أرشيف مركز الإسكندريَّة: حلم يبحث عن الاكتمال
قابلتُه للمرَّة الأولى في “معرض الإسكندرية الدولي للكتاب”. أسمر البشرة، طويل القامة نسبيًا، ذو شارب خطّه الشيب، كما شعر رأسه. كلّ هذا في إطار ملامح مصريَّة أصيلة. هو الأستاذ عصام أبو الحمد، حارس الأرشيف. كان جالسًا أمام جهاز الكمبيوتر الخاصّ به. يجلس على يمينه أحد طلّاب الماجستير، في انتظار نقل الملفّ الخاصّ بأرشيف الأديب المصري طه حسين إلى “فلاش ميموري” أحضرها معه.
عرّفته بنفسي، واتَّفقنا على أن نلتقي بعد انتهاء معرض الكتاب في الإسكندريَّة. في هذه الأثناء، حضر إليه كاتبٌ عراقي، صدر له منذ شهور كتاب نقديّ عن سيرة الكاتب الكبير سلامة موسى وأعماله. صافحه بحرارة، وهو يذكّره بزيارته له منذ قرابة عامين، للحصول على أرشيف موسى، ليساعده على إصدار كتابه الَّذي بين يديه الآن. أهداه نسخةً موقّعةً من الكتاب. وفي الصَّفحة الأولى نصُّ الإهداء:
“إلى الأستاذ عصام أبو الحمد ومركز الإسكندريَّة للبحوث والدراسات.. لولا مساعدتكم لي، لما أنجزتُ هذا الكتاب”.
وفي عيني المؤلّف لمحتُ امتنانًا لا يُكذَّب للأستاذ أبو الحمد ومشروعه.. فكان لا بدَّ من الزيارة.
زيارة إلى الأرشيف!
داخل حيّ “الحضرة الجديدة” ذي الطّابع الشّعبيّ في الإسكندريَّة، سيكون عليك أن تتوغَّل قليلًا في شارع “الزهور”، لتصل إلى شارع “عبد العليم”. وهناك، ستصعد إلى الطابق الثالث في المبنى الذي يقع فيه “مركز الإسكندرية للبحوث والدّراسات”، وما هو في الواقع إلا شقَّة ذات أثاث بسيط، يستقبلك فيها أبو الحمد، ليدخلك إلى عالمه؛ عالم أرشيف الدوريات، عالمه الَّذي أصبح جزءًا منه، كشغف أصيل لا ينتهي!
وبينما كان يقلّب في ملفّات الأرشيف، كأنه يداعب قطعًا نادرةً من الأثريات، بدأ يروي قصَّة المركز ويجيب عن أسئلتي.
يحكي أبو الحمد عن متابعته لأبيه في صباه، عندما كان يقصّ المقالات والموضوعات من المجلات والدّوريات المختلفة، ويقوم بوضعها بين صفحات الكتب التي يقرأها؛ كلّ مقالة أو بحث في الكتاب ذي الموضوع المتعلّق بمحتوى القصاصة، لتكتمل المعلومة والعرض أمام عينيه كقارئ. من هنا، تشكّل الوعي لديه بأهميَّة أرشفة الدوريات الَّتي غفل معظم الناس عنها، ولم يمنحوها الجدّية نفسها التي نالتها أرشفة الكتب والوثائق.
من هنا أيضًا، ومنذ 15 عامًا، قرَّر عصام أبو الحمد، بالتعاون مع صديقه الدكتور سيد الطنوبي؛ أستاذ التاريخ في جامعة الإسكندرية، تأسيس مشروعهما، من خلال نواة الأرشيف الَّتي كان الأخير يمتكلها، بحكم كونه قارئًا نهمًا وأستاذًا للتاريخ، وعمل أبو الحمد، بصفته تاجر كتب أساسًا، في سوق الكتب القديمة في شارع “النبي دانيال” في الإسكندريَّة، فطبيعة عمله هي التي ساعدته، ولا زالت، على تحديث الأرشيف، من خلال شراء الدوريات من كلِّ مكان داخل مصر، وخارجها أيضًا في بعض الأحيان.
أرشفة يدوية ورقمية
تقوم فكرة المشروع على أرشفة الدّوريات العربيّة والأجنبيَّة، من خلال تقسيمها إلى ثلاث فئات رئيسيَّة: “موضوعات”، “بلدان”، و”كُتّاب”. يحتوي الجزء الخاصّ بالكُتّاب ما كتبه الكاتب في الدّوريات، وما كُتب عنه، أو ما جاء ردًا عليه من كاتب آخر.
يقوم صاحبا المشروع بالحصول على الدَّوريات من خلال شرائها، فذلك هو سبيلهما الوحيد للحصول على المادة التي يقومان بأرشفتها وفقًا للتقسيم السابق، الذي نتج منه تقسيم داخلي في أرشفة بعض الموضوعات التي بدأ يتوفّر لديهما فيها مادة من الدوريات تسمح بهذا التقسيم داخل الموضوعات الرئيسية للأرشيف.
يحتوي أرشيف المركز ملفّات لمواضيع من مثل التصوّف، الاستشراق، الحضارة الإسلامية، الأندلسيات، والحضارة اليونانية، وأخرى عن بلدان من مثل البحرين، السعودية، الإمارات، والأردن. وفيه أيضًا ملفات تتعلّق بشخصيات عامة وكُتّاب ومفكّرين، من مثل الأديب نجيب محفوظ، صنع الله إبراهيم، عبد الرحمن بدوي، عبد الرحمن الكواكبي، وعبد الوهاب المسيري.
كلّ هذا الأرشيف الضخم كان حصيلة مقالات تمّ جمعها من صحف ومجلات بعضها توقّف عن الصدور منذ سنوات، من مثل جريدة الوفاق، مجلة نور الإسلام، والأعداد القديمة من مجلة الهلال في إصدارها الأول. وتجري الأرشفة بشكل دوريّ متزايد، كلَّما حصلا على المزيد من الدوريات العربيَّة والأجنبيَّة، أي أنها عمليَّة مستمرّة تخضع للتحديث بشكل دائم.
يقوم صاحبا المشروع بالأرشفة الرقميَّة للموضوعات تباعًا، لإتاحتها من خلال “سي دي” أو “فلاش ميموري” لمن يحتاج إليها، وذلك في مقابل بدلٍ ماديٍّ بسيط يسدّده الباحثون المتخصّصون أو القُرّاء الراغبون في الاستزادة الثقافية، الذي يزورون المركز في مقرّه، أو من خلال معرضي القاهرة والإسكندرية للكتاب، اللذين يُنظَّمان كلّ عام في مصر، ويحرص أبو الحمد على أن يكون مشاركًا فيهما بصحبة أرشيفه.
الحصول على أرشيف الكتب الخاص بموضوع معيَّن، أو بلد، أو كاتب، أو شخصية عامّة، مهمّة سهلة نسبيًا، إذا ما قارناها بمحاولة الحصول على أرشيف الدوريات الخاصّ بالموضوع نفسه، ذلك أنَّ الدوريات العربية التي قامت بأرشفة أعدادها، اعتمدت في عملية الأرشفة على حفظ عدد معيَّن من الأعداد الصّادرة خلال مدَّة زمنيَّة محدّدة، من دون وجود أيِّ تقسيم لموضوعات هذه الأعداد، ما يجعل مهمَّة البحث صعبة للغاية على الباحث، على عكس ما قامت عليه فكرة مشروع “مركز الإسكندرية للبحوث والدراسات”، الَّذي يُسهِّل الأمور كثيرًا على الباحث، ويجعل تركيزه منصبًا على الدراسة والاستنتاج والإبداع، بدلًا من إهدار جهده ووقته في المزيد من البحث عن المواد التي تفيده في عمله.
كذلك، فإنَّ أرشفة الكتابات من خلال الدوريات المختلفة تساعد على دراسة التطوّر الفكري والفنيّ للكاتب، ولمحيطه الفكري والثقافي في ذلك الوقت، من خلال رصد المعارك الأدبية والثقافية الدائرة في كلّ فترة مثلًا، بشكل لا تسمح به الكتب ربما، فهو حفظ لتراث الكتّاب والباحثين، بشكل لا يقلّ أهميَّة في واقع الأمر عن حفظ تراثهم من الكتب.
فكرة مؤسَّسات.. على عاتق أفراد
على الرغم من النّجاح الَّذي حقّقه المركز حتى اليوم بأبسط الإمكانيات، الَّتي تكاد تكون معدومة أحيانًا، ووصول عدد المقالات التي يحويها الأرشيف إلى أكثر من نصف مليون مقالة، مُسِحَ ضوئيًا منها أكثر من 100 ألف مقالة، متاحة للباحث أو القارئ، فإنَّ أبو الحمد يؤكّد دومًا أنَّ المشروع الذي يعمل عليه برفقة شريكه الدكتور الطنوبي، ليس مشروعًا يتحمّله أفراد، نظرًا إلى التكلفة المادية الكبيرة التي يتحملانها لجلب الدوريات، وخصوصًا النادر والقديم منها، فمصدر الدخل الوحيد الحالي هو الأجر الرمزي البسيط الذي يتلقيانه من الباحثين، نظير إمدادهم بما يرغبون من أرشيف في الموضوعات المختلفة، إضافةً إلى أنَّ اعتماد المشروع على جهد مؤسِّسيْه فقط، يجعل من وتيرة العمل بطيئة نسبيًا، نظرًا إلى محدودية قدراتهما بطبيعة الحال.. هذه فكرة مؤسَّسات بالدرجة الأولى. لذا، بحث صاحبا المشروع طويلًا، ولا يزالان، عن جهة راعية لمشروعهما، وكان اختيارهما الأول هو الجامعات، لأنَّ هدف المشروع يخدم البحث العلميّ في المقام الأول، لكنَّ جهودهما لم تسفر حتى الآن عن أيّ نتيجة في سعيهما للحصول على دعم من المجلس الأعلى للجامعات المصرية، ليتبنّى المشروع، كما كانا يحلمان دومًا، ليصبح تحت إدارة الجامعة، بمنهجيتها الأكثر انضباطًا، وإمكانياتها، وقدرتها على تقديمه بالشكل الأمثل للمستفيدين.
حاول أبو الحمد أيضًا عرض المشروع على إدارة “مكتبة الإسكندريّة”، كي تتبنّاه ويندرج تحت إشرافها، إلا أنَّ سعيه قوبل بالرفض أيضًا، وكان السَّبب أنَّ صاحبي المشروع قاما بالتوثيق الداخلي لمواد الأرشيف من خلال تدوين اسم الدورية، وتاريخ صدورها، والبلد الصَّادرة فيه، أسفل الصّفحة في كلّ مقالة أو في أعلاها، وذلك لأنَّ الدوريات العربية تكتفي بالتوثيق الخارجيّ على الغلاف، ولا يوجد توثيق داخليّ سوى في أعداد مجلة “العربي” الكويتيَّة، فكان لا بدَّ من القيام بهذا التوثيق الضروري للباحث، لكنَّ إدارة المكتبة رأت في هذا الأمر سببًا كافيًا لرفض دعم المشروع.
يحكي أبو الحمد أيضًا عن كلّ الصعوبات التي يواجهها في سبيل الحصول على دعم لمشروعه، ثم يعلّق ضاحكًا بمرارة: “لو كانت عيوني زرقاء، أو لو كنت أحمل إحدى الجنسيات الأجنبية، لنظروا إلى الفكرة بشكل أفضل بكثير. زامر الحيّ لا يطرب للأسف!”.
ويستمرّ الحلم!
في خضمِّ كلِّ هذا التجاهل، لا يزال أبو الحمد مستمرًا في عمله كتاجر للكتب في شارع “النبي دانيال”، إلى جانب عمله في مشروع مركز الأرشفة. السّبب الرئيس لاستمراره، أنّ عمله الأخير هو ما يوفّر له دخلًا ينفق من خلاله على مشروع الأرشيف، كما أنَّ تجارة الكتب هي صنعة أبيه الَّتي ورثها عنه.
قبيل انتهاء حواري معه، وأثناء تصفّحي لبعض ملفّات الأرشيف، وجدتُ مقالاتٍ ومواضيعَ لم أتخيَّل أنها موجودة من الأساس، لندرتها! ففي أحد أجزاء أرشيف الكاتب الكبير عباس العقّاد، مثلًا، وجدت موضوعًا لبثينة عباس العقّاد، في مجلة “الإثنين”، ضمن عددها الصادر في العام 1950، كتبته عن أبيها في حياته، وهو الَّذي لم يُعرف عنه أنَّه تزوّج أو أنجب من الأساس! واللافت أنَّ العقّاد لم يردّ بالكتابة لنفي هذا الموضوع.
عندما سألتُ أبو الحمد مستغربًا، والدهشة تغطّي ملامحي، أجاب مبتسمًا بأنها ابنة العقاد، ولكنّه لم يعترف بها في حياته، وانتحرت في منتصف الثلاثينيات من عمرها، وتُعدّ هذه المقالة تقريبًا هي الدليل الوحيد على وجودها.
آلاف المقالات النّادرة والمهمّة في مئات المواضيع الحيويَّة، ولا يزال صاحبا المشروع مستمرين في جهدهما، لإحساسهما بأنهما يتركان شيئًا للمستقبل، كأثرٍ طيّبٍ ونواةِ فكرةٍ لا بدَّ من أن تكتمل، على الرغم من أنَّها لم تجد أيَّ دعمٍ فعليٍّ حتى الآن.
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: أرشيف مركز الإسكندريَّة حلم يبحث عن الاكتمال
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- المستودعات الرقميَّة: حافظة للذاكرة الأكاديمية ومنصَّة لنشر الأبحاث العلميَّة
- دور المشاع الإبداعي في إتاحة المعرفة
- الساجات تستطيع كشف الكثير من الألغاز في التراث البحريني
- البيانات الضّخمة إعصارٌ يحتوي العالم
- الأرشيف السّمعي البصريّ : حفظ الذاكرة الجماعيّة
- اتّحاد مؤسَّسات ذاكرة الوطن تجربة نيوزيلاندا نموذجًا
- قطاع اللام: اتّحاد مؤسَّسات ذاكرة الوطن
- أرشيف الويب.. حفظ ذاكرة الإنترنت
- الميتاداتا وتوصيف المصادر الإلكترونيَّة
- تشريعات الأرشيف العربي بين الفراغ القانوني والتأثير السياسي
- التوقيع الرقمي .. نموذج للتحول من الورق إلى الإلكترونيات
- السجلات الوطنية في بريطانيا.. مفتوحة أمام العامة
- كيف تُصان الذاكرة من الإلغاء المتعمد؟
- الأرشيف الوطنيّ الأميركيّ حارس لتاريخ شعبٍ وبلد
- آلية التّصوير المصغر : أساليب حفظ المصغرات الفيلمية
- كيف يصنع الأرشيف التّاريخ؟
- المجلس الدولي للأرشيف
- التّدمير الممنهج والمنظم لأرشيف المحفوظات في جزر القمر (1975-2001)
- حق الوصول إلى المعلومات: بين مصالح الأنظمة وأحلام الشّعوب..
- آلية التّصوير المُصَغر وإسهاماتها في عالم الأرشيف والمحفوظات
- الأرشيف القومي الكندي
- المخطوطات العربية والعجمية في الكاميرون .. شاهد على تاريخ البلاد