كيف يصنع الأرشيف التّاريخ؟
لطالما كان هناك تساؤلات عن أدوار الأرشيف؟ فيم يفيد؟ وما هي أبرز أسباب احتياجنا إليه؟ وفي هذا السّياق، تنوعت الأجوبة وكثرت الفرضيات، وخلص بعضها إلى نتيجة مفادها: لا بد من الأرشيف لكتابة التّاريخ، ويؤكد نابليون بونابرت ذلك بقوله: “الأرشيف الجيد أكثر أهمية في نظر الدّولة من جنرال في الجيش”، وكيف لا؟ وهو يوثق إنجازاتها ويحمل لسان حالها إلى الأجيال اللّاحقة.
الأرشيف عالم أيضًا، له محدداته، فهو يشغل مساحة كبيرة، ولا يمكننا الوصول إليه من دون إذن أو ترخيص. والعودة إلى الأرشيف هي عودة إلى الجذور.
ما الذي يجعلنا نناقش الأرشيف من هذه النّاحية؟ لا بد أن الأمر يتعلق بطابعه، ومكوناته وطريقة عمله .
يقول الأستاذ عزيز سعيدي في مقال له بعنوان “الأرشيف وأهميته في كتابة التّاريخ” إن “التّاريخ يُصنع بالوثائق” وأنه من “من دون وثائق ليس هناك تاريخ”. وتثير انتباهنا هنا كلمة خاصة: “يُصنَع”…. إذ إنه لم يقل “بالأرشيف يُدّون أو يُسَجّل التّاريخ”.
لماذا كلمة “يُصنَع”؟ لأنه، حتى إن وُجِدت الوثائق، يجب أخذ الحيطة والحذر في التّعامل معها، وذلك بسبب وجود مجموعة من الضّوابط التي تحكمها.
في مقال لها على بوابة البحث بيرسي Persée حول الأرشيف والتاريخ، قالت آرليت فارج إن الوثيقة، المُكَوّن الأساس للأرشيف، هي بالنّسبة للمؤرخ الأداة التي يلجأ إليها للتّواصل مع الماضي. فهي وسيلة للعبور إليه، ومن خلال الأرشيف وحده، نستطيع إعادة خلق أحداث التّاريخ، واستحضار مكوناته.
وبتحليلها لطريقة عمل الأرشيف في صنع التّاريخ، وجدت فارج أنه بدءًا من حفظ المخطوطات، التي حملت آثار المؤلفين، وترددات أفكارهم، إلى عملية نسخ الوثائق، لحفظها، أو نسخ أجزاء منها ووضع ملحوظات وملخصات عليها، حفاظًا على عامل الوقت، تلاشت عملية الأرشفة التي تأتي في نطاق عملية رسم للكلمات، مع التّطور التّقني، الذي نشهده في عصرنا الحالي، وأشارت إلى أنّه ينبغي مراعاة الإطار الذي يتمركز فيه هذا الأرشيف، والأمر بديهي: “ليس بإمكاننا إعادة إحياء الأموات الذين يتكلم عنهم”… من هنا، رأت فارج أنه يجب مساءلة الأرشيف من خلال التّنصل من طابعه المرتبط بسرد الحقيقة: العمل على النص المروي، والتّنبه إلى ما يُفلِت من هذه الرواية، وبالتّالي، تصور رواية لا تمحو ما سبق، وتحفظه إلى أن تبرز، في يوم ما، رواية أخرى مستقاة من الأحداث نفسها، التي وثقها الأرشيف.
هنا،، يبدو ما تشير إليه الباحثة جليًا، إذ يمكن إيجاد عدة روايات استنادًا إلى المجموعة نفسها من الوثائق، وتختلف كل من هذه الروايات عن الأخرى لاختلاف رؤية وتحليل واستنباط المؤرخ الذي يعمل عليها.
في تطرقها إلى هذه المسألة كتابة التّاريخ، وجدت فارج أنّ “مسألة الكتابة خطيرة بالنّسبة للمؤرخ، في حال أراد قولبة التّاريخ وتأطيره من تخيله لما كان يمكن أن يحدث”، وهي [أي مسألة الكتابة] تصبح “حرجة بين حاجتها إلى خلق معنى من خلال رواية مترابطة ويقينها بأنه لا يجب تَشْيِئَة أي قضية”، عندها، “تحاول الكتابة إيجاد نفسها بين الذّكاء والمنطق والشّغف والفوضى”.
وأكدت فارج في هذا الإطار أنّه “على الكتابة أن تجد نفسها بعيدًا عن التّحليل. فنحن لا نحلل الأرشيف، بل نسائله في المسافة بين النّفس والكتابة، وهذا أمر جديد”، ففيه [أي الأرشيف]، “لا نكتشف معنى العالم، بل صورًا جديدة للتّأويل”.
فارج وجدت أيضًا أن “الكلمة حدث بحد ذاتها”، ففي “تلك الخطابات، التي صمدت على الرّغم من الخوف والخجل أو الكذب، نجد حدثًا، لأن التّعبير يحمل في طياته محاولة ترابط نابعة من إرادة المتكلم، وهذه المحاولات توجد حدثًا: فمحتوى الخطابات يعرض عالَمًا منظمًا ذا منطق مدهش وبلاغة قادرة على الإقناع”.
“الكلمات نوافذ”، غير أنه يمكن “لزجاج هذه النّوافذ أن يكون سميكًا”، و”الكلمات قد تؤلف شيئًا جديدًا، مختلفًا عن البقية”، وقد “تتطلب أمورًا تقاوم الأنماط”، و”في هذه المقاومة، نجد ما نتفكر فيه”، هذا ما أوضحته فارج، لتدعو “المؤرخ” إلى “الكلام من دون أن يمحو خشونة هذه الآثار، وما لا ترويه في طياتها”، إذ إن الحدث التّاريخي يكمن أيضًا في بروز أمور متفردة ومتناقضة، تؤلف فيما بينها مجموعة من الأمور المنطقية ولكن غير المتشابهة، التي قد تتصادم أحيانًا مع بعضها البعض.
فارج رأت أنه في الوقت ذاته،، يمكن، فبهذه اللّغة التي تأسر كلمات الآخرين، إنشاء موضوعات التّاريخ، وفي الوقت ذاته، نصبح “نحن أنفسنا مأخوذين بتلك الموضوعات”.
“الأرشيف يُكَوّننا، كموضوع، في حال استبعدنا فكرة أنه أداة نستخدمها”، غير أنه في الواقع شيء آخر، وفقًا لفارج … “إنه أكثر من تناقض، حين نعلم، أنه بين الأرشيف وبيننا، تمتد قرون وقرون”، غير أنه، في السّياق الذي نتناوله هنا، “لا تمثل القرون أمرًا ذي أهمية”.
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: كيف يصنع الأرشيف التّاريخ؟
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- المستودعات الرقميَّة: حافظة للذاكرة الأكاديمية ومنصَّة لنشر الأبحاث العلميَّة
- دور المشاع الإبداعي في إتاحة المعرفة
- أرشيف مركز الإسكندريَّة: حلم يبحث عن الاكتمال
- الساجات تستطيع كشف الكثير من الألغاز في التراث البحريني
- البيانات الضّخمة إعصارٌ يحتوي العالم
- الأرشيف السّمعي البصريّ : حفظ الذاكرة الجماعيّة
- اتّحاد مؤسَّسات ذاكرة الوطن تجربة نيوزيلاندا نموذجًا
- قطاع اللام: اتّحاد مؤسَّسات ذاكرة الوطن
- أرشيف الويب.. حفظ ذاكرة الإنترنت
- الميتاداتا وتوصيف المصادر الإلكترونيَّة
- تشريعات الأرشيف العربي بين الفراغ القانوني والتأثير السياسي
- التوقيع الرقمي .. نموذج للتحول من الورق إلى الإلكترونيات
- السجلات الوطنية في بريطانيا.. مفتوحة أمام العامة
- كيف تُصان الذاكرة من الإلغاء المتعمد؟
- الأرشيف الوطنيّ الأميركيّ حارس لتاريخ شعبٍ وبلد
- آلية التّصوير المصغر : أساليب حفظ المصغرات الفيلمية
- المجلس الدولي للأرشيف
- التّدمير الممنهج والمنظم لأرشيف المحفوظات في جزر القمر (1975-2001)
- حق الوصول إلى المعلومات: بين مصالح الأنظمة وأحلام الشّعوب..
- آلية التّصوير المُصَغر وإسهاماتها في عالم الأرشيف والمحفوظات
- الأرشيف القومي الكندي
- المخطوطات العربية والعجمية في الكاميرون .. شاهد على تاريخ البلاد