أرشيف جعفر السّويدي.. أرشيف الصورة في قرية الدير

“من يملك الصّورة يملك الدّليل”. بهذه الجملة، كان جعفر السويدي يفتتح سيرته التي هي سيرة أرشيفه الذي حفظ فيه وجوه قرية الدير طوال السنوات الخمسة والثلاثين الماضية.

أرشيفه هو الشاهد الأكثر دلالة على ما كانت عليه القرية وما كان فيها. يحتفظ به ويتحفَّظ عليه حد الحرص المبالغ فيه. يبدو كمن يملك وحده دليلًا على حياة أو موت ويخشى عليه من الضياع، كي لا يضيع الشاهد الذي سيروي لمن سيأتي بعده هذه الحياة أو الموت. كان يحدّق في وجوه القرية وهي على وشك أن تغادر حياتها القديمة إلى حياة جديدة. أراد لهذه الحياة الجديدة أن تكون بذاكرةٍ ضوؤها متوهّج الصّور.

كيف كوّن جعفر السويدي دليله؟ وما الوجوه التي يدلّ عليها؟ وما قيمة هذا الدليل للقرية اليوم؟

يروي من دون أن تسعفه ذاكرته لتذكّر السنوات: كنا خمسة أصدقاء تجمعنا القرية والمدرسة؛ سلمان هلال وشريف السيد حسن وعلي داوود وعباس جعفر أحمد وأنا. قرَّرنا أن يدفع كلّ منا يوميًا 25 فلسًا من مصروفه الشخصي من أجل شراء كاميرا تصوير ضوئي. حين بلغ رأس المال 800 فلس ذهبنا إلى استوديو المحرق للأفلام الملوّنة، ومن هناك امتلكنا لأول مرة كاميرا تصوير بقيمة 800 فلس. ظللنا نجمع 25 فلسًا من أجل شراء أفلام الأسود والأبيض وتحميضها. صوَّرنا طفولتنا الشقية، وظلَّت الكاميرا تنتقل بيننا، والصّور كذلك. وفيما كان زمن الهواية ينتهي في نفوس أعضاء شركة كاميرا 800 فلس، تفرَّدتُ بينهم باستمرار هوى الصورة في روحي، ورحت أمعن في هواها.

حين بدأت الألوان تفصل تقاسيم الصورة، لم أجد شركة أكوِّن من خلالها رأس مال يمكّنني من شراء كاميرا ملوّنة، ولأني كنت أذهب بعيدًا في شغفي بالصورة وهي تؤرشف الوجوه وحياتها في القرية، فقد استعنت بكاميرات الأصدقاء؛ كاميرا حسن عيسى وإبراهيم عباس سلمان. كانا كريمين معي، وأنا مدين لهما بهذا الكرم. بدأت صوري الملوّنة من عدستيهما. وعندها بدأت أؤرشف ألوان القرية. صارت صوري ملوّنة على الرغم من أنَّ القرية كانت ذات لون واحد، لكنك حين تلوّن “الواحد” تبدو أكثر استجابة لضوء الشمس.

بعد شركة 800 فلس، وبعد عصر الاستعارات، صارت لي كاميرا خاصَّة، إنها كاميرا “ألمبس” ذات الفيلم المزدوج، التي تمكّنك من أن تجعل فيلم 36 صورة فيلم 72 صورة. اشتريتها في نهاية السبعينيات، وبدأت رحلتي المستقلة في أرشفة تاريخ الناس في قرية الدير.

لم تكن الكاميرا هي المشكلة الوحيدة في إنجاز هذا الأرشيف، فالكاميرا لا تشتغل في ضوء الشمس وحده، لكنها تشتغل في ضوء الثقافة أيضًا، وهو ضوء لا يمكنك أن تتجاهل تأثيره في صورتك، بل هو الذي يتحكَّم في وجودها وعدمه. كان ضوء ثقافة القرية في ذلك الوقت، يجد في ضوء الكاميرا انتهاكًا لمحرم، كما كان يجد في صوت الميكروفون انتهاكًا لمحرم. إنها الثقافة الإخبارية التي أرسى الشيخ إبراهيم المبارك تقاليدها في القرية.

عليك أن تخفي ضوء كاميرتك وإلا أحرقه ضوء الثقافة، إنه أقوى من أي ضوء، يتحكَّم في ما تصوّره وما لا تصوره، وفي ما يستحقّ التصوير وما لا يستحقّ التصوير، وفي الحدود التي يمكنك أن تصلها بضوء كاميرتك، ويتحكَّم في ما يمكنك أن تعرضه من صور اختلستها كاميرتك على حين غفلة.

كنت أجد في وجوه كبار السن صورة القرية الأكثر تهديدًا بالنسيان. وجوههم دليل القرية؛ الدليل الذي يمكنه أن يخبرنا عن الذين مرُّوا من هنا. كانت هذه الوجوه هي الأكثر ممانعة، فهي الوجوه التي يشعّ منها ضوء ثقافة القرية كأقوى ما يمكن. لذلك، لم يكن ضوء كاميراتي يلتقط طبقات ضوء وجوههم إلا على وجل وخوف. كنت أكمن لهم خلف الجدران وخلف النخيل وخلف وجوه الشباب، كنت أرقب رجلي أكثر مما أرقب عدستي، لأنَّ الصورة تحتاج إلى رجلي أكثر، فما ينتظرني هو الفرار بأقصى سرعة ممكنة من موقع التصوير كي لا يكتشف وجه مضاء بثقافة المنع ضوءك فينالك النَصَب.

لن تجد في أيِّ صورة من صور وجوه أرشيفي وجهًا ينظر في عدستي، ولا جسدًا يتهيأ لجسد كاميراتي، جميعهم لا ينظرون، بل يتهجسون طريقهم. هذا ما يجعل التصوير مغامرة محفوفة ليس بوجوه الناس، بل بوجوه المخاطرة. الوجه لا يسلّمك ضوءه الخاص في ثقافة تتحفَّظ على بصيص ضوء يأتي من غير جهة الشمس.

في المغامرة يكون الوقت مفتوحًا على التوقّع، لا تدري متى ستحين اللحظة المناسبة التي تمكّن ضوءك من التقاط حركة ضوء الوجه. في مغامرتي لتصوير الحاج حسن علي كاظم، بقيت ساعتين أترقَّب خروجه من المسجد ظهرًا حيث يكون الممر الذي يسلكه خاليًا من المارة والوشاة، كنت أتحيّن لحظة توحّده في الممرّ ظهرًا. ظللت أرقب المكان طوال هاتين الساعتين وأنا بين تهيئة الكاميرا وإخفائها، وبين الخوف والقلق، وبين التعويل على ضعف بصره والحذر من قوة بصيرته. ما زالت الصّورة تؤرشف ليس فقط وجهه الأبيض المشوب بحمرة جميلة، بل ما زالت تحتفظ بأرشيف حالتي لحظة تصويره. لذلك، فإنَّ أرشيف الصورة يحتفظ بضوء الوجوه وضوء ثقافتها. إنها دليل على الضوء وثقافته.

المغامرة الأكثر إثارة كانت تصوير خالي الذي كان بمثابة الوالد حجي علي النير وزوجته وقطّته فوق سفرة الغداء. لا شارع هنا أتخفّى فيه. إذا كانت الكاميرا تأثم مرة بانتهاكها ضوء الوجه، فإنها تأثم مرتين حين تنتهك ضوء وجه امرأة أو شيئًا من جسدها، مهما كان هذا الشيء قد بالغ في تستره. كانت الألفة التي تجعل من القطة تأكل على السفرة نفسها التي يأكل عليها خالي وزوجته مثيرة لضوء كاميراتي. وجدت فيها بحسّي الأرشيفي أنها ستكون دليلًا على ألفة هذه الحياة التي توشك أن تتحول إلى ألفة أخرى ربما لا يجتمع فيها اثنان على مائدة واحدة، فضلًا عن أن تجتمع معهم قطة وديعة.

وجدت أنَّ الاختباء أسفل سرير غرفتهما قبل الغداء بمدة سيمكّنني من التقاط الصورة من مسافة أكثر ألفة لسفرتهم. كان الجو صيفًا. وحين ضرب ضوء الفلاش عيونهم علَّق خالي: “يا سبحان الله، ما هذا البرق في الصيف!”. أغراني تعليقه بأن آخذ أكثر من صورة لمائدتهم التي لم تكن تعرف البرق بقدر ما كانت تعرف السكينة.

 

يبدو جعفر السويدي كمن يملك وحده دليلًا على حياة أو موت ويخشى عليه من الضياع، كي لا يضيع الشاهد الذي سيروي لمن سيأتي بعده هذه الحياة أو الموت.

كان خالي الصديق المقرب جدًا من الشيخ حسين ومن ثقافته الإخبارية المحافظة، وهذا ما ضاعف من مغامرة تصويره. كانت وجوه كبار السن هي الوجوه هي الأكثر استعصاءً على التصوير. أما وجوه النساء، فقد كانت خارج الضوء. حين بدأت المدارس تفتح ضوءها للجيل الجديد، صارت الصورة تأتيني. صرت معروفًا في القرية أنني أحتفظ بالصور الشخصية التي كانت في حينها غير ملونة. كان ضوء المدارس يلتقط ضوء الوجوه الشابة من غير حاجة إلى مغامرة. لم أكن أذهب إلى هذه الوجوه، كنت أضعها في أرشيفي في ألبوم خاص، كما كنت أضع صور وجوه كبار السن في ألبوم خاص. كلّ ألبوم يحكي ضوء جيل مختلف.

لقد لاحقت بكاميرتي “ألمبس” آخر ما تبقى من وجوه القرية: الأعراس القديمة حين كانت فرق الغناء الشعبي والليوه جزءًا أصيلًا من الحفل، وبساتين القرية قبل أن ينالها التصحّر، والغزو العمراني، وسواحل القرية قبل أن يصادرها الدفّان، وبعضًا من عيون القرية، وجزيرة خصيفة قبل أن تتحول إلى قاعدة عسكرية، والألعاب الشعبية، ومساجد القرية ومآتمها ومقبرتها وعمرانها، وبدايات صحوتها الدينية.

لقد كانت وجوه الناس كلها في أرشيفي، وهذا كان مصدر قلق وخوف بالنسبة إليَّ دومًا، وخصوصًا حين تشتد الأحداث السياسية وما يرافقها من إجراءات أمنية، حتى إني اضطررت في إحدى السنوات إلى دفن جزء من أرشيفي تحت الأرض خوفًا عليه وعلى وجوه الناس التي فيه من أن ينالها ظلام لا ضوء بعده.

في بداية الثمانينيات، حين بدأت الكاميرا ترصد الحركة. استعنتُ بكاميرا فيديو، وسجَّلت ثلاثة أفلام وثائقية؛ الأول عن الألعاب الشعبية في القرية، والثاني مقابلات مع من تبقى من رجالات الغوص، والثالث عن رحلة مع بحارة قرية الدير، صوَّرت فيها عملية جمع الطحالب (الحشيش) وتجهيزه وإيصاله إلى السفينة، ثم عملية الإبحار التي تستغرق 14ساعة، وما يبذل فيها من عمل وجهد بأيدٍ بحرينية خالصة.

 


لتحميل المقال بصيغة PDF: أرشيف جعفر السّويدي.. أرشيف الصورة في قرية الدير


أرشيفو  12 بصيغة PDF

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>