الأرشيف الوطنيّ الأميركيّ حارس لتاريخ شعبٍ وبلد

الأرشيف الوطنيّ الأميركيّ حارس لتاريخ شعبٍ وبلد

*آلاء هاشم 

    يكاد لا يخلو منزلٌ في الولايات المتحدة الأميركية من سجلّ عائليٍّ قديم، قد يكون سجلًا عسكريًا من أحد الأقارب الَّذين شاركوا في إحدى الحروب العالميّة، أو صورًا للأجداد القدامى في اليوم الَّذي أصبحوا فيه مواطنين أميركيين. وربما يكون الحساب المالي الأول الذي دُفع لقاء الحصول على مسكن.

    تلك السّجلات وغيرها من الوثائق الَّتي تحفظ تاريخ بلدٍ وشعبٍ، تقع مسؤولية حفظها وتنظيمها وإتاحتها للناس على الأرشيف، فالأرشيف الوطني أو المحفوظات هو المكان الذي يقصده الناس للحصول على الوثائق بمختلف أنواعها: صور، رسائل، مذكرات، نصوص، وغيرها من المصادر الأولية.

   من هنا، علينا أن ندرك جليًّا دور إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية (NARA) في الولايات المتحدة الأميركية. ينظر الكثيرون في هذا البلد إلى الأرشيف الوطني على أنه بمثابة الحارس الذي يصون وثائق الحرية ويحفظها، وهي: إعلان الاستقلال، والدستور، ومجموعة الحقوق. ولكن الأرشيف الوطني يحفظ، إضافةً إلى ذلك، وثائق عديدة، منها سجلّات المواطنين الشجعان الذين قاتلوا لحماية الوطن، وسجلات تجنيس المهاجرين الذين قدموا إلى أميركا، والمراسلات الرسمية بين أميركا ودول أخرى، وغيرها.

    وفي ظلّ نظام ديمقراطي، كالنظام الذي تقوم الولايات المتحدة الأميركية عليه، فإنّ الوثائق ملك للشَّعب، وهي تضمن الشفافية بين المواطن والدولة. ولذلك، ولأكثر من سبعة عقود، حفظت إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية الأميركية، الوثائق الأميركية، وأتاحت الوصول إليها، فالوثائق تساعد الأشخاص على معرفة حقوقهم، وتوثّق عمل المسؤولين المتعلّق بخدمة الشعب، لمساءلتهم لاحقًا، وتحفظ تاريخ الشعب والدولة بكامله. ولذا، باختصار، تتيح إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية الأميركية الوصول إلى الوثائق الأساسية فيما يتعلّق بحقوق المواطنين وممارسات السّلطة.

    لمحة تاريخيّة

   برزت التوعية بأهمية الحفاظ على الوثائق الوطنية مع توماس جيفرسون، وهو أحد الآباء المؤسّسين للولايات المتحدة الأميركية، وثالث رئيس لها، إذ شدّد في العام 1791 على ضرورة حفظ السّجلات الوطنيّة، ولكن الأمر لم يتبلور حتى العام 1930، حين شهد المؤرخون وغيرهم من المعنيين بأمر حفظ الوثائق، تحقيق مبتغاهم في مسألة حفظ الأرشيف في مكان معيَّن.

   أُعطِيَتْ مهمَّة تصميم مبنى إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية للمهندس المعماري جون بوب، الَّذي دأب على تصميم مبنى للأرشيف، يكون على وئام مع مبنى البيت الأبيض، ونصب لنكولن التذكاري، على أن يضمن في الوقت نفسه حفظ السّجلات داخله وحمايتها من المخاطر كافّة.

    في العام 1933، وضع الرئيس هربرت هوفر حجر الزاوية للمبنى. وفي العام 1936، بدأ الموظفون العمل داخله. وبعد سنوات من التخطيط، وفي العام 1993، اكتمل العمل على مبنى الأرشيف الجديد.

     ما هي إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية؟

    إنّ إدارة الأرشيف والوثائق الوطنيّة هي مؤسَّسة مستقلّة تابعة لحكومة الولايات المتحدة الأميركية، مسؤولة عن حفظ وثائق الحكومة التاريخية وتوثيقها، وتسهيل الوصول العمومي إليها، والحفاظ على نسخ من قرارات الكونغرس والمراسيم الرئاسية والتعليمات الفدرالية ونشرها.

      كما أنها مجموع الوثائق التي عملت حكومة الولايات المتحدة الأميركية على جمعها، والتي ترصد أهم الأحداث في التاريخ الأميركي. إن إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية (nara) هي المؤسسة الوطنية التي تحفظ الوثائق الوطنية وتحميها، بغية جعلها متاحة للجمهور.

    تحوي هذه الإدارة وثائق ناتجة من عمل السّلطات التّشريعية والتنفيذية والقضائية، وتوثّق مختلف الأحداث والمراسلات والمذكرات في التاريخ الأميركي، وتضمّ السجلات الشخصية للمواطنين، فالمواطن يملك شهادة الميلاد، بينما تملك إدارة الأرشيف الوطني شهادة الميلاد الأصلية الموقّعة، وتتيح للجمهور إمكانية الاطلاع على الوثائق والاستفادة منها، من خلال الموقع الإلكتروني التالي: https://www.archives.gov/.

     الوثائق في إدارة الأرشيف والوثائق الوطنيّة

    هل احتفظْتَ يومًا بالرسائل والبطاقات التي تتلقاها من الأصدقاء والأقارب؟ هل يحتفظ أهلك بألبومات صور أو فيديو عن حفلات عيد ميلادك؟ أين تحتفظ بشهادة ميلادك؟

   كلّ هذه الوثائق تحكي قصَّتك، وهي تساعدك على تذكّر الماضي، وتعمل كدليل للأجيال القادمة للاطّلاع على حالك اليوم.

       الآن فكّر في الوثائق الموجودة في دولة كالولايات المتحدة الأميركية: ما يقارب 10 مليارات صفحة من الوثائق الورقية، 12 مليون وثيقة من الخرائط والرسوم البيانية والرسومات المعمارية والهندسية، 25 مليون وثيقة من الصور الفوتوغرافية والرسومات، 24 مليون صورة جوية، 300000 بكرة من الأفلام السينمائية، 400000 فيديو وتسجيل صوتية، 133 تيرابايت من السّجلات الرقميّة. يتمّ الاحتفاظ بهذه الوثائق، لكونها مهمّة لعمل الحكومة، وهي تمتلك قيمة بحثيَّة تاريخية، نظرًا إلى كونها تقدّم معلومات قيّمة للمواطنين الأميركيين.

     إضافةً إلى ما ذُكر، على إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية تنظيم التزايد الكبير في الوثائق الحكومية الرقمية وتدبيره. ولذلك، فإنّ أرشيف السجلات الإلكترونية هو الاستجابة الاستراتيجية لتحديات الحفظ والإدارة وتوفير الوصول إلى الوثائق الرقمية.

      ومن الوثائق المهمَّة الَّتي تحويها إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية:

1789,1774: دستور الولايات المتحدة الأميركية.

1776: إعلان الاستقلال الأميركيّ.

1803: قائمة الاستكشاف والتجارة للرحالة ميريويذر لويس، استعدادًا لحملة لويس وكلارك.

1803: معاهدة شراء لويزيانا من فرنسا.

1862: قانون تحرير مقاطعة كولومبيا.

1863: إعلان التحرير.

1865: التعديل الثالث عشر على الدستور الأميركي المتعلّق بإلغاء الرقّ.

1868: معاهدة شراء ألاسكا من روسيا.

1880: براءة اختراع المصباح الكهربائي للمخترع توماس إديسون.

1917: برقيّة زيمرمان الَّتي بعثت من وزارة الخارجية الألمانية إلى السفارة الألمانية في المكسيك، لتطلب من الأخيرة الدخول في تحالف مع ألمانيا ضدّ الولايات المتحدة، ولكن تم اعتراضها من قبل المملكة المتحدة الّتي نقلتها إلى الولايات المتحدة، حيث أدت إلى دخولها في حرب مع ألمانيا.

1919: التّعديل على دستور الولايات المتحدة لإعطاء حقّ التّصويت للنساء.

1935: قانون الضَّمان الاجتماعيّ.

1941: خطاب يوم العار من قبل فرانكلين روزفلت، بعد الهجوم على بيرل هاربر وهي غارة جوية مباغتة نفذتها البحرية الإمبراطورية اليابانية في 7 ديسمبر 1941 على الأسطول الأمريكي القابع في المحيط الهادئ في قاعدته البحرية في ميناء بيرل هاربر بجزر هاواي قبل إعلان الحرب عليها من قبل الكونغرس الأميركي.

1955:  قرار المحكمة العليا في قضية براون ضدّ مجلس التعليم، وهو قرار لوضع حدٍّ للعزل العنصري في المدارس.

     دورة حياة الوثائق

   في كلّ يوم، تُنتج المؤسَّسات الحكوميَّة وثائق مهمَّة، على سبيل المثال: توقيع الرئيس على أمر تنفيذي، نشر وزارة التربية والتعليم موردًا تعليميًا جديدًا، جمع البحرية الأميركية معلومات جديدة…

   لسنوات عديدة، كانت الوثائق تُنتج ورقيًا، وتحفظ في ملفات في داخل صناديق. أمّا حاليًا، فإنّ المؤسَّسات الحكومية على امتداد الولايات المتحدة الأميركية تنتج وثائق إلكترونية بمعدل كبير. ولمواجهة هذا التحدي، تعمل إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية على إيجاد طرق جديدة لإدارة هذه الوثائق والحفاظ عليها.

    ولحماية الوثائق الورقية من التلف، تقوم إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية بحفظها في ملفات خالية من الحمض، داخل صناديق خالية منه أيضًا، وذلك في الأماكن المظلمة، في درجة حرارة ورطوبة ثابتة.

    الموثِّقون في إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية

     يعمل في إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية نحو 3000 موظف في 36 مرفقًا تابعًا للإدارة، موزّعًا على الولايات المتحدة الأميركية. ويساهم كلّ موظّف من خلال تخصّصه وخبرته في تطوير العمل.

    يحافظ الموظّفون في إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية على سجلات الحكومة الأميركية، ويجعلونها متاحة للعامة، ويتم تدريبهم على الحفاظ على الوثائق الأصلية ومساعدة العامة في الحصول عليها. ويعمل الموثقون على الوثائق الورقية، الصور، الخرائط، الأفلام وغيرها.

     يمتلك الموثقون خبرة واسعة ومعرفة عميقة بالسجلات، ويشاركون في العديد من مراحل حياة الوثيقة، إن لم يكن في كلّ مراحلها. وإن أبحاثهم وتحليلاتهم الواسعة هي التي تساعد في جعل الوثيقة متاحة للعامة.

    ويترتَّبُ الموثقون على الشَّكل الآتي:

1 –  أمين المحفوظات: وهو المسؤول الأوَّل. يتم تعيينه من قِبل رئيس الولايات المتحدة الأميركية.

2 – المتخصّصون: يعملون على مشاريع معيّنة، من خلال وصف مجموعة من الوثائق والحفاظ عليها، كما أنهم يعملون مباشرة مع الجمهور، عندما تُطلب وثائق ضمن تخصّصهم.

3- الفنيون: يعمل الفنيون في المخازن، وهي غرف واسعة تحتوي صناديق من الوثائق. كما أنهم يعملون في الترميم، بغية تنظيف الوثائق القديمة، ولا سيما الوثائق الأكثر هشاشة، وإصلاحها والحفاظ عليها.

    تتنوّع الأعمال المتعلّقة بالوثائق وفق التالي:

1 – الترميم: يقضي المتخصِّصون الَّذين يحفظون المستندات والصور وغيرها من الوثائق التاريخية، ساعات طويلة من العمل البطيء والدقيق في تنظيف الوثائق الهشّة من المواد المتلِفة وإصلاحها. ويكون الموظّفون في قسم الترميم على دراية بالمواد الكيميائية والأدوات والأساليب المستخدمة أثناء هذه العملية.

2 – إدارة السّجلات أو الوثائق: يعمل المتخصِّصون مع الجهات الحكومية، مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)،  وكالة الطيران والفضاء الأميركية (NASA)، والجيش الأميركي، للتأكد من أنهم ينتجون الوثائق التي تعكس الأعمال التي يقومون بها. كما تقوم إدارة السجلات بالتأكد من أن المؤسَّسات الحكومية الأرشيفية في الولايات المتحدة الأميركية تعمل بشكل صحيح في تحزين الوثائق التي تجلبها إلى إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية والاهتمام بها.

3 – المحاسبة، التّصوير، الهندسة، التحرير، وغيرها من الوظائف في إدارة الأرشيف والوثائق الوطنيّة. بعد أن أصبحت الوثائق الإلكترونيّة جزءًا من محتويات إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية، دخل إلى الإدارة وظائف جديدة، وهي: الحفظ الرقمي، التخصّص في عالم الكمبيوتر، وصيانة الأدوات البصرية وغيرها.

    بعض الموظّفين في إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية يقضون سنوات طويلة في الدراسة، تمهيدًا لعملهم في الأرشيف الوطنيّ، في حين أنّ الآخرين يكتسبون الخبرة خلال العمل. تجدر الإشارة إلى أنّ أكثر من 20% من الموظّفين يمتلكون درجات علمية متقدّمة، كما يمتلك العديد منهم خبرات شخصية واحترافيَّة في التاريخ والعمل الحكومي.

    المجموعة الأخرى، وهي الأكثر أهمية في إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية، وهي فئة المتطوّعون، فحبّ التاريخ الأميركي والولايات المتحدة الأميركية يشجّع مئات الناس على قضاء أوقاتهم في العمل في الأرشيف الوطني.

       الخطّة الاستراتيجيّة لإدارة الأرشيف والوثائق الوطنيّة

      تضع إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية خطة استراتيجية كلّ 4 سنوات، تُحدّد الأهداف للسنوات المقبلة، والأساليب التي ستُستخدم لتحقيق هذه الأهداف، والمبادرات التي ستقيّم التقدّم.

       مبنى إدارة الأرشيف

     يقع مبنى إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية في واشنطن. يُستقبَل الزائرون في هذا المبنى لتبدأ رحلتهم في مسرح ويليام مكغوين. وهناك يتم عرض فيلم يسلّط الضّوء على دور الأرشيف الوطني في حفظ الوثائق الوطنية، طوال اليوم، كما أنَّ هذا المسرح مكان لعرض الأفلام الوثائقية والمحاضرات التثقيفية وغيرها.

     بعد الخروج من مسرح مكغوين، بإمكان الزوار الاستمتاع بغرف عرض الوثائق، التي تمنح الزوار الإحساس بالرجوع بالزمن، ذلك أنهم يتواجدون في مكان يحوي الخزائن المحصنة والوثائق القديمة والأساسية، لمنعها من التلف. وعند دخول الزوار، لا يتم إعطاؤهم فرصة للاطلاع على الرسائل والخرائط والأفلام المشوقة والمثيرة للاهتمام التي تقدّم لهم لمحة عن تاريخ الوطن فحسب، بل إنهم يتمتعون بفرصة القيام باستكشافاتهم الشخصية حول الأخبار المسجلة في الوثائق.

     يعدّ مركز بوينغ التعليمي مقرًا لبرامج التعليم الوطنية أو القومية للمتحف الوطني للأرشيف الوطني. وتتيح غرفة المصادر أو المراجع الموجودة في المركز للمعلمين والتلاميذ والأهالي الاطلاع على الوثائق بشكل مفصّل والتمعّن فيها. وفي مختبر التعليم، بإمكان التلاميذ من مختلف المدارس أخذ مواعيد للاطلاع على المصادر الأولية المتعلقة بالدستور الأميركي لأبحاثهم.

    وأهمّ ما في زيارة متحف الأرشيف الوطنيّ، وقفة عند البناء الدائري لوثائق الحرية، حيث يتم عرض الوثائق المؤسِّسة لأميركا،وهي وثائق:إعلان الاستقلال والدستور ووثيقة الحقوق المعروفة جميعها، بوثائق الحرية، وهي أول ما تم حفظه في الأرشيف الوطني في العام 1952.

    معرض وثائق الحرية، أي الوثائق المؤسّسة، يستعين بوثائق تاريخية من الأرشيف الوطني للإجابة على سؤالين أساسيين: كيف أُنتِجَت؟ وما أهميتها؟

   يحوي مبنى الأرشيف الوطني الكثير من المجسمات والنقوش الزخرفية. وعلى إحدى المجسمات نُحتت هذه الكلمات من مسرحيّة “العاصفة” لشكسبير: “ما مضى هو في المقدّمة”. وبالتّالي، وبكلّ تأكيد، لم يعد هناك سبب أفضل من ذلك لحفظ المواد الوثائقيّة للتجربة الأميركيّة.

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: الأرشيف الوطنيّ الأميركيّ حارس لتاريخ شعبٍ وبلد

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو 4 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>