دور المشاع الإبداعي في إتاحة المعرفة

دور المشاع الإبداعي في إتاحة المعرفة

*غادة دمشق

لا تزال قضايا النشر في شبكة الإنترنت من أكبر التحديات التي تواجه العاملين في مجال حماية الملكية الفكرية في عصرنا الحالي. يجمع هؤلاء على أنَّ المعلومات والمعرفة ملك للجميع، ويجب أن تكون متاحةً لكلِّ المستفيدين، بهدف تطوير المجتمع وتنميته فكريًا وثقافيًا، ولكن هذه الحقيقة تصطدم بعقبة أساسية تتمثل بالملكية الفكرية، فحماية الإنتاج الفكري في الشبكة يواجه عقبات كثيرة تتأتى من صعوبة تحديد الموضوعات المنشورة وتوثيقها، فضلًا عن حمايتها، لأنّ تكنولوجيا المعلومات وفَّرت إمكانياتٍ هائلة للنسخ والإرسال والتعديل.

هذه الإشكاليَّة تفتح آفاقًا على عدة تساؤلات، فهل يجب تحرير التراث وإطلاق العنان لإبداع المستفيد وابتكاراته والتغاضي عن حقوق المؤلفين، أم علينا التقيد بالملكية الفكرية والحد من إبداع المجتمع وتطوره؟ وهل سيستطيع أصحاب الملكية الفكرية الصمود بوجه الإنترنت، وخصوصًا أنَّ المؤلف يفقد السيطرة على المعلومات بمجرّد طرحها في الشبكة؟ وهل يمكن فعلًا إيجاد حلّ يقضي بإتاحة المعرفة وحماية المؤلف في آنٍ؟ وما هو دور مؤسَّسات ذاكرة الوطن، من مكتبات ومؤسَّسات أرشيفية ومتاحف، في حماية الملكية الفكريَّة، وفي الوقت نفسه، العمل على إتاحة المعلومات للمستفيد؟

يتّجه العالم اليوم بشكل جديّ إلى تشريع قوانين تلائم الطبيعة الخاصة بالإنتاج المعرفي، أبرزها حماية الملكية الفكرية، وهي واحدة من أهم المهمات التي تسعى منظمة التجارة العالمية إلى تحقيقها وتعميمها. طبعًا، هذا الأمر ليس سهلًا، كما أنه لم يعد كافيًا نتيجة للتحدّيات التي طرحتها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، كما أنَّ الملكية الفكرية واحتكار الدول المتقدمة للمعرفة، بحسب بعض الباحثين، سيساهم في اتساع الهوة الرقمية والمعرفية بين العالم المتقدِّم والعالم النامي.

أحد الحلول التي طُرحت لإرضاء أصحاب الملكية الفكرية من جهة، وإتاحة المعرفة للمستفيدين من جهة أخرى، كان “المشاع الإبداعي” (Creative Common)، وهو منظّمة غير ربحية مقرّها في مدينة سان فرنسيسكو الأميركية، قدَّمت بديلًا لمفهوم حقوق النشر، وأصدرت رخصًا للملكية الفكرية تعرف باسم “رخص المشاع الإبداعي”.

من هنا، وبحسب المنظَّمة، جاءت رخص المشاع الإبداعي لحقوق التأليف والنشر وأدواتها لتحقّق توازنًا في النموذج التقليدي (كلّ الحقوق محفوظة)، الذي أنشأه قانون حقوق التأليف والنشر. هذه الرخص تمنح الجميع، بدءًا من الأفراد، مرورًا بالشركات الكبيرة، وصولًا إلى المؤسَّسات، أدوات بسيطة ونموذجية لتحديد صلاحيات حقوق التأليف والنشر في أعمالهم الإبداعيَّة.

ترى المنظّمة أنّ الدمج بين هذه الأدوات والمستخدمين يؤدي إلى تزايد المشاع الرقمي وانتشاره، وهو عبارة عن تجمّع للمحتوى يمكن نسخه، وإعادة توزيعه، وتعديله، وتغييره… كلّ ذلك في نطاق قانون حقوق التأليف والنشر.

هكذا، تساعد هذه الرخص على إدراج المصنّفات ضمن “الملك العام”، وتحدّد الحقوق التي تنازل عنها المؤلف لصالح المستفيد. وبحسب المنظَّمة، فإن الرخص تتألف من أربعة عناصر هي: النسبة، غير التجاري، منع الاشتقاق للعمل، الترخيص بالمثل.

  • النسبة: يتطلَّب هذا الشرط ذكر اسم صاحب المصنّف، وعنوان المصنّف، وتفاصيل المصدر المعقول ذكره (رمز: BY).
  • غير التجاري: يتطلَّب عدم استخدام المصنف لأغراض ربحيَّة (رمز: NC).
  • منع الاشتقاق للعمل: يتطلَّب عدم تعديل المصنّف أو استخدامه ضمن أيِّ مصنف آخر ينتج منه مصنّف محوّر (رمز: ND).
  • الترخيص بالمثل: يتطلَّب مشاركة المصنف، أو أيّ مصنف آخر استعمل به المصنف المرخّص، بالشروط نفسها التي رخّص بها المصنّف الأصلي (اختصار: SA).

ومن خلال هذه العناصر، يكون لدينا ستة خيارات من الرخص:

  1. النسبة (CC BY): تتيح للآخرين حرية إعادة التوزيع، التعديل، التغيير، والاشتقاق من العمل، سواء كان ذلك لأغراض تجارية أو غير تجارية، ما داموا ينسبون العمل الأصلي إلى صاحبه.
  2. النسبة – الترخيص بالمثل (CC BY-SA): تتيح هذه الرخصة للآخرين حريَّة إعادة التوزيع، التعديل، التغيير، والاشتقاق من العمل، سواء كان ذلك لأغراض تجارية أو غير تجارية، ما داموا ينسبون العمل الأصلي إلى صاحبه، وهم يرخّصون أعمالهم المشتقّة وفق الشّروط نفسها.
  3. بلا اشتقاق (CC BY-ND): تسمح هذه الرّخصة بإعادة التوزيع والاستخدام التجاري وغير التجاري، بشرط عدم التعديل ونَسب العمل إلى المؤلف.
  4. غير التجاري (CC BY-NC): تتيح هذه الرّخصة للآخرين حرية إعادة التوزيع، التعديل، التغيير، والاشتقاق من عمل المؤلف لأغراض غير تجارية. وبالرغم من أنّ الأعمال المشتقّة يجب أن تنسب العمل الأصلي إلى المؤلف، وأن تكون غير تجارية، فإنه لا يلزم ترخيصها بالشروط نفسها.
  5. غير التجاري – الترخيص بالمثل (CC BY-NC-SA): تتيح هذه الرخصة للآخرين التعديل والتحسين وبناء نسخ مشتقة من المصنَّف، ولكن لأغراض غير تجارية، بشرط نَسب العمل الأصلي إلى المؤلف، وترخيص الأعمال الجديدة بالرخصة نفسها.
  6. غير التجاري – بلا اشتقاق (CC BY-NC-ND): هذه الرخصة هي الأكثر قيودًا، إذ تتيح للآخرين تحميل أعمال المؤلف ومشاركتها مع الآخرين فقط، بشرط نَسب العمل الأصلي إلى المؤلف، ومن دون القيام بأي تعديل أو استخدام العمل لأغراض تجاريَّة.

ولكن ما هي علاقة المشاع الإبداعي بمؤسَّسات ذاكرة الوطن؟

يشرح مؤسّس المشاع الإبداعي مارتين فون هالر غرونبيكز (Groenbaeks Martin von Haller) هذه الفكرة بالإشارة إلى أنَّ قيمة الثقافة تقاس بعدد الأشخاص الَّذين يستفيدون منها. وفي رأيه، إنَّ مؤسَّسات ذاكرة الوطن تستهدف امتلاك أكبر كمية من المعرفة، وإتاحتها لأكبر عدد من المستفيدين، بهدف نشر أكبر كمٍّ منها، فالثقافة شيء حيّ، وهي تصبح أكثر حيويَّة عندما يتشاركها أفراد المجتمع.

كما أنّ مؤسَّسات ذاكرة الوطن لا تهدف إلى تسليط الضَّوء على الماضي فحسب، إنما تتطلَّع إلى المستقبل أيضًا، من خلال تحديد الأساسيات التي تستند عليها، من ثقافة وديمقراطية واقتصاد، لكلِّ نواحي المجتمع، فضلًا عن ماضينا وحاضرنا، يشرح غرونبيكز.

إذًا، على كلِّ هذه المؤسَّسات أن تنفتح على مفهوم أساسيّ، يتمثّل في تأمين طرق إتاحة مصادر المؤسَّسة للمستفيدين بأسهل الطرق وأسرعها. وفي الوقت نفسه، ينبغي أن تسعى إلى ضمان مشاركة المحتوى المتاح بحرية، وإغنائه من قبل المستفيدين، ومعالجته إذا استدعى الأمر، سواء كانوا مواطنين أو طلابًا أو علماء أو باحثين.

إنَّ المحتوى الَّذي تتمّ رقمنته هو محتوى متاح بطبيعة الحال للمستفيدين الذين يستطيعون الوصول إليه من خلال الشبكة. كما أنّ عملية الرقمنة والإنترنت ساعدا مؤسسات ذاكرة الوطن على تأمين الوصول إلى أكبر عدد من المصادر الموثوقة وإتاحتها لأكبر عدد من المستفيدين في أيّ مكان وأيّ زمانٍ.

ورغم ذلك، يبقى السؤال هنا: لماذا لا تقوم المؤسَّسات باغتنام الفرص في فتح الكنوز الرقمية الدفينة وجعلها متاحة للجميع؟

هذا الأمر يعود إلى أسبابٍ عدة، هي في معظمها أسباب ضعيفة، بحسب فون هالر غرونبيكز. إنّ معظم المحتويات لها ملكية فكرية وحقوق نشر. ومن الناحية القانونيَّة، لا يحقّ لهذه المؤسَّسات إتاحتها على الشبكة، ولا يزال صنّاع الثقافة يجهلون أن المشاركة والانفتاح يوازيان الأهداف العامة للمؤسَّسات الثقافية، كما أنهما يوفران مجالًا لتوليد الدّخل والادخار.

وفي عصرنا الحالي، يضيف فون هالر غرونبيكز، إنّ طرح الإنترنت أدوات جديدة لا يسمح لنا بتصفّح المحتوى الرقمي فحسب، إنما يسمح للمستفيد أيضًا بأن يغيّر، يضيف، يعدّل، ويحسّن المحتوى الرقمي. ومع مرور الوقت، باتت هذه الأدوات شيئًا عاديًا بالنسبة إلى الناس، فالمراهقون مثلًا قادرون اليوم على تعديل الصوت، الفيديو، الصورة، والنصوص، كامتداد لعقولهم، إذ أصبح من الطبيعي تعديل المحتوى الثقافي، وبالتالي يمكن التعبير عن الذات سياسيًا وفنيًا، بطرق مبدعة، “فإعادة الدمج هي طبيعة الثقافة”.

إنّ يوتيوب، فليكر، ويكيبيديا، والصفحات الشخصية على الشبكة، هي مجموعة أدلّة على “إعادة دمج الثقافة”، التي تعبّر عن حاجة الإنسان إلى استكمال بناء ما أنشأه الآخرون. وفي هذا السياق، يمكننا القول إنَّ إعادة الدمج هي عملية تعبّر عن أساس الطبيعة الاجتماعية للثقافة.

في الماضي، كان لإعادة الدمج قيود أساسها الملكية الفكرية. لذلك، فإنَّ مؤسَّسات ذاكرة الوطن تواجه تحدّيات لكي تستطيع إتاحة المحتوى للجميع، من أجل مشاركته وإعادة استخدامه، وبالتالي يجب على أصحاب الملكية الفكرية وحقوق النشر منح الإذن بالنشر في الدرجة الأولى، لتعطي المؤسَّسات بدورها الإذن في النشر، إذا كانت تمتلك حقوق النشر.

وهنا، يمكن أن نخلص إلى أنَّ المشكلة الأساسيَّة التي تقف عقبة أمام “الثقافة الحرة” هي الملكية الفكرية، التي كان أول من دعا إلى إلغائها، فضلًا عن إلغاء حقوق النشر، هو المبرمج ريتشارد ستولمان (Richard Stallman)، وبخاصة أنَّ المعلومات أصبحت متوافرة، لا بل منتشرة على الشبكة.

ورغم ذلك، فإن من الطّبيعي أن نجد في المقابل مؤسَّسات تدفع مبالغ طائلة لتحمي معلوماتها، وهو ما كشفه أستاذ القانون في الولايات المتحدة الأميركية، لورنس لسيغ (Lawrence Lessig)، الذي اقترح القيام بعملية “الاختراق” (Hack)، ليس بالمفهوم غير القانوني، بل كحلٍّ يرضي الطرفين. والحلّ هو إعطاء المؤلف فرصة من أجل إتاحة إنتاجه ومشاركته، ليس من خلال إجباره على تغيير قانون الملكية الفكرية، بل من خلال فكرة المشاع الإبداعي.

وبذلك، كان المشاع الإبداعي مجموعة أدوات تسمح للمؤلف بأن يشارك معلوماته مع الآخرين من خلال الإنترنت. وبناءً على قانون الملكية الفكرية، يمتلك المؤلّف الحق في تحديد استخدام عمله، فيما تحدّد الرخصة شروط كيفية استخدام هذا العمل، لمراعاة حقوق النشر والملكية الفكرية، وفي الوقت نفسه إتاحة المعرفة للجميع.

يتساءل المستشار الرقمي بيتر ليث (Peter Leth) عمّا سيحصل عندما نجعل تراثنا الثقافي متاحًا للجميع من خلال رخصة، وعما سيحصل ما لم نفعل ذلك، ويرى أنَّ الإتاحة ليست فقط في عرض المحتوى في الموقع فقط، بل إنَّ عملية التعلم تعتمد على عملية الوصول إلى المعرفة، فالتعلّم هو عملية تراكم، تتم من خلال عملية النسخ، إعادة الإنتاج، التطوير، إعادة الدمج، وإعادة الاستخدام. ومن السَّهل أن تتم عملية المشاركة في الفضاء الرقمي، لذلك سهَّلت رخصة المشاع الإبداعي عملية التعمّق في المعلومات.

ويسأل ليث: إذا لم يكن كلّ شيء متاحًا، من سيعرّفنا بالموارد غير المتاحة؟

إنَّ رخصة المشاع الإبداعيّ ساعدت على جعل العالم منفتحًا على بعضه البعض، من خلال جعل كلّ شيء مرئيًا أمام الآخرين. ومن أجل نشر الثقافة وتطوير المجتمعات، علينا أن نسعى إلى جعل الموارد متاحة، ذلك أنها تؤدي إلى مشاركة المعرفة، التي تؤدي بدورها إلى تطوير عملية التعلم لدى الأفراد، وبالتالي تطوّر شخصيَّتهم في المستقبل.

____________________

المراجع:
1- انظر:
Creative Commons. Retrieved from http://cutt.us/CM6VQ.
     2- انظر:
Von Haller Gronbaek, Martin (2017). GLAMourous Remix: Openness and Sharing for Cultural Institutions.
Retrieved from http://cutt.us/uEqlc/
     3- انظر:
Kapsalis, Effie (2016). The Impact of Open Access on Galleries, Libraries, Museums. & Archives

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: دور المشاع الإبداعي في إتاحة المعرفة

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو  8 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>