الساجات تستطيع كشف الكثير من الألغاز في التراث البحريني

الشّيخ بشار العالي في حوار خاصّ حول السّاجات:
الساجات تستطيع كشف الكثير من الألغاز في التراث البحريني

*عباس المرشد

بدأ الشَّيخ بشار العالي اهتمامه بالساجات بحكم اشتغاله الديني بالشعر والقصيدة الحسينية، لكن سرعان ما أخذه الشغف نحو التراث العريق لهذه الجزيرة المكتنزة، وبخاصَّة في ظلّ التحديات التي تواجه هذا التاريخ ومحاولة تغييبه واستبداله. و”الساجات” أو المخطوطات التاريخيَّة، هي كلّ ما بقي لدينا من معلومات مكتوبة ومدونة تشير إلى التاريخ المغيّب للبحرين؛ هذه الجزيرة الصغيرة بالمساحة، العريقة بالعلم والناس والأحداث السياسية والاجتماعية.

في هذا الحوار الموسّع معه، نلقي الضّوء على تاريخ المخطوطات في البحرين، وعما تكشفه من سلالات العوائل التي حكمت البحرين من أصول بحرينيَّة، والأصول التاريخيَّة لسكان أهل البحرين قبل أكثر ما لا يقل عن 800 عام. كما نتحدَّث عن مشروعه في محاولة جمع التراث البحريني المشتّت في عدة دول، ونقف أمام تجربتين “أرشيفيتين” لبعض الشعراء؛ الأولى لابن المقرب العيوني في حوالى القرن الخامس والسادس الهجري، والثانية لتراث أبي البحر جعفر الخطي، الذي عمل على أرشفة حوادث عصره من خلال الشعر والمراسلات الشعرية. كما نتحدث عن تجربة التاجر الأرشيفية في كتابه “عقد اللآل في تاريخ أوال”، وجهود السيد عدنان الموسوي في سجلّه المختصّ بوقفيات الشيعة وحصرها، بأمر من المستشار البريطاني بلجريف.

بدايةً، أنتم مهتمّون جدًا بجمع التّاريخ والتراث البحريني ودراسته، وبالأخصّ المخطوطات، وما يُطلق عليه اسم السّاجات، كيف ترون مسار هذه الجهود؟ وإلى أين وصلت سفينة الجمع والدّراسة؟ هل هناك اكتشافات جديدة لمخطوطات مندثرة؟ وما هي قيمة تلك المخطوطات؟

ترجع اهتماماتي بالمخطوطات إلى فترة طويلة. بدايتها، تركّز على التراث الحسيني بحكم اشتغالي بالشعر والقصيدة الحسينية، لكن بعد الدخول في غمار هذا البحر، لم تعد المسألة بالنسبة إليّ هواية، بل أصبحت مهمة كبيرة ملقاة على عاتقي، وخصوصًا أمام التّحدّيات الكبيرة الّتي يواجهها التراث البحريني من اندثار وتشتت أو من قلة الباحثين فيه. لذلك، فإن مسألة الجمع تتحوَّل إلى ما هو أوسع وأهمّ، وهو النشر والتوثيق، وبالتالي تكوين إطارات دراسيّة ومفاهيم تشرح ما هو مغيَّب وغائب من حياة البحرينيين في هذه الجزيرة.

رغم ذلك، فإنَّ مجال المخطوطات لا يزال قليل الدهشة، نظرًا إلى توثيق أغلب كتب العلماء في تراجمهم وفي كشوف المخطوطات، وهذا يقلّل فرص اكتشاف الجديد فيها، من دون أن يعني عدم وجود جديد في مجال المخطوطات، حيث يمكن القول إنَّ مجالًا جديدًا بدأ في الظهور، وهو مجال النساخ والخطاطين البحرينيين، ووفرت لنا فهارس المخطوطات الواسعة، مثل فهرس دنا وفهرس فخنتا، معلومات واسعة عن كمية الكتب التي تم نسخها بواسطة بحرينيين كانوا يمتهنون مهنتي النسخ والخط، وبعض تلك الخطوط رائعة ومتقدّمة جدًا.

ومنذ حوالى عشر سنوات، وأثناء بحثي عن مشجرات الأنساب للعوائل البحرينية، تنبَّهت إلى مجال أرشيفي غير مطروق ومهمل جدًا، وهو حفريات شواهد القبور أو ما يعرف بالسّاجات، فتولَّدت لديَّ رغبة في اقتحام هذا المجال المغمور، لقناعتي بأنَّ هذه الساجات تحتوي معلومات ثمينة بإمكانها أن تحلّ الكثير من الألغاز والأمور الغامضة في التراث البحريني، سواء كان دينيًا أو سياسيًا. وقد قمت، بحمد الله، بمعية الأخ الباحث جاسم حسين، بحصر جميع الساجات الأثرية في جزيرة البحرين وقراءة كلّ ما دُوِّن عليها من نقوش، وجمعناه في كتاب خاص سيبصر النور قريبًا بإذنه تعالى.

المعلومات المنحوتة بفنون خطية رائعة وراقية تكشف عن معارف ومعلومات غير موجودة في الكتب، وحتى المخطوطات التي بين أيدينا حاليًا. من هنا، أستطيع أن أفهم سبب اختفاء الكثير من هذه الساجات، رغم أنها كانت شائعة ومنتشرة كحرفة وكفنٍّ خاص من فنون أهل البحرين، فالكثير منها تعرَّض للنهب أو السرقة أو الاستملاك غير الشّرعيّ، وبقي ما يربو على 100 ساجة حاليًا، تم رصدها من مختلف مناطق البحرين، وتم توثيق معلوماتها وتصويرها قبل فوات الأوان، بتلفها أو ضياعها، حيث يتعرَّض أكثرها لعوامل التعرية، لكونها موجودة في المقابر. وخرجنا، من خلال بحثنا، بقراءة متخصّصة ونصٍّ تاريخيٍّ متماسك حولها، وهذا ما وجدناه مع الباحث الأثري ثيموس انسل، الذي استفدنا من منهجيته وطريقة تحليله لكلِّ جزيئة من الجزئيات، وعبر الاستعانة بمختبرات جامعات عريقة ومختصَّة في الآثار.

في رأيك، ما هي الاكتشافات أو الإضافات الَّتي وجدتها في مجال عملك حول الساجات؟

من ناحية الاكتشافات، هناك إضافات لكمٍّ هائل من المعلومات حول مجالات متعددة، فمن خلال تحليل نصوص تلك الحفريات (الساجات) وقراءتها، أمكن التعرف إلى أوقاف شرعية للعديد من المساجد التي لم نكن نعرف لها أوقافًا أو وثائق رسمية، كما في ساجة وقفية مسجد بربغي، التي تعود إلى أكثر من 400 عام، وكذلك أوقاف مسجد المنارتين (الخميس)، إذ إنَّ أوقافه منحوتة على إحدى الساجات الموجودة بين أيدينا حاليًا. كذلك، هناك تقدّم في التعرف إلى أنساب عوائل بحرينية موجودة، والتأكّد من مشجراتها النسبيَّة. وعملية التحليل والتدقيق في محتوى تلك الساجات، من شأنه أن يصحّح الكثير من الأفكار السائدة، نظرًا إلى عدم الدقة في القراءة أو إلى عدم الوصول إليها من قبل.

ماذا عن الأرشيف السياسيّ؟ هل هناك دلالات سياسيَّة لبعض تلك الساجات؟

إنَّ اكتشاف تلك السّاجات وإعادة قراءتها، سيفيد الأرشيف السياسي بمواد ومعلومات غير موجودة أساسًا في الكتب والمخطوطات المعروفة حاليًا. وإلى جانب المحتوى الدينيّ والفنيّ لتلك الساجات، فهي ذات أهمية سياسية كبيرة، لأنها كشفت لنا عن وجود سلالات عوائل حكمت البحرين من أصول بحرينية، وهذا يجيب عن سؤال دائم الحضور عمن كان يحكم البحرين طوال الفترات التاريخية. ومن خلال بعض السّاجات، أمكن التعرف إلى أسر بحرينية كانت تحكم البحرين امتدَّت لعدة أجيال.

هل كانت تلك الأسر تحكم بشكل مستقلّ أو بالوكالة؟

بالطبع، لم يكونوا حكامًا مستقلين، ولكنهم كانوا يحكمون بالوكالة، مثل تبعيّتهم للحكم الهرمزي، من خلال الألقاب والأسماء. توجد حوالى عشر ساجات يمكن من خلالها رصد أسر حاكمة في البحرين، وعلى فترات مختلفة، على مدى سبعة قرون. هذه الأسماء المنقوشة غير موجودة في كتب أو مصادر سوى الساجات، وهي تفتح مستقبلًا للعلاقات التاريخية والسياسية التي كانت تتحكم في تدبير شؤون البحرين.

لماذا كان الاهتمام بالتاريخ السياسيّ والاجتماعيّ محصورًا في بضع صفحات أو أسطر؟ هل لغياب الاهتمام بالأرشفة أو لعدم وصول بعض التراث وعدم اكتشافه إلى الآن؟ ألا تلاحظون أنَّ هناك صعوبة ما في الحديث عن أرشيف سياسيّ مستقلّ للتاريخ السياسيّ في البحرين؟

بالفعل، هناك غياب واضح للأرشيف السياسيّ البحريني مقارنة بالدول والحضارات الأخرى. فعندما نقارن الأرشيف السياسي في بعض الحضارات، مثل الحضارة الفارسية أو البابلية أو غيرها، نجد لديهم أنظمة تدوينيَّة متكاملة وشبه منظّمة، وبخاصّة أرشفة الأدب السياسي، ولكن في ما يتعلَّق بالبحرين، هناك غياب كبير في مجال الأرشفة، لا نعرف أسبابه إلى الآن، فكلّ الاحتمالات لا تزال مفتوحة.

كانت البحرين تفتقد إلى هذا النوع من الأرشفة. لذلك، عادة ما نتعامل مع أشياء مجهولة نكتشفها من جزئيات متفرقة في نقوش حجرية أو وقفيات أو بعض الرسائل الخاصة أو ساجات لا تزال غير مكتشفة، تتضمن بعض الجزئيات القابلة للتركيب لاحقًا.

لم تكن هناك نزعة للأرشفة السياسيَّة أو حتى الكتابة السياسيَّة والتاريخيَّة، وهو أمر مؤسف فعلًا. ولهذا، فإن أغلب المخطوطات هي مخطوطات دينيَّة أو أدبيَّة، ونكاد نفتقد إلى المخطوط السياسيّ. وما دُوِّن ما هو إلا متفرقات، كالذي كتبه الشيخ يوسف الدرازي والشيخ سليمان الماحوزي، وبعض الأعلام، كالشيخ ياسين البلادي.

هل يعني ذلك غياب الأرشفة أو التدوين السياسيّ من التراث البحرينيّ؟

ليس بالمطلق، إذ إنَّ هناك العديد من التدوينات الأدبيَّة التي يمكن الاستعانة بها في تلمّس جوانب الحياة السياسيّة وتفاعلاتها عبر فترات زمنيَّة مختلفة؛ فهناك الجانب الشعريّ الَّذي حفظ في بعض قصائده ملامح الحياة السياسيَّة وحوادث مؤرّخة شعريًا.

وهنا، نقف أمام تجربتين “أرشيفيتين” مهمتين؛ التجربة الأولى لابن المقرب العيوني، الذي كان منطويًا تحت راية الدولة العيونية، واعتُبر شاعر الدولة الأوحد. هذه التجربة، رغم قدمها (حوالى القرن الخامس والسادس الهجري)، فإنها لا تزال إلى الآن تثير الكثير من الإشكاليات التأسيسيّة لتاريخ البحرين في المنطقة وتفاعلاتهم السياسية. ومع الأسف، فقد انتهت هذه التجربة مع انتهاء الدولة العيونية.

التجربة الثانية “الأرشيف الثاني”، هي تراث أبي البحر جعفر الخطي، الذي عمل على أرشفة حوادث عصره من خلال الشعر والمراسلات الشعرية. يُعتبر هذا التراث مهم جدًا من الناحية السياسية بحكم الموقع الاجتماعي الذي يشغله، فقد كان واسع العلاقات مع رجالات عصره، سواء كانوا رسميين أو غير رسميين. وإلى تراثه الشعري يعود الفضل في الكشف عن الكثير من المعلومات التي تحتاج بطبيعة الحال إلى الجمع والتركيب. فعلى سبيل المثال، نحن لا نعرف إلا القليل عن شخصيَّة ابن المقلد. ولولا تدوينة أبي البحر على إحدى السّاجات، وإثبات ذلك في ديوانه، لما عرفنا أنه شخصية سياسية هاجرت من القطيف إلى البحرين لقيادة تمرد وحراك سياسي. ومن خلال دراسة ديوان أبي البحر الخطي، يمكن استكشاف العلاقات الخاصَّة التي ربطت أهل البحرين مجتمعًا ودولة بالدول الأخرى، مثل الدولة الصفوية ودولة المشعشعيين، فتلك الأشعار تعتبر سجلًا لتلك المشاهدات التي يمكن الاستفادة منها بشكل كبير جدًا. ومع الأسف، إنَّ الشعراء المتأخرين انقطعوا عن هذه الوظائف الشعرية.

وإذا ما تجاوزنا هاتين التجربتين، فإنَّ الفضاء الشعري يحمل في طياته ملامح سياسية أخرى تتمثل في النزعة المتكررة إلى حبِّ الوطن البحرين في أشعار العديد من الفقهاء والأعلام. وبحسب التتبّع الأوليّ، فإنَّ لدينا قصائد وأبيات شعر في حب الوطن تعود إلى القرن العاشر الهجري، أي قبل 500 سنة تقريبًا، وهي أبيات تعكس الانتماء الوطني لدى هؤلاء الفقهاء، مثل السيد محمد ابن أبي شبانة، والشيخ كمال الدين الرويسي، والشيخ سليمان الماحوزي. هؤلاء العلماء أرشفوا ظروفهم القاسية وكتبوا عنها. ولعلّ من بين هذه التجارب، تجربة السيد عدنان سيد شبر المشعل الذي كتب قصيدة لا تزال مخطوطة سرد فيها تجربته السياسيَّة في تلك الفترة.

وفي المحصّلة، يمكننا القول إنه ليس من عادة البحرينيين كتابة الأرشيف السياسي، وإنهم عادة ما يلجأون إلى الشعر في الأرشفة السياسية أو الاجتماعية، لأنه أكثر قبولًا. ومن خلاله، يحفظون جزءًا من ذاكرتهم السياسية.

ولكن توجد إشارات وشذرات كتبها علماء، مثل الشيخ ياسين البلادي والشيخ يوسف العصفور قديمًا، ومحاولات الشيخ محمد تقي العصفور ومحمد علي التاجر لاحقًا؟

نعم، بالفعل تُعتبر نهاية القرن السابع عشر بداية التدوين السياسي والأرشفة السياسية، ولكنها لم تكن مستقلة، فذاك الأرشيف، رغم أهيمته واحتوائه معلومات نادرة ومهمة، لم يكتب بغرض الأرشفة وفقًا لمنهجية تاريخية محددة، فالشيخ ياسين البلادي كتب بعضًا من تجربته، وأدرجها كنوع أدبيّ في كتابه “حاشية على كتاب الألفية”، وعَنونها بأنها رسالة لولده، كذلك فعل الشيخ سليمان الماحوزي والشيخ يوسف العصفور، عندما أرّخوا لبعض الحوادث التي مروا بها أو مرّ بها أساتذتهم، وهذا ما يمكن ملاحظته من تحليل سجلات الإجازات العلمية التي تعتبر نوعًا من أنواع الأرشفة الدينية والسياسية. وبعد هذه الفئة التي شكّلت عصرًا فريدًا في تاريخ البحرين قبل 250 سنة، انقطعت عملية التدوين السياسي والاجتماعي، أو لعلَّها لم تصلنا بحكم عوامل الضياع والتشتت.

هذا الانقطاع في الأرشفة، استعاد نشاطه في مطلع القرن العشرين، وتحديدًا بعد كتابة الشيخ النبهاني لكتابه الخاص بتاريخ البحرين. وربما أحدث هذا الكتاب صدمة في الجيل المعاصر، لاستئناف الكتابة التاريخية، وإعادة ضبط مسارها، والحاجة إلى أن يقوم أهل البحرين بالكتابة عن وطنهم. وبالفعل، خلال هذه الفترة، كتب الشيخ محمد تقي العصفور كتابه “الذخائر”، وتبعه محمد علي التاجر في كتابه “عقد اللآل في تاريخ أوال”. وبعدهما بفترة، كتب الشيخ إبراهيم المبارك كتابه “حاضر البحرين”.

ربما تعدّ تجربة التاجر هي الأكثر نضجًا وأهميَّةً من بين تلك التّجارب، وخصوصًا أنّ هناك شكوكًا في صحة الكتاب المطبوع؟

في حديث خاصّ مع حسين الفردان في أبو ظبي، أخبرني أنَّ كتاب التاجر الخاصّ بالتاريخ، كان حوالى 18 دفترًا، يذكر أنّه شاهدها عند أسرة المؤلّف وأولاده، وهي غير المسودة التي نشرت، حيث إنَّ التاجر عمل على تبيض الكتاب بغرض طباعته، والَّذي بين أيدينا حاليًا هو كتاب “عقد اللآل في تاريخ أوال”، وكتاب “منتظم الدارين”، والمطبوع الأخير لا يزال غير مكتمل أيضًا.

وعند مقارنة كتاب “عقد اللآل في تاريخ أوال” المنشور والمطبوع بالنسخ المخطوطة، نجد أن هناك حذفًا لبعض الكلمات، وربما لعدّة صفحات، نظرًا إلى أنَّ المنشور كان مسودة ولم يكن نهائيًا.

في رحلة قمتم بها قبل عدة سنوات، بحثتم عن أصول البحرينيين المهاجرين في (بندر لنجة) وغيرها من البلدان التي هاجر إليها البحرينيون في فترات مختلفة، ما الَّذي توصلتم إليه في تلك الرحلات؟

كانت البداية عبارة عن مشروع كبير يهدف إلى جمع التراث البحريني المشتّت في عدة دول، وقد تحدثت فيه مع عدد لا بأس به من القيادات الدينية والسياسية، فهذا المشروع يتطلَّب دعمًا ماليًا ضخمًا، وليس بإمكان شخص بمفرده، وبإمكانيات متواضعة، أن ينجز فيه شيئًا معتبرًا.

كانت أولى الرّحلات إلى الهند. وجدت هناك أرشيفًا كاملًا لمخطوطات بحرينيَّة كانت عائلة التاجر قد أودعتها هناك بغرض طباعتها، عندما أسّست مطبعة سلمان التاجر في بومبي، فقد كان الأخوة الثلاثة (سلمان ومحمد علي ومحسن) مهتمين جدًا بالمخطوطات والنشر، ولديهم إبداعات أدبيَّة رائعة.

أسّس سلمان التاجر مطبعة أسماها أولًا العباسية، ثم غيَّر اسمها إلى مطبعة التاجر، واستمرَّت في طباعة الكتب، واستطاع أن يطبع حوالى 15 مخطوطًا بحرينيًا، مثل كتب وفيات الأئمة وبعض كتب العلماء القدماء. وعندما أغلفت المطبعة، بقيت الأصول المخطوطة هناك، إضافةً إلى مخطوطات أخرى معدّة للطباعة. من المؤسف أنَّ قسمًا كبيرًا من تلك الأصول وصل إلى أيدي السماسرة، وتشتّتت المخطوطات بين إيران، وبالأخصّ مكتبة المرعشي النجفي، وتركيا والهند وأبوظبي والبحرين. قسّمٌ منها تعرَّض للضياع، وقسم آخر اشتراه بعض المهتمين، من مثل الشيخ محمد صالح العريبي. وهناك قسم آخر آلَ مصيره إلى مهدي التاجر الذي جمع كلّ ما تبقّى من مكتبة عائلة التاجر، ومن بينها مكتبة صاحب أنوار البدرين الشيخ علي البلادي، ونقلها إلى دبي، وظلّت مخزّنة هناك.

في رحلات أخرى إلى مناطق مثل (بندر لنجة) والبصرة، وجدت أشياء أذهلتني كثيرًا، فبدأت أهتمّ بحياة البحرينيين أنفسهم وعاداتهم، ووجدت أنَّ لديهم شغفًا كبيرًا جدًا بالتواصل مع أهل الجزيرة الأم، ومحاولة البحث عن أصولهم العائليَّة، كما لمست لديهم حنينًا غريبًا إلى الرجوع إلى وطن أجداهم، رغم استقرارهم هناك منذ عشرات السنين، وبعضهم لأكثر من 150 و200 سنة، فهم لا يزالون يحتفظون بما يؤكّد هويتهم الأصلية وارتباطهم بالبحرين، من مثل بعض الوقفيات أو الصّور والوثائق الخاصة بالأراضي التابعة لأجداهم قبل هجرتهم.

ففي البصرة الَّتي تُعتبر صاحبة السجلّ الحافل بالظلامات التي تعرَّض لها أهل البحرين على مدى قرون، لاحظت أنّ البحرينيين يشكّلون مجتمعًا متجانسًا ومتلاحمًا، ولديهم جامع كبير يعرف بجامع البحرينيين وحسينية. وتوجد في البصرة سلالات عوائل تصل إلى أكثر من 250 سنة، من مثل عائلة (الدوغجي)، وترجع أصولهم إلى منطقة عالي نسبة إلى (الدوغة)، وهي المكان الّذي يُحرق فيه الفخار، وأسرة آل الكامل، والسادة الغريفي والقارونية والكرزكاني والدمستاني والماحوزي، وهي أسر علميَّة، لا يزال أبناؤها يحتفظون بمشجراتهم النسبية، ولديهم علماء كبار. وكذلك، إن السادة الغريفين “أشهر من النار على العلم”، وهناك آل رحمة وآل بن عشيرة والعصافرة.

الملاحظة الثانية، أنَّ عاداتهم وتقاليدهم تختلف عن باقي مجتمعهم، من مثل ملابسهم، وخصوصًا النساء، فلا يزالون يحتفظون بالتراث نفسه الَّذي خرجوا به، وكذلك في الشعائر الحسينيَّة، كطريقة إقراض الشعر وإخراج الموكب الحسيني، فهي نفسها التي تتبع في البحرين. كما أنَّ المطبخ البحريني الذي هاجروا عنه، حملوه معهم، وظلوا منتمين إليه كمطبخ له نكهة خاصَّة وتقاليد عريقة.

هل دوَّن هؤلاء تاريخهم أو أرشفوه؟

مع الأسف، فربما حملوا معهم أيضًا عادة أجدادهم في التدوين والتوثيق. ومؤخرًا، اطّلعت على تجربة جيدة قام بها الباحث العراقي البحريني نجاح الربيعي، وحاول فيها تدوين تجربة البحرينيين في البصرة والمحمرة ودراستها، وأصدرها في كتاب يجمع أصول البحرينيين.

تُعتبر جهود السيد عدنان الموسوي واحدة من أكثر الجهود تقدمًا في حفظ التاريخ البحريني وأرشفته؟ كيف تعاملت مع هذه المجموعة؟

بالنسبة إلى سجلّ الأوقاف الذي دوّنه السيد عدنان، وعرف السّجلّ إلى يومنا باسمه، فقد كتبه كسجلٍ تخصّصيّ بالوقفيات المختصَّة بالشيعة وحصرها، وهي وقفيات مختصَّة بالمساجد والمآتم والمدراس الدينية وبعض وجوه البر، بأمر من المستشار البريطاني بلغريف، ولجنة معدّة خصيصًا للإشراف على الأوقاف الشيعيّة، وتضم تجارًا وبعض أعيان البحرين من الطائفة الشيعية، وليس كما هو مشتهر من بعض الإخوة الباحثين، أنه مؤسس الأوقاف، بل هو مكلّف بحصر الأوقاف ليس إلا.

وتُعتبر الاستفادة من هذا السجل أو “الدفتر” هائلة جدًا، من خلال ما دوّنه من أسماء الشخصيات والمتولين وأسماء بعض العوائل وتواريخ المساجد والمآتم، فقد تم توثيقها من خلال هذا السجل. ومن يهتمّ بجغرافيا البحرين، سيجد هناك أسماءً للعيون والقرى والمزارع والمساجد والأنهار والآبار المحفورة. والمعروف من منهجيَّة السيد، أنه وثَّق ما لم يتم استملاكه، أما ما تم الاستيلاء عليه، فقد تركه ولم يدوّنه، إما لكونه قد أثبت رسميًا لغير أهله، وإما لكونه خاضعًا لسلطة بيروقراطية، وهذا ما جعله يترك فراغًا في بعض الوقفيات المستملكة، فكثير من الوقفيات، رغم إثباتها في دفتر السيد عدنان، فإنَّها الآن تختلف عما عليه حكم الوقف، رغم تشخيصها ومعرفتها.

مع الأسف أنه اكتفى ببعض الوقفيات، ولم يدوِّن الباقي منها، وبعضها حجريَّة مكتوبة على أحجار. كما أنَّ بعض تلك الوقفيات كان ينسبها إلى المتولي الشرعي، وهو الشيخ خلف العصفور. ولدينا بعض الوقفيات تحوَّلت إلى أملاك خاصَّة، بسبب الإهمال وغيره.

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: الساجات تستطيع كشف الكثير من الألغاز في التراث البحريني

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو  7 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>