أرشيف التصنيف: مقالات

فصل الخوف من الدين

”تعريف الدين هو الشعور بالأمن في العالم” لكن، لماذا العالم اليوم يشعر بالخوف من الدين؟ لماذا نخاف من الفتاوى الدينية؟ لماذا نخاف من الهتافات الدينية؟ لماذا نخاف من الجماعات الدينية؟ لماذا صار الأصل XY5G9972الخوف من كل شيء يرتبط بناحية دينية؟ لماذا الدين صار يجلب الشعور بكل ما هو نقيض الأمن والأمل؟ لماذا يخاف الكتاب من الدين؟ لماذا اعترانا الخوف في ”بروفايل” من أن نفتح شق العلمانية؟ لماذا كان الصديق الفنان التشكيلي عباس يوسف، يقول لي ”بقايا أجلك مع بروفايل العلمانية”؟ لماذا يتصل بي الصديق حسين مرهون ليطمئن على أن بروفايل علمانيته لن يخل بأمنه الشخصي؟ لماذا ترسل لي أمل النعيمي مسجاً ”حاولت الاتصال بك. لكن البريد الصوتي قطع المبادرة في التواصل. حبيت أطمئن عليك، فالحرب عليك شديدة اتحمل بروحك”؟

ربما يكون العالم وكل هؤلاء الأشخاص مبالغين في شعورهم، وربما يكون العالم مريضاً نفسياً وهؤلاء الأشخاص مصابين بهوس ما، لكن العالم وهؤلاء الأشخاص ينتابهم شعور هو نقيض الشعور الذي يقتضيه تعريف الدين.

وجدت تفسيراً عند مصطفى ملكيان وهو عالم دين من علماء علم الكلام الجديد الذي يشهد انتعاشة مثيرة في الأوساط الإيرانية، يقول ملكيان ”كلما كان تديننا عقلانيا شعرنا بالأمان والطمأنينة”.

العقلانية تقتضي اليوم أن نعيد الأمن إلى تعريف الدين، وهذا يقتضي أن نسقط من ممارستنا الخطابية والسلوكية التي نقوم بها باسم الدين، كل ما يخيف الآخرين، من هتافات وشعارات وتسميات وتصريحات وحملات ومسيرات، مهما كانت الذرائع.

العلمانية بهذه العقلانية، هي فصل الدين المخيف عن السياسة، أو فصل الخوف عن الدين أو هي حماية التنوعات الدينية من الخوف الديني، أو هي حماية الدين من استخدام الدولة السياسي، أو هي رشد العقل من غي الخوف. أو هي فصل الدين عن أن يكون فصلا ملحقا بجهاز احتكار وسائل العنف.

العلمانية هي جعل معنى الدين لا يسكت عن الحياة في عوالم جديدة. العلمانية لا تُسكت الدين بل تجعله لا يسكت، وكان حافظ الشيرازي يقول ”المعنى نفسه لا يسكت، ولكن الأذن لا تكون مفتوحة في كل وقت” خصوصا وقت الخوف.

الرابطــة غير المدنيـــة

قال لي الصديق حسن المدني ”أعرف تماماً أن تحكيم الصراع الأيديولوجي، لن يزيدنا إلا تخندقاً وتعصباً”. كان حديثنا على خلفية شعار الشيخ عيسى قاسم حول سقوط العلمانية، وشعار مجلة الرابطة الإسلامية ”العلمانية= الإلحاد”. 

يبدو أن الأخوة في الرابطة أرادوا أن يذكروا أخوانهم في تيار الوفاق، بأنهم قد سبقوهم إلى 1-3إعلان دعوة التسقيط أو ما يفوقها قبلهم، ولم يجدوا غير إعادة نشر كتابات الشهيد عبدالله المدني عن إلحاد العلمانية، وكلام من مجلس الشيخ سليمان المدني ”أنا لا أفهم الفصائل الوطنية، أنا عندي المواطن المسلم فقط، أما من ولد من مسلمين ثم لم يؤمن بالإسلام فحكمه في الشريعة باتفاق الفقهاء هو القتل، وإذا أعلن التوبة نعطيه فرصة لقضاء ما فاته من صلاة وصيام ثم يقتل أيضاً حدا”.

لقد قلت كلام مجلس الشيخ، ولم أقل فتوى الشيخ ولا كلام الشيخ، لأشير إلى مسألة لفت انتباهي لها الصديق حسن المدني، وهي أن نقل كلام مجلس الشيخ، عادة ما يكون مهدور السياق، السياق الخاص والسياق العام، وهذا يجعل من النقل عملية استخدام في مجال الصراع الاجتماعي والسياسي، أكثر منه أمانة.

لقد حضرت مجلس الشيخ أكثر من مرة، في مطلع التسعينات وشاهدت بإعجاب مهارات الشيخ الكلامية، وحركات يده الجسدية واستمتاعه الذهني بإيراد الاعتراضات عليه وولعه بتفنيدها. ولا أكتم أن صورة هذه المشاهدة ظلت تداعب مخيلتي بحلم أن أتمثلها في خطابي.

لو كان الشيخ لا يزال اليوم في مجلسه، لما ترددت لحظة في الذهاب إليه حاملا اعتراضاتي على كلام مجلسه، سأذهب معولاً على ولع الشيخ بالاعتراضات والحجاجات، لكني لن أذهب اليوم إلى الرابطة الإسلامية، لأنها لا تملك ما كان يملكه الشيخ، من فسحة الاستمتاع بالاعتراض، واعتباره لعبة ذهنية تستحق بذل الوقت والجهد.

كنت سأقول له، يا شيخ، جسد الدولة ليس مفصلا على مقاس المؤمنين الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، بل هو على مقاس المواطنين، ”فالجسم السياسي مجمل أعضاء الجماعة ولكن باعتبارهم مواطنين… لا يفكرون ولا يعملون إلا وفقا لمقتضيات المصلحة العامة”

ولأن الجسم السياسي يتغدى من الجسم الاجتماعي (الجثة الضخمة)، فهو قاعدته التي يستند إليها، ويعمل من أجلها ويبرر تصرفاته باسمها، فعلينا أن نوطّن هذا الجسم الاجتماعي، ليتسع لمقاس الدولة.

كنت سأقول له إن القتل أو الشنق وفق مقاس جسد الدولة، يستحقه المواطن متى أخل بنظام المواطنة ”لا بد أن يشعر الإنسان تجاه النظام أنه قريب من الشنق إذا كان يستحق ذلك. وإذا كان لا يثق بهذه الصورة، فإن كل شيء يصبح عرضة للانهيار”.

الجماعات الليبرالية والعلمانية على تنوعاتها شعرت أنها قريبة من الشنق، دون أن تستحق ذلك، وكان الجسم السياسي عرضة للانهيار، في حين أن جماعات تستحق أن تشعر أنها قريبة من الشنق، كانت تشعر أنها قريبة من الحياة أكثر، الحياة الأكثر فسادا ونفوذا وهيمنة.

كنت سأقول له:في الرابطة المدنية الشنق على الوطن، وفي الرابطة غير المدنية الشنق على المعتقد، والدولة حيث الرابطة المدنية. وأنت المدني.

قناع الجثة الضخمة

اعترض الأستاذ المحامي علي سالم العريض، عليّ حين أوردت تشبيه أمين معلوف للرأي العام بأنه أشبه بشخص ضخم الجثة مستسلم للرقاد، بين الحين والآخر يصحو من سباته بغتة، وعليك أن تستغل الفرصة لإقناعه بفكرة واحدة في غاية البساطة والإيجاز، لأنه سرعان ما يتمطى ويتثاءب ويتقلب ويتهيأ للنوم من جديد، ولن تستطيع منعه أو إيقاظه ثم تنتظر بخبث أن يهتز سريره.

ووجه اعتراض العريض على هذا التشبيه، يكمن في أنه يحمل إساءة للأمة وإرادتها ووعيها ويقظتها، فالجثة الضخمة تحمل في تشبيه معلوف انتقاصاً غير محبذ. قلت له: فكرة الأمة ويقظتها هي إحدى الأفكار الغاية في البساطة والإيجاز، وهي تصلح لإيقاظ هذه الجثة الضخمة، لكنها لا تصلح لتحليلها، وأنا في مقام التحليل لا الإيقاظ. ولعل عبارة الفاشستي الدكتاتور الإيطالي موسوليني شديدة الدلالة في هذا المقام، فهو يقول (إن أسطورتنا هي عظمة الأمة)! لم يوقظ موسوليني الأمة الإيطالية، بل إنه أفزعها حد الهلع.

كان الحديث مع العريض على خلفية حديث مستفيض عن الإقناع، إقناع الرأي العام، وقد توصلنا، في هذا الحديث إلى أن الإقناع هIMG_6344و القناع نفسه، ولكل رأي عام قناعه الذي يتغطى به كي ينام على سريره، والأغطية الشرعية هي أقنعة الجثة الضخمة عندنا. في المعجم تحيل مادة ‘’ق ن ع’’ إلى المعاني السريرية التالية ‘’القناع: وهو ما تغطي المرأة به رأسها، الإقناع: السؤال بتذلل، والاقتناع: الرضا بالشيء والقبول به. قَنَع بمعنى مال، فيقال: قنعت الإبل والغنم قنعاً، أي: مالت لمأواها وأقبلت نحو أصحابها’’ وفي القرآن’’ أَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج : 36 ‘’ القانع هو من القُنُوعِ، الرضا باليسير من العَطاء، والرأي العام يرضى باليسير من الجمل الغاية في الإيجاز والبساطة.

  الأقنعة مهما بدت أنها توقظ الرأي العام وتنزله إلى الشارع، فإنها في الحقيقة في أغلب الأحيان، لا توقظه فهي توهمه أنه مستيقظ، فهي بارعة في أن تجعل من الشارع سريره الذي ينام فيه بهدوء سرير البيت، يستوي في ذلك سرير اليقظة العربية، وسرير الوعي الطبقي، وسرير الصحوة الإسلامية.

يهتز سرير الرأي العام حين تنطق بفكرة ليست على مقياس هذا السرير الممعن في البساطة والإيجاز، وسرير الرأي العام مصنوع من الجمل البسيطة الموجزة التي ينطق بها أصحاب أساطير الصحوة من أمثال موسوليني وما يشبهه. هذه الجثة الضخمة تستيقظ (أو تنام) بجملة في غاية البساطة والإيجاز، جملة مثل ‘’فلتسط العلمانية’’، ‘’البرلمان هو الحل’’، ‘’الإسلام هو الحل’’، ‘’كرامتي في عبايتي’’، ‘’معكم معكم يا علماء’’، ‘’المرجعية خط أحمر’’، ‘’وحدة الطبقة العاملة(البروليتاريا)’’، ‘’الكفاح ضد الإمبريالية’’، ‘’إلا رسول الله’’، ‘’البحرين أولاً’’.

تشتغل هذه الجمل كمقدمات حجاجية إقناعية وقناعية، كل ما تريد أن تفعله أو تقوله قنّعه بهذه الجمل وستجد الجثة الضخمة تقتنع به فترضى عنك وتميل إلى سريرك وتهتف بشرعيته.

الحداثة الدّينيــة في البحــرين.. القصـــــّة غــير الكاملــة

ولادة عسيرة.. أم إعاقة نمو؟

الوقت: نادر المتروك

قبل خمس سنوات، أرسل أحدهم ‘’استفتاءً’’ إلى المرجع الدّيني محمد حسين فضل الله، يسأله فيه عن مسألة ‘’الحداثة الدينية’’ في البحرين على وجه التحديد، ويمكن اعتبار هذا ‘’الاستفتاء’’ وثيقة جيّدة لتقديم  وجهة نظر المؤمنين بتلك الحداثة تقديماً حيادياً وعلى النحو الذي يتصوّره أتباعها. يُحدّد المستفتي موضوع الاستفتاء، أي الحداثة الدينية، بوصفها قارّة في وسيط ثقافي محدّد وهو ‘’التيار الدّيني الشيعي’’، وهو لا يتردّد في توصيف أتباع هذه الحداثة بكونهم يمثلون ‘’تياراً’’ يجمع بين الثقافة الدينية والأكاديمية، ويعمل على إنتاج ‘’فهم مغاير للنصّ الديني’’ بالاستفادة من العلوم الإنسانية الحديثة، واضعاً اللا انتماء ورفض التمذهب الأيديولوجي ومراجعة الفكر الدّيني باعتبارها أهم علامات هذا ‘’التيار’’. كان هذا الاستفتاء، وإجابة فضل الله عليه، محوراً لمناقشات وتأويلات عديدة [1]، كما شكّل، من ناحيةٍ أخرى إنعطافة للجدل الذي اندلع بقوّةٍ مع الزّيارة الأولى للمفكر محمد أركون إلى البحرين، في فبراير/ شباط ,2002 والتي حظيت باستقبال حارٍ من جانب المثقفين الشباب الذين فرّعوا تحوّلاتهم الفكريّة من على تخوم مؤلفات أركون وأفكاره، وقد كانت تلك الزّيارة مناسبة لتسخين المواجهة ‘’الثقافية’’ مع هذا المزاج الجديد، ووصلت إلى حدود العنف الرّمزي في خطب الشيخ عيسى قاسم وبعض ‘’الردّاديّات’’ العزائيّة، فيما لوحظ ندرة المناظرات الجادة التي تناقش الأفكار وتحلّل الظواهر الطارئة على محيط الدّينيين.

فتوى أركونية

لم يؤثر هذا التلاحم السّجالي على المسار الثقافي الجاري وقتئذٍ والذي فضّل منظّروه توصيفه بمصطلح ‘’الحداثة الدينية’’، مراعاةً لطبيعة المجتمع البحريني وتركيبته المتديّنة، ولكن سرعان ما أخذت المواجهة صوراً أخرى من الحصار والنبذ الاجتماعي[2] وانتشرت الشائعات حول التزام ‘’الحداثيين’’ دينياً ورفضهم جملة من المقدّسات العقائدية والشرعية. ومع اشتداد المضايقات العامة، والاعتقاد بانتفاء دواعي خوْض معركة ‘’فكرية’’ لها تبعاتها القاسية، فضّل ‘’الحداثيون’’ الشباب الانسحاب وإخلاء ساحة المواجهة، ولكن حتى حين.
تلاقي الأيديولوجيا الدّينية مع الحداثة
الملاحظ أنّ محمد أحمد البنكي يمثل، تاريخياً، الجذوة الأولى لنموذج الشباب المنتمي إلى الأيديولوجيا الدينية ولكن القارئ أيضاً للثقافات الجديدة والناشط في تمثيلها إعلامياً وأكاديمياً على السّاحة المحلية، واللافت أيضاً أن كتابات البنكي في مجال تحليل البنية الدّينية التي ينتمي إليها؛ لم تأتِ إلا متأخرة[3]، فيما كانت كتاباته وسجالاته الأولى محصورة على معركة التلقي البحريني للبنيويّة وما بعدها ونظريات النقدية الجديدة والسّرديات [4]. أيضاً ثمة ملاحظة ثالثة في تجربة البنكي، فهي لم تتجه يوماً للمجادلة الاجتماعية، كما أنه لم يعتنِ بنحت المصطلحات التشغيلية وتركيبها لأجل صياغة رؤى جديدة تجمع بين جذره الديني/ الأيديولوجي وانفتاحه الفكري/ الحداثي، ويمكن اعتبار التجربة الفاشلة لتأسيس جمعية ‘’النقد الثقافي”[5] هي المحاولة الميّتة/ الوحيدة لتنشيط تجربة البنكي وتجريبها في اتجاهاتٍ أخرى، إلا أنّ المسارات الأخيرة لهذه التجربة وقوفها عند عتباتٍ غير متوقعة، حداثياً، صدمتِ الكثيرين على نحوٍ يفوق الابتلاء بمحنة المرض الخبيث. في المقابل، فإنّ علي أحمد الديري سيضحى هو التمثيل الرّمزي الآخر لذات نموذج الدّيني المصدوم معرفياً بالعلوم الحديثة، ولكن بتفاصيل وانعطافاتٍ مختلفة.
سردَ الديري تجربته في محضر زيارة أركون الأولى[6]، وكان ذلك بمثابة لا مبالاة تصعيدية حيال الإنكار الاجتماعي المقبل، خصوصاً بعد التهيئة بالإعلان التوصيفي عن خلفيات التجربة في مقال “شريعتي بين قراءتين”. [7] بدا ظاهرياً أن الديري، وقتها، يشحذ الهمّة لتسكين “الحداثة الدينية’’ في البحرين وتعويمها رفقة شبابٍ آخرين وبعض رجال الدين المختلفين، تتبيّن هذه الصّورة في الحرص على تقديم البنى الثقافية لأطروحة الحداثة الدينية، والمتمثلة في علم الكلام الجديد والأفكار الفلسفية الجديدة التي تعجّ بها إيران/ الحوزة والجامعة والشارع الثقافي. ولكي يُبدّد أوهام التقليد الأعمى وتهمة الانبهار أصرّ الديري على أن ‘’أسئلة’’ الحداثة الدينية في نسختها البحرينية مختلفة عن مثيلاتها في إيران وغيرها، مشيراً لمفارقته مع أركون واقترابه من الحداثة الدينية عبر علم الكلام الجديد، مع الاستعانة بالأسئلة البحرينية في تشكيل ملامحها الخاصة. [8] لاحقاً وبمعول ‘’النقد الثقافي’’ سيخرقَ الديري نبوءة ‘’الحداثة الدينية’’ ويغادرها سريعاً، مصيّراً إياها قنطرة مؤقتة، لها قيمتها المرحلية، ربّما، ولكنها ليست الملجأ الخلاصي لأولئك المشبعين بما هو أبعد من ‘’حدود’’ الحداثة الدينية وفرصها ومسموحاتها المسكونة بالكلاميات والإيمان العقيدي. توقفت الحكاية، إذن، لتكون مجرّد ‘’فاصلة منقوطة’’ باتجاه تحوّلات دفينة لا تستقرّ على حال، وكانت العلمانية – بتفسيراتها الخاصة – الأرضيّة الخصبة لتعميق تلك التحوّلات على المستوى الفكري، فيما كان لسوء الحوار الدّيني الدّاخلي تأثيره الآخر في تغييب الخيارات الأخرى، أو حتى توجيه الحداثة الدينية واحتضانها تكتيكياً بواسطة التسامح اللفظي ومن ثمّ الاجتهاد في مضامينها بما ينسجم مع محدّدات الأصالة الدينية التي يصرّ عليها مجموع الدينيين في البلاد. لم يحدث شيء من ذلك، وفضّل الإسلاميون التعريج على مسالك أخرى.
الإسلاميون والحداثة الدّينية
باستثناء الخطب الحماسية وشعر الرثاء، ومع استذكار خطب الوعظ والحماية العقائدية التي تسود منابر الجمعيات الإسلامية بأطيافها المذهبية المختلفة، فإنّ جمعية ‘’التوعية الإسلامية’’، وفي عهد عبدالوهاب حسين، عقدت ندوة حول موضوع الحداثة البحرينية، وقيل يومها أن أحداً من مناصري الحداثة الدينية لم يلب دعوة للمشاركة فيها، لأسبابٍ غير معروفة، فيما أُشيع أن تحفظاً غير معروف المصدر داخل تيار ‘’التوعية’’ أدّى إلى قطع هذه الدعوة.

hdath

تحدّث نادر المتروك في ندوة التوعية حول الانبهار بالحداثة، جامعاً بين مشكلة التهجين الثقافي وضعف التأصيل الدّيني ليقرأ من ذلك وضعية الحداثة الدينية في البحرين ونشأتها المتوترة بين مصدرها الإيراني (علم الكلام الجديد) والغربي (مدارس الحداثة)، بينما ذهب الشيخ سعيد النوري، الرئيس السّابق لجمعية التوعية، إلى مشكلة الانتماء وفقدان الهويّة لأصحاب الحداثة. تضاءل الجدال الاجتماعي حول الكائن الثقافي الجديد، وتأكّد أن الإمكان الاجتماعي، بتعبير الديري، لم يتوافر لقبول الكائن ‘’الدخيل’’، وإنْ تمظهر بعنوان ديني واستلهم أسماءً ‘’إيرانية’’، وفضّل الفضاءُ العام للإسلاميين المضي في الخطاب المعتاد، أي الحذر من أية فكرة ودعوة ونظرية قادمة من مصادر غير متسالم بها داخل الأطر الدينية، والتعويل على فقه ‘’كتب الضلال’’ و’’التغريب الثقافي’’ في مقارعتها. وبمعية ذلك؛ ولأن الحداثة الدينية في البحرين لم تكن تياراً، وليست سوى أفراد متفرّقين، فقد هيمن العسفُ الاجتماعي وقلة الحكمة في مقاربتها، وكان من الطبيعي أن تنتهي الأمور إلى سيل جارف من الأدلجة المتبادلة. وفي الوقت الذي كان من المؤمّل أن يسلك سيدكامل الهاشمي طريقاً تقريبياً للحداثيين الدّينيين، ظهرَ من خارج الإطار بوجهٍ نقديّ لهذه التمثلات، وهو ما جعله مناكفاً أكثر منه محاوراً، وكان ذلك بمثابة خسارة كبيرة أجهزت على آمال النهوض بالحداثة الدينية في البحرين وإعدادها فكرياً وتأصيلها أكثر، وتوفير موضوعاتها المناسبة. ومن المحتمل أن ترتفع مشاعر الندم، عندما يجد الجميع أنّ الحداثة الدينية هي أكثر رحمة مما سينتهي إليه الدينيون المتحوّلون.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=66777

الهوامش:
[1] انظر جانباً من ذلك في موقع ‘’ملتقى البحرين’’ على الوصلة التالية: http://bahrainonlin.org/showthread.php?t=61641 . وقارن: صحيفة الأيام البحرينية، ملحق رؤى، الأحد 18 مايو 2002م.
[2] أُوقفت مشاركة علي الديري في موضوع ‘’الحداثة الدينية من منظور علم الكلام الجديد’’ في مأتم بن خميس (السنابس) في نوفمبر 2002م. وقد نشر الديري ورقته على حلقات في ملحق رؤى بصحيفة الأيام ابتداءً من الأول من ديسمبر 2002م.
[3] نشر محمد البنكي مقالات تحليلية حول تنظيم الإخوان المسلمين في البحرين، ممثلة في جمعية الإصلاح، في صحيفة الميثاق البحرينية بتاريخ 18-20 مايو 2004م، وفي صحيفة الأيام، بتاريخ 12-13 أكتوبر 2004م.
[4] من نماذج المناقشة الحادة لكتابات البنكي حينها، انظر: يوسف مكي، النقد الذي لا ينصرف.. فضح الآخر أم تعرية الذات الواهمة، صحيفة الأيام، ع ,1753 الأربعاء 22 ديسمبر 1993م.
[5] انظر تحقيقا شاملاً حول ملابسات محاولة تأسيس جمعية النقد الثقافي في: ملحق ‘’اليوم الثامن’’، صحيفة الوقت البحرينية، ع,502 السبت 7 يوليو 2007م.
[6] علي الديري، أركون وحكاية الذات، ص,35 ضمن كتاب ‘’الخروج على الحس المشترك’’، الصّادر عن مركز الشيخ إبراهيم آل خليفة (2002) احتفاءً بزيارة أركون إلى البحرين.
[7] علي أحمد الديري، علي شريعتي بين قراءتين، مجلة البحرين الثقافية، ع ,22 أكتوبر 1999م.
[8] دافعَ الديري عن وجهة نظره في ندوة خاصة تناولت الحداثة الدينية في البحرين جمعته مع سيدكامل الهاشمي وأدارها نادر المتروك، ومنشورة في: صحيفة الوسط البحرينية، ع,62الخميس نوفمبر 2002م.

طاقة الفقر

كان صوت الرادود المبدع الشيخ حسين الأكرف، يردد مع المعزين ‘’لنا طاقة على الفقر ولا طاقة لنا على الكفر’’. لصوت الأكرف طاقة العذوبة، حد أنه لا طاقة لي أن أقاوم أن يكون صوته الرخيم رنة لهاتفي العلماني (فاختراع الهاتف هو أحد ثمار العلمنة). يأتي صوت الأكرف العذب هذه المرة، ليس في سياق الدعاء لعودة الطائر المهاجر للوطن، إنه يأتي في سياق الدعاء لسقوط العلمانية (الكفر) في الوطن.

في تعليق طريف للصديق الحقوقي عبدالرضا حسن، يقول: هذا الشع1108799878ار الجديد حدد أمرين: الصبر على إفقار الحكومة للناس وهي أدنى من الخصم – العدو – وهو يأتي في الأمر الأول والأمر الثاني هو تحديد العدو وهو واضح وضوح الشمس – وعد – ومن لف لفهم وهذا هو الأمر الأول والخطر الأكبر الذي يجب أن تعبأ له كل الطاقات وتحشد له الحشود وكأننا أمام ثنائية جديدة الفقر/ الكفر.

الفقر يخلق شعاراته التي يقاوم بها جوعه، الفقر يثريك بالشعار، ومهما كان ادعاؤه بقدرته على التحمل، فهو لا يستطيع ذلك من غير أن يغني نفسه برأس مال رمزي أو وهمي، يأتي في صيغة شعار مقاوم، وهو بهذه الطريقة يغطي حقيقة واقعه المؤلمة.

إنه يغطي حتى كفره، يغطي حد الجحود والإنكار أنه كافر بمعنى السلام الذي يحمله مدلول لفظ الإسلام، إنه يغطي قيمة هذا المعنى، والكفر في أصل معناه هو التغطية.

الإيمان بقيمة السلام، لا يطرد مع الفقر، الفقر يشعل طاقة الكفر، الكفر بالله بالمعنى العام، والكفر بالسلام بالمعنى الخاص لله، فالسلام هو من أسماء الله الحسنى. وابن عربي في نظريته وحدة الوجود، يذهب إلى أن البشر تتجلى فيهم معاني أسماء الله بحسب طاقاتهم واستعداداتهم وحالاتهم، وحالة الفقر حين تتلبس بالسياسة لا تسمح فيما يبدو بتجلي اسم السلام. فالبشر في حالة فقرهم لا طاقة لهم على تحمل تجلي معنى اسم السلام فيهم، فهم أكثر استعدادا لتجلي أسماء الغضب والجبروت والقوة.

أخوان الصفاء، يُعرفون الفلسفة بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة، تبذل ما فيك من طاقة لتتشبه بصفات الله، في عدله ورحمته وسلامه وكماله. والذين يحاربون الفلسفة، إنما يحاربون طاقة الإنسان في التشبه بالإله. من له طاقة على الفقر، له طاقة على الكفر، فهو مهيّأ بكله للكفر بالمختلفين معه في الأرض والوطن، يكفر بحقهم في أن يختلفوا مع شعاره ومع ما يتشابه معه من وجوه الإله، ومن له طاقة على الفقر لا طاقة له على التفلسف. التفلسف يعطيك متسع لترى الأشياء باختلافها تتشبه بالإله بوجه من وجوه خلقها، ورحم الله ابن عربي إذ يقول ‘’فكن في نفسك هيولى (المادة الخام القابلة للتشكل) لصور المعتقدات كلها. فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد من دون ‘’عقد’’.