أرشيف التصنيف: مقالات

«فريق التحدي» 140 ساعة

tahadee_poster_final

حين اقترحت على دكتور علي إسماعيل رئيس قسم المناهج بجامعة البحرين، أن نذهب معاً لمعاينة تجربة ‘’فريق التحدي’’ لكسر الرقم القياسي في القراءة الجهرية المستمرة، قال لي: مالك والقراءة الجهرية، أنت من جماعة النقد، والنقد كما تقدمونه فعل قراءة فردي، يقوم على حرية التأويل والتفكيك والنقد، والقراءة الجهرية لا تتجاوز أن تكون قراءة صوتية استعراضية، وظيفتها الإسماع فقط، وهي لا تمثل تحدياً لأبسط عمليات التفكير، فهي لا تستثير غير وظيفة التذكر.

بدا حسين المحروس غير متحمس أيضاً واسترجع عبارة من عبارات كتاب ‘’تاريخ القراءة، لمانغويل، تقول العبارة’’ إنّ التلاوة على الآخرين ليست لائقة إلا للأطفال… إنّ ترك الآخرين يقرأون عليك كلمات موجودة في كتاب تعتبر تجربة غير شخصية إلى حد بعيد مقارنة مع مسك النص باليد وقراءته مباشرة.

أحمد السكري، بدا ممتعضاً من أن نذهب إلى تجربة قراءة جهرية، ونترك جلسة نقاش الخميس التي كانت مخصصة لكتاب القبض والبسط لعبدالكريم سروش، كما أنه بدا غير مقتنع من قدرة هذه القراءة على أن تمثل فكرة التعدد التي هي أهم مكون يقوم عليه فعل (قرأ)، وذلك لأن القائمين على هذه التجربة ينتمون إلى عرق واحد لا تعدد فيه، وجمعية واحدة خاصة بعرق واحد وهي جمعية البحرين الثقافية الاجتماعية.

ياسر الوطني، أبدى اعتراضا على توصيف هذه التجربة بأنها حدث ثقافي، وذلك لأنها قائمة على فكرة الكم لا الكيف، والثقافة تحتفي بالكيف والمعنى والقيمة، وليس فقط بالرقم والرغبة في كسره، ففريق التحدي قال إنهم عازمون على كسر الرقم العالمي في موسوعة جينيس للقراءة المتواصلة، والذي يبلغ الآن 140 ساعة. سيقرأون حوالي 5050 صفحة أي ما يعادل حوالي 43 كتابا من الحجم الصغير، أو من 8 إلى 10 مجلدات من الحجم الكبير. وذلك خلال ثمانية أيام و12 ساعة من القراءة المتواصلة.

أنا قلت لهم، وإن يكن، فأنا ذاهب لأشهد تجربتهم عن قرب، القراءة فعل وكي نحقق لهذا الفعل حضوراً في دواخلنا، فإننا بحاجة إلى أن نهيئ له سياقاً إعلامياً وإعلانياً في المجتمع، كي يكون لقيمته رصيد يستحق الاقتناء.

والتحدي الذي يخوضه هؤلاء الشباب، لا يتمثل في كسر الرقم، بل في تحويله إلى قيمة، أي تحويل الرقم المكسور إلى قيمة لها تداولها في سوق المجتمع. المجتمع الذي نسي أن القراءة نشاط يقوم به الإنسان ليحقق فرادته وحضوره في العالم. تحية لفريق التحدي وهو يخوض اليوم يومه قبل الأخير.

سيرة جلال أمين

كانت التوصية التي حملنا إياها عبدالله يتيم، أنا وعديلي حسين المحروس، حين أخبرناه أننا ذاهبان إلى القاهرة: أحضرا لي سيرة جلال أمين الصادرة حديثا عن دار الشروق ‘’ماذا علمتني الحياة.. سيرة ذاتية’’.

منذ بدأت تصفح سيرته مع أبيه أحمد أمين، لم أتمكن من تركها. أنهيتها في يومين، وفي السيرة تاريخ أكثر من ستة عقود عربية، غنية بمعلوماتها هذه السيرة وغنية بجرأتها وغنية بصاحبها. وهي بحاجة إلى وقفة مطولة، لكني أكتفي هنا بشذرة صغيرة من هذه السيرة، وهذه الشذرة التي يورد فيها جلال أمين مقولة برناردشو في معرض سرده لسيرته التي لم تعشق أكثر من التدريس مهنة تجلب له رضا النفس والسرور، نص هذه المقولة يقول ‘’من يعرف كيف يقوم بعمل ما، يقوم به بالفعل، ومن لا يعرف يقوم بتدريسه’’.

jlal Ameen

لقد جاءت هذه المقولة في سياق كان فيه جلال أمين يروي افتتانه بالتدريس ومتعته في ممارسته وبراعته في تقديم المحاضرات للجمهور والطلبة، ويبرهن عليها بعرض صورة تسلمه جائزة أحسن أستاذ بالجامعة الأميركية بالقاهرة (1992).

هل كان جلال أمين لا يعرف أن يقوم بعمله الاقتصادي أو القانوني أو الثقافي أو الفكري، فراح يدرسه؟ كمن لا يعرف كيف يقوم بفعل إنشاء مصنع أو إدارته أو استصلاح أرض، فيقوم بتدريس شروط الإدارة الناجحة لشركة صناعية أو شرح الأنواع المختلفة للتربة أو الطرق المختلفة للري؟

تبدو مقولة برناردشو تسيِّر معنى غير المعنى الذي تسيّره سيرة جلال أمين، فالمقولة تستهجن مهنة التدريس والسيرة تحتفي بها. لماذا تسوق السيرة مقولة تنتقص منها؟ بل السيرة تعي تماماً أن هذه المقولة تنتقص منها، بدليل أنها تعقبها بتعليق يقول ‘’هناك بعض الصحة في هذا القول لكنه قاس أكثر من اللازم’’. ولن يخفف من قسوة هذا القول غير السيرة، فالسيرة شاهد أكثر واقعية، وتكون شاهداً أقوى متى توفرت على قوة أكبر، كما هو الأمر مع سيرة جلال أمين، فالفعل الذي أنجزته هذه السيرة يفوق الفعل الذي قامت به سير كثيرين لم يمتهنوا التدريس، لقد كتب جلال أمين 32 كتاباً وترجم 4 كتب، ونشر باللغة الإنجليزية 9 كتب، و70 عاماً حافلاً بالحوادث الخاصة المشتبكة بالعامة والعامة المؤثرة في الخاصة. وكان شاهداً على أكثر من نصف قرن من عصره، شاهداً لا يكف عن قول الحقيقة التي يراها ببصيرته، ويرويها بمعايشاته، ويعيد تركيبها ومراجعتها بنقده وتجاوزه.

ولعل في استحضار هذه السيرة ما يتضاد معها علامة قوة أيضا، فالضعيف لا يقوى على أن يواجه خصومه، ويعمد دوماً إلى تجنبهم أو استبعادهم، كما تشهد بذلك التجارب السياسية والأكاديمية والثقافية التي رواها جلال أمين في سيرته ‘’ماذا علمتني الحياة؟’’.

السيرة القوية تمنحنا قدرة على مراجعة المقولات النظرية، لذلك فمقولة برناردشو لا يمكن أن نقرأها بعد هذه السيرة كما كنا نقرأها من قبل. لقد فقدت شيئاً من إطلاقيتها، وفقدت شيئاً من قسوتها، وفقدت شيئاً من صحتها. لكنها في المقابل لن تفقد شيئاً من قوتها أيضاً، فالمقولات القوية، تزداد متانة بمراجعات السير القوية لها، والدليل على ذلك أن مقولة برناردشو صارت في سيرة جلال أمين تقول شيئاً آخر أيضاً، وبطريقة أخرى أقل قسوة أيضاً.

وهذا ما يتيح لنا أن نقرأ مقولة برناردشو إلى جانب سيرة جلال أمين التي تقول ‘’أفضل طريقة لفهم المشكلة المعقدة أن يضطر المرء إلى تدريسها’’.

برهان العسل

رواية ”برهان العسل” الصادرة حديثاً عن دار الريس للكاتبة السورية المقيمة في باريس سلوى النعيمي، تقوم لعبتها الفنية على ”فصفصة” كتب التراث التي تتناول موضوع الجنس بحرية بالغة الغبطة وبألفاظه المباشرة التي وضعتها اللغة العربية له، من أمثال كتاب (رشف الزلال من السحر الحلال) للسيوطي و كتاب (الروض العاطر في نزهة الخاطر) للنفزاوي.

تقول (راوية) سلوى النعيمي ”كانت الحرية التي يكتب بها القدماء تمد لي لسانها بين صفوف الكلمات التي لا أجرؤ على استعمالها، لا شفوياً ولا تحريرياً”، 04082007077”هذه النصوص جزء من ثقافتي. هذه النصوص جزء من مخيلتي. هذه النصوص جزء من حياتي الجنسية” ”صرت أتسلى بإحالة كل ما يحصل بيننا إلى النصوص القديمة، أقرأها عليه وأتفنن في فصفصتها”.

نحن بحاجة دوماً إلى لسان القدماء، كي نتكلم وكي نتجرأ، ولكي نتصرف، بل وحتى كي نمارس العنف، اللسان هو لغة، واللغة تمنحك إنسانية تتصرف بها. في هذه الرواية تتصرف سلوى النعيمي، في برهان الجسد ببراعة تشبه براعة القدماء في التصرف بخطاب الجسد من غير أن يحتاجوا إلى برهان من قدماء غيرهم يبيحون لهم القول. كما أن سلوى النعيمي لم تكن قد ذهبت إلى قدمائها كي تستأذنهم في التصرف في تحويل برهان عسلها إلى رواية جامعة، تجمع كل ما يعتمل في ثقافتنا من تناقضات لا تسكت، لتضعها في رواية معناها لا يسكت أيضا. لم تذهب إليهم لتستأذنهم ولا لتجعل من كلامهم في الجسد برهاناً على حقها في أن تتصرف في لغة الجسد، الجسد الذي وصفه نيتشه يوماً، وهو يعيد الاعتبار إليه في رسم الحقيقة، بـ (الذهن الكبير).

هي ذهبت إلى قدمائها، لتتفنن في فصفصة نصوصهم، ولعبة الفصفصة هذه هي ما أعطى للرواية قيمتها الفنية البالغة اللذة، ولو أنها جعلت من كل فصل يبدأ بـ ”فص” كأن يكون ”فص الماء”، ”فص الحيل”، ”فص الحكايات”، ”فص التقية”، لكانت عناوين الفصول علامات بالغة البرهان على هذه الفصفصة، كما فعل قديمنا ابن عربي في (فصوص الحكم)، خصوصا وأن عنوان الرواية يتناص مع جملة ابن عربي ”برهان حلاوة العسل هو العسل نفسه” كما كشفت عنه الرواية في فصلها الأخير.

كانت الرواية ممتعة بلعبة الفصفصة هذه، وهي سرّ تميزها، وليست الجرأة الإيروتيكية، كما يمكن أن يبدو للبعض، ما أسهل أن تكون هذه الجرأة برهاناً على نجاح أي عمل روائي، لكن هذه الرواية لا تستمد فيما أظن برهان نجاحها من خارجها، من الإيروتيك، بل برهانها منها وحلاوتها منها، من فصفصتها الرهيفة والبليغة، كما هو برهان حلاوة العسل منه، يمكننا أن نذهب إلى خارجها ونجد الإيروتيك، لكننا لن نجد هذه الفصفصة التي هي منها بامتياز، بامتياز يسمح لنا حتى بتجاوز الأدب وأصول النقد أيضا لنقول، إن التمييز بين الروائية والراوية في هذه الرواية لا برهان عليه فنياً في أفق القارئ. ويبقى عسل الرواية يمكنك أن تتذوقه بمجرد أن تضع أصبعك أوعينك على أي سطر تنفرج صفحته إليك.

الطرق إلى الأراضي بأنفاس..الاستملاك والتملك والحيازة والاستيلاء

خريطة البحرين 1890

حين جاءت الإصلاحات الإدارية البريطانية في 1923 بالبيروقراطية، التي هي بحسب عالم الاجتماع ماكس فيبر ‘’تنظيم يؤمن الدقة والسرعة والثبات وسهولة الوصول إلى السجلات والاستمرارية والسرية الممكنة والوحدة والتعاون الشديد والحد من أسباب الاحتكاك وتقليل النفقات وعدد الموظفين’’. [1]
كانت إدارة الطابو أول إدارة تم تأسيسها وفق النظام البيروقراطي، وقد سميت في 1970 إدارة التسجيل العقاري والطابو كلمة تركية تعني وثيقة الملكية. لقد أدركت البيروقراطية أن الأرض هي ميدان تحركها الأول، لن تكون هناك دولة مركزية ذات سلطة مطلقة ما لم يكن للأرض التي تحكمها وتقف عليها سجل يثبّت ويُعرّف ويرسم وينظم ملكيتها. ونحن هنا مدينون للكفاءات الهندسية الهندية التي أسست هذه الدائرة بمهنية فائقة الحرفية.
كانت البيروقراطية تريد لجسد الدولة أن يستمد قوته من القانون لا من القبيلة. لذلك واجهت البيروقراطية البريطانية وإصلاحاتها الإدارية مهمة شاقة، وهي تنظيم هذا الجسد تنظيماً يؤمن الدقة والسرعة والثبات والتعاون والسرية والوحدة. وهذا يعني أن يخضع هذا الجسد لقانون عام يكون بمثابة القوة التي تدير هذا الجسد الذي تتناهبه قوى المجالس القبلية، بأعرافها. [2]

هيبة الدولة

الأراضي هي ميدان تجسد الدولة وهيبتها وقوتها وإدارتها وسلطتها، الأرض هي أول ما يُضرب في الدولة، تضربه الدولة المعتدية، وتضربه القوى التي تريد أن تكون فوق الدولة. والأراضي اليوم وشوارعها هي ميدا ن اختبار حقيقي للدولة وهيبتها، وإذا لم تستطع أن تثبت الدولة (وليس القوى التي في الدولة) وجودها في هذا الميدان ستعرض مصداقيتها لحجب الثقة، وإذا حجبت الثقة من الدولة، فلا يمكن أن نستبدلها بوزير جديد، لأن الدولة ليست وزارة.
منذ دخلنا عصر البيروقراطية والإدارة المركزية للدولة، عبر المسح العمومي الذي بدأته في 1926 مع تأسيس إدارة الطابو في 1924 ثم تحولها إلى إدارة التسجيل العقاري وأخيرا إلى جهاز المساحة والتسجيل العقاري، نظّمت عملية الاستملاك والحيازة والملك والاستيلاء، عبر ما شرعته من إعلانات وقرارات وقوانين ومراسيم وأوامر.
لكنها فعلت ذلك عبر الناس المتنفذين فيها، أكثر مما فعلته عبر جهاز بيروقراطيتها الذي لا يعرف الأشخاص إلا كمواطنين ينتمون إلى أرض جسدها واحد، تديره سلطة واحدة.

علامة الجودة
وهذا ما جعل قوانين البيروقراطية تحقق النظام لكنها لم تحقق العدل. وهذا ما جعل أيضاً من استملاك الأراضي (بالمعنى العام، وليس بمعنى المنفعة العامة) محنة، الأمر الذي تسبب في جعل فكرة الدولة محنة أيضا. ولا نبالغ إذا ما قلنا إن الدولة تظهر قوتها التنظيمية المتجاوزة للناس بقدر ما يتوفر نظامها في استملاك الأراضي على قدر عال من الاستقلال عن الأشخاص المتنفذين.
لقد ظلت الضيع والقطع والإقطاعيات والأراضي والمزارع التي تمنح للمتنفذين في الدولة، في أي دولة كانت علامة على الفساد، فساد الدولة وانعدام عدالتها.
وربما تكون هذه العلامة أكثر وضوحا في الدول الأصغر مساحة، فالفساد يظل يتجسد مقروناً دوماً عندنا بشواهد من الاستيلاء غير العادل على الأراضي.

أربع طرق للأرض
ليس هناك أرض واحدة، هناك أراض مختلفة، ولكل أرض حالتها الخاصة، وتاريخها الخاص، ونظام التسمية الذي نطلقه على الأراضي، هو جزء من تاريخ الأرض وعلاقة الناس بالأرض وعلاقتهم ببعضهم فوق هذه الأرض.
هناك أربعة مصطلحات متشابكة تدل على الطريقة التي نمتلك فيها أرضاً، وكل مصطلح من هذه المصطلحات يحمل في مدلوله شيئاً من تاريخ الأراضي في البحرين وحالاتها، وهذه المصطلحات، هي: الاستملاك والاستيلاء، والحيازة، والمُلك.

الاستملاك
الاستملاك: وهو نزع ملكية الأرض لمصلحة المستملك وعادة هو الدولة وتمثلها في ذلك وزارة الإسكان، بقصد تأمين متطلبات المشاريع ذات المنفعة العامة، وتنظم عملية الاستملاك في البحرين بموجب المرسوم بقانون رقم 8 لسنة ,1970 بشأن استملاك الأراضي للمنفعة العامة. [3]
(عادة هو الدولة) هناك إذاً ما يخالف هذه العادة، وهناك ما يلتبس مع هذه العادة، والالتباس ناشئ من أن الدولة لا تحيل على ما هو فوق الناس، بل تحيل في سياقنا البحريني إلى الناس الذين عادة يتنفذون في الدولة، فتكون دولتهم. الدولة عندنا تحيل إلى الوزراء والحكومة والمسؤولين وكبار الشخصيات والمتنفذين، إنها لا تحيل إلى فكرة ولا إلى حالة ولا إلى نظام بل إلى شخص.

الاستيلاء
الاستيلاء: هو وضع اليد على الشيء، والتمكن منه والغلبة عليه، وهو أحد أسباب كسب الملكية. ويعرف بأنه كسب الملكية ابتداء، فمن وضع يده على منقول مباح بنية تملكه ملكه، لذا فإن القانون المدني البحريني استبعد الاستيلاء كسبب من أسباب التملك العقاري، حيث اقتصر الاستيلاء على المنقول من دون الثابت كالعقار، كما جعل كل عقار لا مالك له ملكاً للدولة. [4]
دولة البحرين في القانون معرفة تعريفاً لا لبس فيه ‘’يشمل إقليم دولة البحرين وجزرها والمياه الإقليمية، والجرف القاري، وأية منطقة أو المناطق الاقتصادية الخالصة، وأية أراض أخرى، والمجال الجوي، والبحار التي تمارس دولة البحرين سيادتها أو تتمتع بحقوق السيادة عليه وفقا لأحكام القانون الدولي’’ وهو تعريف لا التباس فيها من حيث الصياغة القانونية، لكن الدولة بحكم الواقع ليست معرفة تعريفاً لا التباس فيه، بل فيه التباس واشتباه، فالدولة ليس ما يحيل إليه القانون بل ما يحيل إليه مالك سلطة تنفيذ القانون.
لذلك فيمكننا أن نقرأ (القانون المدني البحريني استبعد الاستيلاء كسبب من أسباب التملك العقاري). بمعنى أنه استبعد الذين لا يملكون سلطة تنفيذ القانون، هؤلاء لا يمكنهم أن يستولوا، أي لا يمكنهم أن يملكوا أرضا بالاستيلاء، فالاستيلاء لابد أن يكون بالقانون ومن يستولي يستولي باسم القانون والدولة.
بل إن القانون أو المحاكم التي تملك تفسير القانون وتطبيق حالاته، سيشرع قوانين تلغي وثائق ملكية من أجل أن يُمكّن من يلتبسون بفكرة الدولة من أن يستولوا على ما يريدون. لدينا مثال حكم محكمة التمييز الذي يقول (لا وقف إلا بملكية). بهذا الحكم تمت مصادرة أراض وقفية غير مسجلة، وغير المسجلة تعني في عرف القانون ليس لها ملكية، فتؤول ملكيتها للدولة، لكن أي دولة، الدولة التي يعرفها القانون بوضح لا لبس فيه، أم الدولة التي هي جيش من المتنفذين.
نص مرسوم بقانون رقم (24) لسنة2001 بشأن التصرف في الأراضي التي تعتبر من أملاك الدولة، يقول ‘’في تطبيق أحكام هذا القانون يعتبر من أملاك الدولة جميع الأراضي التي ليس لها مالك بموجب وثيقة ملكية أو بحكم قضائي. باستثناء الهبات التي يقررها أمير البلاد، لا يجوز التصرف في الأراضي المشار إليها في الفقرة السابقة إلا بأمر من الأمير’’.
لقد جاء هذا القانون ليقاوم جيش المتنفذين من الاستيلاء على الأراضي باسم الدولة، لكنه لن يلغي تاريخ الأراضي التي استولوا عليها بالفعل طوال الثلاثين سنة الماضية أو أكثر. كما أنه لن يوقف المتسللين الذي يعرفون حيل الطرق الفرعية وشرعيتها.

الحيازة
الحيازة: هي وضع اليد على الشيء والسيطرة عليه سيطرة فعلية، والانتفاع به واستغلاله بكافة الوجوه المادية القابل لها، سواء استندت إلى هذه السيطرة على حق من الحقوق أو لم تستند، وإذا استمر الحائز واضعاً يده المدة المقررة قانوناً فإن ذلك مما يؤدي إلى اكتساب الملكية بوضع اليد. [5]
قانون الحيازة لا يفرق بين اليد التي تستند إلى حق وذاكرة مشتركة مع مكان الأرض، وبين اليد التي تستند إلى قوة من غير ذاكرة. لذلك فالحيازة وإن شرعها القانون بحكم الواقع، لكنها ستبقى قانوناً عدالته عمياء.

الملك
الملك: في اللغة هو احتواء الشيء والقدرة على الاستبداد به والتصرف بانفراد، وفي اصطلاح الفقهاء هو الحيازة، ومن أساس الملك الاختصاص والمنع والتعامل، وتقسم أسباب الملك إلى ثلاثة أنواع، الأول وهو الابتداء وهو الاستيلاء والثاني نقل للملك بعد ثبوته مثل البيع، والنوع الثالث مبق للملك على الورثة والموصي له. [6]
مهما تعددت الطرق، فكلها توصل في النهاية للتملك، حيث تستقر الأرض على أي تاريخ كان، سواء كان على تاريخ اليد والقوة والاستيلاء والفتح أو على تاريخ الذاكرة.
يصف أحد الخبراء الاقتصاديين والسياسيين تاريخ الملكية في تجربة أراضي بالسر الكبير، ولعل في هذا الوصف ما يلخص عنوان هذه المقالة: الطرق إلى الأراضي بأنفاس: الاستملاك والتملك والحيازة والاستيلاء، يقول ‘’التجربة تقول بأن موضوع ملكية وتوزيع الأراضي سر كبير لا تود السلطة «أي سلطة» فتح ملفاته لأنه يكشف كيف انتهت كل الأراضي والبحار من ملكية الدولة إلى ملكية مجموعة قليلة من الأفراد استغلوا مواقعهم لأخذ حصة كبيرة من الأرض فيما ينتظر عشرات الآلاف من المواطنين في طوابير انتظار تعدت الخمسة عشر عاما علهم يحصلون على أرض ومنزل لا تتجاوز مساحته 300 متر مربع’’.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=60046
الهوامش:
[1] القبيلة والدولة، فؤاد خوري، ص.133
[2] تقبيل المجلس، على الديري، صحيفة الوقت، 17 مايو.2007
[3]، [4]، [5]، [6]، معجم التعمير والخرائط والوثائق العقارية البحرينية، مناف حمزة.

جهاز استملاكات الخواص

بعد شهرين من المتابعة و’’الحقران’’ الذي يقطع مصران اللباقة، أبديت لرئيس العلاقات العامة والإعلام بـ’’جهاز المساحة والتسجيل العقاري’’ التساؤل الكبير الذي يمكن أن يطرح على ‘’بروفايل’’، وهو ‘’استملاك الأراضي’’ إذا لم يكن لصوت جهاز المساحة حضور فيه. سألني على أرضية مساحتها بالغة الذكاء والفطنة والجدية والخبرة والإعلام ووو.. إلخ: خوي تساؤل من قبل من تقصد؟
هنا لم تسعفني بلاغتي ولا مساحة أرضيتها التي لا وثيقة رسمية لها سوى ما يشهد به الأصدقاء. نعم، لم تسعفني في ابتكار جواب يليق بالمساحة التي تشغلها أرضه في هذا الجهاز من جواب طيلة شهرين.
خرجت من مكتبه، أحمل في مساحتي الخاصة خيبة ، لكني قررت أن أحيل مساحة الخيبة فضاء تحدٍ، لكن لن يكون التحدي استنطاقا، بل محاولة لفهم، لماذا لم ينطق هذا الجهاز؟
النطق هو قدرة على التصرف في الكلام، وهذا الجهاز لا يجيد الكلام، لأن في فمه ماءً ، لأنه يعتبر كل ما فيه من معلومات وخرائط ملكاً له لا ملكاً للناس، إنه مؤتمن على سرّ الحيازات والاستملاكات. هو لا يحتفظ بأسرار عامة بقدر ما يتحفظ بأسرار خاصة، هو لا يتكلم لأن لسانه لا يشف بالحقيقة، بل بالستر والمواراة والإخفاء.
هل يمكن لهذا الجهاز أن يكون جهازاً عاماً من أجهزة الدولة العمومية، وهو يملك في دائرة السر تاريخ أراضينا منذ نشأة دائرة الطابو 1924 إنه بمثابة وزارة الأرض، والأرض ذاكرة وليست مجرد أوراق ملكية، يملك القوي استصدارها بمساحات تنطق بقوته. لا يمكن لهذه الذاكرة أن تكون وطناً وهي قابعة في دائرة السر .
التحدي هو أن أستنطق هذه الذاكرة من جهات تتجاوز قلعة هذا الجهاز المنيعة على الصحافة والمواطنة. ما لم تفتح هذه القلعة الصماء فلن نعرف خارطة طريق أراضينا، أراضينا المرتفعة عن سطح الأرض أو المغمورة بالمياه أو التي كانت مغمورة، وصار 97% منها غير مغمور المالك (ملك خاص)، و3% مشهور المالك (الدولة) بحسب رواية شركة اسكيديمور.
خارطة الـ 33 جزيرة التي لا نراها، هي هناك في هذا الجهاز الأمين فقط على المواطنين الذين لهم حصة في 97% مما كان مغموراً بالمياه.