حق الوصول إلى المعلومات: بين مصالح الأنظمة وأحلام الشّعوب..
*علي مطر
لا يمكن فهم أي حضارة بمعزل عن تاريخها، وسيكون الاطلاع على هذا التّاريخ والإحاطة بأحداثه أمرًا مستحيلًا من دون وجود ما يُوثّقها، فالوثيقة ليست مجرد مخطوطة عابرة لاستخدامات عادية، إذ يكمن دور الوثائق في حفظ الخصوصيات الثقافية والتّراث الفكري للشّعوب، وهي تشكل منبعًا ثقافيًا وعلميًا يساعد على تنمية المجتمعات وتطورها على كافة المستويات. من هنا تنبع أهميتها كمادة أرشيفية تبقى في متناول يد الأجيال وكحافظة لتراث الشعوب.
ولطالما سعت الشعوب باختلافها للحفاظ على مخزونها الوثائقي من خلال وضع نصوص قانونية وتشريعية مختصة بالأرشيف وتنظيمه ضمن مراكز أرشيفية ذات أنظمة محددة. وقد قام عدد من الدول بالاهتمام بميدان التشريع في مجال الأرشيف، فانتشرت هذه الثّقافة في العالم حتى في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى، وعلى سبيل المثال، كانت هناك قوانين تشريعية للأرشيف في أوروبا وفي فرنسا على وجه الخصوص من بينها المرسوم 7 ميشيدور II المؤرخ في 25 يونيو/حزيران 1794، ويعكس هذا المرسوم أساسًا المفهوم التّاريخي للأرشيف لأن النّظرة السّائدة آنذاك والمُطَبقة في الميدان هي التي تميز بين الأرشيف الإداري والأرشيف التّاريخي عند الفرنسيين.
أهمية هذه الوثائق ودورها في حفظ التّاريخ كانا الدّافع الأساسي وراء وضع تشريعات أرشيفية خاصة لتأطير عملية الوصول إليها وتنظيمها بهدف حمايتها. فمن حق أي شخص الوصول إلى المعلومات، وهذا حق عالمي وليس حصرًا على بلد ما، ولكن من الواجب أيضًا الحفاظ عليها في ما يشكل حماية للذّاكرة الجماعية للشّعوب من الضّياع والإهمال.
وفي هذا المقال، سنستعرض نموذجًا شهده ميدان التّشريع اللّبنانية في هذا المجال، كون لبنان جزءًا من هذا المجتمع العالمي، وتقع على عاتقه مهمة صون حقوق شعبه من خلال حماية حق الأفراد في الوصول إلى المعلومات لا سيما أنه عضو مؤسس في منظمة الأمم المتحدة وملتزم بمواثيقها وبالإعلان العالمي لحقوق الانسان، الذي ينص، في المادة 19 منه، على أنّه “لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير. ويشمل هذا الحق حرية إعتناق الآراء من دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت من دون تقيّد بالحدود الجغرافية”.
أضف إلى ذلك، أن لبنان صادق على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والذي ينص في المادة 19 منه على أنه “لكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها”.
وتتطرق كذلك المادة 10 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لهذا الأمرإذ تنص على أهمية الكشف عن المعلومة بهدف تأمين المصلحة العامة لا سيما المعلومات المتعلقة بكيفية تنظيم الدولة لإدارتها العمومية.
مع ذلك، لم يتمكن المواطن اللبناني حتى الآن من الإفادة من هذا الحق علمًا أنّه يوجد اقتراح قانون قُدِّمَ إلى مجلس النواب اللبناني في أبريل/نيسان 2009، وهو يتضمن القواعد والإجراءات الخاصة بالوصول إلى المعلومات. وقد تم وضعه بعد التّقييم الدّقيق للقوانين والتّشريعات القائمة والمرعية الإجراء في لبنان بالإضافة إلى قوانين وممارسات الدول الأخرى بشأن الوصول إلى المعلومات.
ويسعى القانون المُقتَرَح إلى تعزيز الشّفافية في الإدارة ومكافحة الفساد وتعزيز الثقة بين المواطن والدولة من خلال تكريس حق فعلي في الوصول إلى المعلومات. وبذلك يتطابق مع ما تنص عليه المعاهدات الدولية، لكن طالما لم يتم إقراره، فإن ذلك يحرم المواطن اللّبناني من أحد حقوقه الأساسية في في بلد يُفتَرَض أنّه ديمقراطي، لا سيما أن الاقتراح يُعَرف “المعلومات” بأنّها تشتمل على المستندات الخطية والملفات الإلكترونية والتّسجيلات السّمعية والبصرية أو الصّور التي تحفظها الإدارة العامة. ويؤكد أن الجهة المُلزَمة بتوفير المعلومات هي الإدارات الحكومية المركزية والمحلية، وعليه فمن حق أي شخص- سواء كان لبنانيًا أو أجنبيًا، طبيعيًا أو معنويًا- الوصول إلى المعلومات. لكن يُستثنى من هذه الوثائق ما يشمل أسرار الدفاع الوطني أو وزارة الخارجية أو أي معلومات تدخل في نطاق حياة الأفراد الخاصة.
وإذا كان بعض هذا النّشر يُطَبق من خلال بعض المؤسسات أو نشر القوانين أو المراسيم في الجريدة الرسمية وعلى مواقع إلكترونية خاصة بهذه الإدارات، إلا أن ذلك لا يعني أن ما ينص عليه القانون قد تم تطبيقه بحذافيره وأن اللّبناني حر في الوصول الى المعلومات التي يريدها، هذا المنع ينطبق أيضًا على عدد من الدّول العربية التي تحرم المواطنين من حقوقهم في الاطلاع على ما يدور في أروقة وكواليس الأنظمة أو الحصول على الوثائق التي تصدر عن الدولة خشية أن تستخدم ضدها كدليل لإدانتها.
وفي هذا معضلة جوهرية، فمن دون الحصول على هذه المعلومات، سواء في لبنان أو غيره من الدّول، لن تتمكن الشّعوب من مساءلة الحكومات، أو الكشف عن الفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والوصول إلى الديمقراطية الحقيقية، غير أنّ هذا هو الهدف الذي ترنو إليه الحكومات العربية، إذ تعمل دائمًا على مصادرة الحريات التي قد تشكل عائقًا في سبيلها، ويبقى الحق في الوصول إلى المعلومات مطلبًا للمواطنين ولكل مكونات المجتمع، لا سيما أنه يشكل أداة تمكنهم من انتهاج مسار الحرية والدّيمقراطية الذي يسعون إليه.
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: حق الوصول إلى المعلومات بين مصالح الأنظمة
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
*علي إبراهيم مطر: باحث لبناني
اقرأ أيضًا:
- المستودعات الرقميَّة: حافظة للذاكرة الأكاديمية ومنصَّة لنشر الأبحاث العلميَّة
- دور المشاع الإبداعي في إتاحة المعرفة
- أرشيف مركز الإسكندريَّة: حلم يبحث عن الاكتمال
- الساجات تستطيع كشف الكثير من الألغاز في التراث البحريني
- البيانات الضّخمة إعصارٌ يحتوي العالم
- الأرشيف السّمعي البصريّ : حفظ الذاكرة الجماعيّة
- اتّحاد مؤسَّسات ذاكرة الوطن تجربة نيوزيلاندا نموذجًا
- قطاع اللام: اتّحاد مؤسَّسات ذاكرة الوطن
- أرشيف الويب.. حفظ ذاكرة الإنترنت
- الميتاداتا وتوصيف المصادر الإلكترونيَّة
- تشريعات الأرشيف العربي بين الفراغ القانوني والتأثير السياسي
- التوقيع الرقمي .. نموذج للتحول من الورق إلى الإلكترونيات
- السجلات الوطنية في بريطانيا.. مفتوحة أمام العامة
- كيف تُصان الذاكرة من الإلغاء المتعمد؟
- الأرشيف الوطنيّ الأميركيّ حارس لتاريخ شعبٍ وبلد
- آلية التّصوير المصغر : أساليب حفظ المصغرات الفيلمية
- كيف يصنع الأرشيف التّاريخ؟
- المجلس الدولي للأرشيف
- التّدمير الممنهج والمنظم لأرشيف المحفوظات في جزر القمر (1975-2001)
- آلية التّصوير المُصَغر وإسهاماتها في عالم الأرشيف والمحفوظات
- الأرشيف القومي الكندي
- المخطوطات العربية والعجمية في الكاميرون .. شاهد على تاريخ البلاد