المتروكات الأثرية في القطيف تدلّ على حضارة عظيمة

الباحث السعودي سلمان رامس لمجلة “أرشيفو”:
المتروكات الأثرية في القطيف تدلّ على حضارة عظيمة

*رؤى شمس الدين

يقول عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبواش: “إنَّ الحاجة إلى كتابة تاريخ فترة ما أو تاريخ مجتمع أو حتى تاريخ شخص ما، لا تتيقَّظ إلا عندما تبتعد هذه الأشياء جداً في الماضي، ويقلّ حظّ أن نجد حولنا عدداً من الشهود الذين يحفظون بعض الذكريات”.

حديثنا في هذه المقابلة عن منطقة البحرين الكبرى، أوال والخط (القطيف حالياً) وهجر، التي ضربت جذورها عميقاً في الماضي، فكانت الحاجة ماسّة إلى كتابة تاريخها، ولكن كان دون ذلك تحديات. ولعلّ قلّة الشهود ليست سوى إحدى العقبات التي تقف أمام حركة تأريخ لما تزَلْ في بداياتها.

عن تاريخ المنطقة والجهود البحثية القائمة اليوم لتوثيق حضارتها، تحدَّث الباحث السعودي سلمان رامس، انطلاقاً من تجربته الخاصَّة في الكتابة والبحث، فكانت هذه المقابلة:

ألَّفتَ العديد من الكتب المتعلّقة بتاريخ منطقة البحرين الكبرى، كيف تدرّجت في الكتابة التاريخية؟ وماذا كشفت لك الأبحاث التي أجريتها عن هذه المنطقة؟

برز اهتمامي بالتاريخ بشكل عفويّ. في المرحلة الجامعية، وجدت أنني أهوى البحث في تاريخ المنطقة، فبدأت بقراءة بعض الكتب، من مثل كتب المؤرخ السعودي محمد المسلم (1341/ 1414هـ – 1922/ 1994م). وبذلك، شكلتُ فكرة مبدئيَّة عن تاريخها، ثم وجدت، من خلال القراءات المكثّفة، أنَّ ثمة فجوات في كتابة التاريخ وتوثيق المعلومات وبعض الأحداث المتعلقة بها في مراحلها المختلفة. وبموازاة ذلك، التقيت الكثير من الشباب الذين كانوا يطالبون بتسليط الضَّوء على مكانتها في العصور القديمة.

من هذا المنطلق، أخذت على عاتقي البحث في تاريخ المنطقة القديم، من الساحل الشرقي إلى شبه الجزيرة العربية، أي الساحل الغربي إلى الخليج، بدءاً من الكويت والبصرة شمالاً، حتى قطر وما يسمى الإمارات العربية جنوباً. لقد شهد هذا الساحل تعاقب حضارات ذات علاقة وطيدة بالحضارات المحيطة بها، من إيران إلى بلاد الرافدين، إلى بلاد الهند والسند، إلى الساحل الشرقي الأفريقي، ناهيك بالداخل في شبه الجزيرة العربية.

في بداية بحثي، وجدت أنَّ المنطقة تزخر بتاريخ عظيم يخفى على الكثير من الباحثين المتخصّصين! من هنا، جاءت فكرة إعداد كتاب “القطيف دراسة في التاريخ القديم”، الذي أوضحت فيه أنَّ منطقة القطيف وما حولها، بما فيها جزيرة تاروت، كانت تتميز بحضارة مهمّة، تدلّ عليها المتروكات الأثريَّة التي ترجع إلى حوالى خمسة آلاف سنة قبل الميلاد.

كما أنَّ أبحاث الكثير من المتخصّصين، من مثل الباحث الأسترالي دانيال بوتس (D. T. Potts)، جيفري بيبي (Geoffrey Bibby)، الدكتور عبد الله المصري، الَّذين نقبوا في المنطقة خلال السيتينيات والسبعينيات، تؤكد وجود علاقة وطيدة جدًا بين المتروكات الأثرية فيها وتلك الموجودة في بلاد الرافدين وبلاد الشام.

أيضاً، بدأت أكتب عن دلمون، باعتبارها لا تبعد كثيراً عن المنطقة التي نتناولها، فأما أن يكون قلبها النابض جزيرة تاروت، وأما أن يكون جزيرة أوال، أو أنّ قلبها النابض أو عاصمتها، كما يقول كثيرون، انتقلت من منطقة إلى أخرى، فقد كانت تاروت، ثم انتقلت إلى أوال، ثم اتّجهت إلى جزيرة فيلكا في الكويت. هذه الحضارة التي كتب عنها السومريون في الألواح الطينية، تؤكّد أنّ الإنسان الذي عاش في المنطقة كان يخوض البحار وينسج علاقات تجارية مع بلاد الرافدين وإيران والبلاد الأفريقية، ما يؤكّد أنه كان متحضرًا.

بعد التخرّج من الجامعة، بدأت أكتب عن تاروت، من خلال دراسة ميدانية تناولت فيها وضع الأراضي، تقلُّص الأراضي الزراعية، النمو العمراني، والنمو المساحي، فكان كتابي الثاني عن هذه الجزيرة. كذلك، كتبت في بعض الصّحف عن دارين؛ الميناء المشهور بتجارة المسك والعطور، وعاصمة العطور الأولى التي تكرر ذكرها تاريخياً بشكل لا يمكن إغفاله، وكان الشعراء في الجاهلية وخلال العصرين الإسلامي والعباسي وما تلاهما يتغنّون بمسكها.

مع تراكم الأبحاث والقراءات، تجد أنَّك شغوف بالكتابة أكثر، وتكتشف الكثير من نقاط الضّعف التي يجب معالجتها، وبذلك، كان كتابي الثالث عن القطيف وبلاد البحرين في القرن الأول الهجري متمّماً لما عملت عليه في الكتاب الأول.

ما الذي أردت توضيحه وإبرازه من خلال هذا الكتاب؟

حاولت أن أركّز على أهميَّة القطيف، وبلاد البحرين بشكل عام، وعن واحة القطيف في العصر الإسلامي، فتطرَّقت إلى مكانتها الاقتصادية ودور السكان في تثبيت الإسلام. يَذكر الكثير من الباحثين أنَّ العرب ارتدّوا بعد رسول الله، ولم يثبت من الناس دينهم إلا القليل، وكانت الصّلاة تُؤمُّ في المسجد النبوي ومسجد عبد القيس في الإحساء، إلا أن قبيلة عبد القيس ثبتت على إسلامها.

اقتصادياً، حازت منطقة البحرين والقطيف مكانة مهمة، فقد كانت تمدّ الدولة الإسلامية في عهد الرسول بأموال طائلة، بحسب المؤرخين، وأسهمت في فتح بلاد إيران وبلاد السند، ولا سيما أن أغلب قادة الجيوش كانوا من قبيلة عبد القيس، وهناك رجالات في المنطقة مشهورون ومعروفون جداً، من مثل جارود العبدي (عبد الله بن بشر بن عمرو بن عبد القيس)، الأشج العبدي (يقال له أشجّ عبد القيس)، حكيم ابن جبلة العبدي (حكيم بن جبلة بن حصن بن أسود بن كعب العبدي من بني عبد القيس)، ممن وقفوا إلى جانب الرسول (ص) والإمام علي (ع)، وبرزوا في حرب صفين (سنة 37هـ) والجمل (سنة 36هـ) والنهروان (سنة 38 هـ).

هل هناك خصوصية لكتابة التاريخ؟ وما هي أبرز العقبات التي واجهتك خلال البحث؟

يواجه الباحث في كتابة التاريخ عقبات شتى، أهمها الوصول إلى المصادر والوثائق اللازمة. إنَّ الكثير مما كُتب عن علماء المنطقة ذهب أدراج الرياح. من هنا، برزت حركة بحثية حثيثة، لاستعادة الكتب المفقودة وطباعتها وتحقيقها، كالكتب المتعلّقة بعلماء المنطقة وشعرائها، من مثل الشاعر جعفر الخطي (980/ 1029هـ – 1572/ 1621م)، ابن أبي جمهور (838/ 909 هـ – 1433/ 1504م)، ولكن ثمة وثائق متفرقة هنا وهناك، ومتضاربة أحياناً، ما يجعل الأمر معقداً.

على مستوى التصوير الفوتوغرافي، حاول الكثيرون أن يوثّقوا المنطقة منذ حوالى 50 عاماً. ورغم ذلك، تتكبّد الكثير من العناء لتقنع أحد المصورين بالإفراج عن صورة لإثبات بعض الحقائق. كما أنّ أبناء بعض العلماء الذين كتبوا بعض الكتب والرسائل ليسوا متعاونين. لا أتكلَّم عن تجربتي الشخصيَّة، بل عن شكاوى الكثير من الباحثين.

ماذا عن الجهد التوثيقيّ بين الأمس واليوم؟ هل وصلنا إلى مرحلة بات فيها التوثيق ثقافة شعبية بين الناس؟

عُرفت القطيف قديماً بأنها منطقة علمائية ذات علاقة وطيدة مع النجف وقم، وبرز فيها الكثير من العلماء الّذين تركوا كمًّا من الإنتاجات الفكريّة، ولكن أغلبها ذهب أدراج الرياح، وبعضها لا زال غير متاح للباحثين.

نحن نعاني مشكلة في الجانب التوثيقي، والجهود الحالية، في معظمها، جهود فردية. ومن المهم، أن يجتمع هؤلاء الباحثون في لجان وجمعيات، ليتعاونوا على سدّ الفراغ في هذا المجال. الآن، هناك حركة يقودها بعض المشايخ، من مثل الشيخ حبيب جميع، لكتابة مجلّدات توثق أسماء الكتّاب في المنطقة وإنتاجاتهم. كما أن الباحث السعودي عبد الخالق الجنبي من الأشخاص المهتمين بقصائد الشاعر ابن المقرّب العيوني (572/ 629هـ – 1176/ 1232م)، وهو يعمل على تحقيق ديوانه.

طبعاً، نحن نعذر جلّ الناس قبل عقود، فقد كانت شؤون معيشتهم تشغلهم عن التوثيق. من جهةٍ ثانية، كان العلماء كثيري الترحال، ما يؤدي إلى ضياع بعض كتاباتهم، ولا زال البعض اليوم غير مدرك لقيمة هذه الإنتاجات، إلى درجة أن أحد الأصدقاء أخبرني أنه وجد كتاباً للعلامة محمّد بن عبد علي آل عبد الجبّار القطيفي (غير مؤرخ) في سلّة مهملات أحد الأسواق.

إنَّ ثقافة التوثيق لا زالت في بدايتها، والحركة التوثيقية القائمة اليوم تحتاج إلى الكثير من الأموال، فضلاً عن التنظيم والدعم المعنويّ، فمن المهم أن يمتلك المجتمع ثقافة احترام الباحثين ودعمهم لإنجاز عملهم.

لماذا نلحظ وجود خوف لدى البعض، أو ربما حذر، من تقديم الوثائق والمخطوطات لدعم الأبحاث والتّحقيقات، وبالتالي الكتابة؟ هل للأمر علاقة بالسياسة؟

هل هو فعلاً خوف؟ لا أعرف! ولكني أدرك أن بعض الشباب ليسوا متعاونين في هذا المجال، رغم أن بعض الوثائق لا علاقة لها بالسياسة، فما الذي يجعلك تخفي إجازة عالم إلى عالم آخر؟

بعد الكتابة عن القطيف، لخَّصت العمل إلى كتيّب صغير (حوالى 50 صفحة)، وطلبت ترجمته إلى اللغة الإنكليزية، كما أصدرت كتاب حضارة القطيف أو واحة القطيف الذي ترجم إلى الإنكليزية، ووصل إلى الكثير من دول العالم وجامعاتها، من مثل الولايات المتحدة الأميركية ونيوزلندا وأستراليا، بعد أن نقله المبتعثون إليها، وهو موثّق في مكتبة الملك فهد.

الكثير من الأوروبيين والأميركيين يرسمون في مخيلتهم صورة بدوي يرعى الغنم، عندما تثير أمامهم الحديث عن شخص من القطيف مثلاً، ولكن رأيهم سيختلف إذا قرأوا هذا الكتاب، وعرفوا أن لديك نتاجاً فكرياً زاخراً وحضارة عريقة تعود إلى أكثر من 5 آلاف سنة. هكذا، تعرِّفُ العالم إلى حضارتك.. لا تنتظر من أحد أن يكتب عنك وعن حضارتك بشكل لائق! من هذا المنطلق، على الباحثين والشباب أن يستمروا بالكتابة، حتى يتمكَّنوا منها بشكل جيد.

هناك تصوّر شائع لدى الكثير من الناس مفاده أنَّ الغرب يقدّر العلوم كلّها، ويمتلك كمًّا وافراً من المعلومات في مختلف المجالات، ولا سيما الجغرافيا، ما يمكّنه من امتلاك القدرة على الوصول إلى حقائق قد نفتقر إليها!

تُعتبر الجغرافيا من أهم العلوم، وإن كان البعض يتساءل عن جدوى إدراجها كمادة تعليمية في المدارس! ولكنني انطلاقاً من تخصّصي الجامعيّ، أنجزت كتابي الأخير “خليج تاروت دراسة بيئية”.

إنَّ المعلومة أهمّ سلاح. أدرك الأوروبيون ذلك، واهتمّوا بجمع المعلومات من خلال الجواسيس والكشوفات الجغرافية. مع نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، نشأ ما يسمى عصر الكشوفات الجغرافية، وبرز كريستوفر كولومبوس Christopher Columbus (1451/ 1506م)، فاسكو دا غاما Vasco da Gama، (1460/ 1524م)، إميرجو فاسبوتشي Amerigo Vespucci (1454/ 1512م)… بعدها، انطلقت هجمات البرتغاليين، واحتلّ هؤلاء المنطقة، وبدأوا بالكتابة.

طبعاً، نحن لا نريد أن نتكلَّم عن الكتابات اليونانية القديمة، بل عن القرن السادس عشر وما بعده، حين بدأ البرتغاليون يكتبون عن المنطقة بدقة، وكذلك الهولنديون والفرنسيون. كما أن البريطانيين كتبوا عنها بشكل دقيق، كما يظهر في دليل الخليج، فهو يتضمَّن معلومات لم يتطرق إليها أحد سابقاً، كالحديث عن السنابس وجزيرة تاروت والقطيف.

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: المتروكات الأثرية في القطيف تدلّ على حضارة عظيمة

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو  9 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>