أرشيف التصنيف: مقالات

دولة الناس

«لقد اخترع الناس الدولة لكي لا يطيعوا الناس’’[1]
الدولة يخترعها الناس، وليس واحداً من الناس، أو واحداً خارج الناس. الإنسان الواحد لا يخترع دولة، مهما كان يملك في الناس ومن الناس. والله لا يخترع دولاً ولا يرسل أحداً يبشر الناس بدولة على نموذجه.
يمكن أن ننسب قبيلة إلى فرد ويمكن أن ننسب جنة إلى ربّ، لكننا لا يمكن أن ننسب دولة إلى شخص. فالدولة تُنسب إلى الناس، وإذا حدث ونسبنا دولة إلى شخص، فإننا في الحقيقة لا ننسب الدولة بل ننسب ما هو دون الدولة، كأن تكون قوة مثلا أو سلطة أو ملكا أو حكما أو قبيلة أو عائلة أو إقطاعية.
الدولة ينجزها الناس، والدولة غير المنجزة (دون الدولة) هي الدولة التي لا يخترعها الناس. وفي (دون الدولة)، يطيع الناس الناس، أما في الدولة فالناس لا يطيعون الناس، الفرق يكمن إذن في الطاعة، ‘’الدولة هي شكل للسلطة تجعل الطاعة أكثر نبلاً’’[2]. هناك طاعة النبلاء، وفيها يمتثل الناس ليس للناس، بل لقانون أو دستور هو فوق الناس لكنه من الناس، وهناك طاعة الأخساء، وفيها يمتثل الناس للناس الذين هم أقوى منهم بحكم العرق أو الطائفة أو المال.
في الدولة ليست هناك طبقة نبلاء، فالناس كلهم نبلاء بحكم طاعتهم لما هو نابع منهم، أما فيما هو دون الدولة فهناك طبقة نبلاء تجد في إخضاع الناس إلى طاعتها أي في إخسائهم (وليس اخصائهم وإن كان هذا يقتضي هذا) تحقيقاً لنبلها. وتتحقق هذه العملية التي هي في حقيقتها إخساء للدولة بأن تجعل الناس تذهب إلى مجالسها كي تظهر فروض الطاعة والإذلال بدل أن تذهب إلى مجلس الدولة الذي هو بيت الطاعة، وما يصدر عنه مطاع من قبل جميع الناس.
مادام الناس لا يجدون بيتاً واحداً للطاعة، فسيضلون الدولة، ويهتدون إلى بيوت دون الدولة ودون الإنسان ودون الكرامة ودون القانون ودون ما هو فوقهم. إنها بيوت الطوائف والمتنفذين والنبلاء الذين يُعرّفون لا بطاعة الدولة ولا بطاعة الناس بل بإخساء الناس.
الدولة إما أن تكون دولة الناس أولا تكون. ليست هناك دولة نبي ولا رب ولا وصي ولا قبيلة ولا حزب.
[1]، [2] الدولة، جورج بوردو، ترجمة سليم حداد، ص.11

الغذامي بالنسبة لي أنا

الدرس الأهم ـ بالنسبة لي أنا ـ في تجربة الغذامي الثقافية، ولن أقول النقدية فقط ولا الأكاديمية فقط، هو درس ما يمكن أن أسميه “الخروج من الضَّيق إلى الواسع”، وهو درس بدأت أتلقاه في النصف الثاني من التسعينيات، حين كان الغذامي ينشر في جريدة الحياة سلسلة مقالاته عن المرأة واللغة، كنت مأخوذاً حينها بالطريقة التي يؤول بها حكايات الثقافة، وهو ضرب من التأويل الجديد الذي يتجاوز الدرس الذي ألفته في طريقة تحليل الروايات والنصوص الأدبية،

إنه الدرس الأول في الخروج بمعنى النص من أفق المعنى الجمالي ومقتضياته الشكلية إلى أفق المعنى الثقافي ومقتضياته الإشكالية. كنت حينها أتوفر على عدة نقدية مكونة من مفاهيم: البنية والنسق والخطاب والنص والراوي العليم وزمن الحكي وزمن الوقائع والانزياح والتخييل والشعرية ودرجة الصفر في الكتابة ووو إلخ. وهي عدة محكومة من جانب آخر بأفق مدرسي شديد الضيق. بقدر ما عززت هذه المفاهيم النقدية من قدرتي على قراءة النصوص الأدبية بمختلف أشكالها، فإنها عززت من جانب آخر ما هو أخطر من هذه القدرة، إنها عززت من أفق الضيق، الضيق الذي يجعلك ترى في النص الأدبي نهاية جمالية تستوجب التقديس وتتمنع على إمكانية أن يعتريها شيء من التدنيس، إنها متمايزة عن كل غرض دنيوي ثقافي. وهو الضيق الذي يجعلك ترى حدود عملك لا تتجاوز هذه النصوص، وهو الضيق نفسه الذي يجعلك تتعالى على كل ما يعتمل في ثقافتك ولا يجسد نفسه في شكل أدبي تقرّه هذه المفاهيم. وهو الضيق أيضاً الذي يحصرك في دائرة الغناء، إما أن تغني لهذه النصوص التي يكتبها الأدباء الفحول أو تبخس من حق النصوص التي يكتبها أنصاف هؤلاء الأدباء. الضيق الأكثر خطورة على تكوين الناقد ـ بالنسبة لي أنا ـ كان يتمثل في الهالة العلمية التي أسبغها النقد الأدبي على هذه المفاهيم، حتى صارت وكأنها أيقونات غير قابلة للتصرف من أجل استثمارها في حقول أخرى، أو من أجل زحزحتها لتوسيع أفق عملها في الحقل الأدبي نفسه. من هنا تأتي أهمية الغذامي – بالنسبة لي أنا- أنا المكون من هذه المفاهيم ومن أفقها في النظر إلى اللغة والكتابة والنص والأدب والعالم. مع الغذامي سأخرج على ضيقها وجبروتها وأوهامها المعرفية. مع الغذامي ستكون لغة النقد أكثر طواعية وأكثر قرباً وسلاسة، إن اللغة التي كتب بها الغذامي لا تقل أهمية عن المفاهيم التي أدخلها في حقل النقد.سنغادر اللغة المقعرة التركيب وسنكون أمام لغة تحسن التداول والتواصل والدخول على معاني الأشياء التي لا تجد تمثيلاً لها في نماذج الثقافة العليا. مع الغذامي سأخرج – بالنسبة لي أنا- من الضَّيق (بفتح الضاد) من اللغة ومن العمل ومن الاختصاص ومن المفاهيم، وذلك حتى قبل صدور كتاب النقد الثقافي. فالروح التي كان يعمل بها الغذامي، حتى بعيداً عن التنظير، هي الأكثر نفاذاً وقدرة على التحويل، أقصد التحويل من الضيق إلى الواسع. سيتيح لنا الغذامي بإدخاله الثقافة بمعناها الإنثروبولوجي الواسع إلى حقل النقد ـ سيتيح لنا أن نخرج من الضيق إلى الواسع، ستتوسع مساحة العمل، وستتصرف المفاهيم وفق ما تتطلبه نصوص الثقافة بمختلف أشكالها، وستخفف اللغة من غلواء تقعرها، وستتسامح مع كائنات الثقافة بمختلف تمثيلاتها. لن تكون النصوص الأدبية الرفيعة المستوى وحدها الدالة، ولن تحتكر وحدها الدلالة، ولن تنفرد دون غيرها بالدليل، سيكون كل فعل وحدث وشخصية وتاريخ ولعبة ومكان وزمان ونص وحكاية ولون ولباس وجسد، دالاً على شق من الثقافة.

قبل صدور كتاب النقد الثقافي كتبت مقالة احتفائية في ملحق رؤى بمناسبة زيارة الغذامي إلى البحرين، كان عنوانها “الجبروت الرمزي في خطاب الغذامي” قلت فيها حرفياً “في ضوء هذه التجليات المتعددة( للجبروت الرمزي) يمكننا أن نفهم إشارة الغذامي له بأنه “الشرط الثقافي وسماته النسقية ” فهذه الإشارة توسعه لتجعل منه شرطاً ثقافياً ، يتجاوز نطاق الشرط الأدبي ، فالأدبي يعيش ضمن مملكته ونسقه الرمزي، ولا نغالي إذا ما قلنا إن موضوع النقد الثقافي هو جبروت الرمز الذي يتجلى في أشكال مجازية لا حدَّ لها”

أنا مدين شخصياً للغذامي في فتح أفقي على هذا الجبروت، وهو يحدد بشروطه معاني الأحداث والنصوص والخطابات، ويعطي بمعاييره قيمه الرمزية للأشياء.وبهذا الأفق صار النقد ـ بالنسبة لي أنا ـ محاولة لتفكيك سلطة هذا الجبروت. في كتابي (مجازات بها نرى: كيف نفكر بالمجاز؟) الصادر في صيف 2006م كنت أفهم المجاز على أنه جهاز رؤية، أي بما هو عين رمزية، وهي عين محكومة بجبروت الثقافة الرمزي، أي أن المجاز عين في جسد الثقافة، والعين لا ترى وحدها بل ترى بجسدها كلِّه، وكل مجاز يرينا محمولات ثقافته التي هي جسده. فليس هناك مجاز معلق في الهواء، بل المجازات كلها معلقة في الثقافة. وهنا أنا مدين مرة أخرى للغذامي في جانب من جوانب فهمي للمجاز وعمله. وبهذه المديونية خرجت من ضيق الجملة والنص إلى اتساع الثقافة، صارت الثقافة تحفظ جبروتها الرمزي في أرشيف من المجازات. ولعل براعة الغذامي تكمن في قدرته على تطويع أدواته النقدية في قراءة أرشيف هذه المجازات، وهكذا يمكننا أن نفهم عمله النقدي في قراءة عمود الشعر والأنوثة والفحولة وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر بوصفه عملاً نقدياً على هذا الأرشيف. ولعل جملته التي افتتح بها كتابه المرأة واللغة ” لم تكن المرأة في هذا التكوين سوى مجاز رمزي أو مخيال ذهني يكتبه الرجل وينسجه حسب دواعيه البيانية والحياتية” لا تخص فهمه للمرأة وحدها، بل فهمه لكل كائنات الثقافة، فكلها مجاز تركبه أوامر الثقافة ونواهيها ومستحسناتها ومستقبحاتها وآليات عملها. أنا مدين له في توسيع تعريفاتي للمجاز وتكثيرها، فالمجاز صار بهذه المديونية تمثيلا تقوم به قوة تريد أن تفرض حقيقة ما، والمجاز تشكيل لشبكات الرؤية، والمجاز تشكيل للعالم، والمجاز جعل وتصيير، والمجاز لسان الثقافة الناطق، المجاز اتساع كما الغذامي اتساع. هكذا أفهم معنى شهادتي هنا، إنها شهادة على حضور الغذامي فيَّ، في لغتي ومنطقة عملي وأفقي ورؤيتي ومفاهيمي. حضوره فيَّ بما أنا مجموعة أصوات مديونة إلى جهات متعددة ومتنوعة.

 

لا تعتذر عما رأيت

ماذا يريد الشيخ محمد جواد رضا الشهابي، من بروفايل الوقت؟
في لقائي الودي مع الشيخ الشهابي، في حوزة الإمام الباقر، كان الشيخ يريد باسم حوزات البحرين النسائية التي يمثلها، كما قال لي، أن تعتذر الصحيفة في صفحتها الأولى عن بروفايل الحوزويات؟ كان اللقاء ودياً جداً وهادئاً جداً وواعداً جداً، لم يكن يشبه حرارة شمس الاعتصام التي شكا منها الشيخ مرات عدة. لم يطلب مني الشيخ أن أعتذر عن الشمس، لكني اعتذرت عنها، ولم أعتذر عن شمس بروفايل التي تضيء الأشياء بطريقتها الخاصة، كما كان مصباح ديوجين يضيء الأشياء بطريقته الخاصة وسط الشمس العامة.
لماذا لا نعتذر عن ضوء بروفايل؟
ليست المسألة مسألة مبدئية، ولا تعنتاً ولا مكابرة ولا خشية من الهزيمة أو الإحراج. لكنها رؤية، ا لمسألة تكمن في الرؤية، لا في الحقيقة، لبروفايل رؤية لا حقيقة. لا يتحدث باسم الحقيقة لكنه يتحدث باسم حقه في أن يرى حيوات الناس في المجتمع مجسدة في تجاربهم التي هي محصلة تربية مؤسساتهم التي ينخرطون فيها.كالتي هربت بعينيها
نحن نعتذر عن واجب لم نقم به، أو خطأ وقعنا فيه، أو إساءة اقترفناها بحق أحد. لكننا لا نعتذر عن رؤية اجتهدنا في الوصول إليها، والرؤية يرد عليها برؤية أخرى، كما كان ديوجين يرد على ضوء الشمس العام بضوء مصباحه الخاص. الحوزات النسائية ليست شخصاً وليست نموذجاً واحداً هي مؤسسة اجتماعية ودينية لها نماذجها وأنوارها المختلفة والمتعددة، ليست حوزة النور هي نفسها حوزة الغريفي ولا هذه الأخيرة هي نفسها حوزة الإمام الباقر، ولا هذه هي نفسها حوزة (بلاغات) في قم. كما أن الجامعات متعددة، فالحوزات متعددة. وفي التعدد تكمن الحيوية. ولعل حيوية حوزة النور مثلا تكمن في اختلاف نموذجها ونورها الذي تبصر به عن بقية الحوزات.
بروفايل هذا الأسبوع يفتح الرؤى الأخرى على رؤيته التي قدمها في الأسبوع الماضي وقادت إلى موقف اعتصام حوزوي نسائي أمام الوقت. الاعتذار يمليه موقف، والفتح تمليه رؤية، والاختلاف الذي يفتح رؤى هو خير من الاختلاف الذي ينتج مواقف، ففي الرؤى يتسع الإنسان وفي المواقف يتصلب. ولعل مقولة سيد كامل الهاشمي الأثيرة ”الاختلافات في البحرين تنتج مواقف لا رؤى” تعزز من انحياز بروفايل للرؤية وأهمية تكثيرها في المجتمع، كي تكون لنا عيون كثيرة نرى بها. كان المتصوفة يقولون ”الكامل من الرجال يكنى بأبي العيون” لأنه كلما تكثَّرت عيونه اتسعت رؤيته، وصار بعيونه كاملاً. ونحن نريد لبروفايل أن يكون أبا العيون.
بروفايل يعتذر فقط عن قصور رؤيته ويدعو أصحاب العيون الأخرى، كي يقدموا رؤى عيونهم ليقووا من قصوره. هو يعتذر على قاعدة ”لنتعاون فيما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه”. ويطلب من الآخرين أن يعتذروا أيضاً، فليس هناك اختلاف أبصر من اختلاف. كل مؤسسة تريدك أن تراها بضوء الشمس العام أي أن تراها من الخارج في كامل نموذجيتها ومثاليتها، ولا تريدك أن تراها بضوئك الخاص، كيلا تكشف مآلاتها وقصورها. وعيون بروفايل لا تعمل إلا وفق ضوئها الخاص، وهو ضوء قاعدة جبران ”إذا كُنت لا ترى إلا ما يُظهره النور ولا تسمع إلا ما تُعلنه الأصوات فأنت بالحقيقة لا ترى ولا تسمع”.

أم أمــــــــل

بروفايل النعيمي

ملف بروفايل عبد الرحمن النعيمي في جريدة الوقت pdf

عزيزي علي – أنا أمل النعيمي – قرأت في دروب عن نية بروفايل صحيفة الوقت إصدار عدد عن والدي، هل بإمكاني المساهمة؟ ومتى آخر وقت للتسليم؟ إن قبلتم مني المشاركة، كل المحبة لكم، فأنتم رحيق الورود.
أنا: أوه أمل. هذا كثير منك. ممتن كثيرا لتعاليك على الألم. بانتظار قلب مساهمتك. اكتبي أرجوك عن شق سيرة هذه الأبوة وتاريخ طفولتك معها.
في مساء اليوم الثاني، يصلني مسج من أمل: مساء الخير لا أدري ما أصابني عندما شرعت بالكتابة اجتاحتني أفكار سوداء، لذا أعتذر عن المشاركة وما كتبته كان لك نصيب من الشكر لأنك شحذت همتي، آسفة، فقد كنت كريما معي.
أنا: هل تعرفين يا أمل أن الكلمة مشتقة من الجرح، لذلك فالكتابة التي هي كلمات منتظمة في خطاب، هي شق لوجود خاص من وجودنا العام في هذه الحياة. أنت كنت بكتابتك تشقين سيرة من أعظم سير شخصياتنا الوطنية، سيرة شقت وجودنا الاجتماعي والسياسي الساكن فجعلته في حراك لا يعرف الهدوء، بكتابتك ستجعلينها تتكلم لنا. ما انتابك هو دماء هذه الشقوق فلا تتروعي، لن يكون هناك أكثر منك قدرة على فعل ذلك.
هل تصدقين حتى المسجات تشق قلوبنا! كتبت لك وأنا أقود السيارة وكل جسدي يهتز لفرط ما أوقعته الكلمات فيَّ من جروح.
في اتصال لاحق، أخبرتني أمل أنها كتبت شق السيرة لكن هناك ما يجعل شهادتها غير مهيأة بعد للنشر، هناك قلب أمها النابض بجنة النعيمي، لا يحتمل بعد شهادة الكلام، لفرط ما يحمل من محبة، ذاكرتُها أحمالٌ، تنوء بها الأوطان.
حتى الآن أنا لم أقابل أمل النعيمي لكن سيرة أبيها التي هي محل إجماع وطني، منحتني كما منحت هذا الوطن ملتقى عابراً للطائفة وللعرق وللقبيلة. لم أقابل أمل لكني التقيت بها عبر سيرة أبيها.
قالت لي أمل اتصل بأمي، فهي أقوانا وأكثرنا صبراً، قلت لها أخاف أن تحرجني لفرط ما تحمل من محبة، فاللحظة مشدودة الأعصاب، قالت لي: لا تخف فهي أوسعنا رحابة.
بقيت ثلاثة أيام متهيباً، وحين تجاسرت، جاءني صوت عائشة صغرى النعيمي، للوهلة الأولى شعرت أن رحابة صوت أمها الذي لم أسمعه بعد يجري فيها، استعدت كلام منى عباس وفضيلة المحروس وجبار الغضبان عن اتساع الأمل الذي يجري في صوت أم أمل.
قلت لأمل: أمك تلازمني طيلة هذا الأسبوع، كأني أراها كأني أتحدث معها، كأني طالب سبعيني ذهب شقتها يحمل حلم وطن لا يأتي، فتخفف عنه بما يأتي من جهة أملها بدلال مترف العطاء.
أم أمل، بروفايل هذا الأسبوع يقدم هذه الحلقة تحية لكِ واحتفاء بقلبكِ الذي يسع وطناً لا يرجف فيه الأمل.

بين تقليد الفقيه وصداقة المفكر هل يمكن أن يكون الفقيه صديقاً؟

(أنت خرجت من تقليد الفقيه ووقعت في تقليد أركون) كانت التهمة الأكثر حضوراً في الحراك الثقافي العام الذي أعقب زيارة محمد أركون للبحرين في 2001م. أقول كانت تهمة لأنها لم تطرح نفسها أبداً في صيغة سؤال،  ولم تكن حتى في مضمونها تحتمل السؤال، والتهمة غالباً ما تقتضي الدفاع أكثر من البيان، لذلك من المهم أن نحول التهمة سؤالاً كي نتحول من مقام الدفاع وما يقتضيه من منافحة وجدال ورغبة في الغلبة، إلى مقام البيان وما يقتضيه من توضيح وكشف وفتح وفهم واستشراف. وأقترح أن يكون السؤال: ما الفرق بين علاقتك بالفقيه وعلاقتك بأركون؟ أو بصيغة أكثر تعميماً وأكثر تحيزاً، ما الفرق بين تقليد الفقيه وصداقة المفكر؟

العلاقة مع الفقيه محكومة بقانون الماهية، والعلاقة مع المفكر محكومة بقانون التصيير. قانون الماهية يفرض عليك أن تكون هو، وهذا يتطلب أن تكون حقيقتك ثابتة وأبدية وأن تكون نسخة من الفقيه، نسخة من فعل (أمره). أن تكون ماهيتك محددة بصرامة أوامره، فالفقيه يختزل النص الديني في فعل الأمر الذي يتحدد من خلاله الحلال والحرام والمستحب والمكروه. وأنت أو ماهيتك أو حقيقتك محددة بمحددات فعل الأمر هذا. الماهية تتطلب التقليد والمحاكاة حد المطابقة كي لا تصير شيئاً آخر أو شأناً خاصاً غير معروف، فمن تتغير ماهيته يصبح كائناً غير معروف، وما يضمن لك المعرفة والتعريف، هو أن تقوم بفعل معروف مسبقاً، هو فعل الأمر، فعل أمر الفقيه، كينونتك من طينة هذا الفعل، أي تغير أو تحول أو تصير في هذه الطينة يجعلك مسخاً.

قانون التصيير يطلب منك أن تكون أنت وما تفعله، وهذا يتطلب أن تكون حقيقتك متغيرة ومتحولة وأن تكون شأناً خاصاً، وكي تصير كذلك، فعليك أن تتحرر مما يسبقك وتتطلع إلى ما يلحقك، عليك أن تتحرر من فعل الأمر ومقتضياته. التصيير يتطلب الانفكاك والخروج وتحمّل مسؤولية أن تكون على خلاف ما كنته. التصيير فعلك أنت لا فعل ما سبقك، لذلك هو فعل متحرر مما سبق.

بقدر ما يكون المفكر مشكال رؤية، تتأكد أهميته، ويتأكد حضوره وتتصيَّر علاقتك به بدل أن تتماهى. نحن مع الفقهاء نتماهى، ومع المفكرين نتصاير. في التماهي نصير هم فقط، وهم فقط بما هم نص ثابت، وفي التصاير نصير نحن وغيرنا وشيئاً آخر.

علاقتك مع الفقيه تقوم على التقليد، تقلد (فعل أمره) وتمتثل لأحكامه، وترهن كلك به، وعلاقتك مع المفكر تقوم على الصداقة، تصادق مفاهيمه، وتتمثل عوالمه، وتفتح كلك به، وتتصرف في العالم من خلالها. أحكام الفقيه أقفال ومفاهيم المفكر مفاتيح، تلك تغلق العالم وتماهيه حد التطابق وهذه تفتح العالم وتصيره حدَّ الاختلاف.امتثالك للأحكام يغلقك وتَمثُّلك للمفاهيم يفتحك، مع الفقيه أنت تقع في حكم نهائي، ومع المفكر أنت لا تقع في بل أنت تقع على، تقع على ما يفك محكماتك ويخرجك من كينونتك الأحادية.

الفقيه يظلك بعباءته ويتيح لك أن ترى بقدر ما تسمح به خيوط عباءته المحكمة، والمفكر يضلك بعرائه وهوامله ويتيح لك أن تكتشف العالم بقدر ما تسمح به خيوط الشمس، ويضع لك في كل مسار من مسارتها معالم غير محكمة، معالم هي بمثابة إشارات تحتاج إلى تأويلك كي تنفتح وتدل، وإذا وجدت في خيوط الشمس ومساراتها ما يضلك، فلك أن تبتكر لك شمسك الخاصة أو قنديلك الخاص كما فعل ديوجين الذي كان يبحث بمصباحه في رابعة النهار عن إنسان.

يبطل عمل المفكر حين تكون له عباءة تغلف أصدقاءه، ويتعزز عمل الفقيه حين تكون له عباءة تنص عليه، وتنص على مقليده وأتباعه. مع الفقيه العقل في مسار النص، ومع المفكر العقل في مسار الشمس.

في مسار النص الذي هو مسار عباءة الفقيه وعمامته، نحن في مستوى ما يمكن التفكير فيه، أي في مستوى ما يسمح به هذا المسار بما هو مجموعة من التصوُّرات والعقائد والنظم الخاصة بالجماعة التي ينتمي إليها الفقيه ويتضامن معها.

وفي مسار الشمس نحن نحاول أن نفتح كوة في مستوى ما لا يمكن التفكير فيه، بسبب مانع يعود إلى محدوديّة العقل ذاته أوانغلاقه في طور معيَّن من أطوار المعرفة. أو بسبب ما تمنعه السلطة السياسيّة أو الرأي العام، إذا ما أجمع على عقائد وقيم قدَّسها وجعلها أساسًا مُؤسِّسًا لكينونته ومصيره وأصالته.

أي أننا مع الفقيه، في مسار الماهية والكينونة الثابتة، وما يسمح به الفكر محدود بحدود هذه الكينونة وثباتها، ومع المفكر نحن في مسار الصيرورة التي تخترق مستوى ما لا يمكن التفكير فيه، وهو المستوى الذي يهدد ثوابت الأشياء ونهايتها المغلقة.

مع الفقيه أنت مع الله، فهو وارث ولاية الله عن الإمام عن النبي أو عن النبي والسلف الصالح، هو ولي الله وباسم هذه الولاية يرث القرب وما يقتضيه من محبة وانقياد وتسليم وأمر وسلطة وقيادة، تماماً كما الأب يكتسب حق ولايته ومقتضياتها عليك بقرابة البنوة، كذلك يكتسب الفقيه بهذه القرابة من الله حق الولاية. تقوم علاقة الفقيه مع الناس على أنهم مجموعة من الموالين، يوالون الله خالقهم ويوالون نبيه بأمره ويوالون أوصياءه بوصيته، ينصاع الموالي لأمر مولاه كي يحقق انقياده التام إلى خالقه وبذلك يضمن جنته. الفقيه لن يمنحك الجنة من غير الولاء المطلق.

الفقيه يؤسس لمجتمع الموالين المؤمنين الذين تجمعهم رابطة الولاء العقائدية والولاء النسبي (أهل البيت). مجتمع الفقيه هم جماعته، لذلك فأمر الفقيه لا يمكن أن يتجاوز جماعته المؤمنة بولايته، ولا يمكنه أن يتعامل مع الجماعات المتعددة والمتنوعة في المجتمع الواحد على قدر المساوة، فالولاية جامع الجماعة لا المجتمع, أي جامع الجماعة الواحدة المتجانسة المتماهية لا جامع جماعات المجتمع الواحد المتعدد العقيدة.

مع المفكر أنت مع الإنسان، في تعدده واختلافه وتنوعه، ليس هناك علاقة ولاء ولا قرابة تربطك أو تشرع لك أو تمنحك شرعية القول. مع المفكر نحن في مجتمع الأصدقاء لا الأخوة، أي مع الأصدقاء المتعددين في كل شيء لا مع الأخوة المتماهين في كل شيء.

الاختلاف في مجتمع الفقهاء يفتح باب القتل وفي مجتمع المفكرين يفتح باب الحياة، لذلك ما قتل مفكر إلا بفتوى فقيه، وما قتل فقيه إلا بفتوى فقيه آخر. وما أحرق كتاب إلا بفتوى فقيه أيضا، لكن لم يقتل فقيه برأي مفكر ولا أحرق كتاب برأي مفكر. السهروردي والحلاج وابن رشد وكتبهم شهداء على الفقهاء. الفقيه باب على الموت وما بعد الموت، والمفكر باب على الحياة. بعد كل ذلك هل يمكن أن يكون الفقيه صديقاً؟!!

نعود إلى سؤالنا: ما الفرق بين علاقتك بالفقيه وعلاقتك بأركون؟

الجواب علاقتي بالفقيه كانت علاقة ولاء، وعلاقتي بأركون علاقة صداقة. أركون يمكنك أن تمشي معه، والفقيه لا يمكنك أن تمشي إلا خلفه.