الغجر في البحرين: تاريخ من لا تاريخ لهم

الغجر في البحرين
تاريخ من لا تاريخ لهم

*يوسف أحمد مكي

بحكم الطّبيعة الجُزريّة المفتوحة، كانت البحرين دائمًا ملاذًا ملائمًا ومستمرًا لكثير من الهجرات البشرية للعديد من الأقوام والإثنيات والأعراق والملل والنحل على امتداد التاريخ القديم، مرورًا بالوسيط، وحتى العصر الحديث، ومن مختلف الجهات.

وفي حين أنَّ التاريخ الاجتماعي لبعض المجموعات التي جاءت إلى البحرين، قديمًا أو حديثًا، وبخاصَّة المجموعات الكبيرة، بات معروفًا، ولا يضيرها أن تعترف بماضيها وأصولها، نجد في المقابل إهمالًا تامًا للمجموعات البشرية الصغيرة، وهي تكاد لا تُعرف من قبل المهتمّين بالشأن الاجتماعي والإثنولوجي، ناهيك بجهل المجتمع بوجودها بوجه عام. كما أنَّها بحكم صغر حجمها، تتردّد في الإشارة إلى أصولها الإثنية أو أصولها الحقيقية أو تاريخها الخاص.

من بين المجموعات الإثنية التي أهملها التاريخ أو المجتمع في البحرين، أو أدخلها ضمن مجموعات بشرية قريبة منها من حيث الأصول، هي مجموعة الغجر، حيث كانت البحرين إحدى مناطق الهجرة لبعض قبائل الغجر من المناطق المجاورة.

لا شكَّ في أنَّ هذه المجموعة اندمجت في المجتمع البحريني، وربما انتسبت إلى مجموعات عرقيَّة أخرى أكبر منها، ولم يعد يوجد ما يشير إلى أصولها البعيدة أو ما تتميَّز به عادةً في مناطقها الأصلية أو مناطق هجرتها، من تراث وفولكلور وتقاليد، لكن ذلك لا يلغي خلفيّاتها التاريخيّة.

إذًا، من أين جاء الغجر إلى البحرين؟

للإجابة عن ذلك، نقول إنّه لا يوجد تاريخ محدّد بدقّة لمجيء الغجر إلى البحرين، لكنهم كانوا دائمًا موجودين بشكل أو بآخر، إلا أنَّ آخر هجرة لهم فيما يبدو كانت مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ولكن هجرتهم بدأت تزداد وتيرتها في نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات من القرن الماضي، وخصوصًا بعد اكتشاف النفط، وكانت هجرتهم على شكل أفراد أو أسر صغيرة أو ممتدّة، وذلك بحثًا عن الرزق الَّذي بدأ يأتي ثماره مع ثروة النفط منذ بداية الثلاثينيات، وفي غالبيّتهم استقروا في المدينتين الكبيرتين المنامة والمحرق، وإلى حدٍّ ما في المناطق المحاذية لهما.

أما المناطق التي جاءوا منها إلى البحرين، فيمكن الإشارة إلى ثلاث مناطق: أوَّلها إيران أو الساحل الشرقي للخليج ومن بلوشستان، والقادمون من هذا المصدر يمثّلون أكثرية الغجر. والثانية من العراق، وبخاصَّة البصرة، والثالثة من الشام عبر السعودية.

ومنذ هجرتهم الأخيرة إلى البحرين، لم يُعرف الغجر في الثقافة المحليَّة بهذا الاسم، بل عُرفوا بأسماء أخرى مثل: الشراشنة أو “الشناشنة”. وفي تسمية أخرى “الكواولة”، وفي أحيان “هواجر”، أي مترحّلين، بسبب رغبتهم الدائمة في الترحال والهجرة وعدم الاستقرار.

ويمكن القول إنَّ الغجر ظلّوا في حالة تجوال دائم في مختلف مناطق البحرين حتى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، حيث كانوا يمكثون في منطقة، ثم لا يلبثون أن يغادروها إلى أخرى. وعلى شكل جماعات، كانوا يجوبون القرى، ويصطحبون معهم أطفالهم ونساءهم ومتاعهم، وينامون حيث ينال منهم التعب والإرهاق. وقد عُرفوا في القرى التي يتجوَّلون فيها بسم الكواولة أو المعادنة، ربما لقرب تقاليدهم وسلوكهم من المعدان في العراق.

شيئًا فشيئًا، أخذ يستقرّ بهم المقام، وبدأوا يمتهنون بعض المهن التي لا تتطلَّب مهارات صعبة ولكنها تتطلَّب تجوالًا. ومن بين المهن التي امتهنها الغجر، ما يعرف بـ “زري عتيق”، كما عملوا كبائعي خردوات متجولين، وبخاصّة الرجال منهم. أما بالنسبة إلى النساء، فيُعرفن ببائعات “الهجوم مجوم”، أي الخردوات الخاصَّة بالنساء واحتياجاتهنَّ، إضافةً إلى العمل في الأعمال الدنيا، مثل تنظيف الشوارع وكنسها ورفع القمامة وبعض الأعمال الدونية.

في نهاية عقد الستينيات من القرن الماضي وبداية السبعينيات، استقرَّ الغجر نهائيًا في المنامة والمحرق، واندمجوا في المجتمع، مع المحافظة على الزواج الداخلي فيما بينهم. ومن أجل التكيّف مع حياة الاستقرار، اتَّخذ العديد منهم ألقابًا بعضها ذو طابع مهني أو عائلي، لإخفاء الأصول ذات المنبت الغجري، وبعضهم لم يعبأوا بالألقاب، وظلّوا على أسمائهم المجرّدة من الألقاب والنسب.

ويمكن القول إنَّ الغجر أو الشراشنة مرّوا منذ آخر هجرة لهم بأربعة أجيال: الجيل الأول المؤسّس الذي توزع بين الحلّ والترحال، ثم الجيل الثاني الذي عاش بين الماضي والحاضر، ثم الجيل الثالث الذي عقد العزم على الاستقرار والاندماج في المجتمع. وأخيرًا، الجيل الرابع الذي لم يعد يعرف عن ماضيه شيئًا سوى ذكرى ضبابيَّة لا تنفعه في حاضره شيئًا، وأنَّ البحرين هي موطنه الأول والأخير.

وبمرور الوقت، لم يعد الغجري غجريًا، بل أصبح مواطنًا بإمكانه أن ينعم بما يقدّمه الوطن لأبنائه، بغض النظر عن انتماءاتهم وأصولهم. وإذا كان هناك من تراث غجري ما زال باقيًا، فقد تأثّر بشكل كبير بالبيئة البحرينيَّة، وبات جزءًا لا يتجزأ من فلكلور البحرين.

أردنا بهذه الملاحظات أن نسلّط بعض الضَّوء على إحدى المجموعات البشرية التي يتكوَّن منها النسيج المجتمعي في البحرين، والتي لم تحظَ باهتمام الباحثين الاجتماعيين والأنثروبولوجيين والمؤرخين. هي ملاحظات لا تغني عن البحث المتخصّص في سوسيولوجيا الغجر وتاريخهم. نحن هنا، نفتح الباب مجازًا لمزيد من البحث والتنقيب، على أمل أن تسنح لنا الفرصة لتسليط الضوء على مجموعة بشرية أخرى في بلادنا ربما تكون قد ظلمها التاريخ أو سكت عنها لأسباب كثيرة.

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: الغجر في البحرين تاريخ من لا تاريخ لهم 

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

*يوسف أحمد مكي: كاتب وباحث سوسيولوجي بحريني. أصدر عددًا من الأبحاث والدراسات المتعلقة بالشأن البحريني، وكتب في عددٍ من الصحف البحرينيّة والعربيّة.

للتواصل عبر الإيميل: yam581@hotmail.com

أرشيفو  10 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>