على إحدى مجسمات مدخل متحف الأرشيف الوطنيّ الأمريكي نُحت هذا النص من مسرحيّة «العاصفة» لشكسبير: «ما مضى هو في المقدّمة».
الأرشيف في المقدمة، هو ليس الماضي بل هو ما ينتظرنا في المقدمة، لنقلِّبه ونرى وجهنا فيه، نشخص فيه حالنا، ونعرف معضلة وجودنا وعدمنا، نرى وجهنا الذي أضعناه وصرنا لا نهتدي إليه. الأرشيف أو الماضي باعتباره معضلة الوجود والعدم، هو المُشْكلة التي لا يُهتَدَى لوجهها.
متى يضيع وجهنا ونغدو معضلة؟
يضيع وجهنا، حين يضيع أرشيفنا، وليضيع وجهنا حين لا نعثر على أرشيفنا. لا نرى ذاتنا بوضوح بدون مرآة الأرشيف، بل ولا نهتدي لكينونتنا ولا يمكننا أن نرسم ملامحنا، ولا تفاصيلنا، ولا أن نتذكر مفاصلنا التاريخية، باختصار نغدو معضلة مبهمة،لا يُهتَدَى لوجهها فيما مضى ولا فيما هو آتٍ.
هل نحن أمام لعبة كلمات؟
بالتأكيد، لا. من يشتغل في الأرشيف ويكابد آلامه يعرف أننا لا نلعب بالكلمات بقدر ما نستعين بها لشرح حالنا، ما هي آلام الأرشيف؟ أن يضنيك تعب البحث عن علامة وجود وسط كومة عدم كبيرة، أن تتأمل في لحظة من وثيقة لا يمكن استعادتها، أن ترى ماضيك يشبه حاضرك مثل شبه الماء بالماء حسب تعبير ابن خلدون، أن ترى ما مضى وما بقي مازالت تفسره مقدمة ابن خلدون، وكأننا لم نستأنف نشأة وجود جديدة، أن تصارع سلطة تحارب أرشيفك لأن وجوده يسبق احتلالها، أن ترى أرشيف وجودك نهبًا يتهدده العدم بالضياع والسرقة والضُنة، أن تغلق دونك الأبواب فلا تصل إلى حكايتك، أبواب البخل والأَثَرَة والاستفراد والجهل والتملك، أن يظن الضانون بالوثائق أن الأرشيف مخزنًا يجب قفله بإحكام، وتعجز عن أن تقنعهم أنه نظام تسترجع فيه الأشياء بسهولة وسلاسة لكل الناس دون تمييز ولا احتكار.
لقد عالج شكسبير في مسرحيته «العاصفة» قضية القدر والإرادة الإنسانية عبر سلاح المعرفة التي هي الأرشيف، فلا معرفة بدون أرشيف التراكم البشري الذي يتحدى عاصفة العدم التي تقتلع مقدمة الوجود الذي لا ماضي له.
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: عاصفة الأرشيف
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا: