رحلتي مع المخطوط
سنون قليلة تلك التي زعمت أنها رحلة، ولا أظنني بلغت فيها الغاية، أو قطعت ذلك الشّوط الذي قطعه بعض أصدقائي، في جمع المخطوط ومحاولة تحقيقه أو إخراجه، وبرغم قلتها إلاّ أنّ الفائدة التي كسبتها، والخبرة التي حظيت بها، بدّلتا بعض المفاهيم التي كنت أميل إليها في التحقيق والتدقيق والتعليق!
فقد كنتُ أتجاوز تحقيقاتهم في إثبات مؤلفاتهم، لظني أن فضلهم فيه لا يتجاوز تهذيبًا وترتيبًا أو تعليلًا، ربما جاوز الصواب أو جاوز حقيقته، وربما بالغت وانتقدت من يزعم أنه يملك طبعة كتاب قديمة، أو حجرة ويحتفظ ببعض الأوراق الصفراء، ويفخر بامتلاكه لها، ليس استهانة بما يملك، ولكنه الإشفاق من التعب والنصب في قراءة هذه الأوراق وتدوينها الفاخر في طبعاته، وهو ما لا يرهق عينًا أو يضيع وقتًا لفهم عبارة أو تأويلها، ومن داوم على حب الكتاب وتقليب صفحاته، سيعذرني بل سيخلق لي بعض العذر ، وعلى كل حال فلم أعلم– حينها- أن التهذيب والترتيب وحسب دونهما جهد جهيد وصبر، لا يتحمله إلا من آلى على نفسه أن يخدم العلم وينحت في صخره، أما التعليق والتدقيق والتوثيق، ومن ثمّ التهذيب والترتيب فخطوة في سفح، وتلك تشابه تسلق الشواهق والجبال!
والبداية مصادفة، فقد تعوّدت أن أصحب بعض أصدقائي من المشايخ في المجالس الحسينيه ولا سيّما أيام محرم الحرام، وربما تحدثنا في بعض المواضيع التي يطرحها أو اتفقنا في طرح هذه القضيه وتفنيد ذلك الرأي أو الرواية، وكان أن تفاخر في بعض أيامه بأنه يملك مفتاح الجنة، وحين استفهمت منه أطلعني على مخطوط “أبي المكارم” وزعم انه سيبدأ في تحقيقه وتهذيبه، فعرضت عليه المساعدة في كتابته، وربما أستطيع مساعدته في التهذيب والشرح أيضا.
وقد تبينت فيما بعد، أن الكتاب كان مهملًا في أحد الملاحق التابعة لمأتم “آل إسماعيل” بقرية النويدرات، إلى أن انتشله أحد الاساتذة عازماً على تحقيقه أيضًا، وقد صوّره صديقنا جاسم آل عباس (صاحب موقع سنوات الجريش) من عند الأستاذ وعزم على صفه ونشره من دون تحقيق، إلى أن شاءت المصادفة أن يحادثه صديقي الشيخ في أمر ” أبي المكارم ” وصلة قرابته به، فعرض عليه تحقيق الكتاب الذي أخذته أنا منه، وأزعم كما زعموا ولكنه زعم موفق!
قرأت عن التحقيق كثيرا، وبدأت في كتابة المخطوط، وأنا أعرف أن صفّه أبسط الأمور وأسهلها، وربما ساعدني أن الناسخ – وكان من أقرباء الشيخ ” أبي المكارم “– كان جميل الخط، كما أنّ صديقي صاحب الجريش كان قد صفّ ثلثه، والمعوقات التي واجهتها تختصر في نقطتين:
– غياب نسخة أخرى أقابل بها نسخة الشيخ، برغم أن النسخه التي أملكها كتبها ابن أخته الذي كان يستكتبه كثيرا لجمال خطه ويثق به.
– الابيات الشعريه التي نظمها المؤلف في الكتاب، أكثرها غير موزون أو يكون الشطر فيه ناقصاً بعض حروف أو كلمات تخل بالبيت وزنًا ومعنى.
وأظنني بالغت في البحث عن نسخة أخرى أقابل بها نسخة الشيخ، فكان أن أوصيت بعض أصدقائي بالبحث في العتبة الحسينيه والعباسية حيث زعم لي بعضهم أن نسخة أخرى موجوده هناك. لم يثمر بحث صديقي، فواصلت البحث واتصلت ببعض أقارب الشيخ علّني أحصل على تلك النسخه أو ديوان الشيخ– المخطوط كما علمت– الذي أقوّم به وزن أبيات الشيخ في كتابه في أضعف الأحوال.
في بداية الامر اضطررت إلى اللجوء الى بعض الشعراء، كحل بديل، ليكمل تلك الابيات ويقوّمها، ثم نشير الى ذلك التعديل في الهامش، فذلك أهون من أن ننشر أبياته مبتورة، وهو صاحب صيت في الشعر، وقريحة يفخر بها أقاربه.
تواصلت مع قريب الشيخ وأبدى الرجل حماسة، وقرر ان يوزع الأدوار بيني وبين صديقي الشيخ وصديقنا صاحب الجريش، والرجل حمل عصا الوصاية وقرر وأشار، ثم نصّب نفسه المشرف على العمل.
ولقد بالغ في ذلك، حتى قررت أن لا ألتفت إليه واواصل ما بدأته، خصوصا وأن أصدقائي أبدوا تذّمرهم من سطوته وتوزيعه الأدوار، وتركوا العمل على عاتقي، وقد ألّح الرجل في رؤية عملي في الكتاب، فافهمته أن ذلك تحقيق أولي سيراجع مرة ومرارا ، فلم يلتفت إليّ، وقرر في جلسة أخرى – التي جمعتني وأصدقائي به – ان هناك هنات عظيمة في تحقيقي – وعلى أساسها وزع الأدوار – تبينت بعدها أن الرجل لم يتحقق في حكمه، وأن ما أدرجته هو الصواب برغم أن التحقيق في بدايته !
قررت بعدها – كما أسلفت – أن لا ألتفت إليه، وأن أكمل ما بدأته، فأرعد الرجل وهدد بانه سيلجأ إلى القضاء إن فكرت في نشر الكتاب ! ، وأذكر اني قبل سنوات – أظن أنها بداية الألفيه الثانية – كتبت كتابا تتبعت فيه قبور علماء البحرين وأدرجت في هامشه ترجمة الشيخ جعفر – حين رصدت كتبه – هذه العباره ” الغريب أن الشيخ جعفر أبو المكارم على ما يتمتع به من الشهرة بالعلم ، وقرب عهده بنا إلا أن معظم كتبه ما زالت مخطوطه !!
بل ذكر لي أحد من أثق فيهم أن أحفاده لا يسمحون بان تقرأ كتبه خارج مكتبته ” وأظنني تبينت جليا صدق ذلك بل أكثر منه ، وللعلم طلبت من حفيده نسخة مما يملك حتى اقارنها بنسختي وطلبت ديوانه أيضا لأقوّم المعوج من أبيات الشيخ في المقتل ولا أظنه استجاب .
وعلى كل حال فلن يكون أحفاد الشيخ أول من يضن بما لديه ، ولن يكونوا آخرهم ، وقد ابتعدت مدة عن تتمة ما بدأت ليس خوفا من تهديده ، ولكنه عمل – في رأيي – بَعُد عن العلمية وأصبح صراعا أو تصارعا .
وكثفت جهود رحلة البحث عن المخطوط ، فشرقت في البلاد وغربت، وقابلت كثيرا وجمعت بعضا لا استهين به بل حققت كتابا لم أنشره أيضا، وقد كنت قررت في قرارة نفسي ان أحقق ما أستطيع وأترك لغيري ما لا يدرج تحت تخصصي ، واظنني قابلت أجناسا فاقوا حفيد الشيخ في ذلك الضن وإن استجاب كثير منهم ورحبوا، وتلك قصة أخرى .
المهم أن النفس لم تستسغ أن تترك ما بدأته ، فقد عزمت على تحقيق غيره، ويشاء القدر أن يكون لأبي المكارم أيضا كما تبينت حين تصفحته !! فعزمت على إكمال ما بدأت سرا، وشدّ من عزمي مهاتفة أحد أقرباء الشيخ لي – وكان قد أمدني بنسخه من ديوان الشيخ جعفر مخطوطا قبل ذلك – وحثني على تتمة ما بدأت، فوافقته على أن لا يسألني عن الكتاب حتى أنهي العمل، وأن يجري هذا في سرية حتى يطبع وهو ما كان .
بدأت في مراجعة الكتاب ، وإن لم أترك بحثي عن نسخة مقابله حتى وجدتها عند أحد أصدقائي من المشايخ وتبين أن الناسخ كان يقطن في القرية المجاوره !! ولعل تلك النسخه كانت هبة من السماء وفتحا في توثيق عرى المخطوط ، فالرجل سد الخلل الذي عانيته في أبيات الشيخ، برغم أن نسخته مبتوره وتبدأ من المجلس الخامس، فكانت موزونه لا ينقص أبياتها تلك الكلمات التي أخلت بوزنه ومعناه في النسخه الأولى، والغريب أني لم استفد من الديوان في ضبط الوزن أو لعدم وجود بعض قصائد الشيخ المنظومة في المقتل فيه !!
والمخطوط – واسمه ” بيت الأحزان وكعبة الأشجان ” – كتبه الشيخ جعفر بن الشيخ محمد الشهير بأبي المكارم لزوجته – كما نقل لي بعض احفاده – لتقراه في مجالس عاشوراء، واعتمد في كتابته على كتاب بحار الأنوار، بل نقل عنه في بعض الأوقات نقلا، ومن نسخة قديمة تختلف في بعضها عما طبع حديثا، ثم كتاب مدينة المعاجز للسيد هاشم التوبلاني وكتاب الدربندي إكسير العبادات، حاولت فيه ان أبلغ المدى، وأن أضع نفسي مكان المستمع لخطيب المنبر الحسيني الذي كان يعجم وينقل من دون ان يجيب عن كثير مما كان يُخيّل إلينا ونحن صغار من السيرة الحسينيه، سوى قال وقيل من دون شرح أو تعليل، ولا أظنني بلغت فيه بعد ذلك المأمول، وإن أفدت منه كثيرا في الغوص في كتب التراث بشكل أعمق بكثير، ساعدني في تتمة كتاب آخر وتحقيقه في كثير من اليسر، على أن الفائدة الكبرى تتمثّل في أنه جعلني مولعا بتلك الأوراق الصفراء كلفا بها، لا أصبر على أحد أضاع ذلك الإرث بسبب إهمال أو وجل، أو أن تكون في مهبّ الرياح وعرضة لامطار الشح، تغمرها وتنذر بفقد كنوز علم وتعلم !
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: رحلتي مع المخطوط
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- الزجل.. حافظ تراث اللبنانيين وابن الناس الطيبين
- “حاضر البحرين” للشيخ إبراهيم المبارك.. يوميات الأيام الخوالي
- أديم الأرض: الشّيخ الإمام أحمد بن سعادة البحراني
- مخطوطات في المآتم النسائيَّة في البحرين
- “لئلا تضيع” سلام الراسي: ذاكرة النّاس للناس
- الذاكرة السياسيَّة في مدوّنات علماء البحرين في القرن الثامن عشر الميلادي
- التاريخ الشّفهي: خصوصيّته كمدخل للتعرّف إلى تاريخ أفريقيا السّوداء
- تجربتي مع التّاريخ الشّفهي
- الوثائق الأحسائيّة ذاكرة حيّة لعصور مضت
- أول بعثة بحرينية للجامعة الأميركية
- فوبيا الكاميرا.. بين أن أُعْدَمَ أو أن أَعْدِمَ أرشيفي
- أحاديث قريتي: قرية المعامير البحرينية
- حادثة الأسد
- حياة الناس في القرية البحرينية ” قبل النفط “
- حديث الحمير .. حكايات أيام زمان
- السيد الغروي البحريني .. فصل من رحلة في الغربة