عدوُّ النّاس جميعًا

 

“الإرث الثقافيّ للمجتمع الدوليّ هو حصيلة الإرث الوطني لكلِّ الأمم” (1)

 

إنَّ قتل إنسان واحد هو قتل للإنسانية كلّها، كما جاء في الآية الكريمة: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}، وإحياء نفس إنسان واحد هو إحياء لنفس الإنسانية كلّها: “وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا”، كذلك إبادة كتاب واحد أو وثيقة واحدة أو مكتبة واحدة أو معلم تاريخيّ واحد هي إبادة لتراث البشرية كلها، وإحياء وثيقة واحدة هو إحياء لتراث البشرية كلها.

من يقتل البشر يقتل، قبل ذلك أو بعد ذلك، أو بالتزامن مع ذلك، وثائقهم وكتبهم وتراثهم ومعالمهم وتراثهم، بل إنَّ هؤلاء القتلة، أعداء الإنسانية، ينتقمون بأثر رجعي، ينبشون قبور الَّذين قتلوهم كي لا يبقى لهم أثر، ويحرقون وثائقهم، ويمنعون ذكرهم، ويحرمون الكتابة عنهم، ويحظرون الحديث عن جريمتهم، “إنهم يقتلون الموتى كما يقتلون الأحياء”، كما يُعلّق روبرت فيسك (Robert Fisk) على ما فعله الصّرب في البوسنة. الحرب على الوثيقة هي نفسها الحرب على الهوية والعرق واللغة والجنس والدين.

يذهب قاموس أكسفورد في تعريفه “إبادة الكتب” (Libricide) إلى وصفها بأنها مصطلح نادر يشير من دون لبس إلى “تدمير الكتاب”، وهو مصطلح يقرن بين الكتاب والتدمير، مثلما هو الحال في كلمة قتل / تدمير / إهلاك الإنسان (Homicide). ويبرز أصل المصطلح الرابط بينه وبين الإبادة الجماعية (2) والإبادة الإثنية (Genocide).

القاتل عدوّ الإنسانية؛ قاتل الإنسان وقاتل وثائق الإنسان، لأنَّ تدمير الوثائق تجريد للإنسان من وجوده وأصالته وماهيته التي بها يُعرّف. وكما أصبحت حقوق الإنسان عالمية، لها مؤسَّسات تدافع عنها وتعتبر أيَّ اعتداء على إنسان، لعرقه أو جنسه أو دينه، اعتداء على الناس كلّهم، كذلك أصبح الأرشيف حقًا عالميًا له مؤسَّسات تحافظ عليه، وتدافع عنه، وتصونه، وتتعهَّده بالرعاية والحماية، وتعتبر الاعتداء على أيِّ أرشيف اعتداء على ذاكرة البشرية كلها.

حين سحق حرس ماو (Mao Zedong) (1893 – 1976) الأحمر الصيني في العام 1966 صور الكاتدرائية المركزية في التبت، وشوَّه اللوحات الجصية، ودمَّر الكنوز المبجّلة الموروثة عن البوذية، فإنَّه سحق تراث البشرية كلّه وشوّهه ودمّره، وكذلك فعل هتلر (Adolf Hitler) (1889 – 1945) حين احتفل وزير دعايته غوبلز (Joseph Goebbels) (1897 – 1945) ليلة إحراق الكتب في برلين في العام 1933، بقوله: “ها هو الماضي يحترق”، وبعدها دمَّر جميع كتب المكتبات التشيكوسلوفاكية التي لا تتفق مع الأيديولوجيا الألمانية النازية.

وكذلك فعل صدام حسين (1937 – 2006) حين أتلف جزءًا كبيرًا من مقتنيات الكتب في مكتبة جامعة الكويت التي ضمَّت 24410 مراجع و540955 مجلدًا وتقريرًا ورسالةً ومواد سمعية وبصرية وميكروفيلمًا ودورية. وكذلك فعل سلوبودان ميلوسيفيتش (Slobodan Milošević) (1941 – 2006) حين أحرق مبنى المكتبة الشَّخصية لعليّ صديقوفيتش ومقبرة عائلته، بما تحويه المكتبة من 100 مخطوطة باللغات التركية العثمانية والبوسنية والعربية والفارسية، ودمّر ألف مسجد وكلّ علامة تدلّ على الوجود الإسلامي في البوسنة، وأتلف أوراق أقدم العائلات المسلمة.

هوامش:

1 – ربيكا نوث، إبادة الكتب تدمير الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين، ص 13.

2 – المصدر نفسه، ص 314.

 

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: عدوُّ النّاس جميعًا

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو  11 بصيغة PDF 

 

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>