أديم الأرض: الشّيخ الإمام أحمد بن سعادة البحراني

أديم الأرض
الشّيخ الإمام أحمد بن سعادة البحراني

*الشيخ فاضل الزاكي

عُرِفت البحرين منذ العصور الإسلاميَّة الأولى كمركز إشعاع حضاريّ وعلميّ، فقد أنجبت العديد من العلماء الأفذاذ الَّذين كانت لهم أدوار مؤثرة في شتى المجالات، والأمثلة كثيرة على ذلك. والمتتبّع لتاريخ البحرين العلميّ، يمكنه أن يلحظ أمرين مهمّين؛ الأوَّل أنَّ البحرين، ورغم كونها جزيرة مقطوعة عن العالم، وبعدها عن الحواضر العلمية النشطة في العالم الإسلامي، فإنّ المعطيات المتوفّرة تؤكّد وجود حراك علميّ بارز فيها، أهّلها للعب دور الحاضرة العلميّة في المنطقة.
وبشكل عام، يمكن القول إنَّ هذا الدّور بقي مستمرًا ومتواصلًا دونما انقطاع، بالرغم من كثرة التقلّبات السياسيّة والأمنيّة الّتي مرت بها البحرين طوال تاريخها، والتي كان لها أثرها البارز في ضعف هذا الدور أو اشتداده من زمن إلى آخر، وقد بقي الأمر كذلك حتى عهد قريب.

والأمر الآخر أنَّ كمّية المعلومات المتوافرة حول النّشاط العلميّ في البحرين بشكل عام، تتفاوت من عصر إلى آخر، فيمكن أن توصف أحيانًا بأنها معلومات “قليلة” أو حتى “شحيحة جدًا” فيما يتعلّق ببعض القرون القديمة، وهذا الأمر يختلف بالنسبة إلى القرون المتأخرة، إذ إنَّ المعلومات متوافرة بشكل أفضل نسبيًا.

واللافت هنا، أنَّ أقدم المعطيات الموجودة لدينا، تشير إلى تمركز العلماء في القرون القديمة في جزيرة سترة وما جاورها، كـ”جزيرة أكل”، و”قرية الماحوز”. ولعل هذه المنطقة كانت بمثابة عاصمة للبحرين آنذاك. بالتأكيد، فإنَّ هذا الأمر لا يلغي الدور العلمي للمناطق الأخرى، حيث إنَّ هذا الاستنتاج مجتزأ، لأنّه مبنيّ على المعلومات الشَّحيحة التي وصلتنا عن تلك القرون، ولا زلنا نفتقد الكثير من المعطيات في هذا المجال. وربما تتغيّر نظرتنا لو وصلتنا.

البحراني.. العالم الجليل

مما لا شكّ فيه أنّ النشاط العلميّ لجزيرة سترة لم يقتصر على الحقبة القديمة، فقد كان لهذه الجزيرة دورها العلمي الفاعل والمتواصل على مرّ القرون، ويمكن الإشارة إلى كلّ من الشيخ عبد الله بن عباس الستري (المتوفى سنة 1267هـ/ 1851م)، والشيخ أحمد بن صالح آل طعان (المتوفى سنة 1303هـ/ 1886م)، والشيخ علي بن عبد الله الستري (المتوفى سنة 1320هـ/ 1902م)، كأعلام بارزين من أبناء هذه الجزيرة في الفترات الأخيرة.

ولكن، وبحسب المعطيات المتوفّرة، يبقى الشيخ أحمد بن علي بن سعيد بن سعادة الستري البحراني أقدم من نعرفه من أعلام هذه الجزيرة، وهو شخصية علميّة بارزة. ولكن، مع الأسف الشديد – وكأكثر علماء البحرين السابقين – لم يلقَ هذا العالم الجليل الاهتمام اللائق من المؤسّسات الثقافيّة، بل نجد تجاهلًا مقصودًا له ولأمثاله من علماء البحرين الأفذاذ في الإعلام الرسمي لهذا البلد، الَّذي يصرّ على التّجاهل التام للماضيّ الإسلاميّ له ولتاريخ علمائه، في حين يركّز اهتمامه على بعض المقابر أو المعابد الوثنيَّة لعصور ما قبل الإسلام.

والشيخ أحمد بن سعادة البحراني هو الشيخ كمال الدين أبو جعفر أحمد بن علي بن سعيد بن سعادة البحراني. عُرِف بنسبته إلى البحرين، فيقال له “البحراني”. ومن المعلوم أنَّ “البحرين” كانت تُطلق قديمًا، ويراد منها ما يشمل الحواضر الثلاث، الإحساء والقطيف وجزيرة أوال. ويظهر من جملة من المصادر أنّها اسم لعموم السّاحل الغربيّ للخليج، أي ما بين البصرة شمالًا إلى عمان جنوبًا، وفق ما ذكر الرحالة والمؤرخون (1). وبناءً عليه، فإنّ لفظة “البحراني” في تلك الأعصار ليست نسبةً مختصَّة بجزيرة أوال، التي هي البحرين الحالية، بل هي نسبة إلى عموم الإقليم.
والظاهر أنَّ اختصاص جزيرة أوال باسم البحرين، إنما حصل تدريجًا في القرون اللاحقة، وقد برزت هذه النسبة مع بداية الاحتلال البرتغاليّ للبحرين سنة 927هـ/ 1521م، إذ يظهر من المصادر أنَّ اسم البحرين كان يُطلق حينها على جزيرة أوال تحديدًا دون بقيَّة المناطق.

ورغم عدم تصريح المصادر بمكان سكناه على وجه التحديد، فإن الذي يظهر من القرائن أنه كان يسكن في جزيرة سترة، حيث يوجد قبره وقبر تلميذه. ولعلّه كان يسكن في قرية “الخارجية”، لأنها أشهر قرى جزيرة سترة وأقدمها، فهي بمثابة العاصمة لتلك الجزيرة.

الفيلسوف الحكيم

عند الحديث عن مشايخ عالم ما، ينبغي التَّمييز بين نوعين منهم؛ النوع الأول هو المشايخ الّذين حضر عندهم، ودرس لديهم، واستقى من نمير علومهم، ويُعبر عنهم بـ”الأساتذة”. والنوع الثاني هو المشايخ الَّذين يروي عنهم وأجازوه، ويُعبَّر عنهم بـ”مشايخ الإجازة”. وكثيرًا ما يكون الشيخ الأستاذ هو شيخ إجازة أيضًا، ولكن لا يوجد تلازم تام في ذلك، ولهذا قد يفترقان خارجًا في موارد عديدة. ولعلَّ الغالب في تلك الأعصار – خلافًا لهذه الأعصار – أن الشيخ لا يعطي إجازة الرواية للشَّخص ما لم يحضر لديه في الدرس مدة مديدة.

ليست لدينا معطيات كثيرة تشير إلى عدد مشايخ ابن سعادة أو أسمائهم، ولكنَّ المستفاد من بعض الإجازات، كـ”الإجازة الكبيرة” التي كتبها العلامة الحلي لبني زهرة الحلبيين، أنَّ الشيخ أحمد بن سعادة يروي عن الشيخ نجيب الدين يحيى السوراوي، ولم نجد في المصادر الموجودة بين أيدينا أيّ تصريح بروايته عن غيره، وإن كنا نطمئن إلى وجود مشايخ آخرين له، كما تقضي العادة الجارية بعدم الاكتفاء بالتتلمذ على شيخ واحد، وخصوصًا أن الشيخ نجيب الدين السوراوي كان مقيمًا في مدينة الحلة العراقية، التي كانت آنذاك تمثل الثقل العلمي للشيعة، وكانت بمثابة الحوزة الأم للحوزات الأخرى، ما يظهر أنّ الشيخ أحمد بن سعادة لا بدّ من أن يكون قد سافر إليها وأقام فيها مدة من الزمن. وخلال ذلك، لا بدّ له من أن يلتقي علماءها البارزين، وهم كثر آنذاك.

وإذا كان لنا أن نحتمل بعض الأسماء من مشايخ ابن سعادة، فنحن نستقرب روايته عن اثنين من علماء البحرين في وقته، هما الشيخ راشد بن إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن محمّد البحراني (المتوفى سنة 605هـ/1208م)، والشيخ قوام الدين محمد بن محمد البحراني (كان حيًا سنة 588هـ/ 1192م)، لتقارب عصرهما مع عصره، واتحاد البلد، ولكن مع هذا، لا يمكننا الجزم بذلك.

وقد بخلت علينا المصادر فيما يتعلَّق بمشايخ الشيخ ابن سعادة البحراني وأساتذته، كما بخلت علينا كذلك فيما يتعلَّق بتلامذته، فلم نتعرّف إلا إلى شخص واحد من تلامذته، وهو تلميذه الشيخ علي بن سليمان الستري. كان من أعلام القرن السّابع الهجري، وكان عالمًا فقيهًا ذا مشرب فلسفيّ.

كما أنَّ أغلب المصادر لم تشر إلى شيء من مؤلفات الشيخ أحمد بن سعادة البحراني، سوى رسالة مختصرة في حقيقة العلم، وقد اشتهرت باسم “رسالة العلم”، وقد شرحها الخواجة نصير الدين الطوسي (المتوفى سنة 672هـ/ 1273م). ولديه رسالة في معنى القبض والبسط، لم نجد من أشار إليها سوى الشيخ محمد علي العصفوري (المتوفى سنة 1365هـ/ 1946م) في تاريخه.

تُجمع المصادر على وصف الشيخ البحراني بالحكيم والفيلسوف، وهو ما قد يستفاد من كتابه “رسالة العلم”، الذي يدلّ على فضل كبير وعلم غزير، مضافًا إلى أن الشيخ جلال الدين الرومي (المتوفى سنة 672هـ/ 1273م) أرسل إلى ابن سعادة يسأله عن القبض والبسط، فكتب في جوابه كتابًا، وهو ما يؤكّد نبوغه وفضله وشهرته في هذا الميدان، بحيث صار مقصدًا في تحقيق هذه المسائل التي تحتاج إلى النقض والإبرام، ولكنَّ هذا الأمر لا يعني بالضرورة أنه اختصّ بالعلوم العقلية، ولم يكن بارزًا أيضًا في العلوم الأخرى، كالفقه والحديث وغيرها من العلوم النقلية، فهذه الأوصاف كثيرًا ما تُلصق بالعالم نتيجة شهرة بعض مصنفاته وضمور البعض الآخر منها وخفائها، أو لبعض القرائن التي يلتفت إليها البعض ويُغفل القرائن الأخرى.

لم تُشر المصادر القديمة إلى تاريخ وفاة ابن سعادة، ويمكننا نخلص إلى أنّ المترجم توفي في حدود منتصف القرن السابع الهجري (أي حدود سنة 650هـ/ 1252م) أو قبل ذلك بقليل (حوالى سنة 649هـ/ 1251م). ولا شكّ في أنه مدفون في جزيرة سترة، كما صرَّح بذلك كثير ممن ترجم لعلماء البحرين.

وهو، كما ذكر الشيخ المبارك، مدفون مع تلميذه الشيخ علي بن سليمان الستري، ومعهما قبر الشيخ حسين بن علي بن سليمان الستري، وقبورهم معروفة ومشهورة في مقبرة السلطان في جزيرة سترة. ومما يؤسف له أن عناية الناس بزيارتهم قليلة لا تتناسب ومقامهم الشامخ ومنزلتهم العلمية.

الوضع السياسيّ في عصره

منذ أواخر القرن الثالث وحتى أواسط القرن الخامس، كانت البحرين تحت سيطرة القرامطة الذين عاثوا فسادًا في الأرض، وأذاقوا أهل البحرين أنواع البلايا، إلى أن ثاروا عليهم، واقتلعوهم، وأزالوا ملكهم، وأنهوا بذلك حقبة سيئة من تاريخ المنطقة.
ثم بعد ذلك، ومنذ العام 467هـ/ 1074م، وعلى مدى ما يقارب قرنين من الزمن، كان إقليم البحرين بحواضره الثلاث (الإحساء والقطيف وأوال)، خاضعًا لسلطة الحكام العيونيين الذين يرجعون في نسبهم إلى قبيلة عبدالقيس العدنانية.

وكحال أهل البحرين آنذاك، عُرف العيونيون بولائهم إلى أهل البيت، ولا زالت العملات المعدنية خلال تلك الحقبة شاهدة على تشيعهم، حيث زُينت تلك العملات بعبارات “لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله”(2)، ويؤكّد ذلك ما ورد في عبارات الرحالة والجغرافيين في تلك الأعصار، حيث أكّدوا تشيّع أهل البحرين، فمن ذلك ما ذكره ياقوت الحموي متحدثًا عن عمان، كما يؤيده ما ورد في شعر علي ابن المقرب العيوني (المتوفى
سنة 629هـ/ 1232م)، الذي ينتمي إلى هذه الأسرة العيونية الحاكمة، من أبيات في أهل البيت.

فبعد سقوط دولة القرامطة التي حاربت الدين بضراوة وفتكت بالمتدينين، بدأ أهل البحرين يتنفسون الصعداء. وفي ظلِّ قيام الدولة العيونية واستقرارها، بدأ البعض بالهجرة إلى الحواضر العلمية في العراق من أجل طلب العلم ورواية الحديث، فبدأ العلم يزدهر في حواضر البحرين، وبدأ العلماء من أهالي المنطقة في تصنيف الكتب دونما خوف أو تهديد. ولعلَّ أول كتاب وصلنا هو كتاب “مختصر أحوال المعصومين” (3) للشيخ راشد بن إبراهيم بن إسحاق البحراني (المتوفى سنة 605هـ/ 1208م)، الذي عاصر الشيخ أحمد بن سعادة شطرًا من حياته.

ومما قيل في حقه وحق كتابه “رسالة العلم”، ما أورده الخواجة نصير الدين الطوسي:

بسم الله الرحمن الرحيم

أتاني كتاب في البلاغة منته           إلى غاية ليست تقارب بالوصف

فمنظومه كالدّر جاد نظامه           ومنثوره مثل الدّراري في اللطف

دقيق المعاني في جزالة لفظه            تحيّر في ضم الغموض إلى الكشف

كغانية حار العقول بحسنها       تُمرِّض عيناها وملثمها يشفي

أتى عن كبير ذي فضائل جمّة          عليم بما يبدي الحكيم وما يخفي

فأصبحتُ مشتاقاً إليه مشاهداً       بقلبي محيّاه وإن غاب عن طرفي

رجا الطرفُ أيضاً كالفؤاد لقاءه       وأن لا يوافي قبل إدراكه حتفي

قرأتُ من العنوانِ حين فتحته         وقبلت تقبيلاً يزيد على الألف

ولما بدا لي ذكركم في مسامعي         تعشقكم قلبي ولم يركم طرفي

فصادفت هذا البيت في شرح قصتي وإيضاح ما عانيته جملة يكفي

* مقالة مختصرة من ورقة بحثية قُدِّمت في الندوة التعريفة بالشيخ أحمد بن سعادة في العام 2015.

___________________________

المراجع:
1- انظر نزهة المشتاق في اختراق الآفاق 1: 379، ومعجم البلدان 1: 347.
2- انظر كتاب “نقود الدولة العيونية في بلاد البحرين”، لمؤلفه نايف بن عبد الله الشرعان.
3- الذريعة إلى تصانيف الشيعة 20: 173.

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: أديم الأرض الشّيخ الإمام أحمد بن سعادة البحراني

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو  7 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>