أحاديث قريتي: قرية المعامير البحرينية

أحاديث قريتي
قرية المعامير البحرينية

*عباس مزعل 
الحديث نقيض القديم، كما يقولون… ولا يبعد أن يكون قديمًا في فعله جديدًا في معرفته. المهمّ أنه حديث تقرّ له نفس سامعه، فتستريح به من وعثاء الحياة وبرحائها. أمّا أن يكون غير ذلك، فهو هذر وهذرمة، مهما بلغ من الأهمية والتحقيق، على أنَّ ذلك متروك لمشارب النفوس وأهوائها وما تستسيغه من ذلك الحديث أو تميل إليه من صنوفه.

(1)

لا تكاد حدود قريتي قديمًا تكون نصف ما هي عليه الآن. كان البحر يحدّها من الشرق ممتدًا يناهز الأفق صفاءً وروعةً، ويزيد بهاءً في عين من يجده مصدر رزق لا ينضب وموئل حاجة. لا يملّ من سؤال السائل أو يشيح عنه ما غاض خيرًا وأترع كأس الطالب بركة. لم تكن مياهه مجرّد موضع للرزق عند أهل القرية. كان ملاذًا للخائف من حيف الظالم، وملجأ للظالم من دعاء المظلوم عند من لا تغفل عينه. وغير ذلك، كان لسكونه حين يجنّ ليله وتصفو شواطئه، وقع عند أهل القرية، إذ لم تغفل آذانهم صوت “اللسويجن”، الذي لطالما تخيلوه بأنيابه وقبعته المعروفة، يكاد يفترسهم قبل أن يلوذوا فرارًا!

وعلى كلّ حال، فقد ضافف ذلك البحر بيوت أناس عرفوه، وأمنوا السكنى قربه، ولم يجاوزوه كثيرًا، فقد حاد القرية من الغرب “مسجد الشيخ حسين”، فشارفها برًا ليمتدّ طولًا ويقف دون شركة النفط العتيدة، أما الجنوب والشمال، فقد تعارف أهل القرية على حدودها ببيوت بعض رجالها، وإن كانت القرية ستحدّ لو امتدت شمالًا بالشارع الفاصل بينها وبين القرية المجاورة… ولعلّ مأتم “الزهراء” هو المعلم الأوضح بين تلك البيوتات، فقد بني على تلة كعادة البحارنة في بناء المآتم والمساجد على التلال، تحسبًا لطارئ أو مغافل لا يجدون فيه ملجأ سواه، أو هو مرصد يحذرون فيه منه! وعلى كلّ حال، فمنه تبدأ الحدود وفيه تنتهي!

والمتأمل في تاريخ مآتم قريتي، يؤرخ لها ويستنتج تاريخ مواطنتهم فيها وتعميرهم لها، فمأتمها الكبير المشار إليه، بني على تلة بعد نزوحهم.. خوف مداهمة أو هجوم، كما أشرنا، ومأتم “أولاد حسن” بناه بعض النازحين ـ بعد وقعة مشهورة ـ في أطراف القرية كما هو طبيعة النازح. أما الثالث، فقد شيّده “أبناء الشيخ” في بداية الأمر، حين “يضعنون” صيفًا، إلى أن قرروه من الحجر بعد استقراراهم، أما سواهم من المآتم، فأسّس لاختلاف أو لرغبة في التفرد!

أما اللافت، فهو عدم وجود مقبرة، كما هو الحال في بقية القرى، والسبب الرئيس أن لا حدود كانت بين القرية وجارتها، فاشتركت معها فيها، والتقت في دفن أمواتها الأحياء! ولعلّ بعضهم أرجع ذلك أيضًا إلى وجود بعض الصالحين في مقبرة القرية المجاورة، ليضيف هذا السبب إلى الأول توكيدًا وتحصيلًا.

ذلك رسم قريتي على الأرض، أما أحاديث قريتي، فلا يحدّها حاد، أو يقف بر أو بحر دون حكايات أهلها وقصصهم؛ حكايات خلفتها ظروفهم، ورسمتها في سماء العظة والعبرة معيشتهم. وما أسطره في هذه العجالة، هو أحاديث ظننتها مفيدة لمن يطلب تلك العظة والعبرة، أما غير ذلك، فليتوسّم القارئ منها ما يريد، وليستفد كيف يشاء!

(2 )

لا تختلف علاقة أهالي قريتي “بالجن” عن غيرهم من القرى أو تتمايز عنهم، خوفًا من ذلك المجهول، وتحرزًا منه، وربما توقيرًا له في حديث أو همس. هو كائن بينهم يسمعهم ويرى أعمالهم، وربما عاقب من لم يقدم له الأطايب كلّ يوم أو ليلة، وإن باتت تلك الأطايب يومًا أو يومين دون أن يمسّها ذلك المسّ، فتلك علّة البشر وتقديرهم، فلا بدّ من أنّه مرّ عليها و”لحسها” دون ما يعتقده بعض من يدعي العلم من الإهمال والعزوف.
تلك حال لم أقدرها، ولم أؤمن بذلك الخفي يومًا؛ ذلك الخفي الذي لم تفتأ أمي كل ليلة تنثر له قطع البيض وبعض الطّعام، فإن سألتها عن سبب ذلك، أجابت بأنّه “لهم”! فأظلّ طوال الليل أترقّب قدومهم وأمنّي نفسي برؤيتـهم! وصباحًا، كنت أسأل أمي:

– أماه، لم يأكل أيّ منهم قطع البيض التي نثرتها… الظاهر أنها لم تعجبهم!

– وكيف علمت ذلك؟ “هم” أكلوا ما طاب لهم وتركوا الباقي.

– لا… لا لم يأكلوا… فقد راقبتهم طوال الليل، ولم أجد أحدًا منهم حضر ليأكل شيئًا.
عند ذلك، تشهق وتزفر، وتتّسع عيناها، وتجيب صارخة خائفة منهم عليّ:

– ومن طلب منك مراقبتهم… دعهم وشأنهم… يا الله!

وربما كسرت بيضة بعد ذلك، أو خبأت “عدرة” في مكان لا أغفله، ولا يخفى على أحد من إخوتي، تحت سريرها. كنت آكل تلك “العدرة”، وأستلذّ “بالمحمر” الذي يغفل عنه أصحابنا، وتقرّ عينها حين تجده وقد أتخموا به!

وقد يجاوز ذلك الإيمان بهم، أن خلقوا أسطورة زعموها وآمنوا بها: مخلوق برمائي أشبه بالبشر، لولا مخالبه وقبعته التي يعتمرها، حتى أصبحت مضرب مثل وخوف للبحارة خصوصًا.
“اللسويجن” كائن لم يره أحد، بل هي آثار رأوها وأصوات سمعوها أكّدت لهم وجود ذلك المخلوق، وعزّزتها حوادث نسبوها إليه وألصقوها به.

تراهنت مع أحد الأصحاب على وجوده، واتفقنا على أن نلتقي عند الشاطئ منتصف ليلة، ليثبت لي ذلك أو أنفيه. وفي الموعد المحدّد، حضر مرتجفًا خائفًا، فبادرته ساخرًا:

– هل أصابك مسّ منه حتى ترتجف كلّ هذا الارتجاف؟

– دع عنك تلك السخرية، واسمع ذلك الهدير المخيف، ألا يثبت لك وجوده؟

– أي هدير! أمواج البحر وأصوات بعض البحارة هنا وهناك!؟

– …هناك، جهة الشرق، بجانب “بيبات” الشركة!

ضحكت من صاحبي، واستسخفت زعمه، فقد كان يعتقد ـ كما هو الحال عند معظمهم ـ أنّ الصدى هو صوت ذلك الوهم، ولم يستطع، كما توقّعت، أن يرينيه.

خرجت في تلك الليلة لا ألوي على شيء، كما يقولون، وربما كان خروجي لحاجة أو بعض أمر لأمي، رأت أني خير من يقضيه لها فقد ارتأت أنّه يمكن لأكبر أولادها أن يقضي من أودها ما استعجل في بهيم الليل. خرجت فرحًا لعلّي ألقى بعض الأصحاب فأسامرهم أو يسامرونني ساعة من الليل، أو حتى بعض تلك الساعة. وكان من عادتي أن أحاذي “حمام” القرية الشّماليّ في خروجي، لقربه من بيتنا، ففي القرية أكثر من حمام، قيل إنّ شركة النفط بنت الجنوبي، وقيل إنّ البلدية استحدثت تلك الحمامات بدل “حمامات الفضاء” الّتي كانت خلف بعض التلال، وقد قسمت حمامات القرية إلى قسمين للنساء وللرجال.

أما الرجال، فلهم حمام يقابل “مسجد الشيخ أحمد” في شمال شرقي القرية، وآخر في شرق القرية، في مقابل بيت المرحوم “محمد القيم”، وربما حاذى حمام الرجال هذا، حمام آخر للنساء يبعد عنه مسافة 500 متر تقريبًا. أما الرابع، فكان للنّساء أيضًا، ويقابل منزل المرحوم “محمد إلطيف” المقابل لقصرنا العامر. وقد بنيت هذه الحمامات في شاطئ القرية، مرتفعة عن مياهه، وإن غمر الماء في حالة “الجذب” أعمدتها بعض الأوقات. وفي كلّ حمام من هذه الحمامات المستطيلة الشكل، ستة أخرى تقسمه، يصعد إليها صاحب الحاجة عبر سلّم خشبي.

المهمّ أني خرجت الليلة لبعض أمور، كما أسلفت، ولفت نظري تجمّع بعض النسوة أمام “الحمام” القريب من منزلنا في ذلك اليوم، كن يتهامسن في خوف ووجل، وكان حديثهنّ يدور حول الجنّ أو “اللسويجن”، كما عرفت.

– يمكن مو هو؟

– والله العظيم هو؟ شلون تجدبيني وظلّه طالع واصل لآخر الشارع!

– بس وش بيسوي داخل؟

– سكنهم في مساكنهم… دروبهم ما ينعرف ليها.

– زين وحدة تدخل تشوف.

– والله لو أموت من الحصر ما دخلت، أي مجنونة مستغنية عن عمري!

حديث وهمهمة علمت منها أنّ “بعضهم بالداخل”، وينتظرن خروجه، ولكن كيف يجرؤ بعض الرجال على أن يدخل في هذا الوقت؟ ألا يخاف أن يكون مسبّة القرية ومحلّ ازدرائها؟! ثم كيف لم يحركن ساكنها وهن يعلمن ـ كما فهمت من حديثهن ـ شخصه!؟

– ليش ما تشتكون عليه ومخلينه؟

– نشتكي عليه! شكلك استجنيت!

– أي ما دام تعرفونه جان اشتكيتون عليه.

– نشتكي على “اللسويجن”! عند من؟!

“اللسويجن”! هل يتكلَّمن عنه؟ هل هو صاحب الظلّ المزعوم؟ تلك فرصة لن تواتيني أبدًا لو تركتها؛ أن أقابل من ملأ الدنيا وشغل الناس، فإن كان كما يعتقدون فررت، وإن الباب قريب أصله بقفزة واحدة أو…
ولأدع الهذر والتهذر، ولأصعد إلى الحمام لألتقي ذلك المبجل المتعمّم بقبعة الرعب والخوف، وأظنّ أني لم أسمع صيحات الجزع والرهبة حين وجد النسوة ذلك الصبي الذي لم يتعدَّ الثانية عشرة يصعد الحمام ليلتقي “اللسويجن”، أو ليناجزه ويقاتله. المهمّ أن الخوف توارى خلف الفضول… وصعدت درجات ذلك السّلّم وأنا أؤخّر خطوة وأقدّم اثنتين… ودخلت… كان الظلام حالكًا، والحمام بأقسامه يخيّم عليه سكون الخوف، ويزيده همس النساء الّذي بدأ يخفت وأنا داخله… اقتربت من “اللسويجن” في رهبة… وإذا ذلك المرعب الذي هزّ قلوبهنّ الضعيفة، خشب مسندة نسيها بعضهم داخل الحمام، حملتها بيدي الصغيرتين، وخرجت لألقيها عليهنّ:

– تفضّلوا “للسويجن”، مالكم… قتلناه!
كان ذلك الأمر حديث القرية في اليوم التالي، ومحلّ تندر وسخرية عند كثير منهم، ومحلّ غضب وخوف في قلب تلك الأم التي تحفّظت عن خروجي ليلًا في لاحق الأيام!

(3 )

في قريتي خمسة مساجد… شهدت بناء اثنين منها، أما الثلاثة الباقية، فلم أعرف سوى أنها مواضع كان بعض العلماء يصلّي فيها… فبنيت مساجد، وسمي كلّ موضع باسم ذلك العالم، واتخذ أثره بقعة من بقاع الله، وكأنّ الله أراد ألا تضمّ تلك الأرض صفائح ذلك النحرير… أو تتشرّف بعبق جنته في أرضه. حدّت تلك المساجد القرية من جهاتها الأربع، وكأنَّ ذلك العالم آثر الانقطاع، واتخذ تلك المواضع النائية في غابر الزمن موئلًا لعبادته ومناجاة ربه، فضلًا عن بعض الدروس التي كان يلقيها في الموضع نفسه.

أمّا الرابع، فقد بني بعد أن روت إحدى النساء أنها رأت في عوالم الصدق، أنّ بعض العلماء يصلي في تلك الأرض، وزعمت أنّ تلك الرؤى ناجزت أحلامها، حتى اضطرت المشّرع إلى أن يبني مسجدًا في تلك البقعة الطاهرة، غير أنهم تحيّروا في العالم الذي كان يصلّي في المكان، فلمّا ضاقوا بذلك، سموه “الضامن”، وكأنهم صادقوا على أنّ من يلبي نداء الله في المسجد.. ضمن جنان الخلد، أو كان من جنده المجندة على الأقل.
أما “الجامع”، فله قصته. كان مسجد القرية الرئيس قد ضاق بالمصلّين؛ ضاق ذلك الرّحب عن استيعاب أعداد المصلين حين يؤمهم شيخ الناحية وإمامهم الجامع، كان يصلّي بهم بعض أوقات… أو هي مرة في الأسبوع، ومع ذلك، كان المسجد يغصّ بالمصلّين، فما كان إلا أن افترشوا أرضه المحاذية إلى أن يأذن الله ويوسّع عليهم!

وربما لاحظ هو ذلك، ورأى ضيق الفناء وصغر الباحة:

– الناس تشكو صغر المكان يا حاج عبد علي.

– كنا نظنّ أنّ باحة المسجد الخلفيّة ستكفي تلك الجموع.

– لا بدّ من إيجاد حلّ… كلِّم الشيخ في ذلك.

– الشَّيخ يعلم.. وأظنّه أشار إلى الحاج مهدي برأي في مجلسه الأسبوع الماضي.

كان الشيخ في مجلسه قد اقترح أن يبنوا جامعًا كبيرًا يكفي تلك الجموع الغفيرة.

– المشروع مكلف يا شيخ.

– الأيادي البيضاء ستتكفّل ببنائه يا حاجّ مهدي، وسأكتب لك خطابًا لبعض الوجهاء يعينك في ذلك.
– توكَّلنا على الله.

“العالي”، كان أوّل وجيه كتب الشيخ خطابًا له وحمّله للحاج مهدي. جهد الحاج في الوصول إليه، فالرجل بالغ الثراء، ومشاغله الكثيرة تمنعه أن يلتقي عامة الناس، وربما كان مجلسه الأسبوعي الذي يعقد مساء الثلاثاء قد سهّل على الحاج مهدي لقياه، ثم هو في خير يستحقّ أن ينتظر الرجل أشهرًا وأيامًا في سبيل تحقيقه.

دخل الحاج مهدي مجلس الوجيه، فسلّم عليه تسليم المرهوب، وأزجاه خطاب الشيخ بعد أن أبلغه سلامه، وردّ عليه “العالي” في يسر أو بعض يسر، وهو يتسلّم خطاب الشيخ الذي تأمله بعض تأمل، ثم أومأ ـ أو هكذا تخيل الحاج مهدي ـ إلى بعضهم ليرافق الحاج مهدي إلى خارج المجلس ويسلّمه ظرفًا. تنفّس الحاج مهدي الصعداء، فقد ذهبت الرهبة حين تسلّم ذلك الظرف الذي أمله الحاج “مبلغًا” يقيه رهبة مجلس الوجهاء وسؤال كثير منهم. وربما كان فضول الحاج مهدي وخفّة الظرف، هما ما جعله يستعجل في فتحه قبل أن يبارح مجلس الوجيه.

حين فتح الحاج “مهدي” الظرف، أبدى دهشةً وعجبًا، فقد ضمّ مبلغًا لا يتعدى أصابع الكفّ الواحدة!
ربما كان الرجل أخطأ في هبته، أو اشتبه عليه الأمر، أو أنّ من سلّمه المظروف أعطاه غير ما قرره الوجيه، ثم إنّ خطاب الشّيخ أكبر من يتدنى تبرعه عن المئات، فضلًا عن دنانير خمس، وقفل الرجل راجعًا إلى عامر المجلس.

– طال عمرك، أظنّ من أعطاني الظرف اشتبه عليه.

– لم يشتبه يا ولدي، ألست مبعوث الشيخ؟!

– ولكنه زهيد لا يتبرع به ميسور!

– وهل تظن أنّ تلك الدنانير سرقناها سرقة، إنما هي تعب سنين وأرق عقود؟!

ولم يستطع الحاج مهدي صبرًا على منطق الوجيه وحجّته الدامغة في تبرعه، فألقى المظروف في مجلسه، ومضى محنقًا غاضبًا يخبر الشّيخ بتربّع الوجيه الكبير!
– لا عليك يا حاجّ مهدي، كلّ شيء يهون في سبيل الله، وسأكلّمه في ذلك.

– عدم تبرعه خير مما فعل.

– إلى خير يا حاج مهدي، إلى خير.

وطلب الشّيخ بعد أيام من الحاج مهدي أن يعود إلى الوجيه في مجلسه، فسيعطيه ما يليق! ودخل الحاج هذه المرة مجلس الوجيه دون أن تخالجه الرهبة أو تنتابه رئاسة أو فخامة.
– لمَ كان ذلك الغضب يا ولدي؟

ثمّ أومأ لبعض أتباعه، وعاود تسليم الحاج ذلك المظروف، وقد كان أقلّ اهتمامًا هذه المرة أو فضولًا، ولكنه فتح الظرف أمام الوجيه، ووجد ما يسرّ له الناظر، فنظر إلى الوجيه قائلًا:
– إن تبرعك هذا ـ رغم كثرته ـ إرضاء للشيخ، وليس لوجه الله، فلا حاجة لنا به!
ثم ألقى المظروف وخرج!

(4)

ما زالت ذاكرتي تتعلق ببعض رجالات القريّة، كنت أرى بعضهم فتأخذني الرهبة، وأحلم بأن يكون لي من المهابة ما حازوه أو نالوه. ولعلّ الذاكرة، إن ضاع منها الكثير، لا بدَّ من أن تتعلّق ببعض من توسّمتهم، وتخيّلت نفسي في موضع الوجاهة والفخامة كما هم.

– الحاج سعيد: كنت أترصّده بعض الترصّد كلّما مرّ وخلفه من رجالات القرية. كانوا يبدون له الهيبة، ولا يتقدّمه أحد منهم. كان ـ رحمه الله ـ طويل القامة مهيب، فيه بعض الانحناء، وكان يتميّز عن غيره ببياضه التام!
كان الرجل يلبس ثوبًا أبيض وعقالًا أبيض، وحتى “مداسه” كان أبيض. وقد زينت تلك اللحية البيضاء ذلك البياض، وزيّنه أكثر ذلك القلب الّذي وسع الفقراء والمحرومين من أهل قريتي، فقد كان مجلسه عامرًا بهم، لا يكفّه ليلًا أو نهارًا، بل كان بعضهم يجده مسجدًا فتحت أبوابه بدل ذلك الموصود.

– الحاج إبراهيم: لم أعرفه إلا رجلًا نافذ البصيرة، له من الرأي ما ينصاع له من لهم الحكم والمشورة في البلد، وربما قرر دون ما قرروا ورجحوا، من دون أن يستطيع أحدهم أن يعارضه أو يلومه. وباختصار، فقد أعطى الرجل كرسيّ “المخترة” مهابة وأهمية، وأذكر أنّ أحد المتنفذين حاول أن يستولي على أرض في القرية، فزجر من أرسلهم وطردهم، من دون أن يحاول ذلك المتنفذ أن يعاود كرته مرة أخرى.

– الحاج محمد بن إبراهيم: عرفته صاحب أسطول. ورغم ثرائه ويسر حاله، فإنه لم يكن متكبرًا أو متجاوزًا حقًا، بل عرفناه جارًا صاحب مروءة ويد بيضاء.

– الحاج علي بن مدن: أشدّ ما يعلق في ذاكرتي، هو السّاعة الكبيرة التي كانت تزيّن مجلسه. ولا أبالغ إن ادّعيت أنّ ساعته تمثل التوقيت الرسمي لأهل القرية، وربما كان موعد الصلاة أو غيره لا يكاد يتجاوز ثواني يعدّها الحاج في مجلسه، ويعلن فيها أنّ ترك البيع قد حان!

لا أدّعي أنّ هؤلاء هم فقط رجالات القرية من ذوي المهابة والتوقير، ولكنّهم من علق في الذاكرة أو علقت الذاكرة بهم، ربما لقرب بيتنا من بيوتهم، كالحاج محمد بن إبراهيم، أو لأيديهم البيضاء، كما في حال مختار القرية.

( 5 )

الحاج حسن بن كسيل: يوم مشهود ذلك اليوم الذي يزور فيه القرية. كان حلاقًا مشهورًا في منطقتنا، يزور القرية يومًا في الأسبوع أو يومين، يجلس مع أهلها في مجلس بيت “القيم”؛ أكبر مجالس القرية، ويؤمه الناس من أنحاء القرية، أو حتى من القرى المجاورة، ليحلق لهم “بروبيه” فقط. و”الفقط” هنا تهويل عند بعضهم، لأنها تعادل الدينار في وقتنا الحاضر.

وعلى كلّ حال، فقد أتقن الرجل نوعًا واحدًا من الحلاقة: “القرعة”! يد خفيفة. لا تكاد تشعر بتلك السّكّين الحادة الّتي يمررها فوق شعرك، لتخرج بعدها وأنت في خفة من الشعور بعد تساقط الشعر!
ولأنّ الشّيء بالشّيء يذكر، كما يقولون، فأذكر أني حين دخلت في سلك العمل ـ وكنت دون العشرين ـ خرجت في سوق المنام، لعلّي أجد بعضهم يخفّف بعض الشّعر، غير شفرة الحاج بن كسيل التي جعلتني ندرة بين موظفي الشركة التي أعمل فيها!

– سلام عليكم حجي، أبغي أحلق عندك في مجال؟

– تفضل يا ولدي.

– بس ما أبغي تحلق ليي “قرعة” خفيف.

– “تواليت” يعني.

– أي.

– والله أحنا ما نسوي هالتواليت، إذا تبغي أقرع تفضل، ما تبي كيفك.

– لا ما أبغي أقرع.

– قول أبغي أنفع لهنود.

– يا حجي، ما ليه معنى هالحمق، قلت ليك ما أبغي أقرع ومو مسألة هنود أو غيره، هالزمن القرعة تخليك مطنزة بين الناس، وبخاصة في العمل.

– إي تشبهوا بالإنجليز.

تركت الجدال مع الرجل، وتوجّهت إلى غيره من الهنود، لأخرج بآخر صيحات التواليت، ورجعت إلى المنزل خائفًا من رد فعل الوالد، رحمه الله.
– ما تستحي تسوي هالتواليت، تتشبّه بالأجانب.

– ما أقدر أحلق قرعه وأصير مطنزة، إذا منت موافق بفنش.

وربما كان للوالدة، رحمها الله، دور كبير في تهدئته، وفتح الباب بعد ذلك لإخوتي في النهج “التواليتي”.
الغريب أنّ ذلك المسنّ الّذي رفض أن يحلق لي “تواليت”، وجدته يزيّن بعض زبائنه به بعدها بسنين. وحين ذكّرته بما حصل، زجرني أشدّ الزجر، فيا لله من دول الدنيا!

( 6 )

ليس صحيحًا ما يُقال أو يُزعَم عن أنّ النقاء والصّفاء اندثرا بموت الآباء والأجداد، فلم يكن الخير كله فيما يفعلون أو ينهجون، وتلك النفس البشرية تتلوّن بتلوّن الدنيا، وتتكيّف كيفما تكيّفت، وتبقى أطماع البشر كما هي، وإن اختلف الزمان، أو تبدّلت الشخوص، وتباين المكان.

– أخ بس لو ترضى تتزوّجني.

– عندك ثنتين يا حاج رضي.

– والله ثنتينهم ما يسوون ظفرها، تخلص العدة بس!

حديث تنصّتّ عليه وأنا صغير بين فحول من قريتنا، ولا أظنّ أنّ غيري ينكر الواعية التي تنطلق من بعض بيوت الطين أو “العروش” في حالك الليل، إما لسرقة أو شهوة رجل من عصر النقاء والصفاء.
حدّثني من أثق من الآباء رحمه الله:

كان من جبروت بعضهم أن أمر بعض أتباعه أن يذهبوا “جزوي” يعمل عند غيره “ليحش” له.
– بس هو ما يشتغل ويانا طال عمرك.

– حتى لو ما يشتغل، روحوا ليه وقولوا ليه: النوخذه يقول ليه: اليوم العصر تروح “تحش”.

وحين رفض ذلك بحجّة أنه لا يعمل لديه، غضب أشدّ الغضب.

– روحوا جرجروه من بيتهم هني وأعطوه “دست”، علشان ما يتطاول على عمامه ويرفض.

والأشدّ من ضربهم له، أن أوعز إلى من يعمل عنده أن يطرده ولا يقبل أيّ من نواخذة البحر أن يعمل لديه.
ولولا أن سخّر له الله العمل في “بابكو”، لهلك الرجل وعياله من أجل جبروت “نوخذة” دالت عليه الأيام، وأصبح يستجدي من يعمل عنده!

( 7 )

بدأ البيت يضيق بنا… وبدأنا نضيق به. ذكريات ذلك البيت لا يمكن أن ينساها ذلك الصغير كما لا يتذكرها كثيرًا. هي طفولة مع أم رؤوم وأب كادح صنعته الأيام ومجالس الرجال، كما كان يقول حين أبى الدهر إلا أن يتركه وحيدًا بعد أن حصدت موجة الجدري أهله بأجمعهم. يتذكّر أمه في الصباح الباكر وهي تخط إلى خارج البيت لملء “البغال بالماء”، قبل أن تتعطف عليهم “بابكو” بمائها العذب.

يتذكّر ذلك البيت بصحيفته البيضاء، والذي حرصت أمه على دوامه رغم ترابيته. نعم نعم، يتذكر تلك الدجاجة التي وقفت طوال نهار أمام جحر تقتل فئران البيت، حتى لا يعتدوا على فراخها. وعلى كل حال، تلك ذكريات ما علق من طيبها ضاع مع الزمن، وما بقي حاولت ذاكرة تلك الطفل أن تنساه وتراكمه في غبار الأيام دون جدوى. والعجب ما حصل في تلك الأيام، إذ ادعى بعض الأقارب ملكية ذلك البيت، بل وأقاموا حجة البطش والتهديد دليلًا، وتنازلوا عنه صاغرين بعد ذلك، حين زجرهم “مختار القرية”، وردّ كيدهم في نحورهم كما يقال.

كان ذلك المختار وابنه أشدّ الناس عطفًا على ذلك اليتيم، ولولا تلك المحبّة وذلك العطف… لذاق كثيرًا من يتمه في شيخوخته، فضلًا عن حداثته!
أذكر أنّ أحد الأقارب هجم علينا “بمنجله” ذات يوم.

– منهو إلي ضرب ولد، والله إلا أقتلكم.

– تعود من الله يا حج أحمد، وصل على النبي ما ويانا غير الله، تتهجم على نسوان وجهال، خاف الله ويايي غريب ولد إختي.

ذلك استجداء لا أنساه، وتعطّف لا يكاد يفارق أذني وأمي تسترحم أحد الأقارب أن يتركنا وشأننا، والغريب أنها في تلك اللحظة، احتضنت ابن اختها دوننا، خوف أن ينطلق عقال الحاج أحمد من مربطه.
وعلى كلّ حال، فقد سأل أبي أحد أحفاد المختار أن يكتب له كتابًا للبلديات، يسألهم فيه أن يناله نصيب في التقسيم الجديد، وربما راجعهم الوالد، أو راجعتهم أنا رغم صغر سني، بل وكتبت خطابًا آخر لهم حين جاوزنا الدور شهورًا كثيرة، وكنت في مسجد الشيخ أحمد حين سمعت اسم أبي بين من قسمت لهم الدولة بعض أرضهم غرب القرية البور، لتعمر ببيتنا وبيت من جاورنا، بل وتتعدى تلك القرية حدود المساجد إلى المصانع.

انتقلنا إلى البيت الجديد بعد أن بنيناه بسواعدنا وتزوّجنا فيه. أما بيت الطفولة والذكريات، فقد مهره أبي لبعض أولاده حين عجز عن دفع مهورهم نقدًا.

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: أحاديث قريتي

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو 3 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا:

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>