الديري في «إله التوحّش»: الإسلام كاستسلام لجبروت الوهابية
رحيل دندش
«إله التوحّش» كتاب جديد للدكتور علي الديري، صدر عن مركز «أوال للدراسات والتوثيق»، فيه يستكمل الديري ما بدأه في كتابه الأول «نصوص متوحشة» في ما شكّل امتداداً لهذه النصوص مع نشوء العقيدة الوهابية. يستعرض الكاتب السياق السياسي والعقائدي والفقهي للوهابية وغدوها سلطة تتحكّم في اللغة والسؤال والجواب والمعنى والتأويل، مع انعقاد الزواج المقدس بين الدعوة والدولة في اتفاق الدرعية العام 1744. يسهب الكاتب في شرح عمل محمد بن عبد الوهاب على إفراغ مفهوم التوحيد من روحانيته الدينية، وصوغه في أفق نصي وحرفي حتى أصبح أيديولوجيا أحادية صلبة ومبدأ شمولياً يُقتل كل مَن يخالفه، ويكيّف فقط وفق ما تمليه مصالح ولي الأمر السياسية، فتحوّل إسلام المرء بموجبه إلى استثناء.
شكلت العقيدة الوهابية الأساس لما نشاهده اليوم من انتشار وولادات لحركات التوحش على حد تعبير الديري، نحتاج أن نفهم بداياتها وتمأسساتها ومن هنا أهمية الكتاب. بعض الإشكاليات استرعت الاهتمام، فكان هذا الحوار:
1. من «نصوص متوحشة» إلى «إله التوحش». يبدو وكأنك تذهب إلى منطقة خطيرة، هي منطقة الألوهية، أتحدّث وفي ذهني ما حدث لناهض حتر.
ـ هذه منطقة خطيرة فعلاً، ودماء سالت فيها كثيرة، دماء علماء وفلاسفة ودماء جماعات ومذاهب دينية، وعبدالوهاب أحد الشخصيات التي أضرمت النار فيها. هذه المنطقة يلعب فيها السياسي قبل منتج النص المتوحش، ولا يستطيع النص وحده أن يكتسب صفة التوحش من دون قوة السياسي. ابن تيمية لم يجد القوة السياسية فبقي نصه معطلاً خمسة قرون. حين حمله محمد بن عبدالوهاب، كان يبحث عن قوة سياسية تفعّل هذا النص وتكسبه صفة التوحش، ووجدها في قوة محمد بن سعود.
إله التوحّش هو هذا الذي ينتج من تحالف نص التكفير وقوة السياسي. يشبه مخلوق فرانكشتاين ونموذجه الأكثر قوة مثله التقاء نص محمد بن عبد الوهاب وسيف محمد بن سعود.
2. علماً أن محمد بن عبد الوهاب يُعدّ مصلحاً دينياً يدعو للتوحيد الصحيح؟
ـ صفة المصلح تذكّرني هنا بفكرة الثورة التصحيحية في العالم العربي والأنظمة الشمولية التي تؤول إلى خراب شامل وعنف مستحكم. إن فكرة محمد بن عبدالوهاب عن التوحيد «الإله» هي مصدر عنفه الذي ينزله على المخالفين له، لقد تملكت هذه الفكرة عقله حتى صار لا يرى في الحياة غيرها، كما قال علي الوردي. لقد أصبح مشغولاً بها، كما ينشغل مريض التوحد بلعبة واحدة، ويتمركز حولها فيفقد التواصل مع الآخرين.
صار «التوحيد» في خطابه وممارساته الدينية والسياسية الجهادية «توحّداً». بمعنى فقد «التوحيد» كونه عقيدة تحرر الإنسان وتفتحه على البشر، وأصبح مرضاً يقيده ويكبله بالكراهية والعنف والتوحش. وهذا ما اختصره محمد بن عبدالوهاب في عبارته التي يكررها «إن العبادة هي التوحيد، لأن الخصومة فيه». صار «التوحيد» في ممارسته الدعوية والسياسية يحدّد مَن هم الخصوم، ومَن هم مستباحو الأعراض والأموال، ومَن هم مهدورو الدم. صار الإله بهذا المفهوم المتوحش لـ «التوحيد» عدواً للبشر أو مثيراً للعداوة بين البشر، وهذا ما يشير إليه عنوان كتابي.
3. لماذا اليوم تركز اهتمامك على الوهابية، كما لو أن المشكلة مشكلة ثقافية؟ لا يمكن أن ننكر أن السعودية اليوم تخاف على كيانها من الوهابية، هي التي حرصت على ضبطها بجعلها سلطة مُبررة لها ليس إلا؟
ـ الوهابية من غير مبدأ طاعة ولي الأمر تغدو مخلوقاً يشبه مخلوق فرانشكتاين، يقتل ويدمّر ولا يمكن السيطرة عليه، ويهدّد خالقه. «السرورية» التي زاوجت بين بانطلون سيد قطب وعباءة ابن تيمية، هي أول تنظيم بهذا الانتشار يكسر مبدأ الطاعة، فأصبح بالفعل مهدّداً سلطة ولي الأمر، لذلك وصفهم الألباني بأنهم خوارج العصر، لكن خرجوا على تراث ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، الجواب لا. السعودية لا تخشى الذين يحملون هذا التراث المليء بالكراهية والعنف، لكنها تخشى من الذين يكسرون الطاعة، وجهاز «هيئة كبار العلماء» بالمملكة، هو أقرب إلى أن يكون هيئة صيانة الطاعة، فالطاعة دستور الدعوة الوهابية بالنسبة للسعودية.
4. كيف تمّت صياغة خطاب الدعوة الوهابية بما جعلها تراثاً مليئاً بالكراهية والعنف؟
ـ وضعت هذه الدعوة 10 نواقض للإسلام، وفي كل ناقض تفاصيل يكمن فيها شيطان التكفير والقتل؛ مَن يختلفون معك هم ليسوا من صنف الأخ لك في الدين أو النظير لك في الخلق، بل هم من صنف النقيض. كل الشياطين في تفاصيل هذه النواقض العشرة هم نقيض لك، عليك أن تتبرّأ منهم وتكفّرهم وتقتلهم.
ناقشت هذه النواقض في الفصل الرابع من كتابي، ووجدت أنها تمثل تشكيلة خطابية، صاغت خطاب الدولة الذي تبنّاها وصاغت شكلها وتاريخها، وصاغت المجموعات الدعوية والجهادية ومشاريعها التربوية والتبشيرية التي تفرّخت منها على مستوى العالم. الكراهية والعنف تكمن في هذه النواقض.
صارت هذه النواقض سيفاً يبرّر ما قامت به الوهابية في تاريخها، وقد نقل لنا المؤرخ الرسمي ابن غنام مجازر مروّعة يصرم (يقطع) فيها سيف التكفير النخيل ويخرب الزروع، كما فعل في منطقة «منفوحة»، ويحرق الكتب ويزيل ما يسمّيه أوثانًا ومتعبّدات وكنائس، كما فعل في القطيف.
كل هذه الممارسات مسجّلة بفخر في التاريخ الرسمي، باسم «نواقض الإسلام» ويتناسى هذا الخطاب أنه يناقض تعاليم النبي (ص) وخلفائه في الحفاظ على الزرع والنخل والرفق بالناس والمحافظة على معابدهم.
الخطاب الذي شرّع هذه الممارسات هو نفسه الذي شرّع لـ «داعش» خطف أكثر من 5000 رجل وامرأة وطفل من الطائفة الإيزيدية بعدما اجتاح مناطقهم في العراق، وقتل رجالهم واتخذ نساءهم سباياً.
5. أعطيت للفصل الرابع من كتابك عنواناً مزدوجاً (نواقض الإسلام: الاستثناء المستحيل) ماذا تعني هنا بالاستثناء المستحيل؟
ـ الرائج بين أهل السنة والجماعة «لا استثناء في الإسلام»، وهي تعادل «لا تكفير في الإسلام»، أي إننا لا نستطيع أن نستثني أحدًا نطق بالشهادتين من دائرة الإسلام. قد نستثني أحدًا في موضوع الإيمان، ولكن لا نستثني أحدًا في موضوع الإسلام. على هذه القاعدة يصبح تكفير المسلم الذي يقرّ بالشهادتين مستحيلاً، فالإسلام هو كلمة الشهادتين.
هذا الأمر لا نجده في خطاب «الوهابية»، بل نجد أن الاستثناء هو الأصل، فمَن يوصف بالمسلم (ممن ينطق بالشهادتين) هو الاستثناء، ومنطوق الخطاب الوهابي يقول إن الأصل هو أن الجميع كفار، مع أنه يدّعي أنه لا يُكفّر إلا مَن كفّره الله وكفّرته نصوص السنة والقرآن، لكن الممارسة الخطابية تؤول إلى أن الجميع يكفّرهم الله ويكفّرهم القرآن وتكفّرهم السنة إلا من شهد «أن هذا الدين الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب، هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب». وهذه الشهادة حلّت محلّ «لا إله إلا الله» وحين تمكن جيش ابن سعود من المدينة ومكة أجبر علماءها على توقيع هذه الشهادة بالاسم. صار الاستثناء قاعدة في خطاب الوهابية، عبر خطاب نواقض الإسلام العشرة.
صار الإسلام ليس السلام وليس الإقرار بالشهادتين، بل هو الاستسلام والطاعة والانقياد، لجبروت القوة الوهابية ومؤسساتها. وهذا ما تعنيه وثيقة الإقرار التي أُجبر على توقيعها علماء مكة والمدينة، مذعنين منقادين مطيعين، وقُبل إسلامهم بها، والغريب أن كتب التاريخ السعودي الرسمي يحتفظ بها كإنجاز تاريخي سياسي وديني.
6. أعود لنقطة كنتَ قد ذكرتها في الكتاب وهي أن توحيد بن عبد الوهاب لم يكن تكتيكاً سياسياً، بل كان وما زال عقيدة راسخة مبدئية وهذا ما يجعل منها ثقلاً على الدولة، وذلك بعكس التوحيد التومري الذي كان تكتيكاً سياسياً أكثر منه عقيدة. هل برأيك أن الواقع الراهن قد يشكل تهديداً للثنائية الدولة والدعوة في السعودية؟
ـ قامت دولة الموحّدين قبل ستة قرون من الدعوة الوهابية، على كتاب ابن تومرت «أعز ما يطلب»، وقد كفّرت دولة المرابطين التي سبقتها، بقي الكتاب يُدرّس في مدارس الموحدين، كما هو شأن كتاب محمد بن عبدالوهاب «التوحيد»، لكن حكمة الموحدين طوت صفحة التكفير، واعتبرت الجميع مسلماً موحداً، بعدما تغلّبت سياسياً على المرابطين الذين اعتبرتهم كفاراً ومشركين.
هذه الحكمة افتقدتها الدولة السعودية، فلم توحّد مكوناتها، وبقيت تنظر إليهم بعين التكفير والشرك والشك، بل إنها وسعت صفحة التكفير بدلاً من أن تطويها، وصارت على قدر مساحة العالم، كما نشاهدها اليوم، فحيث تتمكّن الوهابية، يتمكّن التوحش.
تفكيك العلاقة بين الدعوة والدولة، يعني ضياع الدولة، وهذا ما يجعل الدولة السعودية تعتبر الدعوة الوهابية ركناً من أركانها، فهي التي تعطيها الشرعية، وتفرض لها الطاعة، وتكيّف لها أحكام الواقع والسياسية. وقد اختبرت ذلك جيداً، ويمكننا أن نتذكر هنا حرب الخليج الثانية، حين أراد تيار الصحوة تجييش الشارع وانتقاد استعانة الدولة بجيوش الغرب الكافرة، تصدّى لهم كبار علماء الوهابية، مانحين الشرعية لوجود هذه الجيوش، ومحرمين انتقاد استعانة ولي الأمر بهم، لقد حموا حرم الطاعة وأنقذوا الدولة من خطر كبير.
ما زالــت عائلة الشيخ محمد بن عبـــدالوهاب تمـسك الجهاز التشريعي للدولة، منذ زمن الدولة السعودية الأولى التي خصصت لبيت الشيخ من الغنائم ثمانين ألف ذهب، ولعائلة آل سعود ثلاثمئة ألف ذهب سنويًّا.