كيف تُصان الذاكرة من الإلغاء المتعمد؟

مقاومة الإلغاء:

كيف تُصان الذاكرة من الإلغاء المتعمد؟ عن العبودية في جزر القمر

ما الذي يحفظ الذاكرة؟ ما الذي يمنعها من أن تركن إلى زوايا النسيان؟ ما الذي يدفعها إلى الثورة على جدران السجون التي تُفرَض عليها وتُحَجّم دورها لتكاد تلغيها، وتمحوها من الوجود؟ وكيف تصونها الشّعوب من كل محاولات إلغائها وإبادتها؟

تمتد الذاكرة لتشمل دائرة كبيرة من الموضوعات، غير أن بعضها يستعصي عليها، ويستوجب البحث عنه إرادة لا تتزعزع، وجهودًا لا تلين.
من بين هذه الموضوعات، اختار الباحث «سيتي يحيى» أن يعالج موضوع العبودية، وهو موضوع حاول الكثيرون التكتم عليه، فتحدثوا طويلًا عن العبودية في منطقة المحيط الأطلسي، غير أنهم غضوا أبصارهم ووثائقهم عنها في جزر القمر، ووقف عدد من الباحثين والمثقفين، في وجه هذا التّهميش، من بينهم سيتي يحيى، الذي تطرق إلى العبودية في جزر القمر من خلال الاعتماد على التراث الشفهي .

«عبودية» مغيبة من الذاكرة الجماعية
«عندما نتناول موضوع العبودية في جزر القمر، نستنتج، فيما يتجاوز النفي والإنكار، عدم معرفة الناس بها»، هكذا ابتدأ يحيى موضوعه، مشيرًا إلى أن العبودية التي، لطالما تم ذكرها في الأدب والإعلام والسينما، هي تلك في منطقة الأطلسي بشكل عام، فيما هُمِّشت العبودية في جزر القمر.
من هنا، انطلق يحيى ليتناول «العبودية في جزر القمر» على وجه الخصوص، وليعيدها إلى الواجهة الأمامية للذاكرة. وهو يقر أن «الحديث عنها [العبودية في جزر القمر] ليس أمرًا سهلًا»، إذ أن «الموضوع هو من بين الأمور التي لا يُفتَرض بالنّاس التكلم عنها»، و»من المخزي والمعيب أن يعتقد الإنسان أن أجداده كانوا من العبيد».
ويذهب يحيى إلى القول إنه «لمن المدهش أنه حين نذكر العبودية في جزيرة مايوت، فإن الموقف العام يتمثل في نفي وجودها: «لم يكن هناك عبودية في مايوت»»، بالفعل، كان هذا الموقف الرسمي لمسؤول سياسي تجاه معرض للأرشيف في مايوت، تحت عنوان: العبودية في المحيط الهندي، منذ القدم حتى إلغائها، الذي تم تقديمه للجمهور في 10 فبراير/شباط 2010. ويضيف يحيى: «للأسف، لم يكن الوحيد الذي يفكر بهذه الطريقة».
الدافع وراء ذلك؟. سياسي بالطبع: من خلال «لم يكن هناك عبودية في مايوت»، كان المراد القول إن «فرنسا لم تمارس الاستعباد في مايوت».

مقاومة التهميش
شهدت جزر القمر، ومن بينها مايوت، الرق بمختلف أنواعه، من الخدمة في المنازل إلى الزراعة والعمل في الحقول، وحتى الاستعباد الجنسي، إذ يشير تقرير للقائد الأول في جزيرة مايوت، يعود إلى العام 1843، وهو القائد باسو Passot، إلى أنه منذ «وصول سفينة الحرب، أرسل الزعماء الرئيسيون عبيدهم إلى مختلف أقسام الجزيرة، وأخذ كل منهم قطعة الأرض التي وجدها الأفضل بالنسبة له». أما فيما يتعلق بالاستعباد الجنسي، فقد وثقته قصص السفر إلى جزر الكومور، واللغات المستخدمة فيها، التي تحوي مصطلحات معينة للإشارة إلى عشيقات السيد.
وتروي قصة في مطلع القرن التاسع عشر أن مسافرًا ورفيق غرقت سفينتهما في موهيلي، فتم بيعهما كعبدين إلى ثري عربي اسمه عثمان، اصطحبهما إلى منزله، وأدخلهما إلى حريمه، حيث توجد نساء لم يغادرن هذا المكان المغلق أبدًا.

حضور العبودية في الذاكرة المعاصرة
حتى لو كانت العبودية موضوعًا يلفه الغموض، يجد يحيى أن دراستها في أرخبيل جزر القمر أمر ممكن من خلال اللغة، التي تتضمن عددًا من المصطلحات تعود إلى عالم الاستعباد، فيقول إن «اللغة حاضرة لتذكرنا بما نرفض استحضاره».
ويشير إلى أن بعض الأشخاص يوافقون نوعًا ما على التكلم عن هذا الماضي، الذي لا يشعرهم كثيرًا بالفخر، فيقول إنه، من خلال إحدى الشهادات على سبيل المثال، يمكننا أن نعرف أنه كان هناك مركز لإيداع العبيد في بانديرلي، في الجنوب الشرقي للمايوت. ويكمل الراوي قائلًا: «زعيم بانديرلي، كان يذهب لإحضار العبيد من أفريقيا، ويصحبهم إلى منزله. ومن كان يحتاج عبدًا كان يأتي إليه. لقد كان مالكًا كبيرًا».
شاهد آخر، كان بحارًا قديمًا، يروي أن العبيد كانوا يزرعون الحقول، وأن السّلطان «[رامانيتاكا] كان يجعلهم يعملون كالحيوانات».
وللتوثيق أكثر، أورد يحيى في دراسته، بعض التعريفات التي حصل عليها من خلال عمل فيلو موارابو، وهو رجل كان يهتم بالتاريخ المحلي.

خرق المحظور
لفعل ذلك، يقول يحيى إنه يجب نقل النقاش بشأن العبودية من الدوائر المغلقة إلى العلن. فالتاريخ المحلي مهمش في المدارس. وفي العام 1995، عند نشر الكتاب الأول للتاريخ، المخصص لطلاب المرحلة الابتدائية، في جزر مايوت، تجلت أهمية موضوع العبودية بتغييبه من بين الموضوعات الواردة فيه، وتكرر الأمر لاحقًا في العام 2010 عند نشر كتاب آخر، إذ تم فقط ذكر العبودية في المحيط الأطلسي.
والمرة الأولى التي استُحضِر الموضوع فيها كانت منذ فترة وجيزة، حين تخطى يوم 27 أبريل/نيسان مجرد كونه يوم إجازة، واهتمت به الصحافة المحلية لأول مرة في العام 1989، غير أن إحياءه بفعاليات مختلفة بدأ فعليًا في العام 1994.

إجراءات الأرشيف الرسمي في جزر القمر
يقول يحيى إن خطوات قسم الأرشيف الرسمي في جزر القمر كانت تصب في إطار الاطلاع بشكل أفضل على تاريخ العبودية في المنطقة. ومن أجل ذلك، نُظِم معرض عن إلغاء العبودية في الذكرى الـ 150 لإلغائها، في العام 1995.

بالإضافة إلى ذلك، تم عرض مجموعة من المراسلات بمناسبة اليوم العالمي للتراث، وكانت عن إلغاء العبودية، والمتاجرة غير الشرعية بالعبيد.
ويضيف في الدراسة أنه مؤخرًا، أي في العام 2010، نُظِّم معرض آخر، تطرق إلى ممارسة تجارة الرقيق والاستعباد في المحيط الهندي، وأُرفِقَت بملف تربوي مختص عن ذاكرة الاستعباد.
ويضيف يحيى في ذلك إن هذه المعارض قُدّمت أساسًا للمدارس والمؤسسات التربوية، غير أنها جذبت انتباه المكتبات العامة، وبعض الجمعيات، الأمر الذي سمح لها بالوصول إلى أكبر عدد ممكن من الأشخاص. بالإضافة إلى ذلك، قُدِّمت هذه المعارض في أطر ثقافية في المنطقة (مثل مدغشقر وغيرها من جزر الأرخبيل).

عمل قسم الأرشيف المحلي بخصوص قضية العبودية لاقى ردة فعل متفاوتة من قبل الجمهور. بعضه ذهب إلى النفي البسيط للأمر، وآخرون تحمسوا لكون مثل هذا الموضوع يثار أيضًا بشكل علني. أضف إلى ذلك، وجود عدد كبير من المشككين بصحة الطروحات التي تضمنتها النقاشات.

والنتيجة…
برأي يحيى، سيتمكن هذا العمل من تأكيد صحة بعض الطروحات التاريخية بشأن تاريخ الجزيرة. والمثال الأبرز على ذلك هو قصة بكري كوسو، أحد الملازمين في جيش السلطان أدريانت ستولي الذي تخلى عن مايوت لصالح فرنسا في العام 1841. وفي تقرير لجنة تحرير العبيد، تمت الإشارة إلى أنه كان يملك 23 عبدًا. وهو من بين الأشخاص الذين كانت الحكومة الفرنسية تخصص لهم مبلغًا سنويًا. غير أنه خلال السيطرة الفرنسية، وجدت مجموعة ساكالافا التي كان يشكل جزءًا منها، والتي كانت تتحكم بالسلطة، أنها أصبحت مساوية لبقية السكان، «فكان يرى، يومًا بعد يوم، اضمحلال النفوذ الذي كان يمتلكه سابقًا في البلاد».
وفي العام 1856، ترأس ثورة الأشخاص الذين يحتجون على التنظيم الجديد للعمل في المستعمرة. واستطاع استغلال حقد الموزامبيقيين، فاستخدمهم كسلاح لمحاربة أولئك الذين جردوه من السلطة، غير أنه، في الذاكرة الجماعية، يتم إبرازه كمدافع عن المظلومين. في الواقع، حُكِم عليه بالإعدام ونُفّذ الحكم في الساحة العامة في دزاووزدي، ومنذ ذلك الحين، تركزت صورته كشهيد في الأذهان.

خلاصة
تواجه الأعمال التي يجريها قسم الأرشيف في مايوت مواجهة فكرية شديدة جدًا، لا سيما تلك المتعلقة بذاكرة العبودية. ويتجلى هذا الرفض أولًا برفض مقاربة الموضوع، وأيضًا بعملية تشويه للحقيقة التاريخية، ويتفاوت مدى إدراك عملية التشويه والتضليل هذه.

في ذلك، يخلص يحيى إلى القول إن البحوث في هذا المجال ما تزال قليلة جدًا، ولا تُنشَر على نحو كاف، لتغيير مدى الإدراك الحقيقي لمسألة العبودية لدى الأفراد. ولذلك، يتوجب على العاملين في هذا المجال أن يأخذوا بعين الاعتبار عملية حفظ الذاكرة الجماعية هذه بحيث يتمكنون من الوصول إلى الرأي العام.

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: كيف تُصان الذاكرة من الإلغاء المتعمد؟

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو 4 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>