أرشيف التصنيف: مقالات

مشروطية النائيني4

تحرير العصمة

ليست السلطة وحدها محلاً للاغتصاب، فالمفاهيم أيضاً تُغتصب، فالاستبداد لا يغتصب السلطة فقط، بل يغتصب أيضاً مفاهيمنا للحرية، ويستبدل معانيها بطريقة مستبدة، كي توافق مفهومه للحرية من جانب، وكي لا تدلّ معانيها الحقيقية على اغتصابه واستبداده وتحكمه من جانب آخر.

على أن الاستبداد ليس شخصاً، هو حالة قد يتمثلها شخص، وقد تتمثلها جماعة، أو تاalnaeenyريخ أو مدرسة أو دين. والدين ومفاهيمه مادة اغتصاب محببة ومغرية ويمكن توظيفها بسهولة لإعطاء الاستبداد شرعية طبيعية، وهذا ما فعله خصوم النائيني، ونبّه إليه في كتابه “ومن أجل الإبقاء على شجرة الظلم والاستبداد الخبيثة، ومن أجل اغتصاب أموال ورقاب المسلمين، رأوا في رفع شعار الدين خير وسيلة للوصول إلى مآربهم”[1].

لذلك تحتاج المفاهيم إلى تحرير دوماً، خصوصاً مفاهيم الدين. لقد أدرك النائيني بفطنته ذلك، ووظف مهارته الفائقة في علم الأصول، وأفقه المفتوح خارج نص الحوزة، لتحرير مفهوم الإمامة والعصمة من دائرة الجدل الكلامي والعقائدي المغلقة عن الحياة وتحولاتها.

لقد تمكن من تحويل العصمة من مقولة عقائدية خلافية إلى مقصد فقهي غايته ضمان الإصلاح ونفي الاستبداد.لقد جعل النائيني من العصمة مقصداً يفقه الحياة لا الخلاف على الحياة خلافاً، يُغيِّبها ويُغيب إقامة عدلها الأدنى.

العصمة من عقائد الإمامية وهي تعني أن الأنبياء جميعا من آدمهم إلى خاتمهم وكذلك الأئمة من أولهم إلى قائمهم معصومون من جميع الذنوب والمعاصي والرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من أول حياتهم إلى حين وفاتهم عمدا وسهوا، كما يجب أن يكونوا معصومين من الخطأ والنسيان، والتنزه عما ينافي المروءة ويدعو إلى الاستهجان.

العصمة لطف يختص بها الله بعضَ من يصطفيهم من البشر “كون الإمامة لطفا في فعل الواجبات والطاعات، وتجنب المقبحات، وارتفاع الفساد، وانتظام أمر الخلق”[2]

تمثل الإمامة المعصومة مفهوماً مركزياً في المذهب الشيعي، وهي أصل من أصول المذهب، ولأنها أصل خلافي مع بقية المذاهب الإسلامية، فقد استغرقت جهود علماء علم الكلام طوال التاريخ، تفنيداً وتثبياً ودفاعاً وهجوماً ونقضاً وبناءً.

صار هذا الأصل فارقاً لا جامع بعده، لقد خفت وتيرة الجدالات العقائدية حول التوحيد وخلق القرآن والتجسيد والمنزلة بين المنزلتين، لكن جدل الإمامة وعصمتها، ظل فاعلاً طوال التاريخ وحتى اليوم. ويكفي للتدليل على مركزية هذا الخلاف، الاستشهاد بكتاب (الشافي في الإمامة) للشريف المرتضى (ت 436هـ)، فقد ألف المرتضى هذا الكتاب الضخم، رداً على كتاب (المغنى في أبواب التوحيد والعدل) للقاضي المعتزلي عبد الجبار الجرجاني (ت 415 هـ) وهو من أضخم الكتب الكلامية.

يقول الشريف المرتضى “سألت – أيدك الله -: تتبع ما انطوى عليه الكتاب المعروف بـ (المغني) من الحجاج في الإمامة، وإملاء الكلام على شبهه بغاية الاختصار، وذكرت أن مؤلفه قد بلغ النهاية في جمع الشبه، وأورد قوي ما اعتمده شيوخه مع زيادات يسيرة سبق إليها، وتهذيب مواضيع تفرد بها، وقد كنت عزمت عند وقوع هذا الكتاب في يدي على نقض ما اختص منه بالإمامة على سبيل الاستقصاء”[3].

بهذه الروح الحجاجية كان المتكلمون يختصمون حول مفهوم الإمامة، وظل كتاب الشافي العمدةَ الشافية في الدفاع عن أصل الإمامة.وقد تحول هذا الجدل إلى غاية في ذاته، وكي يحافظ هذا الأصل على صحته الاعتقادية وأحقيته، فقد أُخْضِع الواقع التاريخي للشيعة إلى المقولة العقائدية، وصار الواقع على مثال الاعتقاد فيما يتعلق بالإمامة، والشاهد على ذلك أن غياب الإمامة (عصر الغيبة) استتبعه غياب الواقع، وليس هناك أدلّ على هذا الغياب من غياب الدولة، صار المعتقد يصيغ الواقع، لم يُكيَّف المعتقد ولا غايته لصياغة الواقع.

تحرير النائيني، يكمن هنا، في جعله الواقع يعيد تحرير معنى الإمامة، لم ينشغل بالجدل الكلامي، لقد شغله فقه واقع الحياة السياسية للناس، لا فقه الحجج الكلامية التي تُنْقَض بحجج كلامية أخرى. سيبدأ تحرير الإمامة بطرح سؤال: ما الغاية من مفهوم الإمامة؟

سؤال الغاية من الإمامة ليس جديداً، لكن أفق السؤال جديد، ووفق أفق السؤال يأتي انتظار الجواب.وأفق النائيني كان خارجاً على أفق علماء الكلام وجدالهم اللاهوتي. كان سؤال الإمامة مطروحاً في الشارع السياسي، لا في الشارع العقائدي. لذلك فالإمامة والعصمة في مفهوم الشريف المرتضى صاحب كتاب الشافي في الإمامة، ليست هي نفسها في مفهوم النائيني صاحب كتاب تنبيه الأمة وتنزيه الملة.، فالأول مشغول بتنزيه الإمامة من ادعاءات خصومها العقائديين، والثاني مشغول بتنزيه الإمامة من ذرائع المستبدين، وذلك بتنبيه الأمة إلى حقيقتها.

الغاية من مفهوم الإمامة ستجعل الإمامة مفهوماً يقتضي المعاني التي تقتضيها الدستورية، وهي الرقابة والأمانة والعدالة والمسؤولية وحفظ الحقوق، ستكون المشروطة بهذه المعاني هي عينها معاني الغاية من الإمامة، وبتحرير هذا المعنى وتقريره سيحقق النائيني الحد الأدنى من من معنى الإمامة في الواقع، وهي ما عبّر عنه بمجاز (تحرير يد الأَمَة السوداء).

سيحرر النائيني إقامة الإمامة من مفهوم السلطة والدولة، كما كان الأمر عندي الشريف المرتضى مثلاً وبقية فقهاء والمتكلمين الذين يرون إقامة الإمامة إقامة للدولة، ولا دولة من غير إمامة كاملة، ولا إمامة كاملة من غير ظهور كامل للإمام المهدي.

ستكون الدولة مفهوماً أوسع من الإمامة وأكثر تعقيداً، لكنها لن تخرج عن غايتها (أي الغاية من الإمامة) المتمثلة في حفظ حقوق الناس وإقامة العدل ومنع الاستبداد.لن يكون هناك تعارض بين أن نقيم عدلا بشرياً بحسب طاقتنا على منع الاستبداد بالقانون والدستور، وبين انتظار إمام يقيم عدلاً إلهياً كاملاً.

سنرى كيف أن تحرير النائيني لمفهوم العصمة، هو أيضا تقريب من ناحية أخرى، بمعنى أنه تقريب لها من مفهوم (أهل الحل والعقد) الذي يمثل النظرية السنية كما يقول في مواجهة الاستبداد.هكذا سيعمل أفق فهم النائيني الخارجي على أن يكون تحريره تحريراً واسعاً، يتجاوز المذهب الواحد، ليقترب من مفاهيم العصر (الدولة والدستور) ومفاهيم الفرقاء العقائديين (أهل الحل والعقد).

الهوامش

[1] تنبيه الأمة وتنزيه الملة،المحقق النائيني، تعريب عبدالحسين آل نجف، ص95.

[2]، [3] الشافي في الإمامة، الشريف المرتضى، ص13، ص40.

بوح الأسئلة..حديث إلى السيد الفراتي

أيها السيد الفراتي..

هكذا يحلو لي أن أناديك، كلما قرأتك ضاعفت وجعي الشرقي ، وكاثرت أسئلتي، أجد في قولك “الإهمال للمراقبة والسيطرة والمؤاخذة والسؤال أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد وتجاوز الحدود”([1]) تحريضاً لصهيل أسئلتي، أراها تتضاعف وتتراكب، كلما أوغلت في قراءة رائعتك الأثيرة ” طبائع الاستبداد “.

أعرف ألا شيء يسعدك أكثر من أسئلة المراقبة التي تقض مضجع المستبدين وترهبهم ولكن سأصارحك بحقيقة، أرجو أن تلتمس لي العذر فيها، وهي أن أسئلتي بقدر ما فيها من صهيل، فيها 2007-06-24-23147-mainمن التوجس، وذلك من ثقل ضغط مراقبة خطاب الاستبداد عليها، إنها تتحسس اللعنات والضربات التي تنتظرها من كل مكان .

أيها السيد الفراتي ..

بي من الاسئلة ما كان بك من الحرقة ، وبي من الخوف ما كان بك من الجرأة ، وبي من الضعف ما كان بك من القوة ، وبي من المحافظة ما كان بك من الحداثة ، أليس من عجيب الزمان أن تكون أنت المتقدم في الزمن أكثر حداثة مني أنا المتأخر، وأشد مغايرة من تطابقاتي، وأكثر تصريحاً من تلميحاتي .. يبدو أن الزمان يجود للمتقدمين أكثر مما يجود للمتأخرين .

أيها السيد الفراتي ..

كم كان تدينك رائعاً وطازجاً ! حتى أني أجدك أقرب إليَّ من متديني عصري، متدينو اليوم أكثر محافظة، وانكماشاً، وتراجعاً، وتحصناً، وتوهماً، واستبداداً .. كم كنت حاذقاً حين قلت ” الدين أقوى تأثيراً من السياسة .. وأن البروتستانتية أثرت ، في الإصلاح السياسي، أكثر من تأثير الحرية السياسية في الإصلاح عند الكاثوليك”([2]) و”أن إصلاح الدين أسهل منالاً وأقوى وأقرب طريقاً للإصلاح السياسي”([3]). إن قولك يفتح حاستي على مجموعة من الأسئلة المتوجسة، هأنا أبوح لك ببعضها…

هل يمكن أن ننجز حداثة ثقافية واجتماعية قبل أن ننجز حداثة دينية؟

هل يمكن أن نعيش تفتحاً سياسياً من دون أن نعيش تفتحاً دينياً؟

هل يمكن لمجتمعاتنا الشرقية أن تَدخل عصرها الحديث، قبل أن تُدخل دينها العصر الحديث؟

هل يمكن أن نعطي معنى حديثاً للسياسة، قبل أن نعطي معنى جديداً للدين؟

إلى أي حد يمكن القول إن تجاربنا السياسية وإصلاحتنا الديمقراطية قد فشلت لأنها لم تصلح قاعدتها الدينية التي تستند إليها مجتمعاتنا؟

هل نحتاج أن نستعيد تجربة الإصلاح الديني الأوروبية، لنحقق نجاحاتهم السياسية؟

لماذا تجاهلت مشاريعنا الثقافية طوال القرن العشرين مسألة الإصلاح الديني؟

لماذا تحولت الحداثة العربية من مهمة إصلاح الدين إلى مهمة رفضه وإقصائه وتجاهله من دائرة اشتغالها؟

لماذا لم تتفحصه وتختبر تكوينه التاريخي ؟

لماذا بقيت المعرفة الدينية شأناً خاصاً برجال الدين وعلمائه؟

هل صحيح أن الإصلاح الديني مهمة لا شأن للمثقف بها؟

لماذا تحول رجل الدين لدينا من مهمة المراقبة النقدية إلى مهمة المراقبة السلطوية التي ترى في كل تحول أو تغير أو جرأة أو مساءلة تهديداً لهذه السلطة؟

لماذا لا يتحدث علماء الدين ورجاله الآن عن استبداد مؤسساتهم الدينية التي يديرونها ويحكمون باسمها ويحاكمون المختلفين معهم من خلال هيمنتها؟

كيف يمكن أن نفضح هذا التعاض الاستبدادي بين مؤسساتنا السياسية ومؤسساتنا الدينية؟

ما الذي يدفع برجال المؤسسات السياسية للاستعانة برجال الدين لإحكام سيطرتهم علينا؟

أيها السيد الفراتي…

لقد قلت “ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم، وسياسة المدينة، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية، وغيرها من العلوم الممزقة للغيوم المبسقة الشموس المحرقة الرؤوس”([4])

ولكن يؤسفني أن أقول لك: إن فرائص المستبد لم ترتعد، بل فرائص المثقف (قبل أن يتحول إلى مستبد هو أيضاً) هي التي ارتعدت، وحين ارتعدت فرائصه لم بجرؤ على أن يوظف هذه العلوم لقراءة الممارسات الدينية النظرية والعملية، فانتشت فرائص المستبد، وأمِن ألا شيء يهدده، فراح يفرض وصايته وسيادته على كل العقول، فأحالها عقلاً واحداً متماثلاً وراح باسم هذا العقل يُؤمم الوعي.

دعني أسألك، وأسأل ذاتي عبرك:

ألا تجد أن حداثتنا العربية لم تمكن هذه العلوم من قراءة تجربتنا الدينية التاريخية، لذلك لم تتمكن من إرهاب الاستبداد فينا؟

لماذا لم تتواصل مهمة إرهاب الاستبداد عبر هذه العلوم؟

لماذا انتصر الاستبداد وهُزمت العلوم؟

ولماذا انتصرت العلوم الطبيعية، ولم تنتصر سياقاتها الحضارية؟

ألا تجد أن بعضاً من هذه العلوم قد وُظف لخدمة الاستبداد نفسه؟

لماذا تجبن جامعاتنا ومعاهدنا العلمية وحوزاتنا الدينية عن توظيف ما انتهت إليه هذه العلوم في صيغتها الحديثة لقراءة مجتمعاتها وثقافتها؟

أيها السيد الفراتي..

لقد استوقفني قولك: “ويقال بالإجمال، أن المستبد لا يخاف من العلوم كلها، بل من التي توسع العقول، وتعرف الإنسان ما هو الإنسان، وما هي حقوقه…”([5]).

نعم، إننا لم نعرف الإنسان، أبداً، والدليل على ذلك، أننا نخاف من علم الانثروبولوجيا، نخاف أن نطبقه لقراءة سياقاتنا التاريخية وسياقتنا الاجتماعية المعاصرة، نخاف من علم مهمته الأساسية فهم الإنسان وعالمه، نخاف أن يتسع نظر إنساننا عبر هذا العلم، فيكتشف أنه بثقافته ودينه ومذهبه ورؤيته ليس مركز هذا الكون، بل هناك ما يتماثل معه في الإنسانية ويختلف في الثقافة ويتعدد، نخشى أن يكتشف إنسانُنا المقيد ببرمجتنا المستبدة أن له طبعات مختلفة في هذا العالم؛ فتسول له نفسه أن يقرأها ليفهم نفسه؛ فيمايز بين ما فيه من الطبيعة وبين ما فيه من الثقافة؛ فيكتشف أوجه اختلافاته وتماثلاته وحدود استبداداته وانعتاقاته.

أيها السيد الفراتي…

ألم تقل في رائعتك ” إنه لا يوجد في الإسلام نفوذ ديني مطلقاً، في غير مسائل إقامة الدين، هذا الدين الحر السهل السمح الذي رفع الإصر والأغلال وأباد الميزة والاستبداد”([6]).

ولكن، هل تعرف إلى أين انتهت سياقات مجتمعاتنا الشرقية بالإسلام؟ لقد جعلت للإسلام نفوذاً دينياً مطلقاً، لقد وجدت فيه ما يمكن أن يتشاكل مع طبائعها الثقافية الاستبدادية، فأنتجته وفق طبيعتها وأعطته تسمياتها، فأحالته رقيباً مخيفاً في كل شيء. هل تعرف أنه الآن يتحسس قلمي متوعداً!

كيف تحولت السماحة تجهماً؟

كيف تحول السهل صعباً؟

كيف تحول الرفع نصباً؟

وكيف تحول المتسامح مستبداً؟

تلك أسئلة، فيها من الدهشة والحرقة والمفارقة ما أعجز عن وصفه.

أيها السيد الفراتي…

لقد أحسنت صنعاً بربطك بين الاستبداد وفساد الأخلاق حين قلت”الاستبداد يتصرف في أكثر الأميال الطبيعية والأخلاق الحسنة فيضعفها، أو يفسدها، أو يمحوها…” ([7]).”الاستبداد يضطر الناس إلى إباحة الكذب والتحيل والخداع والنفاق والتذلل ومراوغة الحس وإماتة النفس إلى آخره”([8]).

ولكن فاتك أن تربط بين مثل الأخلاق والاستبداد..

أليست هناك أخلاق تمارس الثقافة باسمها الاستبداد؟

أي أليست هناك أخلاق تنتج الاستبداد؟

هل تظن أن الاستبداد كائن خارجي يعيش بعيداً عن ذواتنا؟

هل تعتقد أنه جرثومة تغزونا؟ أنا لا أعتقد ذلك؛ فالاستبداد ليس شيئاً خارجاً عن ذواتنا، إنه قابع فينا.

إذا كان الاستبداد يحيل الأخلاق الفاضلة نفاقاً وكذباَ، فهذا لا يعني أن الأخلاق الفاضلة أخلاق مسالمة؛ فكثيراً ما تدفع هذه الأخلاق بأصحابها ودعاتها إلى أن يخرجوا عن طبيعتهم الإنسانية الخطَّاءة، ليحملوا مجتمعاتهم على طبيعة لا يقدرون عليها، وحين تفشل هذه المجتمعات في تحقيق مثلهم ونماذجهم يصفونها بالمجتمعات الجاهلية التي يجب أن تجبر على التمسك بفضائلهم ويجوزون قمع سلوكها الذي يرون فيه خروجاً على جادة صوابهم ويبررون ذلك برغبتهم في إقامة مجتمع طهراني لا يعرف الهفوات ولا الرذائل ولا النزوات.

إن أصحاب المثل العليا والأخلاق الفاضلة ليسوا براء من الاستبداد، وقد أحسن الفيلسوف الألماني نيتشه صنعاً بفضحهم.

إن خطورة الاستبداد الأخلاقي – إن صحت التسمية- تكمن في خفائه وتلبسه؛ لذلك فهو صعب الاكتشاف وصعب الإدانة، فمن يملك الجرأة على إدانة صوت يدعو إلى إقامة الفضيلة والطهارة في المجتمع، ومن يستطيع أن يحذر من عنف الطاهرة واستبداد الفضيلة.

لا تقتصر تجليات الاستبداد على وجوه الملوك والأباطرة والخلفاء وأصحاب السلطات المادية، فله من الصور والتجليات المتلونة ما يصعب حصره. إنه يأتي في صورة واعظ أو عالم أو أب أو أم أو أستاذ أو مرب…إلخ.

أيها السيد الفراتي…

كان بودي أن أعرفك على شخصية دينية فذة، أجهض مشروعها كما أجهض مشروعك… إنه آية الله المحقق محمد حسين النائيني، لقد كتب هذا العظيم بعد وفاتك بأربع سنوات تقريباً، كتاباً هاماً عنوانه (تنبيه الأمة .. وتنزيه الملة) كان يحمل فيه همك النهضوي في إقامة حكومة غير مستبدة، كان يرى أن فكرة الدستور هي الطريق الصحيح للحد من استبداد الخلفاء والحكام والحكومات، وقد أوشك أن يقدم حياته من أجل تأصيل هذه الفكرة تأصيلاً فقهيا.كان إيمانه بالحكومة الدستورية يفوق إيمان مثقفي عصره، وكان يرى أن الدولة المقيدة بدستور هي نقيض الدولة الاستبدادية، فالأولى تقوم على “استرداد الحرية من الغاصبين”([9])والثانية تقوم على” اغتصاب الحرية”([10]). لقد تحدث كما تحدثت عن تلازم الاستبداد الديني والاستبداد الثقافي، وقد حمل بشدة على من أسماهم بـ”حاملي لواء الاستبداد الديني”.
هل تعرف أي نهاية تراجيدية لحقت بكتابه، لقد تمكنت أنساق الاستبداد الثقافي والمؤسساتي والسياسي والديني منه حتى حاصرته، فدفعته لإحراق كتابه، وسعى للتخلص من جميع النسخ الموجودة، ومع ذلك وصل الكتاب إلينا، ولكنه لم ينل حقه من الشهرة والنفوذ.

كتبت هذه المقالة احتفاء بمئوية الكواكبي في 2002

الهوامش

[1] ) عبدالرحمن الكواكبي.طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد. دار نفائس.ط3. 1993م.ص43

[2] ) المرجع نفسه ص38

[3] ) المرجع نفسه ص38

[4] ) المرجع نفسه ص51

[5] ) المرجع نفسه ص51

[6] ) المرجع نفسه ص43

[7] ) المرجع نفسه ص84

[8] ) المرجع نفسه ص105

[9] ) تنبيه الأمة وتنزيه الملة.آية الله المحقق النائيني. تعريب: عبد الحسين آل نجف. تحقيق عبد الكريم آل نجف.مؤسسة أحسن الحديث.ط1 .1419هـ. ص155

[10] ) المرجع نفسه. ص155

شــــــارع الشــــــارع..

‘’وإذا كان تعريف ‘’السياسة’’ في علم السياسة الغربي، يرتبط بمفاهيم الشعب والقانون والسلطة والمصلحة العامة والدولة، ويستبطن قيم الصراع والتكييف والحلول الوسط وتحكيم الواقع، فإن مفهوم ‘’السياسة’’ في الرؤية الإسلامية التوحيدية هو القيام على الشيء بما يصلحه، وهي إصلاح الخَلْق بإرشادهم إلى الطريق المُنَجِّي في الدنيا والآخرة؛ وبذا تتسم بالعموم والشمول وتخاطب – كمفهوم – كل فرد مكلف في رسالة الإسلام بأن يرعى شؤونه ويهتم بأمر المسلمين، ويحكم بما أنزل الله وينصح لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم، وبذا يرتبط مفهوم السياسة بالتوحيد والاستخلاف والشريعة والمصلحة الشرعية والأمة، ويتكامل العمل السياسي من خلال مفهوم الواجب مع باقي مفاهيم الرؤية الإسلامية مستبطنًا القيم الإسلامية وأبرزها العدل’’ هبة رؤوف عزت، من مفهوم العمل الشرعي إلى ساحة العمل العام.

rode أعتذر عن هذا الاقتباس الطويل، لكني آثرت إيراده على طوله، لأنه سيمنحني بالاختلاف معه فرصة لمقاربة مفهوم الشارع وتفسير حركته.

يمكننا أن نفهم الشارع بشارعه، أي يمكننا أن نفهم الشارع بالشرع الذي يحتكم إليه. الشارع الذي يجد شرعه يحيل إلى الشعب والقانون والسلطة والمصلحة العامة والدولة، هو شرع أيضاً، بمعنى أن الشارع هنا هو مصدر للسلطة وهو الذي يمنح السلطة شرعيتها، ويحدد لها طريقها الذي تسير فيه، لذا فهو شارع بالمعنى الفقهي وشارع بالمعنى السياسي.

الشارع هنا يتبادل السلطة والقوة والحكم والإدارة واللعب والدور، لا توجد جهة تُهيمن عليه وتُملي عليه واجبها الشرعي .ليس هناك (أعلى) يُنزل عليه، بل هناك ما يجاوره ويبادله ويتعاطى معه. ليس لهذا الشارع مصدر غير ذاته وتجربته وفعله.

هذا الشارع وليد تجربة الحداثة، التجربة التي نحن مدينون لها في ابتكار مفهوم الدولة في شكلها الحديث، وهي التجربة التي جعلت من السياسة تجربة دنيوية نخوضها بأخطائنا التي نصححها على الدوام بأخطاء أخرى، ولأن تجربتنا لن تكف عن الخطأ، فلابد أن نبتكر نظاماً سياسيا يَحمي الخطأ ويُشرِّع له، ويُعطي الشارع الحق في تصحيحه. لذلك يمكن أن نقول ‘’يتشكل الشارع وفق مفهومنا للسياسة، فالسياسة التي تحيلنا إلى الشارع لا إلى السماء سياسة تُمد الشارعَ بفعل الحركة التي لا وصاية غيبية عليها، وهذا ما يجعل من الشارع شاهداً على تجربة الإنسان في الأرض’’.

هذا لا يعني أن هناك سياسة خالصة الوجه إلى السماء، وسياسة خالصة الوجه إلى الأرض، ولكن بقدر ما توجه السياسة وجهها إلى الأرض تحترم شارعها، وتُعطي له كينونته ووجوده وتجعله حاكماً عليها.

أما السياسة التي تحتكم إلى ما تَحسب أنها أحكام الله ومنزلاته والمصلحة الشرعية، فلا شارع لها، لديها الشارع (الشرع) وهذا يُسمى على لسان فقهاء السلطة والخلفاء الناس الذين لا يجدون لهم غير الشارع مكاناً للتعبير، يسميهم بالدهماء والعامة والسواد الأعظم والرعاع.

أما الشارع فهو اصطلاح حديث نطلقه على حركة الناس الذين ينزلون إلى الشارع لأنهم يجدون أنفسهم مسؤولون عن حركة فعلهم، وعن إدارة تجربتهم في الدنيا ويجدون أنفسهم مصدراً للسلطة وشرعاً لقراراتها وأفعالها.

الشارع هو الواجب، لأن السلطة لا تصح إلا به، لذلك هو من يشكل الطريق كي تسير فيه السلطة، ومتى حادت السلطة عن شارعها، فقدت شرعها، فلم يعد لها مكاناً يمنحها الشرعية. من هنا فالشارع ليس تسمية مجازية مستمدة فقط من حركة الناس في الطرقات العامة، بل هو من جانب آخر تسمية مجازية مستمدة من كونه طريقاً لتولي السلطة مكانها ومكانتها. أي أن الشارع مكان الناس ومكان السلطة، فالناس متى مارسوا دورهم السياسي صاروا شارعاً والسلطة متى مشت في طريق هذا الشارع صارت شرعية.

السياسة التي تجد وظيفتها في الإصلاح والنصيحة، لا يمكنها أن تجد في الشارع واجباً، بل هو مكلف بأداء واجب، لذلك فهو في ذاته لا قيمة له، بل قيمته تكمن في ما يؤديه من واجب. وهو واجب ينزل من السماء ولا يعرف حقيقته غير السلطة الخاصة القريبة من السماء، وهي السلطة التي تُحدد للعامة الواجب وترسم حدوده، وتطلب منهم فقط أن يُذكّروها بما تتلوه عليهم. في هذه السياسية لا يوجد شارع، فقط يوجد واجب مصدره الغائب (السماء) لا الشاهد (الشارع). ونموذج هذه السياسة هو (الآداب السلطانية) ومتبقياتها التي مازالت تشتغل في فقهاء سلطة اليوم.

هل هناك معنى لأن نسأل السياسة التي ليس في مفهومها مكان للشارع، أين حركة شارعك؟

التمثيل المسجوع.. السعيدي نموذجاً

السجع علامة على البلاغة الصوتية التي تحتفي بالقوالب والألفاظ والرنين والتهويل، هي بلاغة لا تقول شيئاً ولا تنجز حدثاً ولا فعلاً ولا تصل ولا تبلور فكراً ولا تصوغ معرفة ولا مفهوماً.هذه هي البلاغة المسجوعة، ويبدو أن حضرة النائب الساجع الشيخ جاسم بن أحمد السعيدي، قد استثمر تجربته البلاغية السجعية في خطب الجمعة، فراح يؤسس ما يمكن أن نطلق عليه بالتمثيل المسجوع.
كان السؤال الذي وجهته الوقت للسعيدي بوصفه ممثلاً (لا للبلاغة الساجعة بل للشعب) هو: ماذا مثلَّت أيها النائب؟ (1)
لم يكن السعيدي يقدم جواباً عن التمثيل، بقدر ما كان جوابه نفسه نموذجاً لما أسميته إساءة التمثيل، وليس هناك أكثر من اللغة فضحاً على هذه الإساءة. فلغة الجواب المسجوعة لا يمكن أن تمثل رسالة نيابية، بل إنها  لا يمكن أن تؤدي رسالة التمثيل الذي هو جوهر أي عملية ديمقراطية.
فاللغة المسجوعة يصوغها خطاب البلاغة 250010674_86959f1a5eالمسجوعة التي لا تنجز فعلاً بقدر ما تنجز جلجة وصوتاً وطحناً . الحياة التمثيلية أو النيابية أو الديمقراطية تحتاج لغة حية واللغة الحية هي اللغة التي تدب فيها الأفعال والإنجازات المفتوحة على الحياة المشتركة، هي اللغة التي تصل الناس بمختلف انتماءاتهم في فضاء وطن مشترك. وقد جاء جوابه عن تمثيله مطابق تماما لأدائه الصوتي .
متى فقد الصوت النيابي انسجامه وسط مجتمع متعدد الأصوات، فقد تمثيله لهذا المجتمع، وصار يمثل شقاً نشازاً في المجتمع.
لقد مثَّل السعيد أسئلة مسجوعة واقتراحات مسجوعة ومواقف مسجوعة ورسائل مسجوعة، لقد مثَّل بسجعه الضجيج. وويل لقبة يكثر فيها الضجيج.
سنسجل للسعيدي أن تمثيله قد صاغ لنا مفهوم ‘’التمثيل المسجوع’’، وسنحيل دوماً في تعريفنا لهذا النوع من التمثيل إلى تجربة السعيدي وهي تكرار ‘’اقتراحات تقدمت، وقوانين شرعت، وأسئلة توجهت، ومواقف اتخذت، ورسائل رفعت، وتزكيات طرحت، ومجالس شغلت، وما يستطاع فعل، والباقي أجل، والقادم آمل’’.

(1)http://www.alwaqt.com/art.php?aid=18388

الليبرالي النبي

   من هو الكاتب الليبرالي الجديد؟

هذا هو السؤال الذي طرحه شاكر النابلسي في 6أغسطس، في اليوم الرابع والعشرين من الحرب على لبنان، وبقدر ما كان جواب النابلسي يحيل إلى المفهوم، سأحيل أنا إلى الخطاب الذي يعرف من خلاله النshaker_alnabulsiابلسي مفهوم "الكاتب الليبرالي الجديد"، فالخطاب هو أرض المفهوم، وهذه الأرض هي التي تعطي للمفهوم معناه ونكهته وقوامه.

وبقدر ما كان خطا ب النابلسي في ظاهره غير معني في تعريفه "للكاتب الليبرالي الجديد" بموقفه السياسي، سأكون أنا أيضاً غير معني في قراءتي لخطابهم بموقف الكتاب الليبراليين الجدد الذين يتحدث باسمهم النابلسي، هل هم "متصهينون أشد من الصهاينة أنفسهم لا صلة لهم بمبادئ الليبرالية ولا بمُثل الحرية"؟ كما يذهب إلى ذلك أحمد دينين. هل هم هؤلاء المتحرقون ل “نعيم” الحرية الأمريكي المحمول على آلة الموت الصهيونية؟  كما يذهب إلى ذلك دكتور حسن مدن.هل هم أقرب للمحافظين الأمريكيين الجدد؟ كما يراهم مثقفون ليبراليون عرب في بيانهم "صرخة ضد التبسيط"

إذن، لست معنياً هنا بالموقف، قدر عنايتي بالخطاب الذي يصدر عنه شاكر النابلسي في تعريفه "الكاتب الليبرالي الجديد".

صرخة ضد التبسيط

في يونيو2005 أصدر مجموعة من المثقفين الليبراليين العرب بياناً عنوانه " ليبراليون عرب: صرخة ضد التبسيط" ومن الأسماء التي وقعت على البيان: حازم صاغية، تركي الحمد، محمد الحداد، رشيد الخيون، ودلال البزري،  سيار الجميل… إلخ.

مما جاء في البيان "ما نحاوله نحن الموقّعين أدناه، صرخة ضد التبسيط إزاء العناوين الأهم في حياتنا… نذهب إلى أن الليبرالية التي نقول بها، ولاءٌ لقيم تحديثية وتنويرية أولاً وأساساً، وليست أبداً ولاءً للولايات المتحدة كائناً من كان المقيم في بيتها الأبيض… إن الديمقراطية تتويج لمسار وليست أول المسار، كما يشيع من يسمّون أنفسهم "ليبراليين جدداً" وهم أقرب إلى أن يكونوا "محافظين جدداً".

يبدو أن البيان لم يكتب له الرواج، على الرغم من ألمعية الأسماء التي وقعتها ورزانة الخطاب الذي صدرت عنه. ويبدو أكثر أن صرخته لم تصل لليبراليين العرب الجدد، كي يعيدوا النظر في بيانهم الركيك حد التبسيط الذي أصدره النابلسي في يوينو2004 تحت عنوان "من هم الليبراليون العرب الجدد، وما هو خطابهم؟". فلو كانت الصرخة قد وصلت في شكل مراجعة نقدية لما أصدر النابلسي بيانه "من هو الكاتب الليبرالي؟" في اليوم الرابع والعشرين من الحرب على لبنان، عل الأرضية البسيطة ذاتها من دون أن يكلف نفسه عناء حفرها أو تقليبها أو تخصيبها. فهل هو أصمّ أم أرضه صماء؟!

تبسيط الحقيقة

ما يفعله خطاب الليبراليين هو بالضبط ما وصفه البيان بحصافة، تبسيط إزاء العناوين الأهم في حياتنا، وهو تبسيط يتم باسم الديمقراطية والليبرالية. كما يتم من جهات أصولية أخرى بأسماء تبسيطية أخرى. وهذا التبسيط هو ما يجعل من مأزق هذا الخطاب، هو نفسه مأزق الجهات الأصولية الأخرى. لنر كيف يقدم خطاب الليبراليين الجدد نفسه؟ وكيف يتمثل بهذا التقديم العناوين الأهم في حياتنا؟

ما يتعلق بعلاقته بالحقيقية، فهو يقدم نفسه "كاتب الحقيقة.. يسعى إلى كشف الحقيقة المُرَّة علاقات الكاتب الليبرالي مع الحقيقة فقط، ومن أجل الحقيقة فقط وليضرب الآخرون رؤوسهم في الحيط. فلا نزلَ القَطرُ.. يهمه قارئ الغد، الذي هو وحده سيكتشف الحقيقة"

هل يدير الأصولي علاقته بالحقيقة بغير هذا الخطاب؟ فدينه دين الحقيقة، ونبيه أو إمامه أو زعيمه أو فقيهه يموت دون الحقيقة المرة، وليس يهمه غير الحق، وطريقه طريق الحق مهمها قل سالكوه. وليست تهمه الدنيا، بل الغد حيث الجنة.

كيف يمكن للخطاب أن يكون ليبرالياً وجديدا وهو يدير علاقته بالحقيقة المعرفة بأل التعريف التي هي أل الإطلاق؟ لا يمكن ذلك إلا بتبسيط العناوين الأهم في حياتنا، وهل هناك أهم من الحقيقة؟!

ما دامت هي معرفة بـ(أل) فهي جاهزة وكاملة وعلينا فقط أن نعثر عليها، "عند العرب أو العجم، عند الشرق أو عند الغرب، عند الكورد أو عند الآشوريين، عند اليهود أو عند البوذيين، عند المسلمين أو عند المسيحيين، عند أبيه أو عند أمه…." أو في البيت الأبيض!! والأرجح أن تكون هناك، وبقية الخيارات كلها وهمية أو خاطئة.

الحقيقة في هذا الخطاب ليست صيرورة تشكلها تجارب الأمم بإخفاقاتها ونجاحاتها بعلوها وهبوطها بتضادها وتكاملها باحترابها وسلمها بتقدمها وتأخرها بتدافعها الدائم.الحقيقة في هذا الخطاب تذهب لها في بيت أبيض فتعثر عليها نقية صافية مكتملة. الحقيقة في هذا الخطاب ليست مساراً يحتاج إلى حمل طويل ومخاض ذاتي عسير، الحقيقة موجودة وجاهزة وتحتاج فقط إلى قبول، ولو بولادة قيصرية، ورحم الله سقراط وأمه، فقد كانا يولدنا الناس ولادة طبيعية بالتدافع الذاتي، ولم يلجآ في أي يوم إلى استعمال أجهزة ذكية!!

وتبلغ هذه الحقيقة حدا من الأصولية الأحادية أن تضعك بين اثنين، إما أن تكون كاتبا ليبراليا وجديدا أو أن تكون من القوم "النائمين الساهميين المخدرين بحشيش الشعارت". هذه الحدية تجد تفسيرها في خطاب الحقيقة الذي هو خطاب (أل) التعريف الذي يدير الحقيقة بعقلية الأصولي.

 النبي الجديد

يبدو الكاتب الليبرالي صاحب الحقيقة المرة، وهذه إحدى مقتضيات أصوليته وشواهدها، في إدارة للحقيقة والنظر إليها، نبياً صاحب دعوة جديدة وقبلة للحقيقة جديدة، لكنها لا تتجه هذه المرة للشرق، بل تتجه للغرب في أقصاه، هناك حيث الكعبة بيضاء.

يبthumbدو نبياً يكشف وحده الحقيقة المكتملة " حتى ولو رجموه بالحجارة، وبصقوا عليه، وشتموه، ورموه بأقذع الصفات السوقية" الحقيقة التي" تقضُّ المضاجع، وتنبشُ المواجع"، ومن يحمل رسالة الحقيقة النبوية لا يمكن أن يكون لسان حاله غير لسان اللاهج بالثبات "سنبقى غير مترددين، ولا تائبين، ولا متراجعين، ولا خائفين". إذا كان هو هكذا، فهل يحق أخلاقياً لخطابه الذي يقوم على هذه الروح الرسولية والأصولية حد المقاومة والصمود أن ينكر على خصومه أن يكونوا بالروح نفسها؟!! وهل هو بهذه الروح خطاب ليبرالي جديد أم هو خطاب محافظ جديد؟

النبي الجديد ليست لديه مشكلة مع رسالته، فهي تحمل الحقيقة كاملة وجاهزة وبسيطة ولا تنتظر سوى الدعوة والإبلاغ. مشكلته تبدأ لحظة احتكاكه بالجمهور، على عكس المفكر الذي تبقى مشكلته دوماً مع خطابه ومعيقاته الداخلية وسيروراته الذاتية في تشييد حقائقه غير المنتهية. هو يتحدى الإكراهات التي تحول دون نمو فكرته، هو يتحدى ذاته بالدرجة الأولى.

تبدو مشكلة خطاب شاكر النابلسي مشكلة نبوية، فالآخر الذي يشغله في خطابه والآخر الذي يتحداه هو الجمهور غير المؤمن بحقيقته التي عثر عليها في البيت الأبيض، يخترق هذا الآخر كل جملة من خطابه "ليس راعياً لقطعان الأغنام والأنعام، لا يطمع بتصفيق الجمهور، ولا بباقات ورودهم، ولا بقبلاتهم".

بقدر ما هو ينفي من جانب انشغاله بهذا الآخر، يؤكد من جانب آخر فرط حضور هذا الجمهور وفرط انشغاله به، وهذا ما يؤكده استداركه "ولكن غاية مُناه أن تصل رسالته إليهم، وتفعل فعلها فيهم. تحرق خشبهم القديم المسوّس، وتذري في الهواء قشهم العتيق، وتنفض من رؤوسهم بيوت العنكبوت، وتخرجهم من الكهوف المظلمة الباردة" إنها بهذه الغايات البعيدة، رسالة نبوية بامتياز.

ويؤكد هذا الحضور النبوي، إننا لا نعثر على أثر لمن يختلف معه من الليبراليين الذين هم ضد التبسيط، في حين أن خطاب المفكر يكون مشغولا دوما بأنداده المختلفين معه أو القريبين منه أو الذين يشاركونه في جزء من أرضيته المعرفية. فهو يدير معهم حوارا واختلافا وجدلا، وبهذا الشكل تنمو حقائقه، لكن يبدو أن ليس لدى النابلسي غير حقيقة واحدة وهي مكتملة وجاهزة ومكانها معروف. ولا وقت لديه يضيعه مع أنداد يشككونه في رسالته النبوية، لذلك من الأفضل أن ينشغل بظلاماته من الجمهور، فهي دليل الأنبياء على صدق ما يدعون.

اللغة البسيطة

ويبلغ الكاتب الليبرالي منتهى تبسيطاته ومنتهى أصوليته ومنتهى أحاديته ومنتهى سذاجته ضد العنوان الأهم في حياتنا، حين يصادر على اللغة حقها في النظر إلى العالم بحقائق متعددة. ويصادر عليها حقها في سياسة حقائقها ويصادر عليها حقها في تصيير حقائقها. ويصادر على حقيقة أن اللغة حين تصوغ الحقيقة عند "العرب أو العجم ، عند الشرق أو عند الغرب، عند الكورد أو عند الآشوريين، عند اليهود أو عند البوذيين، عند المسلمين أو عند المسيحيين، عند أبيه أو عند أمه" تسميها بعدد أسماء الله وتسوسها بعدد أنفاس خلائقه وتواريها وتداريها وتجاريها وتراوغها وتعمهمما وتضيقها. هكذا تشتغل اللغة في بناء عوالم الحقيقة غير المنتهية.

في قبال حقيقة عمل اللغة التي تتوسط بيننا وبين حقائق عوالم الكائنات والأشياء، يزعم خطاب النابلسي إن علاقته بالحقيقة بدون وسيط، كعلاقة الأصولي بالله بدون وسيط وباسم هذه العلاقة المباشرة يحضر الله أو تحضر الحقيقة في كل الأشياء التي يمتلكها هذا الأصولي أو الليبرالي الجديد في أصوليته.

هكذا ينفي الكاتب الليبرالي عن خطابه وعن نفسه آثم اللغة ومستخدميها وآثم حقيقتها في صياغة العالم "الكاتب الليبرالي ليس سياسياً في كلامه وفي أقواله، يداري ويجاري ويواري. يزوغ من الحقيقة كما يزوغ السياسيون، ويراوغ كما يراوغ السياسيون، ويعممون الكلام، ويطلونه بطبقة من العسل السام. السياسيون يقولون عن الأعور، إنه يبصر بعين واحدة، أما الكاتب الليبرالي فيقول للأعور: أعور"

لو

هكذا تكتمل النبوة الجديدة، بالقدرة على تصيير اللغة تصييرا يجعلها تتطابق تماما والحقيقة، تقول عن الأعور أعور، من دون مواربة ولا مخاتلة ولا زيادة ولا نقص ولا حجب ولا ستر ولا مراوغة. لغة الكاتب الليبرالي لغة الحقيقة!!

وبالتعويل على هذه اللغة التي تقول للأعور أعور، ولا تترك مجالا لبناء حقيقة أخرى له، بهذه اللغة يمكننا أن نحل مشكلة الإنسان. ومشكلة الشرق الأوسط الجديد.وبغير هذه اللغة سنبني عوالم مختلفة للشرق الأوسط وهذا سيؤدي إلى الفوضى غير الخلاقة.

ولغة الحقيقة تماما كلغة الأنبياء لا يمكنها أن تستجيب للسلطة أو القوة التي تريد أن تفرض على اللغة معانيها للأشياء.لكن ما يتناساه الليبراليون الجدد هو أن قدرتهم على تسمية الأعور أعور قد خذلتهم في تسمية ما يجري الآن بعينين سليمتين، وهذا ما تفطن له نصر حامد أبوزيد في مقالته (العقلانية العوراء والليبرالية العرجاء) حين خاطبهم "يؤسفني أيها العقلانيون الليبراليون الذين ينظرون بعين واحدة، فيتمتعون بحاسة نقدية مفرطة تجاه الأنا، وعمي كامل تجاه الآخر، أن أعلن تبرؤي منكم ومن مواقفكم"