أرشيف التصنيف: مقالات

فلتسقــط الدولة إذن…

سألتني منى عباس، على خلفية شعار سقوط العلمانية في إحدى خطب الشيخ عيسى قاسم، هل الشيخ عيسى قاسم أصولي أم أخباري؟ قلت لها بأستاذية، وماذا تعرفين عن الفرق بينهما، قالت لي: اسمع أنا أقرأ في كتاب فؤاد إبراهيم (الفقيه والدولة) ورأسي وجعني، وأشعر أني دخلت منطقة جديدة على قراءتي، وأواجه صعوبات في فهمها.

ليست منى وحدها من يواجه صعوبات في فهم تركيبة الخطاب الشيعي، بل سأزعم أن التيارات الوطنية ذات الخلفيات اليسارية والقومية وغيرها، تواجه هذه الصعوب041ة، ولا أريد أن استخدم هنا عبارات التجهيل، لكن لنقل إن الخطاب الشيعي بحاجة إلى فهم من قبل الأطراف المتحالفة معه في أجنداتها السياسية، لا أقول ذلك، من أجل أن أقدم مخرجاً أو تبريراً لشعار (فلتسقط العلمانية). بل كي أوجه نقداً لثلاثة أطراف، الطرف الأول ويمثله التيار المناوئ للإسلاميين الذي لا يجد غير عبارات الظلامية والرجعية في تعاطيه مع الخطاب الديني بمختلف أطيافه.

والطرف الثاني، ويمثله التيار المتحالف (جمعية وعد خصوصا) مع الإسلاميين المعارضين للسلطة، فهذا التيار اكتفى بجامع المعارضة والنضال ليكوّن مساحة مشتركة لكنها رخوة، وهو يعاني من قصور كبير في فهم تركيبة الخطاب المتحالف معه. والطرف الثالث هو التيار الشيعي وممثلوه الذين يصوغون نمط تدينه.

لم تستطع الأطراف المتحالفة ولا المناوئة أن تقرأ شعار (لتسقط العلمانية) قراءة تفتح تكوينات الخطاب الشيعي البحريني، كانت الجدالات تحوم حول ما يهدده هذا الإسقاط من سقوط للتحالف، أو إضرار به، وما يحمله من إنكار للتضحيات المشتركة، وما يمثله من ضيق عن استيعاب الآخر والتسامح معه.

كانت الجدالات تدور حول التهويل والتهوين، لكنها لم تفتح أسئلة تأخذنا إلى منطقة الفقيه والدولة وعلم الكلام الشيعي الجديد والقديم والتحولات الفكرية والثقافية التي يمر بها الآن الخطاب الشيعي، ولا تجد لها أصداء في الخطاب الشيعي البحريني.

قلت لمنى المسألة تتجاوز مولاة السلطة ومعارضتها، من يوالونها لديهم خطاب فقهي وأصولي بعيد في التاريخ، ومن يعارضونها لديهم أيضاً خطاب فقهي وأصولي بعيد في التاريخ، ولو تعودين إلى كتاب النائيني (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) الذي كتبه في 1909في سياق الاحتدامات بين الفقهاء المعارضين ليس للدولة بل لفكرة الدولة ودستورها، وبين الفقهاء المؤيدين لفكرة الدستور والدولة والذين كان يمثلهم النائيني، ستفهمين الخطاب الأصولي والفقهي الذي قامت عليه الثورة الإيرانية، وستفهمين موقف الشيخ سليمان المدني من فكرة الديمقراطية، وستفهمين موقف الشيخ علي سلمان من ربيع الثقافة وفهمه الذرائعي لفكرة الديمقراطية، وستفهمين موقف الشيخ عيسى قاسم من العلمانية، وستفهمين فكرة ولاية الفقيه بما يتجاوز بك مستوى التراشقات الإعلامية والسياسية، وستفهمين أحد (فقط أحد) الأسباب التي تحول بيننا وبين مهمة إنجاز الدولة.

خطاب المعارضة مشغول بملفاته السياسية التي لا يحسد على ورطته فيها، ولن يلتفت إلى أن أحد أسباب ورطته هو أنه لا يرى مآزقه البنيوية البعيدة، التي تعيد إنتاج مآزقه الحالية في صورة حديثة.

خــرائط كـــتب المســـيري

elmessiri01

تعرفت على خارطة المسيري الفكرية، مع مطلع العام ,2001 كنت حينها قد انقطعت مدة تزيد على السنوات الخمس عن قراءة الكتب والمجلات التي تصدر عن نفس إسلامي أيديولوجي، لأسباب لي س أقلها أنها ما عادت تستطيع أن تقول شيئاً جديداً، وليس أكثرها أني كنت أبحث عن أفق جديد، في فهم ذاتي وعالمي، لكن في العام 2001 زرت (قم المقدسة) وهناك تعرفت على مشروع عبدالجبار الرفاعي، عبر مجلته «قضايا إسلامية معاصرة»، بدأت أكتشف أن هناك نفساً جديداً، يمثله علم الكلام الجديد.
مشروع الرفاعي كان معنياً بتقديم علم الكلام الجديد الإيراني خصوصا ضمن عنايته بتقديم خطاب ديني معرفي جديد، فيه المعرفة تروض الأيديولوجي، تعرفت في هذا السياق على عبدالكريم سرو ش، محمد مجتهد شبستري، ملكيان، وغيرهم، كان أفقهم مغايراً تماماً ومنصهراً تماما مع الأفق الذي أقرأ فيه، تحضر في هذا الأفق النظريات الحديثة والمفاهيم الجديدة والأعلام الذين صاروا يمثلون المشهد الفلسفي الحديث. كأني اكتشفت قراءة جدية وجديدة للتراث الديني.
في هذا السياق حضر عبدالوهاب المسيري كواحد من كتاب مجلة قضايا إسلامية معاصرة، لكني لم أكن قد قرأت له في هذه المجلة بعد، لكن المجلة قادتني إلى أن أتعرف على مجلة (إسلامية المعرفة) التي تصدر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي في أميركا، هناك قرأت للمسيري، دراسة لا تنتمي أبداً إلى نفس الكتابات الإسلامية الأيديولوجية التي لا أخطئ شمّ رائحتها ولو على بعد سبعة فراسخ.
قرأتُ للمسيري، فشدني حديثه عن النماذج المعرفية، وكيفية بنائها، وأهميتها في قراءة الوقائع. هنا استحضرت خارطة قراءتي النقدية مفاهيم قريبة من هذا الحقل، كالنماذج الإرشادية والأنظمة المعرفية والابستمية والعقل المكوِّن والعقل المكوَّن، وجدت في خطاب المسيري اكتشافاً جديداً يستحق الاحتفاء، فرحت أقرأه بفرحة المكتشف. هكذا كانت خارطة الطريق إلى المسيري.
النموذج أداة تحليل
كان مفتاح دخولي إلى خارطة المسيري، هو اعتماده النماذج التفسيرية بوصفها أدوات تحليل، وليس المنافحات الأيديولوجية، ولا التراكمات المعلوماتية، وكم فرحت حين قرأت في سيرته غير الذاتية غير الموضوعية (رحلتي الفكرية.. البذور والجذور والثمار)، عن تذمره الشديد من التلقي المعلوماتي له، فهو يقول بألم ‘’للأسف الشديد قام كثير من النقاد ولعهد طويل بحصري داخل إطار المعلومات الضيق والمستوى التحليلي السياسي.. هناك البعض ممن ينظرون إلى دراساتي من هذا المنظور فلا يجدون فيها معلومات صلبة كافية، ولا الجداول التي يتوقون لها، ولا الإحصاءات التي تشفي غليلهم المعلوماتي ومن ثم فهم يرون أعمالي لا قيمة لها’’.[1]
لقد أٌهمل البعد الفلسفي المعرفي الذي يقف خلف الكم المعلوماتي الذي يديره المسيري ببراعة، لكنها براعة ليست منبعها الكم بل الكيف الذي يكمن سره في قدرته على بناء نماذج تفسير، وهي نماذج غير مغلقة، بل مفتوحة، والدليل على انفتاحها أن المسيري لا يمل من أن يذكرنا أن النموذج يحمل قدرة تفسيرية لكنه لا يحمل كل القدرة، أي أن النماذج تتفاوت في قدرتها على تفسير الوقائع والمعلومات، فهي توصف بأنها أكثر تفسيرية وأقل تفسيرية، ولا توصف بالصحة والخطأ، وهي قابلة دوماً للتعديل والتطوير، لذلك لم يكن يجد حرجاً في أن يروي لنا كيف تطورت نماذجه التفسيرية منذ السبعينات وحتى التسعينات، عبر المراجعة والاختبار.
معارك النماذج
كانت معاركه طيلة سيرته معارك سببها إيمانه بفكرة النماذج والتفسيرية والخرائط الإدراكية ودفاعه عنها، معاركه مع النقاد الذي لا يعطون قيمة لغير المعلومة، ومع زملائه الأكاديميين في الجامعات الذين يراكمون معارف تاريخية عن الشعراء وظروفهم وعصرهم وأسماء قصائدهم، ويبنون أحكاماً سطحية لا تستطيع أن تنفذ إلى عمق ما يراكمون.
ولعل من المفارقات التي تحسب للمسيري هنا، هي المفارقة بين إيمانه بالنماذج التفسيرية، والكم الكبير من التفاصيل التي مسيرييرويها في كتبه وسيرته، حتى تظن أن لديه مركز معلومات وطاقم سكرتيرات يدرن سجلاته الشخصية والأرشيفية، تجده يتحدث عن تفاصيل سيرة أطروحته للدكتوراه وكتابتها ومحتويات فصولها وحكاية الأساتذة الذين تولوا قراءتها وصدامته المعرفية والشخصية معهم وما حدث يوم مناقشتها، وتجد حكايته مع مرضه وتفاصيل زيارته للأطباء وأسمائهم وخلفياتهم وطريقة إدارتهم للمرض ورؤيته للموت وتطورها، وحكاية قسم الدراسات العليا بالجامعات السعودية وصراعه مع أساتذة كم المعلومات. وحديث عن مدينته دمنهور وتاريخها وحكايات ناسها.
ما الذي يجمع هذه الحكايات؟
يجمعها النموذج التفسيري والخريطة الإدراكية، تأتي هذه التفاصيل والحكايات في سياق نموذج يفسر من خلاله المسيري ببراعة ما يحدث ويقع. لن تجد حكاية من غير سند يشدها، ولا تفصيلة من غير سياق يُكمل معناها. وسند الحكايات وسياق المعنى تجده في النماذج التفسيرية، والخرائط الإدراكية التي هي ‘’المقولات والصور الإدراكية التي يدرك من خلالها الإنسان نفسه وواقعه ومن حوله من بشر ومجتمعات وأشياء. وهذه المقولات والصور تشكل خريطة يحملها الإنسان في عقله ويتصور أن عناصرها وعلاقات هذه العناصر بعضها ببعض تشكل عناصر الواقع وعناصره’’.
إن التفاصيل الخاصة الصغيرة التي يجيد المسيري عبرها كشف خرائطنا الإدراكية، هي ما يعطي لكتاباته ألفة وسلاسة وبياناً بالغ البلاغة من غير تكلف ولا زخرفة. والدرس الذي يعيطك إياه المسيري في سيرته منذ الصفحات الأولى هو: انطلق من الخاص إلى العام. من تجربتك، من حكايتك، من سيرتك، من قريتك ومدينتك وحضارتك وثقافتك.
الموقف والرؤية
الفرق بين الكاتب والمفكر، يكمن في الفرق بين الرؤية والموقف، يصير الكاتب مفكراً متى كانت مهمته إنتاج رؤى، ويظل كاتباً فقط متى انحصرت وظيفته في بناء مواقف. وهذا الفرق الذي قد يبدو بسيطاً أجده عسيراً وشاقا، وكثيراً ما تجد أنك تصنف بمجرد أن تبدي أنك مهتم بكتب مؤلف ما. حتى إني صرت أتحاشى أن أبدي اهتماماتي القرائية لهذا السبب، فعلى سبيل المثال، إعجابي بكتب الفيلسوف المغاربي طه عبدالرحمن، لم يكن إعجاباً بمواقفه تجاه الغرب وتجاه الحداثة وتجاه ما بعد الحداثة، ولا تطابقاً معها، بقدر ما هو إعجاب بمفاهيمه المبتكرة في قراءة التراث الفلسفي، كمفهوم فقه الفلسفة ومفهوم التأثيل، أي إعجاب بهذه المفاهيم بما هي مفاتيح للرؤية والفهم والتحليل.
كذلك إعجابي بالمسيري، ليس نابعاً بمواقفه تجاه ما بعد الحداثة والغرب والصهيونية ونظام الحكم المصري. وإنما إعجاب بمفاهيمه التي ابتكرها في قراءة خطاب الحضارة الغربية، كمفهوم التحيز، الخرائط الإدراكية، النماذج التفسيرية، العلمانية الشاملة، الجزئية، والكمونية والحلولية.
من الصعب أن توضح هذه الفروقات التي تكشف من خلالها سر إعجابك وقراءتك للمسيري أو طه عبدالرحمن، ليس صعباً أن توضحها لقارئ عادي فقط بل هي أشد صعوبة مع مثقف يكتب ولديه مواقف مختلفة معهما. مع ذلك أجد في هذا التفريق ما يجعلني على مسافة من الانحياز لهما انحيازاً يغلقني عليهما، كما يجعلني أدرك أيضاً أن مفاهيمهما ونماذجهم التحليلية ليست منفكة تماماً من مواقفهما.
الناقد الثقافي
لعل ما عزز من حضور المسيري في خارطتي الإدراكية، أو ما جعلني أجد في خطابه ما يمكن أن يعزز من قدرة خارطتي على القراءة والتفسير والإدراك والرؤية، هو تكوينه النقدي الأدبي، الذي هو تكوين تخصصي الأساسي، فهو قد طوّع هذا التكوين واستثمره في بناء نماذجه التفسيرية.
يقول المسيري في سيرته ‘’كيف يمكن لمتخصص مثلي في الشعر والنقد الرومانتيكي أن يتحول إلى متخصص في الصهيونية، ويترك تخصصه الأصلي تقريباً؟ وفي محاولتي الإجابة عن هذه التساؤلات أزعم أن الدراسات الأدبية عمقت من فهمي للصهيونية، وأنني استفدت من مناهج التحليل الأدبي في محاولتي تفكيك وإعادة تركيب الظواهر اليهودية والصهيونية والإسرائيلية. كما أزعم أن ثمة وحدة فكرية تجمع بين جانبي حياتي الفكرية. فالدراسة الأدبية هي في نهاية الأمر تدريب على قراءة النصوص قراءة نقدية لتحديد ما هو هامشي عرضي في نص ما، وما هو مركزي جوهري. وهذه مهارة أساسية مطلوبة للتعامل مع كل من النصوص والظواهر الأدبية وغير الأدبية. وكثير من النصوص الصهيونية قد يكون بسيطاً، ولكنها نصوص ماكرة مراوغة تحاول أن تخبئ أطروحتها الأساسية’’.[2]
لم يستخدم المسيري، أبدا مصطلح النقد الثقافي، ولم يُنظّر له، لكنه في جوهر تحليله للنصوص الأدبية الغربية والأساطير والأغاني والروايات والشعر الصهيوني، كان يبحث عما هو مراوغ فيها خلف ما هو جمالي. وهذا العمل على النصوص الأدبية بهذا المنظور، عزّز في خارطتي القرائية ما فتحه النقد الثقافي. وربما يكون شغل المسيري على المجاز بمنظور مختلف تماماً عن منظور البلاغة التقليدية، هو الأكثر لفتاً بالنسبة لي، حينها عرفت أن المجاز ليس تبسيطا للواقع بل تركيباً له وتعقيداً.
وتحليل الصور المجازية هو أحد الخبرات الأدبية المهمة التي تمرس فيها المسيري من خلال تخصصه النقدي، وقد استخدمها بكثرة في دراسته للصهيونية، كما يقول ‘’فالصورة المجازية ليست مجرد زخرفة تضاف، وإنما هي مقولة إدراكية متخفية في شكل صورة. وقد درست وظيفية الدولة الصهيونية من خلال مجموعة من الصور المجازية التي استخدمها الصهاينة وأعدائهم في وصف الدولة الصهيونية. فكثير من الصهاينة ينظرون إلى إسرائيل وهم يَعدونها ‘’رقعة’’ أو ‘’مساحة’’ أو ‘’مكاناً تابعاً’’ أو ‘’بلداً’’ تحت الوصاية هكذا صار المسيري، بالنسبة لي، جزءاً من خارطتي التي أقرأ بها وأفسر بها، وأحياناً ربما أقف بها حين تهتز الجغرافيا الثقافية، وكانت في حرب يوليو/ تموز 2006 ملجئي في الرؤية والموقف.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=64428
الهوامش
[1]، [2]، [3] المسيري، رحلتي الفكرية.. البذور والجذور والثمار، ص .560 ,556 ,579

وجهك كتاب

يحكي الراوي في رواية اورهان باموك ‘’الحياة الجديدة’’ حكاية حياته الجديدة، بجملة شديدة الكثافة، جملة تقول ‘’ذات يوم قرأت كتاباً غيّر حياتي’’. في رواية بالداسار لأمين معلوف، قصة البطل ترتبط أيضاً بكتاب غير مجرى حياته، بل صارت حياته رحلة ليس لها غاية غير العثور على هذا الكتاب الذي يملك سر نهاية العالم، الكتاب هو (الاسم المئة).

ليست الحوادث وحدها ما يغير وجه الحياة، فالكتب لا تقل فاعلية في تغيير الحياة وتاريخها عن الحوادث السياسية، بل إن الحوادث السياسية تجد أحياناً في الكتب ذريعة لتغيير وجه التاريخ، فالمأمون حين أراد أن يغير وجه الثقافة العربية والإسلامية التي كانت متطابقة مع وجه رواة الأحاديث، وأرادها أن تتطابق مع عقول الفلاسفة، لم يجد غير وجه كتاب جديد يدخله على هذه الثقافة، فابتكر حيلة الحلم بكتاب أرسطو، لغير وجه الواقع، والحكاية كما يرويها ابن النديم في كتابه (فرست) المخصص لفهرست الكتب، تقول ‘’ولما رأى المأمون المنام الذي أخبر به أنه رأى في منامه شيخاً بهي الشكل جالساً على منبر وهو يخطب ويقول: أنا أرسطوطاليس، أتيته في منامه، وسأل عن أرسطو فقيل له رجل حكيم من اليونانيين، فأحضر حنين بن اسحق (توفي 260هـ) إذ لم يجد من يضاهيه في نقله، وسأله نقل كتب الحكماء اليونانيين إلى العربية’’.

إن للكتب حكاياتها، وهي بقدر ما تحمل في بطونها وجهاً للحياة، فإنها تحمل على ظهرها أيضاً حكاية عن الحياة، فكتاب أرسطوطاليس لا يحمل في بطنه المنطق فقط الذي ظل العلماء، علماء الدين والدنيا يرون من خلاله العالم، يحمل أيضاً على ظهره تاريخ الحضارات واللغات التي ترجم إليها، وحكاية حلم المأمون هي واحدة من هذه الحكايات التي من دونها لا يمكن أن نفهم وجه تاريخنا الحضاري والسياسي والديني. لا يمكن أن يكون هناك كتب، ولا تكون معه حكاية تُروى، فالحكاية إن لم تكن هي معناه، فهي معنى من معانيه التي يمكن ان تُروى.

بروفايل الوقت الصيفي، سيكون مخصصاً للكتب وحكاياتها، سنروي عبره حكاية بطونها التي تضمنتها وظهورها التي عبرتها. من كان منكم لديه حكاية مع كتاب غيّره أو خبّأه أو أحرّقه أو عشقه، أو كرهه، أو حذّره أحد منه أو حرّمه عليه أو دعاه لإحراقه أو منعه منه، فليخبرنا بحكايته، بروفايل الصيف بروفايل حكايات مجتمعنا وثقافتنا مع الكتب.

شـــــريعتي ورأس الكتلة الإيمانية

كنت قد وعدت عبدالهادي خلف أن نعد ملفاً عن علي شريعتي حين أرسل لي قبل شهرين يذكرني بضرورة الاحتفاء بذكرى مرور 30 عاماً على اغتيال شريعتي في بريطانيا في 19 يونيو/ 113078988_109dfe6724_oحزيران .1977 لقد عوّلت على وعد القسم الثقافي في إنجاز هذه المهمة، ولكن يبدو أن الصديق الخذول حسين مرهون، قد نكث بوعده، وأوقعني في حرج شديد مع خلف.

كنت أنوي أن أسترجع جزءاً مما كتبته (علي شريعتي بين قراءتين) العام 1998 لا كي أسترجع شريعتي، لكن كي أراجع شيئاً من حساسية التيار الديني الشيعي في الطريقة التي يمكن من خلالها مراجعة علاقتي بشريعتي.

ما كتبته عن ذاتي في قراءة شريعتي في العام ,1998 لا يمكن أن أكتبه اليوم، ليس لأني اليوم أقل جرأة، لكني سأبدو أكثر حماقة، ما قرأته حينها في شريعتي هي ذاتي العقائدية وتكويناتها التاريخية، كيف تلقت هذه الذات شريعتي في بداية التسعينيات، وكيف خرجت على هذا التلقي في نهاية التسعينيات.

يمكننا أن نستخدم شريعتي ضد من يوالون السلطة باسم الدين، نستطيع أن نستخدمه ضد من يسقطون العلمانية باسم الدين، نستطيع أن نستخدمه ضد من يسقطون التاريخ باسم المقدس، نستطيع أن نستخدمه ضد من يستعيدون أول الأمة ليفجروا آخر الأمة، ونستطيع أن نستخدمه ضد من أساؤوا فهم التدين الصفوي باسم القومية الدوغمائية.

لكننا لن نستطيع أن نستخدم شريعتي في مراجعة التاريخية التي كونتنا، لن نستطيع أن نستخدمه لنفكك مفاصل قديمة من تاريخنا المتخيل، تشتغل اليوم بطريقة لا تاريخية. لن نستطيع أن نقوم بذلك ليس لأن شريعتي غير قابل للصرف في هذا المجال، كما يشي بذلك المفكر داريوش شيغان، فخطاب شريعتي كحال أي خطاب فكري مهما كان متورطاً بالأيديولوجي، يظل قابلاً لقراءات تخترقه وتخترق أطياف مستخدميه ومنتقديه.

لقد خطر في بالي هذا السؤال وأنا أستعيد شريعتي: إلى أي حد يمكن أن تكون استعادة شريعتي اليوم في السياق البحريني محرجة، لكتلة الوفاق البرلمانية أو لمجلسها العلمائي أو لقيادتها الدينية أو لمرجعيتها الشرعية أو لتحالفاتها السياسية؟

لا أتوقع أن أحداً من أعضاء الكتلة الإيمانية قد خطر في رأسه (قصدي ذهنه) هذا السؤال، وذلك لأن السياق الذي برز فيه شريعتي كانت تشتغل فيه السياسة والدين والفكر أو بشكل أعم الثقافة. ويبدو أن شريعتي يكون أكثر راهنية في السياقات التي تشتعل فيها هذه المكونات. والكتلة تفتقد أحد الشروط، فهي يشتغل فيها التاريخ لا التاريخية، والتاريخ يستدعي المقدس وذكراه، والتاريخية تستدعي الفكر ونقد الذاكرة. إذن شريعتي لن يحضر البرلمان، لكن ربما يحضر شيء منه ربيع الثقافة المقبل.

في وصف البحرين

حين تزور بلداً، تبدأ عينك ترى وطنك من خلاله، ولا تكفّ المقارنات عن الاشتغال، حتى لو كان الاختلاف بين البلدين أكثر من الاتفاق، حتى لو كانت بلدك أصغر بلد واسمها البحرين، وكانت البلد الأخرى أمّ الدنيا. والمقارنة تقودك إلى أن تعتبر بلدك طفلة الدنيا، قياساً إلى مساحة أم الدنيا. 

على رغم هذا الاختلاف، غير أني وجدت في كتاب جلال أمين ‘’وصف مصر في نهاية القرن العشرين’’ ما يجعل من مصر بحرين untitledfq6كبيرة، ويجعل من البحرين مصر صغيرة، وذلك على طريقة الفلاسفة والمتصوفة الذين يرون الإنسان عالما كبيرا والعالم إنسانا صغيراً.

وكي أدلل على ذلك، فأني سأكتفي بأخذ جمل من كتاب الوصف هذا، وعلى القراء أن يكتشفوا صحة أن هذه الأوصاف تؤكد أن البحرين مصر صغيرة.

مما جاء في هذا الوصف الدال على حالنا ‘’إن الولاء الذي تعبر عنه هذه الهيئات لم يكن ولاء لمصر بقدر ما هو ولاء للحكام’’، ‘’وتتخذ صورة لطفلة وهي تقدم الزهور إلى بعض المسؤولين كدليل على شعبيتهم، كما تتخذ صورة المسؤول وهو يصلي في المسجد دليلا على تقواه وتدينه’’، ‘’فإذا كان أحدهم وزيرا ولم يكن للناس حديث إلا عن قلة كفاءته أو إهماله أو حتى عن فساده، فإنه يستمر في منصبه أو يعين في منصب كبير آخر أو يخلق له منصب لم يكن موجودا كابتداع منصب مستشار’’.

‘’قد يتحسن اقتصاد الحكومة بشدة ويتدهور اقتصاد الناس بشدة أيضا وفي الوقت نفسه’’، ‘’الكلام عن الخصخصة يجري في عبارات عامة لا تميز بين نوع من الخصخصة وآخر، وكأنه لا يوجد إلا نوع واحد هو تحويل الملكية العامة إلى ملكية خاصة.. المروجون لبيع القطاع العام مغرمون بالتظاهر بالعلمية وبأنهم لا يتعاملون إلا بالأرقام وكأنهم لا يصدرون عن أي هوى’’.

‘’الحكومة تفعل ما يفعله المتطرفون: التذرع بأحكام الله وارتكاب جرائم اجتماعية وسياسية باسم الدين’’، ‘’ما الذي يمكن أن يكسبه الدين من مناقشات كتلك التي دارت في مجلس الشعب حول قانون الإصلاح الزراعي؟’’، ‘’إن الحكومات المتعاقبة قد بدأت على مطالبتنا بأن ننصرف لشؤوننا وأن نكف عن الاشتغال بالسياسة وأن نعكف على زيادة الإنتاجية’’، ‘’استخدام مكبرات الصوت في إذاعة الأذان وغيره من الشعائر الدينية في أي وقت وبأعلى صوت ممكن ورفض أي شكوى’’، ‘’وزير التعليم قرر حذف نص ‘’عند الجدار’’ للشاعر نزار قباني من كتاب اللغة العربية للصف الأول إعدادي لخروجه على مقتضيات التربية والتعليم’’.