فوبيا الكاميرا.. بين أن أُعْدَمَ أو أن أَعْدِمَ أرشيفي

فوبيا الكاميرا.. بين أن أُعْدَمَ أو أن أَعْدِمَ أرشيفي

*د. عبد الجبار الرفاعي

ولدت ونشأت وترعرعت في قرية جنوب العراق فقيرة بكلِّ شيء. تفتقر إلى الوثائق والنّصوص المكتوبة، ذلك أنّ أهل الريف ثقافتهم شفاهيَّة، يندر أن تعثر على مدوّنة في حياتهم. لا أتذكَّر في بيتنا أوراقًا أو كتبًا أو صحفًا، ما عدا كراسات قليلة ذات أوراق صفراء تتحدَّث عن حكايات شعبيَّة، بعضها مستلّ من “ألف ليلة وليلة”، لا يتجاوز عدد صفحاته 32 صفحة. كان أخي الكبير شريف القحطاني يشتريها من كربلاء أو النجف حين يذهب لزيارة المراقد المقدَّسة.

في المرحلة المتوسّطة، التحقت بمتوسّطة “قلعة سكر”، وبدأت أتعرَّف إلى المراسلات البريديَّة وطوابع البريد، وبعض الكتب في هذه المدينة. حرصت على نزع الطَّوابع البريديَّة من أغلفة الرّسائل الّتي تصلني من أخي الّذي كان يعمل في الكويت. وما أعثر عليه من طوابع رسائل ممزقة ومهملة، أغلفتها في مكبّ النفايات.

طابع البريد هو أوَّل رصيد بدأ يتراكم في أرشيفي البدائي السّاذج. كان الطَّابع نافذة ضوء تمدّني صورها بشيء من معرفة مناسبات بلدي وأعلامه ورموزه، بل كان نافذة اكتشاف لبعض البلدان التي لم أكن من قبل أعرف حتى اسمها. وبمرور الأيام، تملَّكتني رغبة الاحتفاظ بما يصلني من رسائل، وبعض صور المفكّرين والفلاسفة المنشورة في الصّحافة. أتذكَّر في ذلك الوقت أني قمت بإلصاق صور فلاسفة غربيين، اقتطعتها بمرور الأيام من صحف قديمة، على “كارتونة” أصبحت لوحة، وعلَّقتها في غرفة الطّين في منزلنا الريفي.

لطالما أثارت هذه اللوحة فضول الفلاحين في القرية الَّذين يزوروننا، فيتساءلون بدهشة واستغراب: من هؤلاء؟! وبخاصَّة أنَّ صورًا لأمثال هيغل وماركس وكانط وشوبنهاور ونيتشه، وغيرهم من الفلاسفة، لم تكن ملامحهم مألوفة في مجتمع صغير مغلق كقريتنا؛ مجتمع شفاهيّ صِلاته مع ما حوله هامشيَّة ومحدودة جدًا، لا يرى من الألوان سوى ألوان السّماء والمحاصيل الزاعيّة والحيوانات.

كانت تثير الفلاحين نظرات أعين الفلاسفة الحادة، شعورهم الطويلة، وجوههم الصارمة. لا توحي وجوههم بهدوء وابتسامة واسترخاء ودَعَة وراحة ودفء. أضطر أحيانًا إلى التحدّث إليهم عن أنَّ هؤلاء رجال كبار، وأحاول أن أقارن بينهم وبين ما يختبئ في ذاكرتهم من رجال مقدّسين وفرسان وزعماء تاريخيين، نسج لهم متخيّلهم الجماعي صورًا شديدة الإثارة، عابرة للزمان والمكان. رسمها ذلك المتخيّل الَّذي أضحى منبعًا يصوغ رؤيتهم لله وللمقدّس والإنسان والعالم، ويحدّد مفهومهم للحقيقة، وكيفيّة إدراكها.

كانوا يعربون عن دهشتهم من هذه اللوحة النابتة في غرفة طينٍ، غريب كلّ شيء فيها على ما تتحدَّث به صورها، إذ لا ديكور أو أثاث أو ترتيب متّسق فيها. إنها صور لا معنى تبوح به إليهم، إلا ما يحيل إلى متخيّلهم الميثيولوجي للمقدّس، المفارق للصور الدنيويّة الحسيّة. أكثر من مرة ازدرى بعضُهم أصحابَ هذه الصّور، فوصفوهم بالجنون أو الهبل، وأسمعوني عبثية هذه اللوحة الغرائبية الَّتي صنعتها لمخلوقات تثير الاشمئزاز والقرف، بوصفها لا تشبه مفهومهم للكائن البشري. مفهوم البشر في قريتي هو الفلاح والراعي ابن الأرض، المألوف والمعروف، وكلّ إنسان غيره من الصعب منحه صفة الآدمية لدى هؤلاء الناس الذين لا يعرفون إلا أساطير عن الأجناس البشرية خارج محيطهم.  

في مرحلة دراستي الثّانويّة في مدينة الشّطرة جنوب العراق، بدأتُ بتدوين يوميات في صفحات مفكّرة صغيرة جدًا. أكتب كلّ يوم مساء عدّة جمل، تشير إلى أهمّ الحوادث والمواقف الشّخصيّة في ذلك اليوم. وهي عدوى استبدَّت بي من بعض زملائي في الإعدادية الَّتي درست فيها، إذ كان التّلامذة من جيلي يغرمون بهوايات متنوّعة، منها كتابة الشعر الشّعبي العراقي في دفاتر صغيرة، والحرص على استظهاره وإنشاده وغنائه في سهراتهم، ليالي العطل في السّكن الطلابي، ومنها الشّغف بصور المطربات ونجوم الفن، التي يتصيّدونها من مجلات الفنّ اللبنانيّة والمصريّة.

وجدت نفسي خارج غواياتهم وهواياتهم، ما خلا تدوين يوميات قبيل النوم كلّ ليلة، وهي تسجيل رديء لحوادث شخصية رتيبة، لا تشي برؤيا لما تبوح به تلك المواقف والحوادث. لم تتواصل هذه العمليَّة طويلًا، إذ سرعان ما شعرت بتفاهة ما أقوم به وعدم أهميته، لذلك أعرضت عن ذلك، وأهملت تلك اليوميات. ربما لو استمرت كتابتي لليوميات مدة طويلة، لتطوّرت عموديًا وأفقيًا عبر انفتاحها بمرور الزمن على فضاء بديل، يمنحها طاقة تجدّد حيويّتها وتكرّس ديمومتها. حتى اليوم، أعجز عن أن تصير الكتابة مهنتي اليومية.  

اكتشفت لاحقًا أنّ مزاجي الشّخصيّ لا يطيق الرتابة. لحظة يكرر اليومُ صورةَ الغد وينسخها كما هي بكل تفاصيلها وألوانها، أشعر بكوابيس مُرّة. في التكرار يتوقّف الزمن الشّخصيّ الباطني، لذلك لا أطيقه. لعلَّ ذلك هو سرّ أسفاري وهجراتي في عوالم المدن والبلدن والكتب والأفكار والأشخاص والأشياء. لا تغويني هوايات جيلي وموضاته، وحتى لو هرولت بغية محاكاته، سرعان ما أهرب، كي أسكن لما تسكن إليه روحي.

أوّل صورة فوتوغرافيَّة طلبتها مني المدرسة الابتدائيَّة، كي يلصقوها على صفحتي في سجلّ تلامذة المدرسة، وهي صورة شمسيَّة التقطها مصوّر بكامرته الخشبيَّة في مدينة الرفاعي. لا أتذكَّر صورة سبقتها. أدهشتني العبقرية الفذة لمخترع الكاميرا الشمسيَّة، ففي زيارة لمعرض الفنان والمخترع ليونارد دافنشي “1452 – 1519″، في مدينة فلورنسا الايطالية، شاهدت نموذجًا خشبيًا ابتكره للكاميرا الَّتي كان يحلم بصناعتها، بموازاة ما أنجزه من اختراعاته الكثيرة، أو ما اقترح فكرته وخارطة لصناعته تترقّب من ينتجها في زمان لاحق. أدركت أنَّ عقل الإنسان يمكنه أن ينجز الكثير من وعوده وأحلامه، وإن كانت تبدو للوهلة الأولى مستحيلة.

لاحظت أنَّ الصّورة تنطبع ابتداء بشكل مقلوب على رقاقة بلاستيكيّة، تسمّى “جامة”، ربما لأنَّها شفافة كالزجاج الذي نسميه باللهجة العراقية “الجام”. “الجامة” صورة لا تشي إلا بملامح عامة، كأنّها ملامح موتى. يقوم المصوّر بعد ذلك بغسلها بمحلول كيمياويّ داخل صندوق أسود، وبعد أن تجفّ يصوّرها من جديد، لينتج عدّة صور منها.

عثرت في صورتي على شيء باهت يحاكي بعض تعبيرات وجهي. ابتهجت كثيرًا حين شاهدت صورتي للمرة الأولى في حياتي. عثرت فيها على شيء من ذاتي يحاكي ذاتي، وكلّ ذات عاشقة بطبيعتها لذاتها. لا نمتلك في بيتنا “مرآة” نرى فيها وجوهنا صباحًا ومساءً، إلا مرآة صغيرة جدًا يستعملها المرحوم أبي فقط عند حلاقة ذقنه، وبعد أن يفرغ من الحلاقة، يحتفظ بها في صندوق صغير مع ماكنة الحلاقة. المرآة أوَّل نافذة ضوء للكائن البشريّ، يكتشف فيها صورة وجهه وبعض ثيمات جسده، وتبدّد شيئًا من عتمة الطّبقات المبهمة لعوالم الذات.  

كم أسعدني هذا المنجز البشري الَّذي منح الإنسان فرصة لرسم صورته بلا ريشة رسام وألوان، وكأنَّ الكاميرا تحمل بشرى يشرق من نافذتها ضوء على دنيا الغد. أثارني شكل الكاميرا الشّمسيّة وصندوقها المغطّى بقماش كثيف أسود، وكيف يدخل المصور رأسه فيه لإنتاج الصورة عبر سلسلة عمليات رتيبة.

كلَّما رأيت اختراعًا ومنجزًا جديدًا للعلم فرحت. لبثت هذه الحالة معي إلى اليوم، وإن بتوتّر أخفّ.كثيرًا ما أشعر بأنَّ كلّ اختراع يزفّ بُشرى للعيش في غد أجمل، يهديها أولئك المخترعون الأفذاذ لكلّ كائن بشريّ، وإن كان ذلك الكائن لا يعرف قيمة منجز العلم، أو يناهضه كما هي الجماعات المتوحّشة؛ عدوة العلم والمعرفة والتكنولوجيا، غير أنها لا تني تتوكّأ عليها في إدارة فاشيتها الدموية وإنتاجها.

مكاسب العلم تتحدَّث عن مرايا الغد الَّتي تصوّر أحلام البشر وما يرتسم فيها على الدوام من انتصارات عقله على توحّش الطبيعة، وتحطيم قسوتها، وقدرته على ترويضها، وظفره باستثمار ثرواتها، من أجل أن تصير حياته أسهل وأجمل. هكذا كان شعوري مع أوَّل سيارة ركبتها، تنتمي صناعتها إلى خمسينيات القرن الماضي، هيكلها مصنوع من الخشب، ما خلا محركها الَّذي كان يعمل بالنفط الأبيض “الكيروسين”، ولا يدور إلا بـ”الهندر”.

لا أتذكّر التقاط صور أخرى لي بعد هذه الصورة، إلاّ بضع صور لمعاملات إصدار الجنسيَّة ودفتر الخدمة العسكرية ووثيقة التخرج من الابتدائية، نهاية الستينيات من القرن الماضي.

بعد تخرّجي من المدرسة المتوسّطة في مدينة “قلعة سكر” جنوب العراق، انتقلت إلى مدينة الشّطرة، الّتي أقمت فيها ثلاث سنوات، حتّى تخرّجت من الدّراسة الثانويّة.

تمتلك الشّطرة منذ أكثر من نصف قرن شخصيّة مدينة، لا تخلو من فرادة في محيطها الإقليمي. مدينة تشهد عروضًا سينمائية ليلية، فيها استوديو للتصوير أسّسه رجل محترف، ومكتبة عامة ثرية، قرأت فيها الجزء الأول من كتاب “لمحات اجتماعية في تارخ العراق الحديث” لعلي الوردي، وكتبت تعليقات على حواشي صفحاته، لا أعرف مدى أهميتها، وإن كنت أتمنى أن أعثر عليها الآن، كي أكتشف منطق التفكير الذي تملّك ذهني ذلك الحين. الافتقار إلى الأرشيف الشخصي هو افتقار لأهمّ أدة نكتشف فيها تاريخ تطوّر الذهن، ومسار عملية التفكير، والمنعطفات التي عبرتها الشخصية.

مطلع سبعينيات القرن الماضي، كانت الشّطرة أكثر تحضّرًا من المدن الصّغيرة بجوارها. تنفرد هذه المدينة بوجود مكتبة لبيع الصّحف والمجلات، ومطاعم تقدّم أكلات شهيّة لم أذقها من قبل، وصالة لعرض الأفلام السينمائية، فيها دخلت لأول مرة السينما، وشغفت برومانسيّة الأفلام الهندية. كنت أغرق في انفعالات حارّة، عندما يتصاعد التمثيل ليصل إلى ذروة المواقف العاطفية التراجيدية والكلمات الحارقة. أكثر من مرة نزفت دموعي معها بحزن وألم. الأفلام الهندية تكتب كلمات حارقة تحيل إلى مواجع طفولتي وفتوتي وجروحها.

بعد أقلّ من عامين، امتنعت عن دخول السينما، وهجرت مشاهدة أيّ فلم، كذلك هربت من استماع أية موسيقى، ولم أعد أتذوَّق فتنة ألوان الصور الجذابة. حدث ذلك بعد أن طالعت كتاب “معالم في الطّريق” لسيّد قطب في الصف الخامس الثانوي. استنزفتْ روحي غوايةُ شعاراته وأناشيده، مثلما استنزفتْ روحي النّصوص الأخرى لأدبيات الجماعات الإسلامية. إنها نصوص كلما غرقت في مطالعتها، سجّلت غيابًا إضافيًا عن فضاءات الفنون الجميلة، بل إنّ مطالعتي للمزيد من تلك النّصوص، تغيبني عن تذوّق صور الله الجميلة وجماليات الوجود.

في هذه المدينة، شباب يهتمّون بمطالعة الكتب والصّحف والمجلات، يحاولون الانفتاح على عصرهم، ومواكبة كل ما هو جديد بحدود إمكاناتهم الضيّقة. تتردّد في كلماتهم أسماء بعض الفلاسفة والمفكرين والأدباء والكتّاب، ويؤشرون إلى بعض مؤلّفاتهم المعرّبة في أحاديثم. وصف البعض (الشطرة) وقتئذ بـ”موسكو الصغرى”، لأنّ الحزب الشّيوعيّ العراقيّ يمتلك قاعدة شبابيّة واسعة فيها.

في الشّطرة بدأت تتراكم الصّور في أرشيفي الشّخصيّ، إذ كان بعض زملائي يمتلكون كاميرات تصوير عاديّة، مضافًا إلى وجود مصوّر يحتكر هذه الحرفة في المدينة، ولا يكفّ عن التفنّن في تلوين الصّور وتجميلها. بعد عودتي من المنفى الّذي أمضيت فيه ربع قرن تقريبًا، زرت هذه المدينة وذهبت إلى محلّ ذلك المصور، فوجدت أحد أبنائه، وحدثته عن أني كنت زبونًا لأبيه، وأتمنّى أن أحصل على نماذج من صوري القديمة لديهم، الّتي لا أمتلك أيًا منها. لم أعثر إلا على صورة واحدة تعود إلى العام الدّراسيّ 1971/1972.

بالتّدريج، اجتمعت لديّ مجموعة صور شكّلت أوّل ألبوم اقتنيته مطلع سبعينيات القرن الماضي، وأنا في عمر 16 عامًا، ثمّ أضفت إليه ألبومًا آخر بعد مضي عدّة سنوات.

رغم حاجتي العميقة إلى أرشفة ذاكرتي وتوثيقها، كما هي الحاجة الأبدية لكلّ كائن بشري في تخليد ذاكرته، فإنّ انخراطي في الجماعات الإسلامية في مرحلة مبكرة من حياتي، أطفأ لهيب الشّغف بالذاكرة، إثر تدجين متواصل لا ينشد إلا تنميط الذات عبر إذابتها في الجماعة، والتنكّر إلى حاجات جسد الإنسان، وتجاهل ظمأ روحه، وإطفاء منابع الفرح والمرح في شخصيّته.  

في هذه المرحلة، لم تعد للصّور وكلّ وثيقة تتَّصل بالأرشيف الشخصيّ أهمية عندي، ذلك أنّ لدي مهمة “رسولية” أعظم وأسمى من كلّ هذه الهوايات الرخيصة، كما تشدّد على ذلك رؤيتي الجديدة للعالم، المستقاة من أدبيات الجماعات الإسلامية.

لطالما عشت صراعًا عنيفًا بين مشاعري وحواسي الظاهرة والباطنة التواقة إلى كل ما هو جميل، وما تمليه عليّ مفاهيم وتقاليد الانتماء إلى هذه الجماعات، التي تقول تعاليمها إن “كل شيء جميل في حياتك مؤجل، أي أنك تستوفيه نسيئة غدًا، لا نقدًا هذا اليوم”. وكأن ما في الحياة من ضوء ومسرات لا يليق كله بمن يؤمن بالله ورسوله الكريم “ص”. الغريب أنَّ أدبيات الجماعات لا تكترث إلى الاستفهام الإنكاري للقرآن، وإشارته في أكثر من آية إلى عدم تحريم زينة الله والطيبات، مثل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32)، ما أفهمه أن “زينة الله والطيبات” تؤشر إلى جماليات الوجود، وكل ما يضيء ظلام العالم ويبدّد عتمة أيامه.

تشدد تلك الأدبيات على أن مهمتها في هذا العالم هي التمهيد لإقامة دولة دينية، حتى لو تطلَّب ذلك الموت، لأن الموت، وليس الحياة، هو أسمى أمانيها،كما تشدّد شعاراتها. في سياق التثقيف بهذه المقولات، لم تعد لأية صورة أو وثيقة شخصيَّة أهمية تذكر، مهما كانت قيمتها.

ذبل اهتمامي بالصّور والطّوابع، ومسودات تمارين كتاباتي الأولى، وغيرها من أوراقي وأشيائي الخاصّة. حتى في زواجي سنة 1977، ومن قبله عقد القران، أهملت عمدًا تصوير هذه المناسبة، إلا أن زوجتي وعائلتها كانوا حريصين على التقاط بعض الصور. مع العلم أنَّ أخوتها لم يكونوا بعيدين عن مدارات الجماعات الإسلاميَّة، لكن تربيتهم المدينية احتفظت بشيء من الحسّ الجمالي، لذلك فشلت تقاليد هذه الجماعات في إطفائه.   

في آذار “مارس” من العام 1980، أصدرت مديرية الأمن العامة في بغداد، أوامر مشدّدة بمطاردتي وإلقاء القبض عليّ عاجلًا، بسبب اعترافات انتُزعت تحت التعذيب من بعض الشباب من رفاقي، وأصدرت عليّ فيما بعد “محكمة الثورة” حكمًا غيابيًا بالإعدام حتى الموت في العام 1981. اختنقت يومذاك بعد أن ضاقت عليّ جغرافيا وطني العراق الواسعة، وبادرت إلى جملة تدابير وقائية، أولها التخلّص من كلّ أرشيف الصّور الشخصيّة والعائليّة، فأحرقتها كلّها. وقتها، رغبت زوجتي في أن تحتفظ ببعض صور العقد والزواج، لكنّي مزقتها، وأحالتها محرقتي جميعًا رمادًا. كذلك عمدت إلى إحراق ما في خزانتي من مقالات الجريدة السرية لحزب الدعوة الإسلامية، الذي كنت منتظمًا فيه، ولم أحتفظ إلا بمقالة مخطوطة مطولة، كتبها مسؤولي في الحزب المرحوم الشيخ حسين معن، بعنوان: “فقه الدعوة”، كانت خلاصة نقاش بيننا حول المشروعية الفقهية للحزب، ومصادر الإلزام والتكييف الفقهيّ لانضباط الأعضاء المنخرطين فيه وطاعتهم لما يصدر لهم من أوامر. لم أجد أفضل من ساحة المنزل الصغير المتداعي، الذي أسكنه على حافة “بحر النجف”، في حزام البؤس والحرمان في النجف، كي أضع هذا النص في عدة أكياس بلاستيكية محكمة وأدفنها بعمق أكثر من متر. لم أدري ساعتها أنَّ دفني لهذا النص سيغيبه عن عالمنا إلى الأبد، مثلما يُغيّب الدفن الموتى في مقبرة النجف إلى الأبد.

بعد هروبي من العراق، استبدَّت بي رغبة التخلّص من كل ورقة أو صورة أو أي أثر مادي يحيل الشرطة السرية إلى نشاطاتي واجتماعاتي، لذلك لم أهتم بالصور أو الأوراق الخاصة، وكنت أتحاشى على الدوام التصوير مع الشباب المنتمين إلى حلقاتي الحزبية، بل أمتنع من التصوير مع من يحضر دروسي غير المعلنة أيضًا التي أقدّمها لتلامذة جامعيين في بيوت أصدقاء.

لبثت في الكويت أربع سنوات، لم أشعر يومًا فيها بالأمان، رغم أني وجماعتي التي أنتمي اليها لم نكن نستهدف تغيير نظام الحكم في هذه الدولة، ولا ننشد تهديدًا للأمن فيها، لأن جهودنا مكرسة لمقاومة نظام صدام الفاشي فقط. كنت مستعدًا في أية لحظة لمداهمة الشرطة السرية والاعتقال، لذلك كنت أمزّق وأحرق كل ما يمكن أن يُظن أنه رأس خيط يدلّ جهاز الأمن على شبكات علاقاتي، ونسيج تنظيماتي، وحلقاتي المتعددة، إذ كنت أدير كلّ أسبوع 24 من الحلقات التّنظيميّة والدّروس التثقيفيّة.  

في ديسمبر العام 1983، باغتتنا سلسلة تفجيرات في الكويت، لا نعرف من نفَّذها، حدثت إثرها سلسلة اعتقالات ومطاردات، اضطررت بعدها بأسبوع إلى مغادرة الكويت، بعد أن عرفت بوشاية كاذبة للمباحث من أحد الأشخاص ضدي. وكموقف احترازي، اعتقلت المباحث صاحب الشقّة التي كنت أستأجرها، بوشاية كاذبة أيضًا لشخص عابث، ثم أطلقوا سراحه بعد أيام قليلة. ومن المفارقات أنَّ هذا الرجل الطيب صاحب الشقة، رحمه الله، (توفي قبل سنوات قريبة)، غرق في هلع وكوابيس مزّقته بعد اعتقاله. ولفرط رعبه، قام بنقل مكتبتي إلى الصحراء، وأحرق كلّ الكتب فيها، حتى تفاسير القرآن. وهي مكتبة تضمّ كتبًا ليست محظورة، إذ اشتريتها كلّها من مكتبات الكويت، تجاوز ثمنها بمجموعها 2000 دولار.

قبل مغادرتي الكويت، اتخذت إجراءً وقائيًا أحرقتُ فيه ما اجتمع لديّ من صور ادّخرتها كذكرى عطرة من رحلات أداء مناسك الحج والعمرة، خشية تسربها إلى المباحث، وكي لا يُتهم بعض الأشخاص الأبرياء من الأصدقاء بتهم باطلة فيقع ضحية، كما يحدث في كل موجات الاعتقال في بلادنا. هكذا بعد أربع سنوات، يحل وعد المجزرة الثانية لبقايا ذاكرتي الموشومة، وبقايا أرشيفي الصّغير جدًا.

باتت هذه الحالة من عاداتي المزمنة، إذ لطالما سارعت إلى تمزيق رسائل أو أوراق وحرقها، حيثما كنت وكانت. وأحيانًا، بعد مضي سنوات، في مناسبة ما أتذكّر قضية مهمة أوردتها رسالة من صديق، أو بعض الأوراق التي تتضمن موضوعًا يهمني اليوم، وأحتاج الاستناد اليها كوثيقة، فأفتش عنها لكن دون جدوى. يبدو أنَّ أرشيفي كان ومازال ضحية كوابيس مدفونة في أعماقي، يعلنها صوت كأنه يخيرني: “بين أن أُعْدَمَ أو أن أَعْدِمَ أرشيفي”.

بعد هذه المجزرة، لبثت سنوات طويلة في المنفى أمتنع عن التَّصوير. ذاكرتي الجريحة تنزف حينما يدعوني أي شخص إلى التصوير، ولا أبالغ إن قلت إني مكثت عدة سنوات تنتابني حالة يمكن أن أنعتها بـ”فوبيا الكاميرا”، حتى انتقلت حياتي رغمًا عني إلى طورها الوجودي الجديد، بمعية الطَّور الوجوديّ الجديد للعالم، الذي أنجزه الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات وغيرها، وإنتاج هذه التكنولوجيا لعالم بديل، انهارت معه الكثير من الخصوصيات الشخصية، وأمست أكثر الأسرار سرية مفضوحةً، شئنا أم أبينا، ولم يعد منطق الحدود الحسية الفيزيقية فاعلًا، وإن ولدتْ في سياق عالمنا البديل حدود تشبهه، هي حدود رمزية لا مادية، ربما هي أقسى من الحدود الماديّة.

  •    مفكّر وكاتب عراقي، متخصَّص في الفلسفة الإسلاميَّة، وله رؤية فلسفية حول الإصلاح ومناهج التّفكير الديني. مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ومستشار تحرير لمجلات ودوريات متعددة، يرأس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة منذ إصدارها في العام 1997.

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: فوبيا الكاميرا.. بين أن أُعْدَمَ أو أن أَعْدِمَ أرشيفي

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو 3 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا:

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>