هل هناك ذاكرة خارج إطار الجماعة؟

هل هناك ذاكرة خارج إطار الجماعة؟

*نور بكري

لا ذاكرة من دون جماعة. يبقى حيّزٌ من ذاكرتنا طيّ النسيان، حتى نتّكئ على ذاكرة الآخر، لنعيد نسج خيوط الماضي وتمثلاته في إطارها العام، فتتجدد الأحداث ونستطيع استعادة تفاصيلها. إنَّنا نتحدث، إذًا، عن ذاكرة جمعية.

اجترح هذا المفهوم عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبواش Maurice Halbwachs (1877 – 1945م)، وجاء كتابه “الذاكرة الجمعية” (ترجمة د. نسرين الزهر)، ليظهر ارتباط الذاكرة الفردية بالذاكرة الجمعية، وهو يأتي “في سياق تاريخ تأسيس مدرسة العلوم الاجتماعية في فرنسا، لأنه يُعنى بدور علم الاجتماع في تفسير الظواهر النفسانية، وقد يكون رسم بذلك أوَّل خطوط علم النفس الجمعي”.

تُرجم الكتاب إلى أكثر من خمسين لغة عالمية خلال القرن الماضي، وتعتمد الترجمة العربية، الصادرة عن بيت المواطن للنشر والتوزيع، نسخة العام 1950، ويضاف إليها فصل “ذاكرة الموسيقيين” الموجود في الطبعة الحديثة وغير الموجود في النسخة الأصلية.

يأخذنا هالبواش في رحلة تسبر أغوار الذاكرة، بشواهد من حياتنا اليومية وواقعنا المعيش، مجازية تارة ومادية تارة أخرى، ليقدّم خلاصة تتبدى من الصفحات الأولى في الكتاب، نتلمّسها واقعًا في كل مثال أو طرح، فيؤكد أن “ذكرياتنا تبقى جمعية، ويذكّرنا بها الآخرون، مع أنها أحداث عُنينا بها وحدنا وأشياء رأيناها وحدنا، ذلك أننا لسنا في الحقيقة وحيدين البتة”، ولكن ذلك لا يكفي وحده، فلكي تقوي ذاكرة الآخرين ذاكرتنا وتكملها، “ينبغي ألا تكون ذكريات هذه الجماعات دون أي صلة مع الأحداث التي شكّلت ماضينا”.

يقول الشاهد هنا، أننا حين نلتقي بصديق أبعدتنا ظروف الحياة عنه، نجد بداية صعوبة في التواصل معه. وبعد أن يستذكر كل منَّا تفاصيل مختلفة قد لا تكون هي نفسها ولكنها تحيل إلى الأحداث نفسها، قد نتوصّل إلى حد التفكير في ذكرياتنا معًا، وقد تأخذ الذكريات الماضية بعدًا أكبر.. ولكن، أيضًا، يقول الكاتب، لا يكفي أن يمدنا هؤلاء بشهاداتهم، فينبغي أيضًا “أن لا تنقطع هذه الذاكرة عن الاتصال بذاكرتهم، وأن يكون هناك ما يكفي من نقاط التقاطع كي نستطيع إعادة بناء صورة الحدث الماضي قطعة قطعة لنحصل على الذكرى المفقودة. ينبغي أن تتم إعادة البناء تلك انطلاقًا من معطيات أو مفاهيم مشتركة موجودة في ذهننا، كما في أذهان الآخرين”.

بالتوازي، ليس من الضروري “أن يكون الأشخاص الآخرون معنا أشخاصًا ماديين غيرنا، لأننا نحمل فينا ومعنا عددًا من الأشخاص لا يختلطون فيما بينهم”، فقد نذهب في نزهة إلى لندن غير مرة.. في كل مرة بصحبة رفيق، قد يكون معماريًا أو مؤرخًا أو رسامًا، سيهتم كل منهم بلفت انتباهنا إلى معالمها من الزاوية التي يعتني بها. وقد يحدث أيضًا أن نقرأ فقط وصف المدينة وفق مجموع وجهات النظر هذه، وأن نشاهد ما نصحنا بمشاهدته من أوجه المدينة، وأن نتنزّه وحدنا، فهل يعني ذلك أننا وحدنا فعلًا؟ يجيب هالبواش أننا لم نتنزه وحدنا إلا ظاهريًا، لأننا كنا نضع نفسنا ذهنيًا ضمن جماعة؛ الجماعة التي يشكّلها مع المعماري أو الرسام…

هكذا، وانطلاقًا من شواهد عديدة، يؤكّد هالبواش أن الوقائع والمفاهيم الأيسر للتذكر هي تلك الواقعة في الحيز العام. ما لا يمكن تذكّره بيسر هو تلك الذكريات التي لا تخصّ الآخرين، ولكن تخصّنا لأنها وحدنا من يعرفها. الفرق واضح وجليّ بينهما، ولكن لا يتوقَّف الأمر هنا. بالطبع، في حياة كلّ منا أحداث كثيرة لا نملك القدرة على استحضارها، وذلك مرده، بحسب هالبواش، إلى “أنَّ بين الأحداث بعينها والأشخاص الذين انخرطوا فيها وبيننا، نحن أنفسنا، يوجد انقطاع، ليس لأن الجماعة التي تمثلنا الحدث ضمنها لم تعد موجودة، بل لأننا لم نعد نفكر فيها، ولم يعد بمستطاعنا بناء صورتها.. أن ننسى فترة من حياتنا هو أن نفقد الصلة مع أولئك الذين كانوا يحيطون بنا في تلك الفترة”.

ومن هذا المنطلق، سيبدو واضحًا حينئذ أننا لا نتذكّر طفولتنا الأولى، “لأننا انطباعاتنا في الواقع لا يمكن أن تستند إلى شيء، بما أننا لم نكن قد أصبحنا كائنات اجتماعية بعد”. بالنسبة إلى الراشدين، سيكون الأمر مختلفًا حتمًا، ففي “المستوى الأول لذاكرة جماعة، تنفصل ذكريات الأحداث والتجارب التي تخصّ العدد الأكبر من أفراده، والناتجة إما عن حياتها هي كجماعة أو عن علاقاتها مع الجماعات الأكثر قربًا منها واتصالًا متواترًا معها. أما الذكريات التي تخصّ عددًا محدودًا من أفرادها، وأحيانًا فردًا واحدا من أفرادها، فبالرغم من أنها متضمّنة ضمن ذاكرة الجماعة، بما أنها تشكلت ضمن حدود الجماعة، فإنها تتراجع إلى مستوى خلفي في ذاكرة الجماعة”، يقول هالبواش، ولكنه لا يجزم المرحلة التي تختفي فيها ذكرى جمعية ما، وإن كانت قد خرجت بشكل نهائي من وعي الجماعة أو لا، وذلك لأنه لا يكفي لحفظ ذكرى ما أن تبقى ضمن جسد اجتماعي حيث يمكننا دومًا استعادتها.

تتقاطع الذاكرة الجمعية مع الذاكرة الفردية، ولكنَّهما لا تتداخلان قطعًا. لكلٍّ منهما استقلاليته وخصوصيته. يحسم هالبواش أنَّ الذاكرة الفردية ليست معزولة ومغلقة كليًا، وخصوصًا أنَّ الإنسان يحتاج إلى ذاكرة الآخرين ليستذكر ماضيه، ولكننا أيضًا، والكلام له، لا نستذكر إلا ما رأيناه وفعلناه وشعرنا به في لحظة ما، أي أن ذكرتنا لا تختلط مع ذاكرة الآخرين. هي محدودة في الفضاء والزمن، وكذلك هي الذاكرة الجمعية، إلا أنَّ حدودها ليست نفسها حدود الذاكرة الفردية، وحتى لو تمكّنت الذاكرة الفردية من الاتكاء على الذاكرة الجمعية والحلول فيها والتماهي لحظيًا معها، لتوطيد ذكرياتها الخاصة وتدقيقها وسد ثغراتها، فإن ذلك لا يقلّل من شأنها ومن استقلالية دربها الخاص.

هكذا، يسلّم هالبواش بوجود نوعين من الذاكرة: فردية وجمعية، يشارك الفرد في كليهما، ولكنه قد يعتمد سلوكين مختلفين جدًا، أو حتى متعاكسين، وفقًا للذاكرة التي يشارك فيها. ويتحدَّث عن “ذاكرة مستعارة”، هي ذلك المخزون من الذكريات التاريخية، التي تتمثّل بمفاهيم ورموز تظهر لي بهئية شعبية، أتخيّلها، ولكن من المحال أن أتذكّرها.

ويبقى بين الذاكرة الجمعية والتاريخ تضادّ نهائي وجذري. وفي رأيه، لا يمكن خلط الذاكرة الجمعية مع التاريخ، ويحتفظ كل منهما بخصائص محددة، فهناك عدة ذواكر جمعية، في حين أن التاريخ واحد، وهو “لوحة التغيرات”، بينما “الذاكرة الجمعية هي لوحة التشابهات”.

إلى ذلك، يفرد هالبواش فصلين في الكتاب يتناول فيهما العلاقة بين الذاكرة الجمعية والزمن من جهة، وعلاقتها مع المكان من جهة ثانية. يقول: “الحياة في مجتمع تقتضي أن يتفق كل الناس حول الأزمنة والمدد، وأن يعرفوا تمام المعرفة الاتفاقات التي هم موضوعها. لهذا، كان لا بد من تمثل جمعي للزمن، يتفق بلا شك مع معطيات علم الفلك والفيزياء الأرضية، ولكن المجتمع يشيد فوق هذه الخيوط العريضة خطوطًا أخرى تتفق مع أوضاع الجماعة البشرية الواقعية وعاداتها”.

ويرى هالبواش أنَّ المجتمع وهو يملي علينا بلا انقطاع أسلوبه في تقسيم عيشتنا، يحرمنا تدريجيًا من أن نحظى ونتجهز بأسلوب خاص بنا، ولكن، وفقًا له، تأتي خصوصية الأوقات الفردية وتميزها من امتلاء وقت كلّ فرد منا بمحتوى مختلف، حتى إن جريان حالاتنا وتسلسلها تزيد أو تنقص سرعته من فرد إلى آخر، وعند الفرد نفسه بين فترة وأخرى.

ويوضح أن الزمن، مدرَكًا كما لو كان مشتملًا جملة الكائنات كلّها، ليس إلا ابتكارًا مصطنعًا أمكن الوصول إليه بجمع معطيات وتنسيقها ومضاعفتها، مستقاة من الأزمنة الفردية، ومنها فقط.. والتي “تظهر كقطع نحت بارزة على أرضية زمن جمعي تستقي منه جوهرها كله”.

بعد الحديث عن الأزمنة الجمعية، ينتقل ختامًا إلى الحديث عن الذاكرة الجمعية والمكان، ليتناول علاقة الجماعة بمكانها، وتفاعلها مع التموضع والانتقال، فيؤكد أن “لا ذاكرة جمعية تدور خارج إطار مكاني، لأن المكان هو حقيقة تدوم.. ولا يمكننا أن نفهم أنه لا يمكن أن نتمسك بزمام الماضي مرة أخرى ما لم يحفظ في الوسط الاجتماعي المحيط بنا”. وأكثر من ذلك، يشدد على أن ما من جماعة أو نوع من النشاط الجماعي إلا وله علاقة مع مكان، أي مع جزء من الفضاء، سواء كان قضائيًا واقتصاديًا ودينيًا، مع ملاحظة خصوصية كلّ منها وعلاقة جماعاتها بهذه الفضاءات.

عن الكتاب: صدرت الطبعة الأولى منه عن دار Presse universitaires de france في العام 1950، ثم صدرت طبعة منقحة نقدية بعد إعادة دراسة لأرشيف هالبواش، بالتعاون مع عائلته، عن دار Albin Michel في العام 1997.

عن الكاتب: كان من تلاميذ دوركايم ومن مؤسّسي تيارات الدراسات الاجتماعية الفرنسية. كتب أطروحات عن الحياة العمالية والأطر الاجتماعية ومسألة الانتحار، ودرّس كأستاذ زائر في ألمانيا وشيكاغو والولايات المتحدة الأميركية، وعُيِّن رئيسًا للمعهد الفرنسي للعلوم الاجتماعية. رُحّل إلى معسكرات الاعتقال النازية، وتوفي هناك إثر إصابته بالتهاب الأمعاء.

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF:  هل هناك ذاكرة خارج إطار الجماعة؟

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو  9 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>