شارع الحمرا: الحبّ باقٍ هنا

 تغريد الزناتي*

 مع بداية القرن الخامس عشر ميلادي، بدأ المواطنون من

مناطق الشمال والجبل بالتوافد إلى زقاق قريب من الشاطئ البيروتي ليعتاشوا من صيدالأسماك، ومنهم من استغلَّ التربة الحمراء في الزقاق هذا لينتج منه أنواعاً فاخرة من الفخار (أباريق وأطباقاً وأدوات أخرى). تلت هذه الأعمال عمليات البيع والشراء، لينقل المنتجون مسكنهم إلى أماكن الاسترزاق، وتتأسَّس العقارات المتواضعة، ومنها كانت البداية.

بدايةً، كان الشّارع زقاقاً: زقاق الحمرا. سكّانه من صيادي الأسماك والمزارعين. طبعاً، مثل بدايات باقي المناطق البيروتية (راجع أعداد أرشيفو السابقة – ذاكرة الصورة)، ما لبث أن كثُر فيه السكّان، وتوسَّعت فيه الأعمال السكنية فالتجارية، فأضحى من أكثر شوارع بيروت ازدحاماً ونمواً.

 

النهضة الكبرى

تعود نهضة شارع الحمرا إلى تأسيس الجامعة الأميركية في بيروت في العام 1866، التي أدخلت إليه صرحاً ثقافياً ممتازاً جعل من المتعلّمين وطالبي الثقافة والمعرفة يتوافدون إليه من كلِّ جنب.

تعود تسمية “شارع الحمرا” إلى روايتين: الأولى تقول إنَّ الشارع سُمّيَ باسمه تيمناً ببني الحمرا، وهي عائلة بقاعية عملت في بيع الغلال فيه، ومنها تحدَّرت أهم العائلات البيروتية، كآل عيتاني وآل اللبان. والرواية الأخرى تقول إنّ تسمية الشارع كانت تيمّناً بلون التربة الموجودة فيه، وهي كانت  عبارة عن رمال حمراء “تلهب أرجل سالكيها في الصيف، وتغرقهم بالوحول في  الشتاء”.

يمتدّ شارع الحمرا على طول 1300 متر في قلب بيروت، واصلاً وسط بيروت بمنطقة رأس بيروت. يحدّه من الشمال شارع “بليس”، حيث تقع الجامعة  الأميركية، ومن الجنوب شارع “سبيرز”. 

 

البريق المفقود

يسعى “أوفياء شارع الحمرا” غالباً إلى التمسّك بالمقاهي القديمة التي تحدّه عند جوانبه. يتنشقون رائحة الشارع القديم في زواياها. وعلى طاولاتها الخشبية كثيراً ما تجد أسماء العشاق، وتواريخ من دون دلالات، أو رسمًا لقلب غير متوازن الأطراف، أو الأحرف الأولى من اسمين، بقيت هنا ذكرى عن وجودهما  إلى الأبد. من يصرّ على زيارة هذه المقاهي تؤنسه القصص التي تجوب خياله عندما يرمي  بنظره على بقايا من الزمن الماضي، كمن يتلصَّص على حكايات غيره من الناس، ويحاول تارة الاستماع إلى وشوشات العشاق، وتارة أخرى تخيّل النقاشات التي دارت بينهم.

كثيرة هي التغيرات التي طرأت على شارع الحمرا. الصدمة التي وقعت مؤخراً كانت عند إغلاق مقهى “دو براغ” في شارع المقدسي، وقبله مقهى  “كافيه بين” عند المدخل الرئيسي، وبعده اعتزال مقهى “كوستا” عن كونه بوصلة زائري الحمرا. لا بد من أنها صدمة حالية مماثلة لتلك التي أصابت  الجيل السابق في ستينيات القرن الماضي عند إغلاق مقهى “المودكا” ومقهى “الويمبي” ومقهى “هورس شو”، حيث كان مثقفون لبنانيون وعرب  يجتمعون، ويخوضون فيه نقاشات حادة عن الأوضاع السياسية، ويملأون هذه المساحة جدلاً  وتحليلات للأوضاع العامة.  

 

ما هو شارع الحمرا؟

بعيداً عن الجغرافيا، يقوم شارع الحمرا على ركائز تجعل منه الشارع المثالي لأي إنسان، حقاً! أولاً، إنّ الشارع يحتوي كلّ ما يجول وما لا يجول في البال. منه تستطيع أن تتزوَّد بكل احتياجاتك، مادية كانت أو معنوية أو خدماتية.

يمكنك أن تتبضَّع من المحال التجارية ثياباً وأقمشة وأكسسوارات، من دون أن يهمّك دخلك الشهري أو المستوى الاجتماعي الذي تنتمي إليه، لأنَّ الشارع فيه من المتاجر ما يناسب شرائح المجتمع بأجمعها، من أهم الماركات إلى أكثرها تواضعاً.

كذلك، باستطاعتك أن تحتسي كوباً من القهوة في المقهى الأقرب إليك، وأن تتناول وجبة طعامك المفضل، لبنانياً كان أو عربياً، إيطالياً أو أميركياً، وبالأسعار التي تناسبك.

يضمّ شارع الحمرا مكاتب لشركات تجارية، اقتصادية، خدماتية، فنادق، مطاعم، ومصارف، مكتبات، مراكز تجميل… ويؤمّن نسبة عالية من الوظائف. تراه مزدحماً عند الساعة الثامنة صباحاً، فتشعر كأنه ينفجر لكثرة ما يستقطب من عمال يهرولون إلى مكاتبهم، وطلاب يتّجهون نحو مقاعد الدراسة.

يضمّ شارع الحمرا ستّ كنائس وأربعة مساجد. التنوّع في الحمرا ليس شكلياً، هو في الحقيقة يتجلّى في الشكل وفي المضمون. لا ترى الحمرا أبداً مصبوغة بلون معيّن دون آخر، يزورها أبناء البلد كلّهم، أشخاص يختلفون في العقيدة وفي الذوق وفي المعتقد والأفكار، وكلّ منهم لديه حاجات ينجح في إشباعها هنا قبل أن يعود من حيث أتى.

الحركة التجارية التي لا تهدأ نهاراً في الحمرا، لا تهدأ أيضاً ليلاً، والمقاهي التي تستقبل الرواد لكوب القهوة صباحاً، تستمرّ بتقديمه حتى ساعات متأخّرة من الليل. يضاف إلى المنطقة ليلاً من يخرج للسهر ولتمضية الأمسيات الجميلة. بعض المطاعم تقدّم سهرات شرقية، وأخرى تلبس ثوبًا أجنبيًا. وكالعادة، الأذواق كلّها راضية.

 

الفنّ يستمرّ هنا

منذ نشأته، كان للفنّ حصّة الأسد في شارع الحمرا. هنا، كان مسرح البيكاديللي الذي افتُتح في تشرين الثاني/ نوفمبر 1966، وأُغلق في العام 2000 بعد  أن شبَّ فيه حريق. هنا قدَّمت فيروز أول مسرحية غنائية هي “هالة والملك”  في كانون الثاني/ ديسمبر 1967، و”ميس الريم” في العام 1975. هنا كانت الفنانة داليدا في العام 1972، وغيرها من الأمجاد الكثير.

عند أول شارع الحمرا، يبقى مسرح المدينة يقدم أعمالاً فنية في المسرح  والغناء، وإلى جانبه مترو المدينة الذي يقدم أيضاً أمسيات فنية، ولا يزالان يجهدان  في محاولة الحفاظ على الصورة الثقافية للشارع؛ الصورة التي طغت عليه في “أيام العز” في ستينيات القرن الماضي.

عند القسم الأول من شارع الحمرا، تحديداً عند مقهى “كوستا”  سابقاً (الذي تحوَّل اليوم إلى مقهى “روسّا”)، تجد جدارية ضخمة للمطربة  صباح؛ وجهاً ضاحكاً من عمل الفنان يزن حلواني (12/25 مترًا). لوحة عملاقة تعلو الشارع مثبتة هُويته الثقافية في وجه المدّ التجاري الاستهلاكي الذي يحاول السيطرة على حياة الشعوب اليومية.

 

تحرّر منطقة الحمرا وتنوّعها، إضافةً إلى الخدمات التي تقدمها، دفع بالكثيرين إلى إطلاق اسم “شانزيليزيه” الشرق عليها.

والمقاومة أيضاً

في 24 أيلول/ سبتمبر من العام 1982، قام خالد علوان بعملية ضد  الاحتلال الإسرائيلي في بيروت. قُتل يومها أربعة ضباط إسرائيلين في مقهى “الويمبي”، في ما عُرف لاحقًا بعملية “الويمبي”، التي كانت فاتحة انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول). تلت عملية الويمبي عملية انسحاب تدريجي للجيش الإسرائيلي من المنطقة.

 

أصداء

لا شكَّ في أنَّ شارع الحمرا هو ملتقى كلّ من يزور بيروت، عربياً كان أم أعجمياً. يصف يحيى من الأردن شارع الحمرا بأنه حيويّ وجميل. ويقول إنّ الزائر يمكنه السير على امتداد الشارع من دون الشعور بالتعب. أما مجلة “لوس أنجليس تايمز”، فوصفت الشارع بأنه “أهم منطقة متحرّرة في لبنان”.

إنّ تحرّر منطقة الحمرا وتنوّعها، إضافةً إلى الخدمات التي تقدّمها، دفع بالكثيرين إلى إطلاق اسم “شانزيليزيه” الشرق عليها.

 

وحده الحبّ لا يتغيّر

تُقفل محال وتُفتتح أخرى. تغلق مسارح ويبقى الفن، لأنه ينبع أصلاً من الداخل. أما قصَّة حبّ شارع الحمرا، فتبقى دفء الأخير. حرارة المقاهي التي تزيّن جوانب شوارعه، ورائحة القهوة التي تنبعث منه بشكل مكثّف عند هطول المطر فوق الأرصفة الضيّقة، تبقى كلّها حارساً أبدياً للحبّ الذي لا يموت في شارع الحمرا. هو صورته الأصلية التي لا تتغيّر.

  

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: شارع الحمرا: الحبّ باقٍ هنا

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

*تغريد الزناتي: حائزة على ماجستير في الإدارة والمعلومات، وتعمل في قسم أرشيف جريدة الأخبار اللبنانية منذ العام 2013.

للتواصل عبر الإيميل: taghridzinaty@hotmail.com

أرشيفو  12 بصيغة PDF

اقرأ أيضًا: 

 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>