تجربتي مع التّاريخ الشّفهي

تجربتي مع التّاريخ الشّفهي

*تهاني نصّار

وبّختني جدتي “سودة” إحدى المرات، لأنّني لم أحضر لها “زردة” و”خشوقة”، كما أمرتني. لماذا لم ألبِّ طلبها؟ ليس هناك سبب يجعلني أفعل ذلك، سوى أنني لم أفهم ما كانت تقصده! تسمّرت في مكاني منتظرةً منها أن تشرح لي، لكنَّها لم تفعل. نظرتْ إليّ بطرف عينيها، وصرخت بي: “ولك ليش بعدك واقفة عندك، تحركي جيبي الزلفة”. هرولت إلى المطبخ، وحدَّقت بعجل في كلِّ شيء حطَّت عيناي عليه؛ على البراد ذي القاعدة الصّدئة، ربطة الخبز الموجودة على الطاولة، أواني الطعام الموضوعة عشوائيًا فوق المجلى. رجعتُ إلى “سودة” فارغة اليدين، فسألتني بحدّة: “ليش راجعة عم بتطوطحي”؟ فأخبرتها أنني لم أجد الأشياء التي طلبتها مني.

يومها، أدركت أنَّ هناك مشكلةً حقيقيّةً، لا لأنني نلت نصيبي من غضب “سودة”، بل لأنني لم أستوعب المصطلحات الَّتي استعملتها. كان طلبها عاديًا جدًا؛ أرادت أن أحضر لها صحن الأرز المحلّى وملعقة! لست الوحيدة التي لم تفهم تلك الكلمات. سألت أختي الأكبر سنًا مني وأبناء عمّي الَّذين كانوا يسكنون معنا في الدّار نفسه، لكنني لم أجد إجابة لدى أيٍّ منهم. حُفِرت هذه الحادثة في ذهني، وأصبحت علامةً من ذكريات طفولتي، لكنها لم تكن الوحيدة.

بعد عدّة سنوات، جاء أقارب جدي من داريّا والدامور للاطمئنان عليه، عندما علموا أنه أمضى ليلتين في المستشفى، إثر انزلاق قدمه حين كان يرفع “تنكات” (صفائح) زيت الزيتون إلى شاحنة صغيرة، الأمر الذي أحدث ألمًا شديدًا في ركبته اليسرى. يومها، نزلت وأخوتي إلى الدار لنتعرف إلى أقاربنا ونرحّب بهم، جريًا على العادات والتقاليد السائدة. سمعت أحد الحاضرين، وهو ابن عم جدي، يقول: “إسا هاي الإصابة إجت على نفس الركبة اللي كان فيها الطلقة؟”. هنا، توقَّف الزمن لوهلة. هرعت إلى أبي وسألته عن حكاية الرصاصة، فأخبرني أنَّ جدي تعرّض لإطلاق نار في فلسطين، لكنّه لم يزودني بتفاصيل أكثر حينذاك.

كانت تلك الحادثة سببًا آخر جعلني أدرك ضرورة تدوين تاريخ عائلتي الشفهي وحفظه. أحسست أنَّ هناك الكثير من العادات والمصطلحات الّتي تميّز ثقافتنا الفلسطينيّة، وخصوصًا أنَّ جدي حيدر، ابن قرية كويكات التابعة لقضاء مدينة عكا البحرية، نزح باتجاه لبنان في عام النكبة، رجلًا في الرابعة والعشرين من عمره، مع جدتي وطفلتهما أمينة، ما يعني أنّ في مخزونهم العديد من الذكريات التي تستحق أن تُدوَّن، كحاكورة جدتي وحيواناتها، والبيت الذي سكنوا فيه، والأعمال التي كانوا يقومون بها في القرية، وغيرها من الأمور الخاصّة بأهل بلدتي والقرى المجاورة لها.

هي حمى أصابتني في يومٍ من الأيام. اضطرب نومي، وبتّ أشعر بمسؤوليّة تجاه تاريخ عائلتي، لشدّة ما فكّرت في الأمر، وكرّرت أنّ على أحد ما تدوين هذه الذكريات، وزاد على روحي وفاة عمي عاطف (هو فعلياً عمّ أبي، لكنّنا نطلق عليه لقب “عمّنا”)، وعمّتي مريم (عمة أبي أيضًا). حينها، رأيت جدي دامع العينين، مكسور الخاطر، يردّد: “كلّ جيلنا عم يروح، ولاد فلسطين عم يروحوا، ما ظلّش (لم يبقَ) في حدا”. علمت حينذاك أن عليَّ البدء، قدر المستطاع، بنقل تاريخ عائلتي إلى العالم، فالجميع يعرف أن كويكات صمدت أمام نابليون بونابرت منذ قرون، وأنَّ عصابات الهاغانا الصهيونية احتلّتها في القرن الماضي، لكن لا يعلم أحد كيف كان يعيش سكانها فعليًا قبل النكبة وخلالها. لا يعلم كثيرون كيف بنى جدي بيته، وماذا عمل ليحصّل نقود الزواج، وكم تحمّل حماره من صناديق الزيتون والتين لسنوات من الكويكات إلى حيفا!

أخذت أكتب كلّ ما أسمعه من جداي من تواريخ وأحداث كلّما زرت دار “سيّدي”، وصرتُ أسأل أمي وأبي عنها فيما بعد. سجّلت أيضًا بضع ساعات من الفيديو مع جدي في آخر أيامه الّتي جعلته يتعلّق بالذكريات الطَّويلة الأمد. حينها، لم يكن يميّز أيّ بنت من أبناء ياسر (والدي) سواي! وكأنّه كان يتعمّد نقل تاريخه إليّ، وبخاصَّة في الزيارة التي أخبرني خلالها عن مغامراته في التسلل إلى فلسطين بين العام 1948 والعام 1953، ولماذا كان جميع من عرفه يطلق عليه لقب “الأمين”، وعن العميل الَّذي بلّغ الصهاينة عنه، فكانت النتيجة إصابته برصاصة في ركبته، وسجنه لمدة عامين تقريبًا. اكتشفت أنّ جدّي – أو سيّدي كما ندعوه – كان بطلًا حقيقيًا. ومنذ ذلك اليوم، أصبحت كلمة “سيدي” تعني لي الكثير.

بعدها، قمت بعدة زيارات لأشخاص من قريتي، يسكنون في مخيّمي (مخيم برج البراجنة، أكبر مخيمات العاصمة بيروت). وهناك تعرّفت إلى قصّة “الجفرا”، وكيف أضحت أسطورةً في حكاياتنا الشعبيّة، وذهلت عندما علمت من هي جفرا في الحقيقة. إنَّها رفيقة الحسن، ابنة كويكات. أكثر من ذلك، اكتشفت أنني كنت أعرف ابنتها في صغري، لكنَّني لم أعلم ذلك إلا بعد سنوات عديدة. ثم قابلت الشاعر الفلسطيني عز الدين مناصرة، الَّذي كان أول من بحث في موضوع الجفرا، بعد أن بقيت سرًا من أسرار كويكات لما يقارب أربعة عقود.

لم يكن الأمر سهلًا عليّ. كنت أرجع إلى البيت مثقلةً بالقصص والدّموع. نعم، بكيت مرات متتالية لأحداث مؤلمة حصلت مع جداي وحزنتُ عليهما؛ كيف شاء القدر أن يخرجا من قرية كانت لهما الأرض والملاذ، إلى مخيّم لا يزال يفتقر إلى مقومات الحياة الأساسيّة حتى يومنا هذا. ليس خروجهما من كويكات هو المؤلم فقط، بل حقيقة أنّ الصّهاينة دمّروا القرية لإخفاء تاريخها ومحو كلّ ما يثبت أن ثمة حياةً بأكملها كانت هناك!

حزنتُ على فلسطينيي الجيل الجديد، الَّذين لا يدركون أهميّة تاريخهم وجمال تراثهم، ويغرقون في مشاكل حياتهم اليوميّة. كلّ هذا شكّل لديّ دافعًا للاستمرار في كتابة التاريخ الشفهي لعائلتي، لكويكات، لكلّ فلسطين.

__________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: تجربتي مع التّاريخ الشّفهي

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو 5 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>