أرشيف التصنيف: مقالات

دولة الناس

"لقد اخترع الناس الدولة لكي لا يطيعوا الناس"[1]
الدولة يخترعها الناس، وليس واحداً من الناس، أو واحداً خارج الناس. الإنسان الواحد لا يخترع دولة، مهما كان يملك في الناس ومن الناس. والله لا يخترع دولاً ولا يرسل أحداً يبشر الناس بدولة على نموذجه.
يمكن أن ننسب قبيلة إلى فرد ويمكن أن ننسب جنة إلى ربّ، لكننا لا يمكن أن ننسب دولة إلى شخص. فالدولة تُنسب إلى الناس، وإذا حدث ونسبنا دولة إلى شخص، فإننا في الحقيقة لا ننسب الدولة بل ننسب ما هو دون الدولة، كأن تكون قوة مثلا أو سلطة أو ملكا أو حكما أو قبيلة أو عائلة أو إقطاعية.
الدولة ينجزها الناس، والدولة غير المنجزة (دون الدولة) هي الدولة التي لا يخترعها الناس. وفي (دون الدولة)، يطيع الناس الناس، أما في الدولة فالناس لا يطيعون الناس، الفرق يكمن إذن في الطاعة، "الدولة هي شكل للسلطة تجعل الطاعة أكثر نبلاً"[2]. هناك طاعة النبلاء، وفيها يمتثل الناس ليس للناس، بل لقانون أو دستور هو فوق الناس لكنه من الناس، وهناك طاعة الأخساء، وفيها يمتثل الناس للناس الذين هم أقوى منهم بحكم العرق أو الطائفة أو المال.
في الدولة ليست هناك طبقة نبلاء، فالناس كلهم نبلاء بحكم طاعتهم لما هو نابع منهم، أما فيما هو دون الدولة فهناك طبقة نبلاء تجد في إخضاع الناس إلى طاعتها أي في إخسائهم (وليس إخصائهم وإن كان هذا يقتضي هذا) تحقيقاً لنبلها. وتتحقق هذه العملية التي هي في حقيقتها إخساء للدولة بأن تجعل الناس تذهب إلى مجالسها كي تظهر فروض الطاعة والإذلال بدل أن تذهب إلى مجلس الدولة الذي هو بيت الطاعة، وما يصدر عنه مطاع من قبل جميع الناس.
ما دام الناس لا يجدون بيتاً واحداً للطاعة، فسيضلون الدولة، ويهتدون إلى بيوت دون الدولة ودون الإنسان ودون الكرامة ودون القانون ودون ما هو فوقهم.إنها بيوت الطوائف والمتنفذين والنبلاء الذين يُعرّفون لا بطاعة الدولة ولا بطاعة الناس بل بإخساء الناس.
 الدولة إما أن تكون دولة الناس أولا تكون.ليست هناك دولة نبي ولا رب ولا وصي ولا قبيلة ولا حزب.

[1]، [2] الدولة، جورج بوردو، ترجمة سليم حداد، ص11

فكرة الدولة

‘’الدولة بالمعنى الكامل للكلمة هي فكرة. وبما أنها ليس لها غير حقيقة إدراكية فهي ليست موجودة إلا لأنها تدرك بالفكر.. لماذا بناء فكرة مجردة عن الدولة في حين تبدو الوقائع كافية لإفادتنا عما تشير إليه؟’’.
الوقائع دائماً غير كافية، فلدينا منذ 1923 بيروقراطية إدارية ولدينا مؤسسات ولدينا وزارات ولدينا تشريعات ولدينا سلطات ولدينا محاكم وانتخابات ومحكمة دستورية ودائرة شؤون قانونية، وهي كلها وقائع ملموسة، لكننا نشعر دوماً بأنها ليست كافية لإفادتنا إن كان لدينا دولة. هل الوقائع تكذب؟ أم أنها لا تدل بشكل كافٍ؟ هل لدينا وقائع وليس لدينا فكرة؟
يبدو الأمر كذلك، فليس لدينا فكرة، لا تحمل هذه الوقائع على أهميتها فكرة تحيل إلى الدولة، فجميع هذه الوقائع تحيل إلى أشخاص لديهم نفوذ واسع لإفراغ هذه الوقائع من فكرة الدولة، لذلك تبقى الدولة اسماً يحيل إلى وقائع ملتبسة ومشتبهة، وهذا ما يجعل الفكرة غائبة أو سهلة التغييب.
في الوثائق الرسمية ‘’يشمل إقليم دولة البحرين وجزرها والمياه الإقليمية، والجرف القاري، وأية منطقة أو المناطق الاقتصادية الخالصة، وأية أراض أخرى، والمجال الجوي، والبحار التي تمارس دولة البحرين سيادتها أو تتمتع بحقوق السيادة عليه وفقا لأحكام القانون الدولي’’.
جميع ما يشمله هذا التعريف، مسجل في الوقائع، أي في المؤسسات الرسمية الواقعة التي تحمل اسم مملكة البحرين، وكل شبر من أشبار ما يشمله هذا التعريف، تقره هذه المؤسسات من الناحية القانونية، أي أن ملكيته وما يجري عليه قانونياً صحيح وفق قوانين الدولة ولا يمكن لأحد أن يطعن فيه، حتى الجزر التي لا نرى غير ثلاث منها، ستجد قوانين الدولة تقرّها.
نحن أمام حالة غريبة الوقائع تقر أن هناك دولة، لكن الفكرة تقول إنه ليس هناك دولة، لأن الوقائع تبحث عن معيار الإجراء وسلامته حتى لو كان بالحيل القانونية، والفكرة تبحث عن المعنى. الفكرة تقول إن الدولة لا تستملك من الناس، وإذا كانت الوقائع تقرّ هذه الاستملاكات مادياً وليس فقط رمزياً، فعلينا أن نعيد النظر في الدولة، وذلك بأن نعيد النظر في فكرتها.

خولة.. يوميات حب وحرب

 

”بحب أتكلم مع الصحافة” يوميات بيروت المحاصرة، ص94
لم يكن حسن ذو الـ 13 ربيعاً يستعرض لخولة مطر لحظتها في ”مدرسة رمل الظريف” قدراته في ارتجال المواقف الصحفية. لم يكن لحظتها في مسابقة من نوع سوبر استار أو استار أكاديمي. فخولة المهمومة بالطفولة لحظتها لم تكن باحثة عن مواهب استار صحافة، و”مدرسة رمل الظريف” لم تكن لحظتها مدرسة، بل كانت ملجأً يتوفر على الحد المتوسط من الأمان والحد الأدنى من البقاء على الحياة، والحد الأعلى من التشرد. حسن كان قد ترك طفولته في الضاحية، وجاء للحد الأدنى كي يروي كيف ترك طفولته هناك، وكيف صارت أسوار المدرسة أكبر من الطفولة.
إذاً ما الذي كان يعنيه حسن بجملته ”بحب أتكلم مع الصحافة”؟
في مكان آخر يتوفر على الحد الأعلى من التشرد، نجد تفسير جملة حسن، هناك في منطقة كاراكاس، مدرسة (ملجأ) أخرى في يوميات خولة، هناك صوت الأم ميرفت (ومن المصادفة أنها تكنّى أم حسن) يستقبل الصحافية البحرينية بثقة ”أنا أحب أتكلم مع الصحافيين والكلمة مهمة.. قولي لأهل البحرين إن الكلام مقاومة..” يوميات بيروت المحاصرة، ص91
كان حسن إذاً يعلن عن حب أكبر من طفولته، وكأن خولة كانت في مهمة لتوثيق تجربة أكبر من الطفولة، لكن المفارقة أنها تجربة يرويها أطفال. الأطفال في يوميات خولة ظاهرة لافتة للانتباه، يكادون يستأثرون برواية الحرب كلها. هناك زينب وأماني وميرا وحسن وميسا (التي لا تحب أن يقولوا لها ميسو، فالحرب تجعل حتى اسمك أكبر من الطفولة)، وأطفال قانا، وعباس الذي خبأته خولة بين أضلعها.
يبدو أن الأطفال قد وجدوا في وجه خولة صحافتهم التي يستطيعون معها الكلام، فراحوا يرون لها ما يتجاوز طفولتهم، ويعبرون لها عن حبهم للكلام مع الصحافة. بعد أن يأسوا من كل وجوه العالم المسيس.
ربما يكون نص ”اليائس” الذي يحكي عن انهيار النظام الكوني وسوء الأحوال الاجتماعية في المرحلة الفرعونية، معبراً بالفعل عن حيرتهم، وكأن حالهم كان يستعيد جمل هذه النص وهي تقول:
”مع من أستطيع الكلام اليوم؟
فقد أصبح وجه الشر معززاً والخير يداس عليه في كل مكان بالأقدام.
مع من أستطيع الكلام اليوم؟
الطيبون ينقرضون، والمتجبرون يعتدون على كل إنسان”
لم يستطع الأطفال أن يتكلموا إلا مع صحافة تشبه خولة ومطرها الإنساني. ويبدو أن الجمهور الغفير الذي جاء يحتفي بخولة ليلة حفل توقيع كتابها في بيت الصحافة البحرينية بيت الزايد، يبدو أن هذا الجمهور كان مدفوعاً بتوجيه تحية لصوت حسن وصوت أم حسن. وتأكيداً لهما أن الحب يصل. ويصل أكثر حين تختلط يوميات الحب بيوميات الحرب، ويوميات الحياة بيوميات الكرمة.

لماذا الذهاب إلى الضاحية؟

إذا كان ‘’بروفايل’’ همه أن يفهم شقوق مجتمعه البحريني المواربة، فلماذا الذهاب إلى ضاحية بيروت الجنوبية أو الضاحية الجنوبية، أو الضاحية أو ضاحية المحرومين أو ضاحية البؤس أو ضاحية المستضعفين، فلماذا الذهاب إليها؟ لماذا الذهاب إلى الضاحية؟
كل (أو) تحيل إلى تسمية لها تاريخها وبروفايلها الخاص لهذه الجغرافيا التي كانت هدفاً لآلة الحرب الأخيرة.
لكن، أياً كانت التسميات التي تعاقبت على هذه الجغرافيا، فنحن قد ذهبنا إليها لنفهم خولة مطر البحرينية التي تجد في الضاحية صورة بيروت الحقيقية وصورة المحرق الحقيقية. ولنفهم عباس ميرزا البحريني الذي وجد في الضاحية ذاته الضائعة هويتها في جماعة. ذهبنا إليها لنفهم البحريني الذي تمثله تجربة عباس وخولة. ذهبنا إليها بيقين أننا سنعثر في سفر هذا الذهاب على صورة من صور مجتمعنا البحريني المواربة. فسيرة الذات وسيرة المجتمع يمكنها أن تُحكى حين يُتاح لها السفر عبر ثقافة أخرى.
جزء من ذاتي أفهمه الآن عبر الضاحية التي مشيت في زواريبها وساحاتها، وأفهمها أكثر عبر تجربة خولة في الضاحية، وعبر عيش عباس في برج براجنة الضاحية، وعبر زينب رحال التي مازالت ذاكرتها تحفظ خرائط البنايات التي دمرتها آلة الحرب في الضاحية.
لقد اخترنا مناسبة إعلان مشروع إعمار الضاحية (وليس مع ذكرى الحرب) لنفتح ملف الضاحية أو لنقل لنفتح ملفنا في الضاحية، وذلك لأن الإعمار يعني أن الضاحية تحب الحياة بكرامة أكثر، ونحن في هذا الحب نشبهها.
لقد ابتعدنا في هذا الذهاب عن زواريب السياسة، لأننا لم نشأ لها أن تفسد فهمنا لتجربة الإنسان في الاجتماع في المكان. بما تخلقه فينا من حب أعمى أو كره متحامل أو انحياز متعصب.

طاعة العامة والطاعة العامة

الدولة هي أن نخرج من ”طاعة العامة” إلى ”الطاعة العامة”. في ”الطاعة العامة” الجميع نبلاء، وبقدر ما يطيعون تكون الدولة، والناس لا يطيعون الناس، بل يطيعون ما يتوافق ويتعاقد عليه الناس. إنهم يحترمون هذا العقد العام.
وفي ”طاعة العامة” يحكم شخص أو آل (عائلة) وينظر إلى الجميع على أنهم رعاع BrickPeopleوعامة وبسطاء ودهماء وسواد أعظم. بقدر ما يطيعون تكون ما دون الدولة، وهنا الناس يطيعون ناساً أي يطيعون آلاً (عائلة). إنهم يذعنون وليس يحترمون.
في ”طاعة العامة” لا يوجد ميدان اجتماعي أو سياسي عام، بل هناك ميدان للطاعة تتنافس فيه الجماعات لإظهار شعائر الولاء لشخص غير عام. وفي ”الطاعة العامة” هناك ميدان اجتماعي وسياسي عام، يتحاور الناس فيه ويختلفون ويتعددون ويتباينون ويكذّب بعضهم بعضاً، ويستقوي بعضهم على بعض، ويفوز بعضهم على بعض، ويمثل بعضهم بعضاً ويراهن بعضهم ضد أو على بعض ويحتكمون في كل ذلك إلى مؤسسات عامهم، من دون أن يلجؤوا إلى شخص مفترض الطاعة.
في ”الطاعة العامة” مجال حركة الناس هو الشارع العام أما في ”طاعة العامة” فمجال حركة الناس هو في الشارع الخاص حيث الطائفة والعائلة والقبيلة والعرق. حين يسيطر الشارع الخاص على الشارع العام، يستحيل هذا الأخير إلى ”زواريب” لا مخرج منها، تضيع فيها الدولة، ويضيع فيها الناس وحقهم ومواطنيتهم.
في ”طاعة العامة” الناس عامة يطيعون أولاة أمرهم، وفي ”الطاعة العامة” الناس مواطنون يطيحون برئيسهم. الطاعة العامة تمنحك الحق في الإطاحة العامة بالشخصيات العامة التي تقدم حياتها الخاصة على حياتها العامة. كل ما هو عام هو حق مشترك، قابل للنقد والنقض.
الدولة لا تعرف غير العام، وهي بهذه المعرفة تحمي الخاص وتتيح له أن يعيش مستقلاً من دون أن يستولي على العام فيحول الدولة إلى ما دون الدولة. كانت الدول تسقط لأن الخاص فيها يستأثر بـ ”طاعة العامة” ولا يتيح لها أن تتحول إلى ”الطاعة العامة”.
تتهدد الطوائف والقبائل والعوائل حين يتحول الناس إلى ”الطاعة العامة” بل وتفقد هذه الكيانات شرعيتها في الدولة حين تقدم نفسها على أنها صوت الناس أو ممثلهم أو جهتهم.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=3503