“لئلا تضيع”
سلام الراسي: ذاكرة النّاس للناس
كثير من المرويات والخبريات والأمثال والحكايات والأشعار والأزجال يقبع في الشّتات… كيف لا؟ وهو موزع على ألسنة النّاس.. وفي خبايا ذاكرتهم… ينتظر من يكترث لأمره، وينظر في حاله، و”إن طرقته السعادة”، “يغربله” (بالدّارجة اللبنانية)، لينشره ويقدمه للناس في قالب يدمج الحكمة والطرافة و”المنيح والقبيح” في آن معًا.
تضجّ زوايا عالمنا العربي بمثل هذه الأخبار، فنكاد لا نجد مدينة أو قرية أو شارعًا أو بيتًا يخلو منها، وهي تترسخ في الذّاكرة الشّفهية للأفراد، أي أنّها محكومة بالضّياع والفناء إن لم تجد من يحفظها من غبار النسيان والغياب.
في هذا الإطار، حظي لبنان بفرصة استثنائية، استطاع صاحبها أن يلملم فيها هذه الموروثات التي تتناقلها ألسنة النّاس، ليحفظها، ويوثقها في تجربة فريدة من نوعها: إنه سلام الرّاسي “أبو علي”، شيخ الأدب الشّعبي في لبنان.
من هو “أبو علي” سلام الراسي؟
وُلِد “أبو علي” سلام الراسي في 25 كانون الأول/ ديسمبر من العام 1911، في بلدة إبل السقي، جنوب لبنان، أخًا لثلاثة عشر ولدًا. وبكلماته هو، “كانت الشمس تشرق في ذلك الزمان من وراء جبل حرمون، وتغرب خلف مرجعيون، وقريتنا قائمة في وسط الدنيا…”.
نشأ سلام الراسي في بيت مفتوح لأب هو رجل علم ودين، يواكيم الراسي، الذي تعلم في مدرسة المرسلين في عبيه، ثم أنشأ مدرسة الفنون في صيدا، وبقي مديرًا لها منذ العام 1880 حتى العام 1896، وهي التي عرفت فيما بعد بالمدرسة الإنجيلية أو شعبيًا “بالأميركان”. عاد [يواكيم الراسي] بعدها إلى إبل السقي، حيث توفي في العام 1917، وكانت له مكتبة عامرة موصوفة، وذلك نادر في ذلك الزمن.
تلقّى سلام الراسي علومه الابتدائية في مدرسة الضيعة، التي بقيت مرتبطة به وظلّ هو مرتبطًا بها، ثم انتقل للدراسة الثانوية في مدرسة سليم قربان في مرجعيون التي عاد إليها معلمًا لفترة وجيزة.
بعدها، انتقل إلى بيروت مع والدته في العام 1925 حين اندلعت الثورة السورية، حيث سكن إلى رأس بيروت كما سكنت إليه، والتحق بالجامعة الأمريكية لفترة وجيزة عاد بعدها إلى إبل السقي.
هذه النشأة والبيئة والظروف العامة التي أحاطت بالربع الأول من القرن العشرين، كان لها أثر عميق في طبع الراسي بطابعها، فهو ابن الضيعة والجنوب والمثقف ابن المدينة في حين واحد. وُلِد أيام العثمانيين، وترعرع في ظل الاستعمارين الإنكليزي والفرنسي لفلسطين ولبنان وسوريا، ثم شبّ مع الرعيل الأول من الاستقلاليين والوطنيين المناهضين للاستعمار المنادين بالحرية والخبز والعدالة.
في العام 1956، عيّنه الوزير إميل بستاني موظفًا في مصلحة التعمير بعد الزلزال، وبقي في وظائف الدولة حتى تقاعد في العام 1975.
كتب الراسي الشعر والزجل وهو في مرحلة الشباب، ثم تحول إلى جمع المأثور الشعبي ومجمل أصناف الأدب القروي، وألّف عددًا من القصص والروايات زاد على سبعة عشر كتابًا، سمّي بسببها “شيخ الأدب الشعبي”، ونال عن ذلك عددًا من الأوسمة والتكريمات التي تليق به وبمقامه.
نشر أول كتبه “لئلا تضيع” سنة 1971 حين كان عمره 60 عامًا، وبقي يكتب وينشر حتى بلغ التسعين. كما شارك في العديد من البرامج التلفزيونية، وبُثَّ برنامجه الشهير “الأدب الشعبي في لبنان” عدة مرات.
توفي في 19 نيسان 2003، عن 92 عامًا، ودُفِن في بيروت.
أدب سلام الراسي
حملت معظم مؤلفات سلام الراسي في عناوينها مأثورات شعبية: “في الزوايا خبايا”، “حكي قرايا وحكي سرايا”، “أحسن أيامك سماع كلامك”… وغيرها الكثير. ويقول الشّاعر اللبناني عباس بيضون عنها: “في عناوينها، كما في بطونها، افتتان بالكلام والتعبير”، مضيفًا: “هذا اختيار شاعر أكثر منه اختيار مؤرخ ودارس. إنه حفظ لغة واستدراك أكثر تجلياتها شعرية وفصاحة”.
ويلفت بيضون إلى أن الراسي “صنع من كلام غيره قلائد لولاه لما بقيت، فهو في المدى المستقبلي ناظمها وصاحبها وكأنها بنت خياله”، مؤكدًا أن الرجل لم يجمع “ثمرات الماضي والحاضر لولا حدس فات معاصريه ممن جعلوا “التقدم” حالًا من أحوال النسيان”. في حين يرى وفيق غزيري أنه “أحد أبرز الذين تعاملوا مع عفوية الناس وبساطتهم […]، ولقد أحيا التراث اللبناني الشّعبي قبل أن يندثر أو تطاله يد النّسيان، ليكون زادًا معرفيًا للأجيال الحاضرة والمقبلة”.
الجدير ذكره، أن زوجته، إميلي غطّاس الخوري، كانت رفيقة دربه في رحلته الأدبية، وكانت أول من شجعه على الكتابة والخوض في مشروعه الأدبي، فكان يطلب منها مراجعة كل ما يكتب، ويثق بآرائها، ويعمل بتوصياتها، وكان هاجسها الشّاغل منذ بداياته الأدبية تغيير الانطباع الخاطئ بأنّه محض ناقل وموثق وحكواتي أكثر من كونه أديبًا قصصيًا في المقام الأول، وقد حرصت على إبراز أصالة إبداعه وعطائه الأدبي في كتابها “أدب وعجب في حكايات سلام الراسي”.
رحلة سلام الراسي في الأدب الشعبي
بين طرائف أشعار المناسبات ومرويات الأحداث الاجتماعية تجوَّل سلام الراسي، وكان أن وجد أن “اللي بيطاوع مرتو بيضمن آخرتو”، و”الغربة مضيعة النسب”، و”ما لها سياج الدار غير رجالها”، و”جمل في ثقب إبرة”، و”كل سر جاوز الاثنين شاع”، وغير ذلك من مئات الخبريات التي جمعها ودوزنها. في أسفاره الدائمة إلى نبض الشعب اللبناني، لم يمل ولم يكل، بل كان شاغله الأوحد صيانة هذا التراث، ويعود الفضل في ذلك إلى الوزير إميل بستاني.
لقد وجد سلام الراسي نفسه غريبًا في تلك الوظيفة الفنية والهندسية [في مصلحة التّعمير]، وأناطت به المصلحة البحث في هموم النّاس ومشكلاتهم الحياتية واليومية، فكان أن قال له إميل بستاني: “اذهب إلى الضيع، اعمل ما تريد، واجمع التّراث”، وكان أن “بدت الحكايات والمرويات الكثيرة التي تعج بها كتبه أشبه الخزانة التي تحفظ الذاكرة الشّعبية اللّبنانية وتصونها من النّسيان وغدر الزمن”.
مؤلفات الراسي: بين الأدب الشعبي والأرشيف
في الحديث عنه، يستذكر مسعود ضاهر تجربة سلام الراسي ببعض من الشغف، فيقول إنه “حين أدركته حرفة الكتابة، وهو في السّتين من عمره، باتت متاعبه من نوع جديد”.
أي متاعب تلك؟ إنّها متاعب “طريفة”، غير أنّها تتطلب الكثير من الجهد والتّنقل، فهو يجمع المرويات والأمثال من أفواه الناس، ولا يكتفي بذلك، بل يدققها ويمحّصها، متنقًلا من قرية إلى أخرى، ومذكرًا، كما يقول ضاهر، “بالمؤرخين العرب الذين أمضوا سنوات طويلة من حياتهم بحثًا عن الوثائق الأصلية في مراكز الأرشيف والمكتبات العامة والخاصة، وسجلات المحاكم الشّرعية والأديرة والبلديات وغيرها”.
وبذلك، باتت لدى الناس “قناعة تامة بأن مروياته هي “وثائق”، ولديها درجة متقدمة في الأصالة، بحيث لا يمكن الشك بمصادرها، لأنها من صنع النّاس، وهم صانعو تاريخهم بأنفسهم”.
ويؤكد ضاهر أن تمايز الراسي في الكتابة برز من خلال إدراكه العميق لضرورة تقصي الحقائق، وهي مهنة المتاعب الكبيرة التي يتعرض لها الباحث المدقق في سعيه الدّؤوب للكشف عن مصادر الثقافة السائدة في لبنان، فثقافة هذا البلد، كما تنشرها وسائل إعلامه الرسمية والطائفية، “هي ثقافة مشوهة ومصطنعة، وقد أفضت إلى كتابة تاريخ مشوه أقل ما يقال فيه إنّه مؤدلج ويتلون بلون الطوائف والمناطق والزعامات المحلية، ومرويات جواسيس الدول الأجنبية، وتقارير قناصلها. وعلى الرغم من إتقانه الممتاز للغة الإنكليزية، فلم يستند إلا نادرًا إلى وثائق الأرشيف، على اختلاف تلويناته المحلية والأجنبية، ولم يول اهتمامًا يُذكر بالمجلات والأوراق الصّفراء التي تشوه الحقائق التّاريخية في توصيفها لثقافة اللّبنانيين”.
لقد توغّل سلام الراسي عميقًا في المرويات الشّعبية، منطلقًا من أحاديث أصدقائه المقربين، وجيران سكنه، وزملائه في الوظيفة، وأهالي قريته، وسكان الجوار، وأهالي منطقة جنوب لبنان، وعموم القرويين في مختلف المناطق اللبنانية، ورفاق العمل السياسي، ومجالس الأدباء والشعراء، ورجال الدين، وغيرهم، فجاءت “محصلة توثيقه الجديد غنية جدًا، ومليئة بالحقائق الدّامغة كما رواها النّاس من خلال تجاربهم الشخصية”.
سلام الراسي حافظًا للتاريخ في وجه التّشويه
يقول فولتير، “ساخر فرنسا”، في نقد وجهه إلى تاريخ فرنسا وبقية دول العالم: “في كل ما قرأت، لم أجد إلا تاريخ الملوك، وكبار القادة، وأنا كلي رغبة لمعرفة تاريخ الناس، كل الناس”. وهذا ما فعله سلام الراسي، فكان أن دوّن تاريخ لبنان الشّعبي، وكان من رواده في الوطن العربي، فكتب بحق تاريخ النّاس، كل النّاس.
وقد كان له نظريته الخاصة في ذلك، تجلّت في جوابه حين طلبت منه إحدى الصحف المساهمة في باب وجهت فيه سؤالًا إلى الكُتاب: “من يكتب تاريخ الحرب في لبنان؟”، ونشرت رد أحدهم في كل عدد من أعدادها. وفي مقال له حمل عنوان “الاستقلال وحكمة معاز كفرتبنيت”، كان رد سلام الراسي يومذاك: “من يكتب؟ ليس المهم من يكتب التاريخ، المهم كيف نكتب التّاريخ”.
نصّب سلام الراسي نفسه حارسًا للأرض ومقاومًا بأحرفه وحبره من أجلها، ففي أحد مقالاته: “الحولة لبنانية اغتصبتها إسرائيل قبل 75 عامًا”، يروي كيف تم شراء قرية المطلة اللبنانية في نهاية القرن التاسع عشر، تنفيذًا لمخطط صهيوني لجعلها “قرية يهودية” (و”مغط” حدود أرض الميعاد إلى ما ورائها)، وكان أن اشتراها البارون اليهودي روتشيلد من مالكها اللبناني جبور بك رزق الله (ابن صيدا). كان زعيم المطلة عهد ذاك الشيخ علي الحجار من وجهاء الدروز المعروفين، استدعاه يومًا قائمقام مرجعيون “رفعت بابان بيك” فلبّى، ثم طفق عائدًا إلى قريته مساء. وصباح اليوم التالي، وصلت فرسه وحدها إلى المطلة، دون فارسها، فهب رجاله يبحثون عنه حتى عثروا عليه مقتولًا ومطروحًا قرب نبع الحمام في سهل مرجعيون، وقيل يومئذ إن قائمقام مرجعيون كان وراء مصرعه الذي سهّل اقتلاع الدروز من القرية، واستقدام عائلات يهودية إليها، ولم يفطن أحد، في ذلك الوقت، أن قرية المطلة ستصبح يومًا “وتد جحا” الصهيونية في لبنان.
يغالط سلام الراسي الرواية اليهودية، فيقول إنّه “مع نهاية الحرب العالمية الأولى، شرع اليهود يخططون لتوسيع رقعة وطنهم المنشود، فألفوا كتبًا ونشروا دراسات زعموا فيها أن حدود أرض الميعاد تمتد شمالًا إلى ما وراء قرية “المطلة” اليهودية من دون أن يشيروا طبعًا إلى أن اليهود لم يطؤوا “المطلة” إلا قبل عشرين سنة من ذلك”.
ويروي في بقية المقال “كيف ضاعت الحولة”، واصفًا بحيرتها بـ “حنفية” فلسطين التي لا تنضب، ليقول إنه “كان أمرًا قاصمًا أن أهالي منطقة الحولة (نحو 25 ألف نسمة) نزحوا جميعًا إلى لبنان عند اندلاع أحداث 1948، وتركوا أراضيهم فاستولى عليها اليهود لقمة سائغة، ولاحقًا تمكن أهالي هونين وإبل القمح من استعادة جنسياتهم اللبنانية (لأن سكان منطقة الحولة كانوا لبنانيين، بحسب قيود نفوسهم الموجودة في مرجعيون بموجب إحصاء العام 1921)، أما الباقون، فاحتفظوا بجنسياتهم على أمل العودة إلى أراضيهم التي اغتصبها اليهود عندما تركوها”.
هذه الحادثة التي يرويها لنا، “غيض من فيض” من الأخبار التي تزخر بها كتبه، ونشعر، لدى مطالعتنا لها، بأنها مُكَوّن أساسي من مكونات هويتنا اللبنانية، ليكون الحال فعلًا كما عبّر عنه الشّاعر اللبناني هنري زغيب: “لو لم يكن سلام الراسي، لكان ضرورة لنا إيجاده. أما وهو جاء، حاملًا إلينا هذا المكتنز من مخزون الأدب الشعبي، فهو بيننا ليس أديبًا كسواه، ولا كاتبًا كغيره يُضاف إلى بيبليوغرافيانا، بل هو الأدب الشعبي نفسه، تجسد حيًا في أديب”.
____________________
المراجع:
1 – انظر الموقع الرسمي للكاتب: http://www.salamelrassi.com/
2 – “التاريخ مأخوذًا من أفواه متذكريه”، مسعود ضاهر، مجلة نوافذ، أعلام، السبت 5 تموز/ يوليو 2003م.
3 – “أدب شعبي حي اسمه سلام الراسي”، هنري زغيب، نهار الشّباب، الثّلاثاء 29 شباط/ فبراير 2000م.
4 – مصطلح استخدمه الشاعر هنري زغيب في مقاله، منطلقًا من المصطلح الأجنبي “bibliographie”.
__________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: لئلا تضيع سلام الراسي ذاكرة النّاس للناس
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- الزجل.. حافظ تراث اللبنانيين وابن الناس الطيبين
- “حاضر البحرين” للشيخ إبراهيم المبارك.. يوميات الأيام الخوالي
- أديم الأرض: الشّيخ الإمام أحمد بن سعادة البحراني
- مخطوطات في المآتم النسائيَّة في البحرين
- الذاكرة السياسيَّة في مدوّنات علماء البحرين في القرن الثامن عشر الميلادي
- التاريخ الشّفهي: خصوصيّته كمدخل للتعرّف إلى تاريخ أفريقيا السّوداء
- تجربتي مع التّاريخ الشّفهي
- الوثائق الأحسائيّة ذاكرة حيّة لعصور مضت
- أول بعثة بحرينية للجامعة الأميركية
- فوبيا الكاميرا.. بين أن أُعْدَمَ أو أن أَعْدِمَ أرشيفي
- أحاديث قريتي: قرية المعامير البحرينية
- رحلتي مع المخطوط
- حادثة الأسد
- حياة الناس في القرية البحرينية ” قبل النفط “
- حديث الحمير .. حكايات أيام زمان
- السيد الغروي البحريني .. فصل من رحلة في الغربة