بيروت القديمة استقلَّت الترامواي ورحلت إلى اللاعودة
من فرن الشباك إلى ساحة الشهداء، ثم عين المريسة نحو شارع الحمراء، لا شيء يبدو كما كان عليه. “من زمان كانت أحلى”. هي العبارة الَّتي يتوحَّد عليها اللبنانيون، كباراً ممن عايشوها قبل الحرب الأهلية (1975-1990)، وشباناً ممن ولدوا بعد الحرب بسنين.
بين الأمس واليوم، الصورة كفيلة بإظهار وجه المدينة الَّذي غيّرت الحرب الأهلية معالمه، ولم تستطع السنين، ولا الأبنية الحديثة الشاهقة، تعويض خسارته.
بيروت، أو “سويسرا الشرق”، كما يحلو للبنانيين تسميتها، لم تستطع استعادة بريقها الستينيّ بعد سنوات طوال من الحرب والدمار. تمَّت هندسة مبانٍ شاهقة فيها، وجرى تكديس كميات هائلة من الحديد والباطون في وسطها وعلى أطرافها، ووُضعت خطط خبيثة لردم البحر، واستثمار الواجهة البحرية، والقضاء على الأملاك العامة والمساحات الخضراء.
يحنُّ اللبنانيون دوماً إلى “ساحة البرج” (ساحة الشهداء – وسط بيروت)، حيث كان المتسوقون يزدحمون في المحال التجارية وأمام البسطات. تحولت السوق الشعبية في المنطقة إلى سوق “برجوازي” للماركات العالمية الباهظة الثمن، فاتّجه المواطنون إلى أسواق تشبههم أكثر، وأخذوا يهجرون وسط العاصمة خطوةً خطوة.
لم يعد لسينما “ريفولي” وجود، وخسرت وسط الساحة أشجارها. تعطَّلت خدمات النقل العام، وهُمّش التجار الصغار، وباتوا يرزحون تحت وطأة أصحاب رؤوس الأموال الضخمة.
أصيبت المدينة ببريق الحداثة المصطنع، ولبست ثوب الحضارة بهوية جديدة. أُغلقت بعض المسارح، وتقلَّصت دور السينما. تعطَّلت المواصلات العامّة، وصدأت سكة الحديد. اختفى البائعون المتواضعون شيئاً فشيئاً لحساب كبار التجار والشركات الأجنبية. نما الاحتكار، وازدهرت الاقتصادات الأحادية الأقطاب. تقلَّص حجم الطبقة الوسطى، وتغيَّرت معالم المدينة.
لم تنل التطورات الاقتصادية والاستثمارات الأجنبية من الأسواق الشعبية فحسب، بل تمادت أيضًا لتطال واجهة المدينة البحريَّة. ما عاد بإمكانك التّمتّع برائحة البحر من شرفة فندق “فينيسيا”. تكاد لا تستطيع تذوّق ملوحة هوائه! ومن يدري، ربما لو استطاع المستثمرون الن~يل من عزيمة مالكي فندق “السان جورج” في الجهة المقابلة، للاستيلاء عليه، لكان الردم قد امتدّ أمتاراً إضافية، حتى يخيَّل إلينا أننا أمام مدينة جديدة فوق سطح البحر!
في المنطقة نفسها، وعلى بعد أمتار من “السان جورج”، كان “حي الزيتونة”. في هذه البقعة، كان الأطفال يلهون أيام الصّيف. “حي الزيتونة” الشّهير، بات اليوم يُعرف اليوم بالمقاهي الأجنبيَّة التي تتوجّه إلى أصحاب الدخل المرتفع، في مساحةٍ أصبح يُطلق عليها اسم “زيتونة باي”.
يستغرب البيروتي القديم مدينته التي ما عادت تشبهه. يراها اليوم تجتهد لنيل إعجاب السائح الأجنبي دون سكانها الأصليين. هي باردة ومتعجرفة في بعض الأحيان، ولكنَّ اللبناني يفتخر في كلّ الأحوال بسمعتها الحسنة بين الدول العربية. ما يطلبه فقط هو الشعور بالانتماء إليها.
هي عاصمته، والعاصمة واحدة أبداً. لا يمكن الحصول على غيرها في حال فقدانها!
__________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: بيروت القديمة استقلَّت الترامواي ورحلت إلى اللاعودة
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- شريط مار مخايل بالأسود والأبيض
- نهايات النّبع الكبير
- عن صورة تُكَوِّن نفسها في زوايا الذاكرة: “معتقل أنصار”
- حي الأميركان.. ذاكرة شفهيّة حيّة
- قصصٌ من “ذاك المكان”
- مسارح بيروت: من الذّهب إلى اللّحد
- من يملك ذاكرة الأرض؟
- حي النعيم.. حسراتٌ في نفوس كرام
- التأريخ بالصّور: الشّوير وبيروت مثالًا
- سند.. قصّة أرض بحرينية طيّبة
- المنامة مشي وسِيَر وصور ودكاكين
- سيهات …نورس يطلّ علينا من قلب القطيف
- “الدير” في صورة
- بيت جدي