الناس وإقامة العدل ومنع الاستبداد. لن يكون هناك تعارض بين أن نقيم عدلا بشرياً بحسب طاقتنا على منع الاستبداد بالقانون والدستور، وبين انتظار إمام يقيم عدلاً إلهياً كاملاً.
تبقى المشكلة، ليست في الإمامة ولا في الانتظار، بل في الفقهاء أنفسهم وفي ولايتهم، ما وظيفتهم في الدولة؟ وما حدود ولايتهم فيها؟ هل تحتاج الدولة إلى الفقهاء؟ ستكون DSCN9426المشكلة في الولاية لا في العصمة، والأمر لن يخلو من استخدام العصمة عتبة لتوسيع الولاية أو تضييقها. وتلك مسألة تحتاج إلى وقفة أخرى تتجاوز استعراض آراء الفقهاء المتباينة في الولاية وحدودها.
لن تكون إقامة السلطة أو الدولة هي نفسها إقامة الإمامة في مشروطية النائيني، سيبقى حق الإمامة وتعيينها وإقامتها مسألة إلهية، لكن إقامة السلطة ستبقى مسؤولية مشتركة بين الحاكمين والمحكومين، سيتبنى النائيني مفهوماً حديثاً للسلطة ”حقيقة السلطة هي الولاية على أمر النظام.. الحقيقة أن السلطة هي من قبيل تولية بعض الموقوف عليهم أمر تنظيم وحفظ موقوفة مشتركة وإيصال كل حق إلى صاحبه، لا من قبيل التملك والتصرف الشخصي الدائر مدار قبول المتصدي وأهوائه ورغباته النفسية[1].
بهذا التفريق بين السلطة بما هي إقامة للإمامة، وبين السلطة بما هي إقامة للنظام، سيحرر النائيني السلطة من مفهوم الغيبة والاغتصاب، وسيحرر الإمامة من مفهوم الدولة الشرعية التي يعيشها الناس في عصر الغيبة، بمعنى أن النائيني قد حرر أفق فهم الانتظار الشيعي من التلازم بين ممارسة السلطة في شكل دولة وممارسة الإمامة في شكل معتقد كلامي. وبهذا التحرير لن تعود ممارسة السلطة اغتصاباً لمقام الإمامة بل تحقيقاً حقيقياً للغاية من فكرة الإمامة، أو للحد الأدنى من حقيقتها، والحد الأدنى هو رفع الاستبداد.
ما قوام هذه السلطة التي غايتها إقامة النظام؟ وهل تلتقي مع الغاية من إقامة الإمامة؟ يجيبنا النائيني ”ويتقوّم هذا النوع من السلطة بالولاية والأمانة، ولذا فهو كسائر الأمانات والولايات مشروط بعدم التجاوز ومقيد بعدم التفريط، والعامل الذي يحفظ هذا النوع ويحول دون انقلابه إلى مالكية مطلقة ويردعه عن التعدي والتجاوز إنما هو المراقبة والمحاسبة والمسؤولية الكاملة، ولذا اعتبرت العصمة في مذهبنا نحن معشر الإمامية شرطًا في الوليّ، فهي أعلى درجة متصورة في مقام حفظ الأمانة والحيلولة دون الاستبداد وتحكيم الشهوات[2].
العصمة بهذا المفهوم المتحرر من الجدل العقائدي اللاهوتي، ليست شيئاً مضاداً لمفهوم أهل الحل والعقد الذي يتبناه أهل السنة، فالغاية المتيقنة من المفهومين، هي رفع الاستبداد ”وأما بمقتضى مذهب أهل السنة، حيث لم يشترطوا في الوالي مطلقًا أن يكون معصومًا، ولا أن يكون منصوبًا من قبل الله سبحانه وتعالى، بل يكفي فيه إجماع أهل الحل والعقد، فإن درجة الحد من الاستبداد الناتجة عن هذا الرأي، وإن كانت لا تبلغ ما يقتضيه مذهبنا، إلا أن عدم تخطي الوالي الكتاب والسنة النبوية هو من الشروط التي اعتبروها لازمة الذكر في نفس عقد البيعة عندهم. وأقل عمل ناشئ عن ميل أو هوىً يعدونه مخالفًا للمنصب، واتفقوا على التصدي حينئذٍ لعزله[3].
هكذا تتحرر العصمة من سجون المقولات العقائدية، والتغييبات الدنيوية لمعتنقيها، وتتقرب من مفاهيم العصر(الدولة والقانون والدستور) ومفاهيم الفرقاء العقائديين (أهل الحل والعقد)، هكذا حفظ النائيني للأصل بيضته العقائدية، وللدولة بيضتها الدستورية. وبهذا تتحرر السلطة في نص النائيني من كونها سنية أو شيعية وتصبح إسلامية ”وعلى هذا الأساس فإن السلطة الإسلامية لابد وأن تتحدد بعدم الاستئثار والاستبداد كحد أدنى، مع غض الطرف عن أهلية المتصدي وما يلزمه من العصمة وغيرها من الأمور التي يختص بها مذهبنا، فإن هذا هو القدر المتيقن بين الفريقين والمتفق عليه من قبل الأمة[4].
بل وتتحرر السلطة من عقدة الاغتصاب التي ثبَّت تهمتها الفقهاء طيلة قرون الغيبة الطويلة، لقد ظل مفهوم الاغتصاب يعمل في أذهان الفقهاء كخطيئة لا يمكن اقترافها، ومن يجرؤ على ممارسة هذه الخطيئة بممارسة السلطة فإنه في الحقيقة يكون قد اغتصب مقام الإمام المهدي. هكذا حرر النائيني بجرأته يد الأمة السوداء من استبداد هذا المفهوم التأثيمي، وهذا التحرير يمثل (الحد الأدنى) وهو ما يحتاجه الناس في واقعهم المبتلى بالاستبداد.
هوامش
[1]،[2]،[3]،[4]: راجع: ”تنبيه الأمة وتنزيه الملة”، المحقق النائيني، تعريب عبدالحسين آل نجف.

ركاز.. «نيو لوك» أو «نيو أخلاق»

 

rokz.3JPG

تعرف (ركاز) في موقعها الإلكتروني هويتها بالتالي ”نحن مؤسسة إعلامية مستقلة غير ربحية تهدف  إلى تعزيز الأخلاق في المجتمع الكويتي وفي المجتمعات الأخرى عن طريق التنسيق مع المؤسسات المدنية في تلك المجتمعات والدول”(i).
وتبرر (ركاز) مشروعها الأخلاقي التغييري بظهور مجموعة من السلوكيات الغربية على الشباب وكذلك الغريبة عن قيم وعادات المجتمع الكويتي، وترى إن هذه السلوكيات الغريبة جاءت نتيجة لبعد الشباب عن القيم الأخلاقية والقيم المجتمعية النبيلة وكذلك لفقدان الساحة الكويتية لخطاب إعلامي موجه.
تقدم نفسها بأنها المتحدثة والحامية لـ ”قيم وعادات المجتمع الكويتي القيم الأصيلة” وتتحدث بنبرة جماعية عن ”أخلاقنا وقيمنا الأصيلة” وتحذر من ”الأخلاقية الدخيلة” على المجتمع الكويتي. وتدعو بصوت جماعي إلى ”الاعتزاز والتمسك والرجوع إلى مبادئنا وتراثنا الأصيل”.
وتقوم فكرة (ركاز) على القيام بحملات إعلامية تحمل كل حملة منها مجموعة من القيم ومجموعة من الأهداف الخاصة، إضافة إلى بعض الفعاليات المصاحبة.وركاز، كلمة تطلق على الذهب والفضة داخل الأرض، وعلى الشيء الثابت والراسخ في الأرض.وأخلاقنا وقيمنا الأصيلة – كما يقول أصحاب المشروع- نفيسة بنفاسة الذهب والفضة وراسخة على مر العصور والأزمان، فلذلك جاء ركاز لتعزيز الأخلاق. وركاز؛ كما يقول موقعه الإلكتروني مشروع اختار ألاّ يقصر برامجه على المساجد والجوامع فخرج إلى الناس في أنديتهم وأماكن تواجدهم ومقرّاتهم وديوانياتهم. تأسس ركاز في دولة الكويت الشقيقة ويقوده الشيخ محمد العوضي. وبدأ ينتشر في عدد من الدول كالمملكة العربية السعودية، دولة قطر، دولة الإمارات العربية المتحدة، المملكة الأردنية الهاشمية، الجمهورية اليمنية، وفي بلجيكا.
زرانيق راقبْها
في النصف الثاني من الثمانينات، أخذتنا الحماسة الدينية ونحن ما نزال طلاباً بالمرحلة الثانوية، لتشكيل جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان ذلك في قريتنا (الدير) القرية البحرية الزراعية الساكنة بالنخيل الوادعة بالبحر، إلا من حركة المراهقين والمراهقات الطبيعية وحركة أشرطة الفيديو التي بدأت تظهر بين أيديهم، كان هدف الجماعة مراقبة طرقات القرية خصوصا الزرانيق فيها، والزرانيق جمع زرنوق، وهو الممر الضيق الذي لا يتسع لأكثر من عاشقين يمران فيه على خَفَرٍ وهما يختلسان هوى يمر بينهما.
كنا مدفوعين في ذلك إلى حماية الأخلاق وصيانتها، والحقيقة أن الأخلاق لم تكن مهددة، لكن حماسنا الديني الذي غذّته فينا الدروس الدينية المكثفة الأخلاق، هي التي أرتنا أن أخلاق قريتنا العفيفة معرضة لغضب الله، لكن المفارقة ليست هنا، المفارقة أن الشباب المنخرطين في حملة (راقبْها)، إذ كان هدفنا مراقبة الزرانيق المشبوهة، خصوصا الزرانيق التي لم تصلها حركة الكهرباء بعد، فيشعلها المراهقون بكهربائهم الطبيعية، هؤلاء الشباب استجابوا لطبيعتهم العمرية ونسوا مركوزات دروسهم الدينية ومواعظهم الأخلاقية، فراحوا يمارسون بطولاتهم على طريقة ما هو مركوز فيهم من طبيعة لم تمسسها ثقافة التأثيم والتحريم بعد.
الأخلاق الفسيحة
ليس هناك عنوان عريض وواسع يمكنك من أن تعتمده غطاء لأي مشروع أو حملة أو فكرة أكثر من الأخلاق والعادات والقيم والدين، يكاد هذا العنوان يكون حصناً حصيناً يحميك من النقد والمساءلة والاعتراض، بل يمكنك عبره أن تقوم بعمل غير أخلاقي وتصفه بأنه أخلاقي ضد من يقفون ضد مشروعاتك التي تستخدم فيها هذا العنوان الفسيح. ويمكنك بهذا العنوان أن تملك شارعاً أو تراقب زرنوقاً أو تحتل (رمزياً) مجمعاً أو تحتكر منتجعا، يمكنك بهذا العنوان أن تبتكر لك ما تشاء ليلاحق خطابك مؤسسات الناس الداخلية كي تضمن وصوله إليهم، إن لم يصلوا هم إلى خطابك حيث المؤسسات التي لم تعد تتسع لك.
بل عبر هذا العنوان، يمكنك أن تستنفر أعلى سلطة تشريعية ورقابية في الدولة، لتجعلها تقف معك تحت مظلة العنوان نفسه، أياً كانت تفاصيله، كما هو الأمر مع رئيس مجلس الأمة الكويتي ”قال رئيس مجلس الأمة أن شباب الكويت يعتبرون مثالاً رائعاً في تجسيد الوحدة الوطنية والتحلي بالأخلاق الراقية والحميدة، وأن ما زرعه الآباء والأجداد من الأخلاق والقيم النبيلة هو ما تعهده الأمة من شباب الكويت الذين يسطرون أروع آيات النجاح في عملهم وأخلاقهم، مؤكداً أن العمل على إيجاد مشروعات توعوية قيمة كمشروع (ركاز) تدل على حرص الجميع على الحفاظ على أخلاق شبابنا وحثهم على أن يكونوا المثال الأروع في التحلي بالقيم والعادات الأصيلة المستمدة من الشريعة الإسلامية”(ii)
وكما هو الأمر مع النائب في مجلس الأمة الكويتي ”قال النائب وليد الطبطبائي إن المشروع القيمي الأخلاقي (ركاز) يقدم تصوراً وجهداً طيباً في حماية الشباب والعمل نحو توجيههم والاهتمام بالأخلاق والمبادئ الأصيلة التي تمثل أخلاق وعادات أهل الكويت مؤكداً أن بناء حالة من التفاعل ضد بعض الممارسات والسلوكيات اللاأخلاقية هو دور جيد وفاعل وتوعوي بتحذير شبابنا وإشعارهم بأهمية التمسك بالقيم والأخلاق الحميدة”(iii).
أخلاق المناقصات
أمام هذه السلطة التي تمثل أعلى القيم الأخلاقية في الدولة، لا يمكنك إلا أن تزايد بجمل أكثر بلاغة وأكثر تماهياً وتأييداً للمشروع، وإلا ستكون ضدّ الأخلاق وضد الدين وضد القيم وضد العادات وضدّ الله. كي تحمي نفسك وتبرئ ساحتك عليك أن تتقن أخلاق المزايدة، وليس أكثر من رجال السياسة إتقاناً لبلاغة المزايدات، على الخطابات التي تتحدث باسم الآباء والعادات والتقاليد والمجتمع. وشيئاً فشيئاً تتحول المزايدات إلى مناقصات تجارية، يجري التفاوض على من هو الأحق بها.
وأنا صدقاً لا أرغب أن أكون ضد الأخلاق، ولا أرغب في أن أكون مزايداً ولا مناقصاً. لذلك أرجو من يقرأ من الأخوة في (ركاز) نقدي لهم، أن يقرأوه على سبيل (المؤمن مرآة أخيه المؤمن) وأنا وإن كنت بمواصفات الركازيين لست مؤمناً، لكني بمواصفات غير الركازيين، لست كافراً ولا حاقداً ومبغضاً، أنا قارئ، أتوفر على قدرة في تفكيك خطابات الأخلاق، والتفكيك هنا لا يعني الهدم والنقض، بل يعني كشف ما يلتبس بخطابنا عن الأخلاق من قيم تنقض غايتنا الأخلاقية العليا وتعيق تواصلنا الاجتماعي والإنساني.
الأخلاق وخطاب الأخلاق
ومبرري في ذلك، أن خطابنا عن الأخلاق ليس هنا الأخلاق، كما أن خطابنا عن الدين ليس هو الدين، وهذا يعني أن خطاب (ركاز) عن الأخلاق، ليس هو الأخلاق، ولا يحق لركاز ولا لغيرها أن تحتكر ميدان الأخلاق وحدها أو أن تدعي أنها الممثل الحق له. وإذا كانت (ركاز) تقدم نفسها بصفتها صاحبة مهمة إنقاذ الأخلاق في مجتمعاتنا الخليجية من الانهيار والتهديدات الخارجية، فلا يحق لها، من ناحية أخلاقية، أن تعتبر المختلفين معها أو حتى الذين يقفون ضد حملاتها، من باب عدم الاقتناع، لا يحق لها أن تعتبرهم مناوئين للأخلاق أو للدين، فهم مختلفون مع خطابها فقط، كما هو الأمر بالنسبة لي.
ركاز الطريق الثالث
أقول ذلك وأنا أستحضر نبرة كتابات الإعلاميين وأصحاب الأعمدة في الصحافة البحرينية الذين وجدوا في إيقاف حملة (ركاز) في البحرين ما يتجاوز هذا الاختلاف، وحملوها شحنات غضب لا تتفق مع أخلاق التسامح. كما هو الأمر مع الزميل محمد المحميد الذي كتب في عموده اليومي طريق ثالث تحت عنوان (ركاز.. إيقافها عيب)، ”في الأمر مكيدة دبرت بليل، وهناك استجابة لضغوط من ذوي القلوب والنفوس المريضة، ممن لا يريدون تبديل سيئاتهم حسنات ولكنهم يصرون على زيادة سيئاتهم إلى سيئات..” (iv)
(الطريق الثالث) كما ظهرت فكرته لأول مرة العام 1936 على يد الكاتب السويدي ”arquis Child” هو طريق الوسط بين مفهومي الليبرالية الاقتصادية والاشتراكية الماركسية، فهو أسلوب يوائم بين رأسمالية السوق الحر والمفهوم الكلاسيكي عن الأمن والتضامن الاجتماعي(v). عادة ما تحول المفاهيم التي تنتج في حقل الاقتصاد والسوق إلى مفاهيم لها استثماراتها في حقل الفكر والثقافة والأيديولوجيا، وهذا ما حدث مع مفهوم الطريق الثالث.
صار (الطريق الثالث) يفتح التفكير على التعدد والاحتمال والاتساع، الطريق الثالث يفتحنا على أخلاق الاختلاف، وأخلاق الاختلاف تعد من الركازات التي تقوم عليها اليوم المجتمعات المتعددة الانتماءات، وهي تمنعنا من أن نصف المختلفين مع خطابنا بأوصاف النفوس المريضة الذين لا يريدون أن يبدلوا سيئاتهم حسنات. حين نتخذ من الطريق الثالث عنواناً لشِق كتابتنا، والكتابة بالمناسبة أصلها شق، فإن تكتب يعني أن تشق فكرة وطريقا (أو طرقا) واسعاً للآراء والأفكار، وهذا يلزمنا أخلاقياً بأن نتسع لمن لا يرون في خطابنا أو طريقنا عن الأخلاق ما يمثل رؤيتهم للأخلاق.
من حق الزميل المحميد أن يدافع عن الخطاب الذي يتفق معه، وأن يبذل ما في وسعه لنصرته مهما قل عدده، لكن من دون التعريض والغمز لمن هم على خلاف أو اختلاف معه، كما يفعل في طريقه الثالث الضيق ”فلسنا طوفة هبيطة.. وغيرنا مو أحسن منا.. وإذا كان الموضوع يحتاج إلى اعتصام أو صراخ حتى تتم الاستجابة والرضوخ وإعادة المشروع والتعهد بعدم مساسه والتطاول عليه مرة أخرى، فلن نعجز عن ذلك مهما قل عددنا..!!”.
و يبدو أن جمهور (بدلها) قد وجد في خطاب الطريق الواحد (وليس الطريق الثالث) ما يعبر حقيقة عن نبرته الأخلاقية، ولذلك راح يمتحي من القاموس نفسه: القلوب المريضة، والمعادة والشياطين والعصاة.
يعيد هذا الجمهور تمثيل خطاب (ركاز) الأخلاقي نفسه، فيقول ”هناك دائما قلوب مريضة يغيضها ان ينتشر الخير ويعود الناس إلى الأخلاق… انها سنة الله في خلقه ليعلم الصالح من الطالح، ليعلم الصادق من الكاذبrokz2.. إنها سنة قديمة، انظروا لقول قوم لوط، قال تعالى ”أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون”.. إن من اتخذ القرار بإيقاف ركاز حتى لو لم يقلها بلسانه فقد قالها بقلبه.. اوقفوا ركاز إنهم يدعون للأخلاق.. ألهذه الدرجة تكون المعاداة للحملات الخيّرة والمباركة والتي تدعوا لتأصيل وترسيخ الثوابت والقيم الفاضلة، ماذا يريد هؤلاء المعارضين؟؟ أيريدون أن يبقى الغافلون والعصاة على غفلتهم وعصيانهم، أيكرهون صلاح العباد وعودتهم لرب العباد.. بشهر الخ ير الناس العاصية تتوب.. وتلتزم بالعبادات والطاعات حيث ان شياطين الجن مصفدة.. ولكن هناك شياطين من الأنس لم تصفد.. والخووووووف من هؤلاء!!” (vi)
إنها ليست أخلاق الطريق الثالث، هي أخلاق الطريق الواحد، وربما هي أخلاق طرف الطريق. وفي الطرف لا مكان لتوسط الأشياء، الطرف أقرب للسقوط، وحين تسقط الأشياء تغيب. هكذا تغيب أخلاق التوسط، ما هي هذه الأخلاق الساقطة من أجندة (ركاز) أو الغائبة عن خطابها؟ ولنتذكر أن المؤمن بما هو مرآة لأخيه المؤمن وحتى غير المؤمن، فهو ذاكرة أيضاً، لأنه يذكر أخاه المؤمن بما يغيب عنه وينساه.
أخلاق الطريق الثالث
الأخلاق الغائبة، هي أخلاق الطريق الثالث، الأخلاق التي تتوسط العالم وتناقضاته، هي الأخلاق التي لا تقسم العالم إلى خير وشر، ولا تقسم أعمال البشر إلى حسنات مطلقة وسيئات مطلقة، هي الأخلاق التي تضع سبعة ألوان بين الحسنة والسيئة، هي الأخلاق التي تخرجك من عالمك الواحد المغلق وتصلك بعالم متعدد، هي الأخلاق التي تجعلك تعيش العالم والدنيا وكأنك ستعيش فيها أبداً، لأنك بهذه الأخلاق ستعمر العالم لمن سيأتون بعدك ولمن هم يعيشون معك. لن تجد في خطاب أخلاق (ركاز) شيئاً من هذه الأخلاق، ولا شيئاً من ثقافتها، هم مشغولون بأخلاق الخلاص والنجاة الفردية، وهي أخلاق العباد والمكلفين، لا أخلاق الأحرار الذين يقيمون بحريتهم عالماً حراً ومتنوعاً.نحن نعاني فعلاً من أزمة أخلاق، لكنها أزمة الأخلاق الغائبة عن ركاز، لا الأخلاق الركازية. بل لا أبالغ حين أقول إن الأخلاق الركازية وإن بدت في بعضها محل اتفاق وقبول كاحترام الوالدين وزيارتهما، إلا أنها تلتبس دوماً بما يسيء لها، لأنها تأتي في صيغة مجموعة واحدة مغلقة، فأخلاق احترام الوالدين لا تأتي وحدها، بل تأتي مصحوبة بأخلاق أخرى وهي الأخلاق التي تُعلي من جانب من شأن الخلاص الفردي الخلاص من عذاب القبر ويوم القيامة، وتزيح من جانب آخر وفي الوقت نفسه أخلاق الطريق الثالث، هكذا تصبح قيمة احترام الوالدين إبرة ضائعة وسط كومة قش.
أخلاق الخلاص كما تجسدها (ركاز) تكاد تكون محصورةً في الموضوعات المتعلقة بالنهي عن الذنوب واقتراف السيئات والأمر بالطاعات وإيتاء ما يوجب الحسنات، والحسنات والسيئات تبدو في خلفية (ركاز) مفاهيم قاطعة وحادة وغير قابلة لفهم متباين أو تأويل متعدد.
ثقافة بدلها
الثقافة في إحدى مفاهيمها مجموعة من الأوامر والنواهي التي عبرها يتم تشكيل الإنسان وصياغته، بهذا المفهوم يمكننا أن نقرأ حملة (ركاز) الأخلاقية، بما هي حملة ثقافية تتجاوز مسألة حث الشباب على تبديل سيئاتهم حسنات، لتكون تبديلاً لمفاهيمهم للحياة وتجسداتها المتعددة في سلوك الناس والمجتمعات.بهذا تكون حملة (بدلها) تعني بدل ثقافتك التي ترى من خلالها العالم والإنسان، أن تكون ركازياً، يعني أن تكون خَلاصياً، ترى عالمك من خلال أخلاق الخلاص، وهي أخلاق ترى العالم خيراً مطلقا أو شراً مطلقا، وعلينا أن نعبره سريعاً كي نَخلص إلى الجنة، وإلا فالنار تنتظرنا.
دعاة «نيو لوك»
أن يخرج الدعاة بأخلاق خلاصهم إلى الفضاء العام المشترك حيث المواطنون (وليس المؤمنون على مذهب جماعة ما) بمختلف توجهاتهم، مسألة لا يمكن فهمهما في سياق التحول إلى العمل العلني بدلا من العمل السري أو العمل داخل الأقبية والغرف المظلمة أو العمل عبر المؤسسات المدنية بدل المؤسسات الدينية، كما يشير إلى ذلك الزميل جمال زويد في عموده راصد ”بعض القوم يطالبون الإسلاميين بالانفتاح وعدم الانغلاق، ويطالبونهم بعدم قصر خطابهم على المساجد ودور العبادة، ويطالبونهم بالتركيز على الأخلاق والفضائل والابتعاد عن السياسة، ويطالبونهم بالكلام وتوجيه الشباب تحت الأضواء الساطعة وفي الأماكن العامة وليس في الأروقة المظلمة وفي الدهاليز القاتمة. ويطالبونهم ويطالبونهم ولكن الوقائع تكشف أن المطلوب هو شيء آخر غير مذكور”(vii).
الخروج إلى الفضاء العام، يحتاج إلى تحول في الخطاب أو خروج على بعض مسلماته وبدهياته، أي يحتاج إلى تحول في مفاهيمنا للأخلاق والعالم والإنسان، لتكون ضمن شروط هذا الفضاء، وهذه الشروط هي نفسها أخلاق الطريق الثالث أو مقتضياته. فهل الشيخ محمد العوضي مثلا يتوفر على خطاب جديد ومغاير لخطابه الثمانيني أو التسعيني مثلا؟ وأنا هنا لا أحصر المغايرة في الموقف من السلطة السياسية وطريقة التعامل معها، فتلك مسألة تخضع لحسابات المراوغة السياسية، أكثر مما تخضع لقناعات التحول الفكري.هل منطلقات خطاب (ركاز) في مجمع الدانة، تختلف عن منطلقاتها في المساجد؟ وأنا هنا لا أعني الاختلاف الشكلي الذي هو أقرب إلى ما يعرف اليوم بالنيو لوك (New look). أن نخرج إلى المجمعات بنيو لوك، لا نيو أخلاق، فهذا يعني أننا نستخدم الفضاء العام لصالحنا الخاص، لا للصالح العام والصالح العام هو ما يفتح الناس على بعضهم انفتاحا يفضي بهم إلى قبول اختلافهم والدفاع عن آرائهم بحجج كلامية.
حملة (ركاز) هي حملة دعاة بنيو لوك لا بنيو أخلاق، وهنا لا أعني أن أخلاق الصدق يمكن أن تتحول إلى تمجيد إلى أخلاق الكذب، لكن أعني أن أخلاق تمجيد رفض خروج المرأة للفضاء العام، يمكن أن تتحول إلى أخلاق تمجيد تؤكد أهمية خrokzروجها ومشاركتها. وأن مصفوفة أخلاق الخلاص التي تركز على يوم القيامة وعذاب القبر يمكن أن تتحول إلى أخلاق الخلاص من أمراض التعصب ورفض الآخر وقبول التعدد، وهكذا نكون بنيو أخلاق. ويبدو أن هذا الفرق  لم يلحظه أيضا بيان الاستنكار الذي أصده الأمين العام لجمعية المنبر الوطني الإسلامي ورئيس كتلتها النيابية عبداللطيف الشيخ، إذ يقول ”في الوقت الذي يطالب أصحاب الاتجاهات الأخرى من المتربصين بالإسلاميين بانفتاحهم على الآخرين وعدم قصر الخطب والمحاضرات على دور العبادة ويطالبونهم بالابتعاد عن السياسة والتركيز على الأخلاق والفضائل وتوجيه الشباب في العلن يأت هذا المنع والإيقاف غير المبرر لحملة من شأنها أن تسهم في بناء المجتمع وترسيخ قواعده على أساس إسلامي عصري وهي ليس لها أدنى علاقة بالسياسة”(viii).
وأخيراً، إذا كان ليفي بريل Lévy Bruhl يذهب في تحديد الأخلاق بمطابقة السُّلوك للواجب، فإن الواجب هذا مرجعيته اليوم لا أخلاق الخلاص حيث الجماعات المغلقة على زمنها ومذهبها ومقدساتها، بل أخلاق المجتمع المفتوح المتعدد.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=80624

الهــــوامـــش
i انظر موقع (ركازhttp://www.rekaaz.com/
ii انظر التصريح في (قالوا في ركاز) في موقع (ركاز(
iii انظر التصريح في (قالوا في ركاز) في موقع (ركاز(
iv جريدة أخبار الخليج، 4 أكتوبر,2007 عمود الطريق الثالث،
http://www.akhbar-alkhaleej.com/arc_ArticlesFO.asp?Article=205405&Sn=RYTH&IssueID=10785
v انظر: غادة موسى، الطريق الثالث.. تحولات الليبرالية أم أمل الاشتراكية؟
http://www.islamonline.net/arabic/mafaheem/2001/02/article2.shtml
vi انظر تعليقات الجمهور في موقع ركاز.
vii جريدة أخبار الخليج، 4 أكتوبر,2007 عمود راصد،
http://www.akhbar-alkhaleej.com/arc_ArticlesFO.asp?Article=205408&Sn=RASD&IssueID=10786
viii انظر: بيان جمعية المنبر الوطني الإسلامي، في جريدة أخبار الخليج
http://www.akhbar-alkhaleej.com/arc_Articles.asp?Article=205433&Sn=BNEW&IssueID=1078668701=DIeu