تشريعات الأرشيف العربي بين الفراغ القانوني والتأثير السياسي

تشريعات الأرشيف العربي بين الفراغ القانوني والتأثير السياسي

*باقر درويش

ارتبط تطور التشريعات القانونية الخاصة بمجال الأرشيف بتطور العلم ذاته؛ خصوصا بعد نظرية الأطوار الثلاثة للعالم الأمريكي تيودور شلانبرغ التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية. وهي من النظريات الأساسية المعتمدة في المرحلة الحديثة لإدارة الأرشيف، وهو الأمر الذي أدى إلى حدوث تحول في سن بعض القوانين. إلا أنّ اهتمام المشرع القانوني بالأرشيف كان قديما، ومن بين الأمثلة الشاهدة على ذلك هو المرسوم السابع “ميشيدور” الصادر في سنة 1794 بفرنسا، فمن المعروف أن لباريس تأثيرات على بعض دساتير الدول العربية التي كانت تحتلها.

ويجب أن لا نغفل هنا أن للتقاليد والخبرات القانونية والثقافة الإدارية والواقع الإجتماعي والسياسي دور في التأثير على طبيعة تشريعات الأرشيف التي سنتها الدول. ففي المجتمعات الديمقراطية نلحظ كيف أنّ الأرشيف له علاقة بأغراض؛ منها حسن تيسير شؤون الدولة، والبحث العلمي والفكري والذاكرة الجماعية؛ لذلك يتم تشكيل السلطة الأرشيفية الوطنية وفق نظام اداري بناءا على عدة نظريات ومبادئ، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأميركية حيث يتم الفصل بين إدارة الأرشيف الجاري والوسيط، وإدارة الأرشيف النهائي على سبيل المثال. بينما تجد في بعض المجتمعات غير الديمقراطية مثلا من يعدّ الوثائق أرشيفا عند انتفاء الحاجة لها، وهو الأمر الذي يتسبب بجعل إدارة شؤون الأرشيف في أسفل النظام السياسي للدولة وضمن أدنى الأولويات.

ومع أنّ الوعي الدستوري لعلم الأرشيف تزامن مع ولادة الدساتير الجديدة لبعض الدول العربية إلا أنّ المتابع يجد عدم صياغة قوانين متماسكة نتيجة للأزمات السياسية التي تشهدها تلك الدول. وعلى سبيل المثال؛ يلاحظ المتابع لواقع تشريعات الأرشيف الجزائري أنه لم تكن هنالك مراسيم تنفيذية، وأنّ المراسيم التي صدرت تناولت تشكيل هيئات أرشيفية مع تحديد اختصاصاتها، أو إنشاء المراكز الأرشيفية الوطنية المركزية أو الملحقة، أو المجلس الاستشاري، وكلها مراسيم لم تتطرق إلى تقنين الوظائف الأرشيفية. وهو الأمر الذي أثّر سلبا على الأرشيف الجاري والانتقالي والنهائي نتيجة للفراغ القانوني.

وقد صدر في تونس، قبل سقوط الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، قانونان من تشريعات الأرشيف، الأول هو قانون عدد 95 لسنة 1988، والثاني قانون أساسي عدد 63 لسنة 2004. أما الأوامر فقد بلغ مجموعها 17 أمرا ما بين 1979 حتى سنة 2004، وصدرت 7 قرارات من الوزير الأول مابين 1993 – 2001 تناولت عناوين متعددة، أبرزها تنظيم وتسيير الأرشيف الوطني. ومع أن النص القانوني في تشريعات الأرشيف التونسية تجيز الوصول للمعلومات لم يسمح بن علي بذلك؛ كما أنه لم يقم بادراج أرشيفات الرئاسة والوزارات في الأرشيف الوطني للتغطية على الفساد.

وبحسب الفصل 15 من القسم الثالث (الإطلاع على الأرشيف العام) لقانون 95 في تونس فإنّه لا يمكن الإطلاع على الأرشيف العام إلا بعد انقضاء 30 سنة. أما في ما يتعلق بالحياة الخاصة، فبعد ستين سنة، فيما قضايا المحاكم ووثائق التسجيلات والمعلومات الشخصية والطبية والمهنية والحالة المدنية فبعد 100 سنة.

وقد تسبب إصدار الرئيس التونسي السابق المنصف الرزوقي، في نهاية نوفمبر 2013 بفترة رئاسته، لمؤلفه تحت عنوان: “منظومة الدعاية تحت حكم ابن علي – الكتاب الأسود” بجدل واسع. إذ يتمحور مضمون الكتاب حول أرشيف الوثائق التي نجت من الإتلاف بعد الثورة التونسية، وعثر عليها في قصر قرطاج الرئاسي. وتكشف أسماء 376 إعلامي تونسي وأجنبي كانوا يشاركون بتلميع صورة بن علي. ولقد تخوّف بعض المراقبين من تأثير ذلك على عملية العدالة الانتقالية، بيد أنّ قيام المجلس الوطني التأسيسي بالمصادقة في ديسمبر 2015 على مشوع قانون العدالة الانتقالية؛ لتأسس بعدها هيئة الحقيقة والكرامة، لم ينهِ معركة الأرشيف من دائرة الصراع السياسي. فقد دخلت الهيئة مع الرئاسة التونسية في خلاف حول استخدام الأرشيف للانتصاف للضحايا؛ ولعلها من التجارب العربية النادرة في الانتقال الديمقراطي التي تؤدي فيها تشريعات الأرشيف دورا في التأثير على العملية السياسية.

أما في منظومة دول مجلس التعاون الخليجي، فبعد 33 سنة من صدور دستور 73 بالبحرين صدر القانون رقم 22 لسنة 2006 بشأن حماية حقوق المؤلف والحقوق المجاورة وتعديلاته، تلاه الثانون رقم 16 لسنة 2014 بشأن حماية معلومات ووثائق الدولة. وبعد ذلك، الأمر الملكي رقم 18 لسنة 2008 بانشاء “مركز عيسى الثقافي” المعدّل بالأمر الملكي رقم 32 لسنة 2008؛ ليأتي أمر إنشاء الأرشيف الوطني متأخرا في 2015 أي بعد 42 سنة من صدور دستور 73 و13 سنة من صدور دستور المنحة في سنة 2002، وبعد الدور السلبي الذي أدته وزارة الثقافة (هيئة الثقافة والآثار لاحقا).

ووفقا للأمر الملكي رقم 31 لسنة 2015  القاضي بإنشاء وتنظيم الأرشيف الوطني، فقد أشارت المادة الثانية من القانون على أنّه يتمّ استثناء الوثائق والمحفوظات الخاصة بالديوان الملكي وديوان ولي العهد وقوة دفاع البحرين والأمن العام والحرس الوطني وجهاز الأمن الوطني من مهام تجميع الوثائق العامة والإشراف على حفظها وأرشفتها وتنظيمها لتداولها للباحثين من قبل مركز “الأرشيف الوطني” الذي نص بإنشائه الأمر الملكي في مركز عيسى الثقافي. طبعا المقصود هنا تحديدا المعلومات التي لا ترغب الدولة بأن يعرفها الرأي العام، والتي تكشف واقع الفساد المؤسساتي للدولة. ولعل حادثة تقرير البندر الشهير تكفي بأن تكون شاهدا على ذلك.

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: تشريعات الأرشيف العربي بين الفراغ القانوني والتأثير السياسي

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو  1 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا:

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>