أرشيف التصنيف: مقالات

جغرافيا شريعتي

لماذا العودة إلى شريعتي؟
الجغرافيا هي السبب، أعود لشريعتي لأسباب جغرافية، والجغرافيا أرض وجسد وواقع، إنها أرض الأفكار وجسدها وواقعها. شريعتي في سياقه، كان فاتح جغرافيا الفكر الديني، فاتح أرضه التي نبت فيها، وجسده الذي تكون فيه، وواقعه الذي نما فيه وكوّنه.   img038
لقد فهم شريعتي علم الاجتماع الذي درسه في فرنسا، على أنه جغرافيا الأفكار الاجتماعية وسياقاتها في المجتمعات المتعددة. وفي كتابه العودة إلى الذات يتحدث شريعتي عن جغرافيا الكلمة. الكلمة بما هي فكرة أو رأي أو نظر أو أطروحة أو كلام أو حديث. والجغرافيا بما هي زمان ومكان مجسدان في مجتمع حي في لحظة تاريخية.
المجتمع في تجربة شريعتي ليس العامة ولا السواد الأعظم ولا المقلدين ولا جماعة المؤمنين ولا الأتباع ولا الطائفة ولا الناس ولا الأفراد. المجتمع في نظر شريعتي شخصية إنسانية له جسد مادي متشكل من أعضاء، وله روح حية وشاعرة وذات إرادة وضمير، وهو ما يسميه دوركايم الضمير الجماعي، ويسميه لويس برول الضمير الجماعي. المجتمع هو الشخصية الحقيقية والواقعية وليس الفرد.
كل ما يتعلق بالممارسات والظواهر الدينية والاجتماعية والسياسية، لا يمكن انتزاعه من جسد المجتمع، إنه الجغرافيا التي تقع فيها الأفكار، وفي خارطة هذه الجغرافيا، يبحث عن حقيقة هذه الظواهر، لا توجد حقيقة مطلقة من هذه الجغرافيا، فكل ممارسة أو ظاهرة لها جسدها الحي أي بيئتها الاجتماعية وجوها الزماني وضمير المرحلة التي ظهرت فيها وروحها، لذلك لا يمكن أن ننظر إليها في صورة موضوع مستقل ومجرد وعلمي.ولا يمكن أن نحكم عليها بمعايير الصح والخطأ، كما نفعل في النظريات العلمية والرياضية، أو بمعيار الحق والباطل أو بمعيار الهداية والضلال.
لذلك حين سئل شريعتي عن رأيه في أحمد كسروي الباحث الإيراني الذي كان ينادي بالعودة إلى إيران القديمة، قال ”الناس في الغالب يفتحون كتبه كما يفتحون كتباً علمية ثم يفكرون في صحتها أو سقمها”[1]. حين نضع الرأي أو القول أو الفرضية في الجغرافيا لا يعود الغرض الدحض أو الإثبات، بل البحث عن سياق الجغرافيا الاجتماعية التي كوّنت هذا الرأي أو القول.
ولذلك حين نعود اليوم إلى شريعتي، فإننا لا نعود إليه لنبحث عن صحة أفكاره أو خطئها، كي ندافع عنها أو نتبناها أو نبين تهافتها، بل كي نقرأه في سياق جغرافيته، وكي نقرأ جغرافيتنا الدينية في سياقه، أي كي نقرأ ظاهرتنا الدينية في سياقها الاجتماعي في ضوء جغرافيا كلمته.
كان شريعتي يردد دوماً كلمة أستاذه البروفسير جوروفيتش ”لا يوجد مجتمع بل توجد مجتمعات”[2] وكذلك يمكن أن نقول لا توجد جغرافيا بل توجد جغرافيات، وكل ما تغيرت الجغرافيا تغير المجتمع، ومجتمعنا الديني لا يمكن أن يكون هو نفسه مجتمع شريعتي في الستينيات والسبعينيات، هناك مجتمعات دينية، وليس مجتمعا دينيا واحدا.
ما يحسب لشريعتي أنه جعل للمجتمع الديني جسد، بعد أن ظل يتوهم أنه دوماً روح معلقة في السماء لا جسد لها يربطها بالأرض وظلماتها. ومادام للمجتمع الديني أهواؤه الجسدية من غصبية وشهوية ومصلحة وقوة وتنافس واحتكار، فإنه ”لا ينبغي في المجتمع أن ننخدع بحقانية فكرة ما”[3].
هناك أفكار حقانية في ذاتها، لكن حين تضعها في جغرافيا جسد المجتمع، يتكشف وجهها غير الحقاني، سواء جاءت هذه الأفكار من مصادر دينية تتحدث عن (الحفاظ على عزة الإسلام) و(مظلومية الطائفة) أو من مصادر غير دينية تتحدث عن (الحفاظ على عزة الدولة) و(حقوق المواطن). جغرافيا شريعتي تعلمك ألا تنخدع، فليس هناك حقانية معلقة في السماء، والقضايا لا تمشي على الماء، حتى ماء البحر حين يتحول إلى قضية فإنه لا يعود ماء، بل جغرافيا خارطتها مُغيبة.
والأولويات تختلف باختلاف جغرافيا القول، فـ ”في العلم ينبغي النظر إلى القول لا إلى القائل في حين أنه في السياسة ينبغي النظر أولاً إلى القائل ثمّ إلى القول”[4].
تنظر أولاً إلى السعيدي ثم إلى بياناته عن الوطنية، وتنظر إلى الكتلة الإيمانية ثم إلى بياناتها عن الحريات، وتنظر إلى كتلة المنبر الإسلامي ئثم إلى بياناتها عن الطائفية والفساد وتنظر إلى كتلة الأصالة ثم إلى بياناتها عن المواطنة وإلى الحكومة ثم إلى بياناتها وقوانينها عن المحميات الطبيعية والأملاك العامة.
أنت لا تنظر إلى أشخاصهم بل تنظر هنا إلى الجغرافيا التي كونتهم وصاغت أقوالهم وبياناتهم. ستجد الجغرافيا تفضح، وما يفضحنا نخفيه، كما فعلت الجغرافيا الدينية مع شريعتي، ويبقى جواب الجغرافيا، هو الأكثر إقناعاً أمام سؤال لماذا لم تحتفل التيارات الدينية بشريعتي؟
إنهم ينزعجون من الجغرافيا حيث الفضح، ويفضلون السماء حيث الستر.
الهوامش
[1]، [2]، [3]، [4] العودة إلى الذات، علي شريعتي، ص,343ص,253 ص,349 ص.350

جغرافيا شريعتي والنجدي

النجدي
النجدي

في مزحة تحمل في باطنها جداً جاداً، غمز لي الصديقان الصادقان عضوا مجلس المنامة البلدي، صادق رحمة وصادق البصري، وهما لتوهما عائدان بانتشاء من دعوة غداء جمعية التوعية الإسلامية على شرف استضافة الدكتور( أبو الزهراء ) عبد الحميد النجدي، المعروف بمناظراته العقائدية بقناة المستقلة. كان ظاهر المزحة يقول إننا صرنا من كبار القوم الذين يقدمون في الاحتفالات ومراسيم الاستقبال، وإنك صرت من حثالة القوم في التيار الديني الشيعي، وباطنها يقول الخروج على جغرافيا الجماعة وأرضها الآمنة، يوقعك في الهاوية، فلا تعود تُرى.

قلت للصادقين: لماذا لا تحتفي جمعية التوعية الإسلامية بذكرى مرور ثلاثين عاماً على اغتيال علي شريعتي؟

الجواب الذي لم يقولاه ولا يستطيعان أن يقولاه، هو أن خطاب شريعتي لا يناسب مقاس التوعية، إنه يفيض على مقاس كأس مفهومها للتوعية، وبالمناسبة التوعية في أصلها من الوعاء وما ينضح فيه.

هو لا يناسب مقاسها ليس لأن شريعتي أكاديمي ودارس في الغرب، فالنجدي مثلا أكاديمي ويدرس في الجامعة الإسلامية بلندن، وقد كانت يوما ما جهة من جهات مقاصدي، إنما المناسبة تتحدد بمقاس اللسان، فالنجدي هو لسان عقائد الجماعة، ويقدم نفسه بوصفه المدافع عن عقائد الطائفة، وهذا ما يمكن التعرف عليه بسهولة من خلال خطابه في قناة المستقلة، وخطابه في جامع الصادق بالدراز مثلا، فقد أتحف الحضور –كما ورد في موقع منتديات البحرين الإلكترونية- ببحث شيّق حول النظرية الصحيحة في الخلافة، هل الإمامة أم الشورى، وأوضح فيه بطلان نظرية الشورى فيما ينزله الله وأنها تقتصر على (بينهم) أي بين الناس، كما أوضح أن الإمامة هي أمر إلهي والدليل في ذلك عدد كبير من الآيات القرآنية.

إنه يقع مناوئاً على جغرافيا الخطاب العقائدي الذي يمثله أبومنتصر البلوشي مثلا والشيخ عثمان الخميس، من هذا الموقع الجغرافي الذي يتخندق فيه المحتربون العقائديون، تبرز نجومية الدكتور النجدي، ويحتل موقعه في الصفوف الأمامية، ويقدم توعية بمقاس ما إناء جمعية التوعية.

على خلاف ذلك، يبدو شريعتي، فهو باحث ومنقب في جغرافيا العقائد وتشكيلاتها الاجتماعية والسياسية، فـخطاب (بحار الأنوار) مثلا في خطاب شريعتي، أرض للحفر عن صياغة السياسية لجغرافيا العقائد، في حين (بحار الأنوار) في خطاب النجدي، أرض عقائدية يجب الدفاع عن بيضتها.

مهمة النجدي تكمن في الدفاع عن النصوص وصحتها عبر تشغيل آليات الحجاج الكلامي القديم وآليات الجرح والتعديل والأساليب المعتمدة في الروايات. إنه الذائد عن حرمة المقدس الجماعي.

أما مهمة شريعتي، فتكمن في تفكيك جغرافية النصوص وسياقاتها التاريخية وصراعاتها الاجتماعية والسياسية، وإعادة تأويلها تأويلا يخرجها من سياق الاحتراب الديني والطائفي. شريعتي بما توفر عليه من عدة منهجية في مجال السوسولوجيا وعلم الأديان المقارن، استطاع أن يكون فاتح جغرافيا العقائد الدينية ونصوصها، وإن كان سياق عصره الأيديولوجي، قد حال بينه وبين أن تبلغ فتوحاته الجغرافية حدها المعرفي، فمهمة العودة إليه اليوم تجد تبريرها في استكمال مهمة إنجاز هذه الفتوحات وشق طرق جديدة لها.

الأخوة في جمعية التوعية على الرغم من نشاطهم الذي لا يهدأ، مدعوون لإعادة النظر في رسالة (التوعية) وإنائها الذي تحمله جمعيتهم منذ السبعينيات، هي بحاجة إلى جغرافيا جديدة، تخفف من حدة الاحتقانات العقائدية.

ولنا عودة إلى جغرافيا شريعتي.

رابط التنسيق

في جلسة دردشة حول بروفايل العلمانية، كنت فيها مدعواً مع الصديق حسين مرهون، للحديث عن تجربتنا مع نخبة من مثقفي وتكنوقراط اليسار البحريني، أبدى الدكتور عادل العريفي، استشاري الطب النفسي، اعتراضه على دعوتنا لتفهم التيار الديني وقراءة مواقفه السياسية خارج إطار اللعبة السياسية، وقد صاغ اعتراضه في شكل سؤال استنكاري، يقول فيه:كيف ننسق مع الجمعيات الدينية، وهي لا تخرج عن اثنين، إما أن تكون جمعيات مولاة تبرر باسم الدين تطابقها مع السلطة السياسية بما هي شخص أو ولي أمر مفترض الطاعة، ولا يجوز الخروج على سلطته، وهي تُسوّغ XY5G9962بهذه الحجة مواقفها السياسية الممالئة، وإما أن تكون جمعيات معارضة تبرر باسم الدين معارضتها السياسية ومطالبها الحقوقية، وباسم الدين ترفض مقتضيات مطالبها التي تفترض تقبل ثقافة الديمقراطية.كيف يمكن التنسيق مع هذه الجمعيات التي رابطها الديني وأقنعته يتقدم على رابطها المدني ومقتضياته؟

قلت له، أنا مثقف، ووظيفتي لا تنطلق من إمكان التنسيق، فذلك إمكان يشغل المشتغلين أو المنشغلين بالسياسة، والعلاقات في المجتمع في مفهومي لا تنحصر في إمكان التنسيق. والمجتمع أكبر من الجمعيات السياسية مهما كانت درجة تمثيلها للمجتمع، وهي إن مثلت جانباً من المجتمع أو وجها من وجوهه أو رابطاً من روابطه أو فئة من فئاته، فإنها لا تمثل كل إمكانات اجتماعه، أي العلاقات التي تربطه وتشده وتشكل صفته الاجتماعية.

المجتمع ليس مجموعة أفراد، بل منظومة علاقات متعددة، ومهمة المثقف العمل على هذه العلاقات تفكيكاً ونقداً وبيان ما تنجزه في المجتمع من أحداث ووقائع ومآزق وأزمات.البعد السياسي هو بعد من أبعاد المجتمع، ولا يمكنه أن يكون الممثل الوحيد لما هو معقود في المجتمع من علاقات، أي أن التمثيل السياسي لا يعكس حقيقة العلاقات الاجتماعية لذلك “يدين بورديو الفهم الذي يعتبر السياسي كانعكاس للاجتماعي أو السياسي كصورة حقيقية للعلاقات الاجتماعية”([1])

حتى الصراعات السياسية التي نشهد وقائعها بشكل منتظم لا تمثل حقيقة الصراعات الاجتماعية، كما يفيدنا بورديو فـ”الصراعات السياسية لا تعكس حقيقة الصراعات الاجتماعية، لأنها تدور بين تنظيمات أكثر مما تدور بين طبقات وفئات”([2]) لو كانت الصراعات السياسية في البحرين تعكس حقيقة الصراعات الاجتماعية، لانتعشت سوق الحراسات الشخصية وسوق شركات الأمن الخاصة، ولطالب السعيدي الحكومة بضرورة رفع علاوة الأمن الشخصي.

الجمعيات السياسية صارت شاغلة الناس، حتى صارت كأنها هي المجتمع، لقد التهمت المجتمع وسيّسته (بالمعنى المباشر والسطحي) والسلطة عندنا فيما يبدو تتنافس، (وهي دائما تتنافس ولا تعرف الحياد، لأنها دائما شخص له مصالحه الخاصة جدا) مع الجمعيات السياسية في هذا الالتهام، حتى صارت المآتم مطالبة بإظهار ولائها السياسي، لا أحد خارج اللعبة السياسية، أو لنقل بصورة أكثر دقة لا أحد خارج استغلال أطراف اللعبة السياسية.

رابطة الجلسة كانت تجربتنا الدينية وتحولاتها العلمانية، لكنها انفلت إلى منطقة نقد لتجربة اليسار وموقفه المتعالي من التجربة الدينية، وما أنتجه هذا الموقف من قصور معرفي في فهم الظاهرة الدينية وتجسداتها الاجتماعية.

إن مقولة التنسيق تعبر عن علاقة سياسية، ولا تحمل في داخلها مفهوماً تفسيرياً، يمكننا من فهم الظاهرة الدينية وطريقة اشتغالها،من هنا فحين أقدم تجربتي الدينية في شكل سيرة، لا أقدمها كي توظف من قبل أي طرف للاحتجاج بها على جدوى التنسيق أو عدم جدواه، بل أقدمها من أجل فهم العلاقات الأكثر تعقيداً في مجتمعي، وإذا كان السياسي ليس معنياً بالفهم، بل معني بالاستغلال، فعليه أن يستغل هذا الفهم ليتصرف ببصيرة أكثر.


[1]البناء على بيار بورديو:سوسيولوجيا الحقل السياسي، علي سالم،ص 90.

[2] المرجع نفسه، ص89.

هل يوجد نص في قاع المجتمع

تجشَّم الصديق عبدالحسين المتين مشقة زيارتي، ليطرح عليّ عن قرب حميم سؤال: هل صحيح أنك كتبت مقالاً تقول فيه إنك علماني؟

وجدت مشقة في أن أختصر له ما كثفته بصعوبة في مقالة أو سيرة تجاوزت ثلاثة آلف كلمة، رويت فيها حكاية تشكل فهمي للعلمانية. كنت أعول على أني سأكتب نصاً في شكل سيرة ذاتية، تقدم مفهوم العلمانية تقديماً يكسر حدة معناها المُرجّس. عُوّلت على التجربة الشخصية والسيرة الذاتية وأحضانهما الدينية لأقدم معنى أو لأقل شهادة للعلمانية يجعلها أقل توتيراً.

تذكرت كتاب ستانلي فِش(هل يوجد نص في قاعة الدرس؟ سلطة الجماعات المفسرة). كنت أظن أن مقالي أو سيرة علْمَنَتيstanley fish (علمانية الراهب.. شيء من سيرة الرهبنة والعلمنة) هي نص يملك معنى قائما بذاته، ويمكن أن أقدمه أو يقدم نفسه في قاعة درس المجتمع. كنت أظن أن نصي سيوجد ويكون ويقول في هذه القاعة، فهل كان نصي موجوداً في قاعة المجتمع؟ وهذا يتطلب أن نجيب على سؤال: هل يوجد نص داخل قاعة المجتمع؟

لم يكن نصي موجوداً، على الرغم من أني كتبته وطبع في ملحق بروفايل صحيفة الوقت وانتشر مع الصحيفة، وتداولته المنتديات الإلكترونية والمجموعات البريدية، ونشرته في مدونتي الإلكترونية.

ما كان موجوداً هو تفسير الجماعات الدينية للعلمانية وهي الجماعات التي كنت أخاطبها في مجتمعي، كانت سلطة هذه الجماعات المفسرة هي الموجودة وهي التي عملت على تقديم معنى العلمانية.

وكي نفهم ذلك جيداً، علينا أن نفهم أن المجتمع ليس مجموعة أفراد، بل هو الرباطة التي ينتظم من خلالها الأفراد في جماعة. كذلك النص ليس مجموعة كلمات، بل هو ما يجعل الكلمات في نظام، أي الرابطة التي تنتظم من خلالها في نص أو خطاب. هذا يعني أن هناك نصا في قاعة المجتمع وفي قاع قاعته على وجه التقريب، وهذا النص هو الجماعة نفسها أو رابطها أو ما يجمعها من استراتيجيات تفسير وتأويل وفهم.

هذا هو الموجود وهو صاحب السلطة والقادر على أن يفسر وفق ما يريد. أما نصي اليتيم من جماعة تعطيه أبوتها، فلم يكن موجوداً في قاعة المجتمع التي لا تتسع للخارجين على رابطها. يتجلى نص الجماعة ورابطها في الأنشطة التي يقومون بها من أجل منح الأشياء معناها. مثلا حين أرجع إلى منتديات جدحفص أو بحرين أونلاين أجد أن نصي المنشور هناك غير موجود.

هو موجود في الموقع ولكن ليس في قاع عقولهم ولا قلوبهم، ما هو موجود وجودا فاعلا وقويا هو نص الجماعة ويتجلى في النشاط القرائي الذي قاموا به من أجل تقديم تفسير وتأويل، وقد تمثل هذا النشاط في استحضار نصوص الفتاوي والمحاضرات وخطب الجمعة وصور القيادات والعلماء والفقهاء ومواقفهم واستدعاء مواقف الأئمة وكلماتهم والآيات والأحاديث والتاريخ. هذا ما كان موجوداً وهو ما يربط هذه الجماعات ويمنحها سلطة تفسيرية. وجدت أن السؤال ليس ما معنى نصي؟ وأين ذهب؟ لا معنى له. فالمعنى يتحدد بما تفعله هذه الجماعات من أنشطة قرائية، تمثل مواقفها.

”الجمل لا تظهر إلا في مواقف، وفي إطار أو في إطار مؤسساتي” وجملتي أو نصي ظهرت أو لأقل غابت في إطار هذه الجماعات المفسرة.

وهذا ما يؤكده ستانلي فيش ”المعنى ليس ملكا خالصا لا لنصوص محددة ثابتة، ولا لقراء مستقلين مطلقي اليد في تحديدها، بل هي ملك خالص لجماعات مفسرة مسؤولة عن أنشطة القراء وعن النصوص التي تنتجها تلك الأنشطة أيضا”.

«إذا» المنصوبة، و«إذا» الناصبية

على خلفية جدل حول مقولة النائب البرلماني الشيخ حمزة الديري المقطوعة التاريخ والسياق ‘’إذا كان الشيخ السعيدي ناصبياً فإمام الحرم أكثر نصباً منه’’ بمجلس أبي إيهاب بقرية الدير nadwapa04العامرة بمجالس أهلها الطيبين، سألني الصديق عبدالحسين سؤالا وصفه بأنه لغوي، يقول السؤال ‘’ما معنى (إذا) في اللغة العربية؟’’ قلت له: هي ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه. قال لي: يعني هي تثبت صفة النصب للسعيدي أو تنفيها، ففي مجلسنا هناك من يقول هي تثبت وهناك من يقول هي تنفي.

قلت له سؤالك إذن ليس لغوياً، فأنت تسأل عن (إذا) الخطابية، وليست (إذا) اللغوية، فـ(إذا) إذا دخلت في خطاب، صار مفهومها لا يتحدد معناه بأقوال علماء اللغة ومعاجمهم، بل يتحدد بأقوال أهل السياسة وعلماء الخطاب الاجتماعي والثقافي وخبرائه.

قبل سنتين حملت مع الصديق عباس ميرزا المرشد إلى الوفاق، تصوراً لتقديم ورشة عمل تحت عنوان(تحليل الخطاب)، إلا أن الشيخ علي سلمان قرأ في الاقتراح محاولة اختراق لخطاب الجمعية الإيمانية من قبل خطابي غير الإيماني، فتحفظ على الاقتراح، فاحتفظت بأوراق الورشة المتحفظ عليها لتكون شاهداً على التاريخ.

‘’أنا لا أتهمه بالنصب، لكن أقول إذا كان الشيخ السعيدي ناصبياً فإمام الحرم أكثر نصباً منه’’ هي ليست مقولة الشيخ حمزة، بل هي مقولة الخطاب الذي يصدر عنه الشيخ، تماما كما أن جملة السعيدي ‘’بأنه لن يصلي خلف الشيخ عيسى قاسم أبداً ما دام على عقيدته’’ في حواره مع منتدى الدير قبل عام، ليست مقولته، بل مقولة الخطاب الذي يصدر عنه السعيدي، وهو خطاب أشدّ عنفاً وإقصاء، لكنه يستوي مع خطاب الشيخ حمزة في التورط في تراكمات الخلافات التاريخية وتصوراتها للآخر.

(إذا) في خطاب الديري و(لن) في خطاب السعيدي، تستحضران تاريخ الخلافات المذهبية والعقيدية وظلالها وحساسياتها واستفزازاتها، بل يمكن القول إن السعيدي والديري ما هما إلا أدوات في مؤسسة هذا الخطاب. ومع أنهما يستويان في ذلك، غير أن السعيدي يبقى أكثر وفاء لسلفيته والديري أكثر تورطاً بها. بمعنى فيما يبقى السعيدي منسجماً وحريصا ومصراً على سلفيته، يحاول الديري زحزحتها وفتحها غير أنه يتعثر بها ويقع.

والدليل على ذلك، أن الديري، كان يحاجج جمهوره بمنطقهم، ليبرر انفتاحه على صلاة السعيدي، ويستعين في هذا الحجاج بخطاب الإمام الخميني التوحيدي. و(إذا) كانت أداة حجاجه الخطابية التي حجبها السعيدي مولولاً بانتهاك عرضه العقائدي. وهو لا شك حجاج صعب وشاق، وذلك لما يحظى به السعيدي من كراهية ورفض وسمعة سيئة في خطاب جمهور الديري.

لم تكن زلة لسان كما حاول بعض النواب التبرير لزميلهم، بل كانت عثرة خطاب، زلة اللسان تنتج عن خطأ فردي، وعثرة الخطاب تنتج عن فعل إرث ثقل جماعي وتاريخي ولا يتحمل خطأها فرد واحد.

في عام 1987 كنت وأنا مازلت في المرحلة الثانوية مدفوعاً بخطاب الإمام الخميني الوحدوي للصلاة خلف إمام الحرم، وأسبوع جمعية التوعية التوحيدي ما زال مدفوعاً بهذا الخطاب، وما فتئ الشيخ عيسى قاسم يذكرنا بهذا الخطاب، لكن خطاب الوحدة يتعثر دوماً بخطاب التاريخ العقائدي، و(الناصبي) واحدة من هذه العثرات الخطابية التي لن تزال عن طريق المسلمين بتجنب لسان الشيخ حمزة لها، بل ستزول بتجاوزنا لتاريخها، وتلك مهمة أشك أن الخطاب الوحدوي ينجزها، كما أشك أن الخطاب السياسي القائم على المناورة والمجاملة والمخاتلة يمكنه أن ينجزها.

يبقى هناك فرق بين (إذا) المستقبلية المنصوبة بجواب الشرط، و(إذا) المنصوبة بالتاريخ الذي لا يكف عن الحضور في مستقبلنا. الأولى منصوبة والثانية ناصبية.

هناك (إذا) أخرى في خطاب الديري، ليتها أثارت جدلاً، لنثير حولها جدلا من نوع آخر، لكن نبقيها لسنحة أخرى، وهي التي وردت في جملته ‘’إذا يأخذون آراء مختلف الفقهاء فلن تمشي الدولة، لأن الفقهاء يختلفون في فتاواهم وآرائهم’’.