الأب كولومبا ستيوارت.. الراهب الذي أنقذ مخطوطات من داعش في سوريا والعراق

الأب كولومبا ستيوارت.. الراهب الذي أنقذ مخطوطات من داعش في سوريا والعراق

ترجمة: *غنى مونس

إنقاذ أثمن الآثار في العالم مشروع شاقّ، وقد يبدو من غير المرجّح أن يكون راهب بندكتي الشّخص المناسب لتولي هذه المهمة، غير أنّ الأب كولومبا ستيوارت Columba Stewart مصمّم على ذلك. هذا الأب الأميركي البالغ من العمر 59 عامًا، أمضى السنوات الثلاث عشرة الماضية من عمره في الشّرق الأوسط، وهو يحاول إنقاذ مخطوطات إسلامية ومسيحية كانت تهدّدها الحروب والسّرقة وتغيرات المناخ، ومؤخرًا داعش.

يقول ستيوارت: “نظرًا إلى ما حصل في الأعوام الأخيرة منذ انتشار داعش، من الواضح جدًا أنَّ الأمور أصبحت خطيرة جدًا. من الضَّروري التأكّد من أنّ المخطوطات بخير، لأنّنا لا نعلم ما الَّذي قد يحصل لها”.

وفي الوقت الَّذي دمَّر مقاتلو داعش عددًا لا يحصى من القطع الأثرية، حاول ستيوارت مواجهتهم بالعمل مع مجموعات مسيحية ومسلمة في مناطق ساخنة مثل العراق وسوريا، ودرَّب فرقًا محلية لتصوير كتب تعود إلى قرون خلت، بمساعدة منظَّمة غير حكومية يديرها، هي مكتبة ومتحف ذا هيل للمخطوطات Hill Museum & Manuscript Library. وانطلاقًا من دير وجامعة سان جون في كوليجفيل في مينيسوتا، فإنَّ المكتبة مكرّسة للحفاظ على المخطوطات المهدّدة بالتدمير على ميكروفيلم وفي صيغة رقميّة. وقد تمكَّنت من تصوير أكثر من 140 ألف مخطوطة كاملة حتى الآن، أي أكثر من 50 مليون صفحة مخطوطة يدويًا، وفقًا لما أشار إليه موقع المنظَّمة، غير أنَّ المرحلة الرقمية هي الأخيرة في عملية بطيئة وأحيانًا معقّدة، فالتّواصل مع مختلف المؤسسات الدّينية، والمنظمات الثّقافية، والأسر التي تحتفظ بمجموعات من المخطوطات، قد يحتاج أحيانًا إلى أعوام من السفر وإلى الكثير من الدّبلوماسية التي تهدف إلى الحصول على الثقة من دون ضمان نتيجة إيجابيَّة.

كثير من الجماعات التي يتواصل معها ستيوارت تأثّر بسنوات من الحرب والاضطهاد أو النّزوح، وهم حذرون تجاه الغرباء. بعضهم أيضًا كثيرو الشّك بشأن منح الغربيين حق الوصول إلى كنوز ثقافية، نظرًا إلى عشرات الآلاف من المخطوطات التي تم تهريبها خلال فترة الاستعمار، وهي الآن في عدد من المتاحف والمكتبات في جميع أرجاء أوروبا. وهنا يأتي دور سمعة ستيوارت كراهب.

“يعلم الجميع بشأن المخطوطات وعملية التعلّم لدى البندكتيين، إنّها جزء من هويتنا، هي سمة عالمية نوعًا ما”، يقول ستيوارت. بالفعل، بدأت علاقته بالمخطوطات بشكل شبه عرضي عندما طُلِب إليه في العام 2003 الانضمام إلى رحلة ميدانية تحضيرية تابعة لمكتبة ومتحف ذا هيل، نظرًا إلى علاقاته في إطار الرهبنة. وأضاف: “كوني راهبًا يضعني ضمن فئة مختلفة جدًا. يفهم النّاس أني لا أمثل شركة تجارية كبيرة أو وكالة ثقافية إمبريالية”.

ومن الضَّروري في هذا الإطار فهم سياسة مكتبة ومتحف ذا هيل في تدريب أعضاء الفريق المحليين الذين يستطيعون الحفاظ على السيطرة المادية على المخطوطات، ويشرح ستيوارت: “لا نلمس المخطوطات أبدًا، فهم الأشخاص الذين يقومون بالعمل، ويحصلون على الأجر مقابله، ويشعرون بالفخر لأنهم يستطيعون أن يقولوا: “لقد قمنا بذلك”، وهو أمر حقيقي”.

في القدس، حيث كانت مكتبة ومتحف ذا هيل تقوم برقمنة أربع موسوعات إسلامية ومسيحية، كانت شيماء البديري التي درست عملية الحفاظ على المخطوطات في دبي، تدير العملية، وقد أمضت بعضًا من السنوات الماضية في تصوير آلاف الصفحات، بما في ذلك تلك التابعة للمجموعة الخاصَّة بعائلتها.

وأعربت شيماء عن كونها فخورة جدًا بما تفعله، وأرتني مخطوطة جميلة مزخرفة بالذهب، تمتلكها مكتبة البديري. وكانت ترتدي القفازات لتفادي إلحاق الضَّرر بالصفحات الحسّاسة. كانت تحبّ جدًا هذا العمل، لأنَّ المجموعة لأجدادها.

يزور ستيوارت القدس سنويًا. وقد راقبته مؤخرًا وهو يلتقي برهبان سريان أرثوذوكس، ويؤثر في بطاركة أرمن وعوائل فلسطينية. ذات صباح، ومع إشراقة الشمس فوق مئذنة أحد المساجد في المدينة القديمة، تبعته في الشوارع القديمة للسوق. توقَّف أمام باب حديدي يعلوه قوس حجري، ودخل عبر بوابة دير مار مرقس السرياني الأورثوذكسي. رحَّبت به مجموعة من الرهبان الجالسين حول طاولة بلاستيكية بحرارة. وبعد حديث صغير، وبضع رشفات من القهوة بالهيل، قاده رجل هزيل ملتح عبر السلالم إلى غرفة يعلوها الغبار. هناك، في الكابينة الخشبية، كانت بانتظاره صفوف من المخطوطات الثمينة التي تعود إلى القرن السادس الميلادي.

فتح ستيوارت بحذر إحدى المخطوطات، متأملًا الخطّ الأنيق على صفحاتها الصفراء. كانت مكتوبة بالسريانية، وهي لغة شرق أوسطية قديمة. تمت ملاحقة الكثير من المسيحيين السريانيين، وأُجبِروا على مغادرة منازلهم في سوريا والعراق في السنوات الأخيرة، ومخطوطاتهم هي بعض ما تبقى من مكوّنات هويتهم الثقافية. وبالتالي، حين تواصل ستيوارت مع الدير في العام 2011، رأى الرهبان فيه فرصة لإنقاذ تاريخهم.

يقول شيمون كان، أمين المكتبة والخطاط البالغ من العمر 65 عامًا، وأحد أكثر داعمي مشروع الرقمنة: “لقد ترك آباؤنا القديسون هذه الكتب، ومن واجبنا أن نظهر هذه الكنوز للعالم، وأن ندع أطفالنا يفهمون الحكمة التي تتضمّنها”.

مواجِهًا باستمرار المخاوف الَّتي يمكن لمثل هذه المجموعات معاناتها، يمكن لطاقة ستيوارت أن تبدأ بالتلاشي بعض الشيء عند الغروب. “أنا أبلغ تقريبًا ستين عامًا من العمر، ولن أواصل القيام بهذا عندما أكون في السبعين”، هذا ما قاله لي.

تحت إدارة ستيوارت، وسّعت مكتبة ومتحف ذا هيل نشاطاتها في الهند، حيث صوّرت مؤخرًا عشرة آلاف مخطوطة من أوراق النخيل، وفي أثيوبيا، حيث رقمنت مخطوطات غاريما غوسبلز، التي يُعتقد أنها أقدم مخطوطات أثيوبية مُكتَشَفة. وقد عملت المنظَّمة أيضًا في دول الشرق الأوسط، مثل مصر ولبنان وتركيا، وصوّرت آلاف المخطوطات التابعة لعدد من الطوائف، في عدد من اللغات، من الأقباط إلى الموارنة، ومن اللغة اليونانية إلى اللغة اللاتينية.

في العام 2013، قرَّرت المنظَّمة البدء برقمنة المخطوطات الإسلامية أيضًا. في مالي، تعمل المكتبة حاليًا على رقمنة أكثر من 300 ألف مخطوطة إسلامية، بعد أن كانت ستُدمّر حين سيطر الإسلاميون المتحالفون مع القاعدة على مدينة تيمبوكتو في العام 2012.

ومع انتشار داعش، تم فقدان أو تدمير 2000 من 6000 مخطوطة كانت المكتبة قد عملت على رقمنتها في العراق بين الأعوام 2009 و2014. وقد واجهت مخطوطات أخرى تمت رقمنتها في سوريا المصير ذاته.

ستيوارت يحاول ألا يفكّر في كل هذا. يقول: “إن فعلت، سأغضب حقًا، غير أنَّه سيكون أكثر إيلامًا بالنسبة إلي إن علمت بتدمير مخطوطة لم نصوّرها، إذ سنكون خسرناها كليًا”.

وفي حين يمكن أن يكون إنشاء البدائل الرقمية للمخطوطات سهلًا إلى حد ما، فإنَّ الحفاظ على المخطوطات الأصلية من التدهور المادي مسألة مختلفة كليًا. ولأنَّ الصفحات القديمة معرّضة للحشرات والديدان والفطريات، فإنه يتعيّن لفّ المخطوطات وتخزينها في أوراق وصناديق [من الكرتون] خالية من الأحماض، وأحيانًا في بيئة خالية من الرطوبة الزائدة. وبمجرد أن تتعرَّض المخطوطة لضرر كبير، فإنَّ إعادة ترميمها ستكون عمليّة مكلفة للغاية.

ووفقًا لخضر سلامة البالغ من العمر سبعين عامًا، وهو أمين عام مكتبة الخالدي في القدس، حيث توجد مجموعة من 1200 مخطوطة إسلامية وعثمانية وفارسية تتمّ رقمنتها من قبل المكتبة ومتحف ذا هيل، فقد تم إنفاق 70 ألف دولار لترميم حوالى مائة مخطوطة. وتوسّع نطاق العمل من الطب إلى الفلك، ومن التفسير القرآني إلى الفلسفة والشعر. والمخطوطة الأقدم، وهي نص من التاريخ الإسلامي القديم، تعود إلى القرن العاشر.

ويرى سلامة أنه “على الرغم من أن غالبية المخطوطات تتعلق بالدين الإسلامي، فإنَّها تجعلنا أيضًا نفهم ثقافة المجتمع في الزمن الذي كتبت فيه”، مضيفًا أن “هذه الأعمال لا تنتمي فقط إلى العرب أو المسلمين أو الفلسطينيين. إنها تراث للجميع في هذا العالم”.

ستيوارت، الذي يتمثّل هدفه الأبرز في إنشاء المجموعة الأكثر شموليَّة وتنوعًا من المخطوطات الرقميَّة، يعلم أن المستفيدين الرئيسيين منها سيكونون العلماء، لكنَّه يأمل أيضًا أن تساهم هذه الموسوعة في فهم أفضل بين المسيحيين والمسلمين. ويقول: “إن لم نعثر على صلات أعمق، فسنظلّ دائمًا عالقين في خلافاتنا السّطحية. سنظلّ خائفين ونشكّك ببعضنا البعض”.

بالنسبة إليه، فإنَّ “العلاقات لم تكن دائمًا سهلة في الماضي، لكن إن تعلَّمنا من الأماكن التي عشنا فيها سوية، فقد نتعلَّم كيف نعيش معًا”.

مصدر المقال: goo.gl/aXBcW5

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: الأب كولومبا ستيوارت.. الراهب الذي أنقذ مخطوطات من داعش في سوريا والعراق

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو  9 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>