حديث الحمير .. حكايات أيام زمان  

حديث الحمير .. حكايات أيام زمان  

        عندما اقترح عليّ الدكتور علي  أحمد الديري الكتابة عن الحمير في منطقة الدير لتكون توثيقاً لمرحلة من الزمن، حيث كان الإنسان في المنطقة يستعين بهذه الحيوانات الأليفة لمساعدته في بعض الأعمال –  قلت في سري عاد عن الحمير يا دكتور!..  لكنني استدركت، وقلت له إن الموضوع  يبدو مثيراً..  ومع أن بيئتي الطفولية ليست بيئة بحرية أو زراعية، إلا أنّني ولدت في الدير، وعشت طفولة ثرية في حراكها ولهوها البريّ في تلك الازقة المتربة. كما عاصرت تلك الفترة التي كان للحمير فيها صولات وجولات حيث إنها الوسيلة كانت المثالية لمساعدة الإنسان في الأعمال الزراعية وفي الصيد البحري بشكل خاص.  

ركلتها لا تزال أثارها إلى اليوم ..!

        ولقد مررت شخصياً  في مرحلة الطفولة بتجربة قاسية مع أنثى الحمار “آتان”. فقد كنّا نجري ورائها عبر الأزقة  نريد الإمساك بها، وعند أحد المنعطفات على الطريق أدركتها وأمسكت ذيلها فما كان منها أن ركلتني ركلة قوية لم أفق إلا وأنا ملقى في بيت خالتي والدماء تنزف من شفتي وذقني، ولا تزال آثار هذا الجرح باقية إلى اليوم ! ..

        حضرتني هذه الحادثة، وبحضورها تداعت الكثير من الذكريات  الطريفة عن الحمير في قريتنا الحبيبة.. ذات مرّة في الثمانينيات من القرن الماضي، اتصل أحد زملاء المهنة من منطقة “الحد” طالباً مني إرشاده إلى مكان تكثر فيه الحمير،  لأن أولاده كما قال-  يريدون رؤية  هذا الحيوان في الطبيعة، بلحمه وشحمه..  وقال إن أقرب منطقة وأكثرها شهرة بوجود الحمير فيها هي “الدير”..  !! ..

        في الحقيقة، امتعضت من كلامه  في البداية، وظننت أن في الأمر تورية أو مزاحاً  ثقيلاً فيه نوع من المجاز ..!. لكن، بعدها عرفت حسن نية الزميل وأنه لا يقصد شيئاً مما ذهبت اليه ..!. وفعلاً  حضر إلى الدير قبل المساء، ومن حسن حظه أنّا شاهدنا حمارتين، واحدة واقفة والأخرى مستلقية على الأرض تحكّ جلدها بالتراب !!.

        ومن أطرف ما سمعت أيضاً في هذا السياق أن أهالي قرية عراد كانوا يحذّرون من يملك حماراً ذكراً ألا يقترب به من منطقة الدير..!!  يا ترى ما سبب هذا التحذير ؟ ..

لنترك الذاكرة تجود علينا من مخزونها، وتحكي بعض اللطائف حول الحمير .. وهذا موقف آخر حصل لي أيضاً وذلك عندما جائني أحد الجيران مبتسماً، وقال لي :” يا أستاذ حسن، إن لي عندك طلباً فارجو الا تخيّب ظني“، قلت له :” تفضل..”، قال :”إننا مجموعة  من الشباب وقع بيننا رهان وعليك أنت بالذات وهو أن تركب هذه الحمارة الأليفة من هذه النقطة، وتدور بها على مسجد الخيف ثم ترجع إلى هذا المكان، ولك منا مائة دينار !!”.  قلت له بدون تردد :” اسمح لي، طلبك هذا مرفوض جملة وتفصيلاً،  ليس خوفاً من ركوب الحمارة، ولكن خوفاً من نظرة المجتمع بعد ذلك وصعوبة اقناعهم بأنني بكامل قواي العقلية، وأعتقد هنا لا تنفعني المائة دينار أو أكثر. !!”.

يبدو أن الحديث عن عالم الحمير بدأ يحلو ويتشعب. فهذه ظاهرة أخرى، لفت نظري لها أحد الأخوة، وهي أن  معظم مستخدمي الحمير في قرية “الدير” يفضّلون اقتناء الأناث وتربيتها أكثر من الذكور، لأنهم كما يقولون “اليّن عريكة وأسلس في القيادة  ولا تحتاج إلى جهد كبير في “تعسيفها”. والتعسيف هو مصطلح الترويض نفسه بالنسبة للخيول. وطريقة تعسيف الحمير، كما سمعت تبدأ بإدخال الأنثى إلى البحر والركوب على ظهرها، حيث تبدأ بالنفور والركل العنيف في الماء، لكنها بعد فترة تألف ركوب الإنسان عليها  كما تعتاد على تحمّل الأثقال على ظهرها .

حمير أهل “الدير”..احذروا منهم !

وتحتفظ الذاكرة الجمعية لأهالي الدير في السبعينيات أن شخصاً من المحرق يسمى” برّوك الجمل ” كانت مهمته تنظيف حُفر  المجاري “البواليع“، قبل انشاء مشروع الصرف الصحي. وكان يساعده حماره القوي في نقل المخلفات إلى البحر. ويقال إنه وفي أحد المرات أفلت زمان الحمار من “بروك” وأسرع جرياً إلى حمارة واقفة، ونزا عليها عدة مرات فسقط على أثرها ميتاً ..!!.

        ولقد شاهدت شخصياً أحد الحمير الذكور وقد هجم على آتان كانت محصورة بين سياج،  لكنه لم يتمكن منها لأنه علق على هذا السياح ! . ومن هنا نفهم خوف  أهالي “عراد” على حميرهم الذكور من الاقتراب من الدير!!..

أما اقتناء الذكور وتربيتهم في “الدير” فعددهم محدود جداً. وقد عاصرنا منهم الحاج ابراهيم عباس وأخيه الحاج حسن عباس (رحمهم الله) وابن اختهم الحاج عباس.  ومن المشهورين في مهنة “الحمارة”  في القرية الحاج احمد بن علي بن سلمان السلموني وابنه الحاج حسن، ولقد ورثا هذه المهنه من جدهما الحاج علي بن سلمان السلموني والد الحاح سلمان وجد علي سلمان. وهناك وثيقة نادرة صادرة من بلدية المحرق في عشرينيات القرن الماضي تخصّ الحاج علي بن سلمان السلموني تخوله ممارسة مهنة الحِمارة ..

والحمير الذكور عادة أقوياء البنية ويستخدمون لنقل الرمال والحصى من البحر. ومؤخراً تمّ استخدام بعضهم في نقل أكياس الأرز من بعض المتاجر إلى المنازل.

أما الحادثة التي اصبحت حديث “الدير” في الستينيات، هي هيجان حمارة الحاج حسن بن احمد والد أبي حكيم وعضّها لابنه عبدالله حسن احمد عضّةً نافدة في يده، بعد أن دخل يقدّم لها الطعام، وكانت هذه الحمارة قد ولدت منذ أيام ..

        وطبيعي، ونحن نتحدث عن الحمير أن لا ننسى حمارة  “الحاج احمد بن حمود”..!. وهو شخصية عُرف بالطرافة، ولقد عرفناه  صغاراً يأتي راكباً حمارته بشكل يومي من منطقة  الجنمه في سماهيج الى الدير، وهي محمّلة بأنواع الخضروات المحلية والمشموم والرازگي.. يطرق أبواب البيوت بعصاة لتخرج النساء للشراء، وهو على ظهر حمارته لا ينزل لكبر سنه..!  ويذكره الكثيرون وهو يردّد بعض الأهازيج كدعاية لمبيعاته ..

        الحمار هذا الحيوان الأليف وصديق الإنسان والذي روّضه الفراعنة منذ آلاف السنين .. كما أنه ذكر في القران الكريم (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ).. إذ يعدّ هذا الحيوان في الواقع بطلاً مظلوماً. إذ لحقت به صفة الغباء رغم ما يمتاز به من ذكاء يتحدث عنه الأشخاص الذين تعاملوا مع هذا الحيوان. فهو يحفظ مكانه ولا يضيّعه، سواء المنزل أو المزرعة وحتى الذهاب إلى مصائد الأسماك “الحضور”  في عرض البحر.. ولقد اشتهرت حمارة الحاج حسن الحماقي (رحمه الله) في هذاا المجال ..

        الآن وقد انفضّ السامر، وذهب ذلك الزمان ولم تعد الحاجة قائمة للحمير، وانتهت ظاهرة وجودهم في شوارع الدير القديمة وأزقتها، لا يسعنا إلا أن نردّد  … وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ … ولكل زمان دولة ورجال ….

حسن الوردي / الدير ١٢/١٢/٢٠١٥

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: حديث الحمير .. حكايات أيام زمان  

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو  1 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا:

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>