من “الأوتودافي” إلى محارق الذّاكرة الجماعية: التّدمير الممنهج والمنظم لأرشيف المحفوظات في جزر القمر (1975-2001)

من “الأوتودافي” إلى محارق الذّاكرة الجماعية:

التّدمير الممنهج والمنظم لأرشيف المحفوظات في جزر القمر(1975-2001)

*غنى مونّس
من منا لم تؤلمه قراءة الأسطر التي تصف “الأوتودافي” الشّهير في “كانديد أو التّفاؤل”، رائعة الفيلسوف الفرنسي فولتير؟ أو مشهد حرق الكتب في الفيلم الأجنبي “سارقة الكتب” أو في رائعة المخرج المصري يوسف شاهين “المصير”؟ أن تحرق كتابًا يعني أن تعمد إلى إتلاف مادة بهدف إفنائها وإبادتها. ويزخر التّاريخ بقصص محاكم التّفتيش التي أحرقت الكتب على خلفية مزاعم بوجود هرطقة فيها أو مروقًا عن الدّين وأحكامه المقدسة، لتستهدف العملية بعد ذلك العقل، حيث تتم إبادة كل كتاب يُمَجده ..

وعن سبب اختيار الحرق وسيلة لذلك، يذهب الكاتب الجزائري واسيني الأعرج ردًا على سؤال طرحه  على نفسه: “لماذا النّار؟” بالقول: “ربما لأنها لا تترك أثرًا إلا خطوط الرماد التي تعقبها عملية التّفتت والمحو النهائي”…

هذه الجهالة، وهذا الجمود الفكري والعاطفي امتدت عدواهما إلى زمننا الحالي … لنشهد “محارق متعددة” على خلفية دينية أو عقلية، أو حتى سياسية، تهدف في أغلبها إلى محو هذا المخزون الديني والفكري والثقافي والسّياسي، بل وحتى المدني لفئة ما، بدعوى حمايتها. إنها “إبادة للذّاكرة” بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

ما بدأ على مر التّاريخ بحملة شعواء، يجسدها انفعال عاطفي لمجموعة من المتحمسين للتّطبيق الفعلي لأفكار دعاتهم تحول لاحقًا إلى عمليات ممنهجة ومنظمة، يُخَطّط لها وتُنَفّذ بشكل مدروس، لتحقق هدف الإبادة المرجو منها.

أشهر حملة لحرق الكتب سُجّلَت في تاريخ الإنسانية، تلك التي أقدم عليها الأمبراطور الصيني شي هوانغ تي في العام 212 قبل الميلاد حين قاد حربه على الكتب فأتلف وأحرق مئات الدراسات التاريخية والأدبية والقانونية وطارد الأدباء ولاقى كل من قبض عليه المصير نفسه. وفي العام 392 للميلاد أحرقت مكتبة “سيرابيوم” في الاسكندرية بأمر من الأمبراطور ثيودوسيوس الأول. وكان ذلك قبل ثلاثة قرون من حريق مكتبة الاسكندرية الشهير. في القرن السادس عشر، أحرق الأرشيدوق دييغو دي لاندا كل مكتبات المكسيك القديمة. وبحث الغزاة الأسبان عن كل الآداب المتعلقة بحضارة المايا ودمّروها تدميرًا كاملًا بصفتها علومًا وثنية . وقد تحدث الكثير من الشهود عن الصرخات المعذبة التي أطلقها علماء المايا خلال رؤيتهم أعمالهم وأعمال أسلافهم تحترق أمام أعينهم وتتطاير مع اللهب، وقد حمل هذا بعضهم على الانتحار.

في الحروب النابوليونيّة، تم تدمير أو نهب الكثير من المكتبات الكبيرة في أوروبا، وساهم الاستعمار الفرنسي في نهب الكتب العربية وحرقها.

وتتابع الأمر في الحروب اللّاحقة، ففي الحرب العالمية الثّانية، وتحديدًا في 10 مايو/أيار من العام 1933، أحرق النّظام النّازي آلاف الكتب في ساحة أوبرا برلين. وفي العام 1937 قصفت مكتبة الإيسكوريال بمدريد، ولم يكن هناك شيء فيها باستثناء الكتب والمخطوطات النادرة والكثير من اللوحات الفنية. فاشتعلت النار في كل محتوياتها التي لا تُقَدر بثمن. وأُحرِقت في العام 1992 مكتبة سراييفو وهي موقع كان خارج مساحة الاقتتال، لا شيء فيه إلا الكتب، ودُمِّرت عن آخرها.

ما بدأ بالكتب، امتد ليشمل المحفوظات، وفي هذا المجال شهدت الحروب الأهلية والإقليمية على حد سواء حرق وتدمير المؤسسات المعنية بالمحفوظات والوثائق والأرشيف، وآخرها ما شهدناه ونشهده على يد داعش في الموصل وغيرها من المناطق الواقعة تحت سيطرتها في الشّرق الأوسط.

في هذا العدد من مجلة أرشيفو، نتناول بحثًا قدمه شارلي جوليفيه، وهو طالب في مرحلة الدّكتوراه  في اختصاص الأرشفة والمحفوظات، بعنوان “بين عدم الاستقرار السّياسي، والانقلابات والحروب الأهلية: تدمير الأرشيف في جزر القمر (1975-2001)”. قدم جوليفيه عمله هذا في ورشة عمل حول تأثيرات الحروب على العالم المعاصر، نظمّها طلاب مرحلة الدّكتوراه في قسم الآداب واللّغات والعلوم الإنسانية في جامعة آنجرز في فرنسا. وقد حملت مداخلة جوليفيه في حد ذاتها تحديًا كبيرًا لأنّها شملت عملية إعادة بناء الأحداث التي كانت غير مكتملة، وقد دفع هذا الطّالب شارلي جوليفيه إلى البحث عن أشخاص شهدوا هذه الأحداث  والحصول على شهادات شفهية منهم، جمعها لاحقًا مع قصاصات ورقية ما زالت موجودة،  بشكل عام خارج الحدود الحالية لجزر القمر وآنجوان (إذ لم يبقَ في الواقع إلا جزء يسير من أرشيفات الجزيرتين).

استحضر شارلي جوليفيه في دراسته السّنتين التّاليتين لاستقلال جزر القمر، واللّتين شهدتا التّدمير الهائل للأرشيف، سواء عن طريق “الأوتودافي” أو النّهب. في حالة جزر القمر، كان الأمر عبارة عن حلقة ثورية أدت إلى قضاء منهجي مخطط له بشكل واضح عليه. وهنا، تم حرق سندات الممتلكات والوثائق الشّخصية والسّجلات الشّخصية بما في ذلك الأعمال في الساحات العامة. وقد شمل ذلك الوزارات كلها. في آنجوان، كان الأمر كذلك تدميرًا متعمدًا ومسيطرًا عليه، وفقًا لأوامر واضحة، وأدى إلى اختفاء صناديق الأرشيف من مقر الحاكم. والعام 1978، أدى نوع آخر من السّلوكيات إلى التّدمير المادي لوثائق جزر القمر، إذ تمت سرقة المبنى الذي حوى مركز المحفوظات الوطني، وكان قد أُنشِئ قبل عامين تحديدًا، وتحولت الوثائق إلى أوراق للّتعبئة لدى بائعي الفستق السّوداني.

من خلال هذه الحقبات المليئة بالتّوتر، نستطيع لحظ التّدخل الطّوعي للانقسامات الرّمزية والمؤسساتية. إذ تم وضع حد للامتيازات وتدمير الوثائق وبالتّالي منع عودة النّظام السّابق، وقطع صلة الوصل بين الأنظمة السّياسية والدّينية للجزيرتين. نستطيع هنا استعادة عبارة “نوع من المحاكمة الثّورية للمخطوطات” التي استخدمها ميشليه لوصف مكاتب الفرز في فرنسا أيام الثّورة.

وتناول شارلي جوليفيه أيضًا النّتائج المترتبة على تصفية هذه الوثائق، سواء في ما يخص سكان هاتين الجزيرتين أو في ما يخص سير عمل الإدارات، وأيضًا من وجهة نظر الأدلة القانونية أو الذّاكرة، وكذلك إدارة وأساليب تقييم الوثائق من قبل الأرشيفيين.

فتاريخ البلاد تأثر بعملية الحرق هذه ، التي أدت إلى فراغ ليس من السهل ملؤه. لقد كان “الأوتودافي” في أبريل/نيسان وفقًا لجوليفيه “يهدف إلى وضع حد للممارسات الاستعمارية والامتيازات الكثيرة المعطاة في هذا المجتمع المتأثر بالتّقاليد والدّين”، وبالنّسبة لمؤيدي العملية، فقد “كانت أعمالًا محض ثورية”. ويرى جوليفيه أن “نسيان الماضي كان أمرًا مرغوبًا ومنظمًا من قبل الحكم”.

في خاتمة بحثه، تحدث جوليفيه عن مواصلة هذه الممارسات من قبل السّلطات في جزر القمر وآنجوان، مع كل ما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج. غير أنه لفت إلى صحوة لدى بعض الشّخصيات في الجزيرة، بدءًا بالجامعيين، الذين أصبحوا يدركون أهمية هذه المحفوظات في تاريخ البلاد.

ويختم جوليفيه بحثه باقتباس عن موسى سعيد أحد الشّخصيات المهمة في جزر القمر، معلقًا بأنه يحمل الأمل في طياته: “الأرشيف هو الحياة […] لا يمكننا ترك الذاكرة تتلاشى”.

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: من الأوتودافي إلى محارق الذّاكرة الجماعية التّدمير الممنهج والمنظم لأرشيف المحفوظات في جزر القمر(1975-2001)

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو 2 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا:

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>