السيد الغروي البحريني .. فصل من رحلة في الغربة
في المسجد الذي أمّ فيه المصلين كان لقاؤنا معه في مدينة صور في جنوب لبنان.. لاحت لنا منارة قديمة، هي منارة مسجد الامام الصادق (ع)، تلك المنارة التي تحمل في التوائها عبق التاريخ الممتد من البحرين إلى ايران إلى النجف ثم البحرين ودولة الامارات ..
في لبنان يستقّر حيث لاح محياه سيدا كريما التصق بالتراب تواضعا، تبدّت في جبينه علائم النجابة. صافحته وقبّلت جبينه، ثم همست في أذنه قائلا: “أنا من البحرين جئت للتشرف بالجلوس معك“.. ودون أن يعرف غاية السؤال، أجاب : ” تفضلوا .. البيت قريب“.
للوهلة الأولى، تزاحمت أفكاري وقفزت الأسئلة إلى خاطري في حضرة سيد جليل محّصته الحياة، وقبلها محّص نفسه عبدا مخلصا في خدمة ما يؤمن به، فاغترب في سبيل الكرامة التي أمره الله أن يصونها حكما، خنقه الأمن في العراق فلاذ بموطنه الأم البحرين.
التحدّر من أصول بحرينية
لماذا البحرين؟!..السيد محمد بن السيد حسين بن السيد محمد بن السيد عبد الله الغروي القمشي البحراني يتحدّر من أصول بحرانية ترجع إلى عالم يدعى الملا السيد زكي البحراني، وهم من نسل يسمون في إيران السادة البحارنة. يخبرنا :” نزح جدي السيد زكي الى إيران، وفي إحدى القرى الإيرانية أقام حيث كانت تفتقر الى إمام الجماعة يوم ذاك، واليها أنسب وإلى البحرين وإلى النجف الأشرف، فأدعى السيد محمد الغروي نسبة الى الغري/ النجف الاشرف/ القمشي نسبة إلى قمش التي نزح اليها جدي السيد ملا سيد زكي/ البحراني – وربما نسب أيضاً إلى جبل عامل حيث أقام في صور زهاء ٣٧ سنة.
ولد السيد الغروي في النجف، وحين سألته عن سنة المولد، قال: “وجدت على ظهر المصحف الذي يقرأ فيه والدي، مكتوبا عليه أن ميلادي سنة ١٣٩٥ للهجرة ويصادف 1936 ميلادياً. وهي عادة يتبعها العلماء في تدوين تاريخ الولادات على ظهر المصحف. وربما يُعلل ذلك إلى أن المصحف أقدس وثيقة تحفظ من الضياع”. كانت هذه المقدمة محفزا لنا على سؤاله عن بداية مشوراه العلمي الكبير، فسرد قائلا: “كنت لا أزال طفلا حين أودعني والدي المكتب، والمكتب يعني الكُتّاب، كما دأب على تسميته الناس في البلدان المجاورة. فتعلمت تلاوة القرآن الكريم وحفظه، والقراءة والكتابة والحساب والهندسة. وبقيت في كُتّاب الشيخ عبد الله النيشابوري، حتى التحقت بالحوزة العلمية وأنا في سن الثانية عشرة، في مدرسة الشيخ الاخوند المجاورة لمدرسة الشيخ البخارائي. وهناك بدأت في دراسة المقدمات العربية على يد الشيخ الأفغاني – ذلك الأستاذ الموصوف في دراسة الأدب العربي في الحوزة. ودرست المقدمات والسطوح، وأنهيت درس الكُتّاب فالتحقت بدرس السيد الشهيد الصدر، ودرس السيد أبي القاسم الخوئي. وأتممت عنده دورة الاصول والتي تدوم عادة ست سنوات”.
عودة قصيرة إلى البحرين “الوطن الأم”
يروي السيد الغروي لنا كيف اشتدت عليه الرقابة والملاحقة من حزب البعث العراقي في أثناء حكم الطاغية صدام حسين، الذي كان يضطهد العلماء ويلاحقهم. يقول :” شاء القدر أن أنزح، عن النجف الاشرف في سنة ١٩٧٥، لكن ذلك لم يحدث قبل التشاور مع السيد أبي القاسم الخوئي والسيد محمود الشاهرودي، واقترحا أن أكون وكيلا للمرجعية هناك”.
لم يغادر السيد الغروي مباشرة إلى البحرين، حطّ رحاله أولا في لبنان، حيث تشاور مع الإمام المغيّب السيد موسى الصدر الذي أخبره أن الشعب البحريني من أكثر شعوب الخليج ثقافة. وحمّله رسائل إلى شخصيات مختلفة في البحرين، من تجار وعلماء.
في البحرين، التقى السيد الغروي بالشيخ سليمان المدني، الذي كان زميله في كلية الفقه بالنجف الأشرف. وكان يتردد على بيت السيد علوي الغريفي (رحمه الله)، وعلماء أخرين أجلاء. “كان وجودي في البحرين بغرض أن أكون وكيلا عن المرجعية، وليس لأي غرض سياسي. وفي تلك الاثناء وفي أيام شهر رمضان المبارك انبهرت من حضور الحسينيات الكثيف والتدين الذي يتحلى به أهل البحرين وحبهم وولائهم لأهل البيت (عليهم السلام). وكنت ألتقي الشباب العاملين في الحقل الإسلامي وأصلي في أحد مساجد العاصمة. وفي فترة إقامتي في البحرين حدث أمر في العراق، حيث جاءتني مكالمة بأن نظام البعث العراقي اعتقل الشيخ عارف البصري أحد أقطاب حزب الدعوة. كانت تلك المكالمة تحثّني على التحرك وعمل شيء في البحرين، من أجل الشيخ البصري، وأقلقني وجعلني أتأمل أكثر. فذهبت إلى السنترال بعد منتصف الليل، واتصلت بالسيد موسى الصدر، وأخبرته بما حدث، فأجابني أن استطعت مع العلماء تنظيم تظاهرة كبيرة في البحرين احتجاجا على ذلك، وإلا فلا تستطيع أن تفعل شيئا أكثر”.
لم يستطع السيد الغروي فعل شيء يذكر بهذا الصدد، حتى عرف أن الشيخ نجم الدين الطبرسي قد عزم على المجيء إلى البحرين وكيلا عن السيد محمود الشاهرودي. فبادرت إلى استقباله في المطار. وكان الشيخ مستبشرا بقدومي. وكان قد شكّل قدوم الشيخ الطبرسي إلى البحرين للسيد الغروي عزاء كبيراً في سد فراغ مدقع في الساحة العلمية.
يقول السيد الغروي مختتما هذا الفصل من حياته : “بعدها سافرت إلى دبي حيث ألتقيت بالعلامة السيد مهدي الحكيم، وكان رئيسا للأوقاف هناك، والشيخ مهدي العطار. وتمّ تكليفي من السيد مهدي الحكيم سدّ فراغ إمامة الجماعة في مسجد حاج عيسى محفوظ في “أبي ظبي“، إلا أن المقام لم يطل بي هناك، إلا شهرا، كما لم يطل بي المقام في البحرين غير ثلاثة أشهر، فطويت الصفحة..”.
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: السيد الغروي البحريني .. فصل من رحلة في الغربة
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- الزجل.. حافظ تراث اللبنانيين وابن الناس الطيبين
- “حاضر البحرين” للشيخ إبراهيم المبارك.. يوميات الأيام الخوالي
- أديم الأرض: الشّيخ الإمام أحمد بن سعادة البحراني
- مخطوطات في المآتم النسائيَّة في البحرين
- “لئلا تضيع” سلام الراسي: ذاكرة النّاس للناس
- الذاكرة السياسيَّة في مدوّنات علماء البحرين في القرن الثامن عشر الميلادي
- التاريخ الشّفهي: خصوصيّته كمدخل للتعرّف إلى تاريخ أفريقيا السّوداء
- تجربتي مع التّاريخ الشّفهي
- الوثائق الأحسائيّة ذاكرة حيّة لعصور مضت
- أول بعثة بحرينية للجامعة الأميركية
- فوبيا الكاميرا.. بين أن أُعْدَمَ أو أن أَعْدِمَ أرشيفي
- أحاديث قريتي: قرية المعامير البحرينية
- رحلتي مع المخطوط
- حادثة الأسد
- حياة الناس في القرية البحرينية ” قبل النفط “
- حديث الحمير .. حكايات أيام زمان