التاريخ الشّفهي: خصوصيّته كمدخل للتعرّف إلى تاريخ أفريقيا السّوداء

التاريخ الشّفهي: خصوصيّته كمدخل للتعرّف إلى تاريخ أفريقيا السّوداء

*غنى مونّس

    لطالما عانت أفريقيا من الغبن والتّهميش على مستوى كتابة التّاريخ، ويعود ذلك إلى غياب الوثائق المكتوبة، فكان تاريخ القارة السوداء بعيدًا عن أن يكون معروفًا، وذلك لعدم إتقان أهلها الكتابة، أو لكونهم لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء كتابة مجموعة من النصوص المؤرخة التي تسمح برسم مسار الأحداث. وبالتّالي، كانت الدّراسات القيمة بشأن أفريقيا نادرة أو حتى غائبة “بسبب تأثير الاستعمار، الذي كان يعارض أيّ حياة ثقافية أفريقية خصوصًا، وأيّ إحياء حقيقي للقيم الأفريقية”.

   نادرة هي المصادر المتوفرة في هذا المجال، لذلك عكف المؤرخون على البحث عن المصادر غير المكتوبة  واللّجوء إليها، بهدف اكتشاف آفاق أوسع، وطرح أسئلة لم تكن قد خطرت ربما على بال أسلافهم، فأغلب المصادر المكتوبة عن هذه البلاد، كُتِبت على يد البيض، وهو أمر لا يصبّ في صالح الحقيقة التّاريخية، ولا سيما أن أغلبهم كان موجودًا بصورة استعمارية، وكان ذلك بارزًا في كتاباتهم التي أرّخوا فيها تلك الفترة، فبرزت أحكام “البرجوازيين المحتلين”،  ولم تترك أي مجال لما يُدعى بـ “ماضي السود”.

   لذلك، لجأ المؤرخون، في محاولاتهم الحديثة لاستكشاف هذا العالم، إلى التّراث الشفهي للبلدان الأفريقية، معتمدين عليه بوصفه أحد أبرز الطرق التي يمكنها الإضاءة على الشوائب الملحوظة في الوثائق المكتوبة، أو تبيان لغطٍ ما فيها، أو حتى معارضة بعض أفكارها، فكان التاريخ الشفهي وسيلة استطاعوا الاعتماد عليها لتأكيد  بعض المعلومات التاريخية أو تعديلها أو حتى نفيها.

   شكّل الأمر تحديًا صعبًا، ولا سيّما أن علم التاريخ شكّل تقنياته وطرائقه وإشكاليته انطلاقًا من دراسة المجتمعات الغربية وحدها. وبتطبيقه على مجتمعات مختلفة عنها، يبرز عدم تكافؤ أدواته، وهنا، “يحسّ المؤرخ بالضياع، الأمر الذي قد يدفعه إلى نفي احتمال وجود لتاريخ أفريقي”.

    قد يقول البعض إنَّ الماضي الأفريقي لم يترك إلا كمية لا أهمية لها من الأدلة الوثائقية، ولا يمكن الوصول إليه. إنه “سوء حظ الشعوب التي لا تعتمد الكتابة”. هل هناك مشكلة على مستوى الموارد؟ هل تنقص فعلًا؟

    يذهب عالم الاجتماع الفرنسي كلود ليفي ستراوس إلى أنَّ أفريقيا الماضي، وفقًا لتعبيره، تتضمن مجموعة من المجتمعات التي تتفاوت من حيث المستوى الثقافي (ولم تكن كلها من دون كتابة)، غير أنه يستبعد فكرة “مجتمع من دون تاريخ”. ويتساءل: ما هي شروط التوثيق وإجراء بحث تاريخي ينطبق على أفريقيا؟

   في هذا الإطار، يستعرض الكاتب الفرنسي هنري مونيو في مقال له في مجلة “Annales”، عددًا من الأنواع التوثيقية التي تساعد على كتابة التاريخ، وهي الوثائق المكتوبة، والتوثيق الشفهي، وعلم الآثار، من بين أنواع أخرى، غير أننا سنتطرق هنا حصرًا إلى النوع الثاني، أي التوثيق الشفهي، باعتباره، وفقًا لوصف الكاتب، خاصًا بأفريقيا.

  يقول مونيو إنَّ “المجتمعات الأفريقية امتلكت دائمًا حضارة الكلمة، وكثيرًا ما أكَّد علماء الاجتماع السمة الخاصة لهذه التّقنية، وهي اللغة ومكانتها والنفوذ الذي تمنحها إياه إجادتها”، إضافةً إلى الدّور الاجتماعي الذي تلعبه.

   يوضح مونيو هنا أنه لا يقصد هنا بكلمة “حديث” أي أمر يُنقَل شفهيًا، بل فقط الإرث المُنَظم اجتماعيًا في الأجيال السابقة. وبالتّالي، “ليست عملية النقل الشفهي حرة، لا على مستوى المبادرة بحد ذاتها، ولا على مستوى المضمون، غير أنه يمكنها امتلاك بعض الحرية في شكلها، إذ إنها تنقل فقط هيكل قصة ما (الشخصيات والأفعال والأماكن) أو غير حرة، إذ تذهب في النقل إلى الكلمات بحرفيتها، وتدرجها وترتّيبها بشكل ثابت”.

    ويرى أنَّ هذه الدرجة المتفاوتة من الحرية تتعلق بالنّوع المنقول، فالمتوارث من خلال المنقول الشفهي متنوع جدًا، لأنّ “أيّ منتج ثقافي لا يحيا إلا به [النقل الشفهي]: سواء كان أسطورةً، أو روايةً تاريخيةً (التاريخ الملكي والقبلي والقروي والعائلي…)، أو شجرةً للأنساب، أو أمورًا دينيةً، أو حكايات وخرافات، أو قصائد مغناة، أو أدعيةً وطلاسم وأمثالًا وأحاجي، أو صيغًا لطقوس اجتماعية أو دينية أو سياسية…”.

   وتتعدَّد الأنواع والخيارات هنا بحسب أنواع المجتمعات، وتفرّد كلٍّ منها، فالمجتمعات الأكثر تنظيمًا على المستوى السّياسي طورت الأنواع الأكثر “تاريخية”. وفقًا لمونيو، نحتاج، لحفظ الإرث التقليدي ونقله، إلى اختصاصيين، ويصعب تصنيفهم أيضًا كما في حال الأنواع بين رواة وممثلين مختصين وموظفين ونوع من وزراء معرفة الماضي، في مجتمعات هرمية: “سادة للغة” أو “سلالة من الشعراء” في رواندا. وكما يمكن تقييد النقل الشفهي أو تحريره، كذلك يمكن أن يكون هناك وجود أو عدم وجود لاختصاصيين في نقله.

   “هذا النقل” الذي يمكن أن يكون معرفة مشتركة لدى كثيرين، أو حتى لدى الجميع، يشكل مصدر اهتمام للمؤرخ، حيث إنَّ جزءًا منه “لا طموح تاريخيًا” لديه، (أي القصص والأغاني)، غير أنها تستطيع “أن تحمل ذكرًا لحدث ما في الماضي، أو تعيد إحياء تقليد ما، أو أفكار مجموعة ما وأصالتها مقارنة بالمجموعات الأخرى”.

  وهناك جزء آخر – أي الأساطير والقصص الخرافية – “يحمل في طياته مادة تاريخية، موروثة من ماضٍ بعيد”، غير أنّ هذه المادة تظل بشكل فريد “عصية على عملية التّحقق منها، سواء بسبب التّفسيرات والتّحولات المتعددة التي خضعت لها، أو بسبب الإضافات التي تُمزَج بها”.

    أما الجزء الأخير، فهو ذو هدف تاريخي بحت، لأنه يتعلق بالقصص وتاريخ الأنساب والأديان، وهو حتمًا الأكثر غنى وثراء، إذ يستلزم يقظة النقاد، لأنه يُستَخدَم لغاية التمجيد أو التدريس، وقد تطور هذا النوع بشكل خاص في رواندا ولدى بعض المجموعات السّياسية في الغرب الأفريقي.

    هناك بعض العوائق التي تشوب النقل الشفهي، أبرزها مشاكل لغوية، ومشاكل تقنية في التسجيل، ومشاكل أيضًا في الترجمة، وكلها تبرز لدى إرادتنا توثيق النص الشفهي وتحويله إلى وثيقة مكتوبة. ولدراسة الوثيقة الشفهيَّة، يجب تحديد أنواع التغييرات الحاصلة فيها، وكذلك مواطن القوة والأصالة فيها، في مقابل متغيرات النصوص المشابهة، وإيجاد الرواية الأكثر قابلية للتّصديق، وتحديد ما إذا كان الوضع الحالي للنص لم يتأثر بالتغيرات السائدة في الحقبة الزمنية المعاصرة (من تغيرات في الأدوار الاجتماعية، وتنصيب إدارة أجنبية، وصدمة ناجمة عن الأفكار التقليدية…).

   في وجه كلِّ هذه المشاكل، وبهدف حلّها، “يحتاج المؤرخ إلى اتباع نهج محدد، يقوم على البحث والتّقصي، ومراقبة المعلومات الواردة، ومقابلتها مع روايات ومصادر أخرى، وكذلك إجراء مقارنة أوسع نطاقًا على مستوى هيكلية الأساطير والقصص الخرافية”.

   في هذا الإطار، يضيف مونيو أنه “يستحيل أن يكون جمع التاريخ الشفهي والإفادة منه ممكنين من دون إلمام وثيق بالشَّعب واللغة والثقافة التي يتعلق بها هذا التاريخ”، أي أنَّ المؤرخ يمكنه أن يكون عالمًا إثنيًا، وأنّ “الأفريقي الذي يجيد إجراء البحوث، يتمتع بفرصة أكبر للنّجاح في هذا المجال”.

   ويختم بالقول إنَ “التاريخ الشفهي يعاني من كونه مصدرًا غير اعتيادي”. وفيما يتعلق بأفريقيا، فإنه “يتفوق على المصادر المكتوبة (حتى لو كانت هذه الأخيرة تتمتع بامتيازات معينة)، لأنه أوسع نطاقًا، ويحظى بتوزيع أفضل، كما أنّه صادر عن الشعوب التي يُصنَع تاريخه، غير أنه ستظهر دائمًا مشاكل جديدة في العمل التاريخي، وهذا أمر لا يمكن تفاديه بشكل قاطع ونهائي”.

    “كيف سيُكتَب تاريخ أفريقيا إذًا؟ ومن ذا الذي سيصنعه؟” تلك أسئلة قد لا يمكننا الإجابة عنها في الوقت الراهن، غير أننا [أي الكاتب] ندرك أن أيّ عمل في هذا الإطار “يصبّ في يقظة العالم الأسود بعد حقبة الاستعمار، وسيسمح لهذا العالم بإيجاد وجهه الحقيقي”.

   التاريخ وليد عصره، ويردّ دائمًا على الأسئلة التي تشغل بال الأخير. ومن حسن الحظّ، أنه غذاء لهذا العصر نوعًا ما، وليس مجرد تأمّل فكريّ.

____________________

 المصدر:
MONIOT Henri, “Pour une histoire de l’Afrique Noire”, Annales. Économies, Sociétés, Civilisations  Année 1962  Volume 17  Numéro 1  pp. 46-64.
      انظر:
http://www.persee.fr/doc/ahess_0395-2649_1962_num_17_1_420788

__________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF:  التاريخ الشّفهي خصوصيّته كمدخل للتعرّف إلى تاريخ أفريقيا السّوداء

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو 5 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>