حي الأميركان.. ذاكرة شفهيّة حيّة
تخاله أكبر من شارعين، وتخاله أيضًا مكتظًّا بالسكّان والمحال التجارية من كلِّ جنب. حيّ الأميركان قد يكون من أكثر الأحياء هدوءًا في الضّاحية الجنوبيَّة لبيروت.
يقع الحيّ بين منطقتي الحدت والشياح، وينقسم، رسميًا، بين البلديّتين. يتبع أحد شارعيه لمنطقة الحدت، والشارع الآخر يتبع لبلدية الشياح. هذا الاختلاف قد يكون الوحيد في هذا الحيّ، فأهل المنطقة هنا يعيشون بانسجام تام على تنوّع انتماءاتهم الدينيَّة والثقافيَّة والمجتمعيَّة.
تعود تسمية الحيّ إلى منتصف القرن الماضي، حين سكن موظّفو السفارة الأميركيّة في إحدى عماراته. كانت العقارات قليلة في هذه البقعة بالتّحديد. وفيه انتشرت بساتين الخضار والفاكهة سابقًا، “من هون للسّان تيريز”، يروي عدنان رضا، أحد أقدم سكّان الحي.
يعيش عدنان وزوجته في حي الأميركان منذ ثلاثة وعشرين عامًا. المبنى الذي يقطنان فيه هو أيضًا من أقدم المباني في المنطقة. يدلّنا عدنان على بناية حديثة تتألَّف من عشر طبقات وموقف في مقابل منزله. يقول واصفًا الأيام الغابرة: “كان ثمة بيت أرضي في هذا المكان، استخدمته جماعة الكتائب خلال الحرب الأهلية. كان فيه خطّ تماس، وهذه المباني لم تكن موجودة كلّها”. ينظر إلى المباني من حوله، وقد أظلم ما حولها من عمارات صغيرة ألغت مساحات خضراء مثمرة ضخمة، لتنهال بثقلها فوق منطقة البساتين.
الحرب مرّت من هنا!
معارك عديدة تمَّ خوضها من أرض الحيّ. كتائب القوات اللبنانية اتخذت من المنزل الأرضي (في آخر الشارع الأول من الحي) متراسًا تلقَّت فيه ضربات وقَصف، وألقت منه القنابل والرصاص والمدفعية و”الراجمات”.
بعد الحرب اللبنانية، عندما دخل أهالي المنطقة إليها، نفضوا عنها غبار الذكريات المهولة، فأُزيلت الدشم من المنزل الذي دُمّر، لتُبنى دونه عمارة بيضاء طويلة، ولدت في شققها ذكريات جديدة سعيدة.
آوى الحي آنذاك مهجّرين من الجبل، اتّخذوا منه ملجأً إبان الحرب، إلى أن أقام البطريرك مار نصر الله بطرس صفير “المصالحة” بين الأطراف المتنازعة، وعادوا على إثرها إلى ديارهم.
معظم المباني المتضررة التي شهدت على القصف المدفعي والرصاص الطائش ترمّمت بعد حين، حتى تكاد لا تميّزها عن أجدد المباني المجاورة، لولا إشارات السكّان القدامى إليها.
“الحيّ” بين الأمس واليوم
“كنا نشتري الملفوفة الكبيرة بمبلغ 500 ليرة. كانت كلّها لذيذة وطازجة”. عبارة أطلقتها ماري روز، زوجة عدنان، وهي تهمّ بإخبارنا عن بساتين من الأكيدنيا والليمون، بالكاد تستطيع أن تذكرها بعد أن تقلّب الحيّ القديم بهجوم من باطون وجرافات.
يؤكّد هذا الوصف الأستاذ أنطوان الشنتيري، مستشار رئيس بلدية الشياح، ويؤكّد أيضًا أنَّ الأعمال المعمارية وتوسُّع العقارات والأشغال قد ازدهرت بعد الحرب اللبنانية (1975-1990)، لتنال من المساحات الخضراء شيئًا فشيئًا، حتى زوالها.
أكثر من 1500 وحدة سكنيَّة تحتلّ المنطقة اليوم، منها مشاريع ضخمة، ومنها مبانٍ متواضعة، وأكثر من 6000 نسمة يسكنون البساتين القديمة في مبانٍ من الباطون تفرّق بينها شجرات يتيمة، وهم ينقسمون بين بلديتين.
أرشيف شبه معدوم!
في محاولةٍ للحصول على موادّ بصرية عن المنطقة، وبعد جهد في البحث في أرشيفٍ يبدو أنه مشرذم وغير منظّم، نسبةً إلى الصعوبة التي واجهتنا في الحصول على بيانات عن المنطقة قيد التحقيق، لم نستطع الوصول إلى صور قديمة لتبيان الاختلاف الذي شهده حي الأميركان ليتحوّل من بستان مثمر نضر إلى حيّ سكني مدني. لا وجود للمنطقة كما كانت في الماضي على الورق.
رغم تعاون الأستاذ إيلي منمنم، أمين سر مجلس بلدية الشياح، لم نستطع الكشف عن مواد تترجم حكايا سكان الحي أو تضعنا ضمن إطار يشبع خيالنا في محاولة رسمه المنطقة، كما كانت على هيئتها السابقة. وحدها روايات الأهالي هنا، والأخبار التي يتناقلها أطفال عن لسان كبار السن وهم يلهون أمام منازلهم، تستطيع أن تقدّم لنا المعلومات حول التحوّل الذي أصاب “حي الأميركان”.
أرشيف المنطقة هنا شبه معدوم. السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا؟
إنَّ الإهمال الذي يتعرّض له الأرشيف داخل المؤسَّسات أصبح موضوعًا عابرًا. من الصّعوبة أن يكترث له أحد، لكونه غالبًا ما يكون في آخر سلّم الأولويات داخل هيكلية المؤسَّسات من جهة، ونظرًا إلى الميزانية المخصّصة له من جهة أخرى. هذا أمر معلوم، لكن ما يزيد الطين بلّة هو الصّعوبة في الحصول على إذن يسمح لمصّور بالتجول في الشوارع والأزقّة والتقاط الصور بحُرّية بغرض إتمام بحثٍ أو تسليط الضوء على خبايا معينة أو حتى لحفظ ذاكرة المنطقة (أمر لم يتحقّق). يتمّ الاستحصال على الإذن من خلال بلدية الشيّاح، إضافةً إلى موافقة حزبية ذات سلطة في المنطقة.
أمر مؤسف ألا يكون معنا مواد نرفقها اليوم مع هذا المقال، وأمر محزن ألا نتمكّن من مشاهدة صورة حي الأميركان منذ أربعين أو خمسين عامًا. العزاء الوحيد الذي يواسينا، هو إمكانية الوصول إلى من سكن المنطقة يومها، وإلى من يملك من المعلومات ما يفرج عن همّ غياب الصورة والوثائق. أشخاص مثل عدنان رضا وماري روز.
ذاكرة معنويّة
نغادر حيّ الأميركان الهادئ، وصوت العصافير فوق رؤوسنا يدخل الآذان بكلِّ أناقة، كأنَّ الطيور أيضًا لها حكايا هنا. هنا أرض أسلافها، كان لها أعشاش بين أغصان الأشجار المثمرة، وكانت تقتات من ثمار البساتين التي أُزيلت عنوةً.
نترك حيّ الأميركان، ورائحة الخبز والكعك الطازج تترك فينا حنينًا إلى زمن بسيط ولّى ولن يعود، وذاكرة منطقة تذبُل كلّما مرّ عليها الزمن.
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: حي الأميركان.. ذاكرة شفهيّة حيّة
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- شريط مار مخايل بالأسود والأبيض
- نهايات النّبع الكبير
- عن صورة تُكَوِّن نفسها في زوايا الذاكرة: “معتقل أنصار”
- قصصٌ من “ذاك المكان”
- مسارح بيروت: من الذّهب إلى اللّحد
- من يملك ذاكرة الأرض؟
- بيروت القديمة استقلَّت الترامواي ورحلت إلى اللاعودة
- حي النعيم.. حسراتٌ في نفوس كرام
- التأريخ بالصّور: الشّوير وبيروت مثالًا
- سند.. قصّة أرض بحرينية طيّبة
- المنامة مشي وسِيَر وصور ودكاكين
- سيهات …نورس يطلّ علينا من قلب القطيف
- “الدير” في صورة
- بيت جدي