تدوين التاريخ الشفهي… مقاومة لرواية السلطة

تهاني نصار*

لا يطرح «حماة الباب الأخير: شهادات من ساحة الفداء بالدّراز» سؤال الإشكالية الأهم: «ماذا عن مملكة البحرين والبحارنة؟»، وإن كان يحاول الإجابة على غيره وبوضوح. لا يعرف كثيرون خارج «الخليج» الفارق بين «البحريني والبحراني». ما يتحدّث عنه الكتاب هو «البحراني» تحديداً وقبل أي شيء. قد يسأل بعضهم عن سبب استعمالي لكلمة «بحارنة» ههنا عوضاً عن «بحرينيين/بحرينيون».

بحسب كتاب «القبيلة والدولة في البحرين» (1975) للكاتب اللبناني فؤاد إسحاق الخوري، إنّ «البحراني/ البحارنة» لها مدلول لغوي واجتماعي يرجع إلى السكان الأصليين لجزر البحرين، بينما ترمز كلمة «البحريني/البحرينيون» إلى ظهور المدينة الحديثة التي أنشأتها القبائل الغازية لجزر البحرين أواخر القرن الثامن عشر وما تلقفه آل خليفة في سيطرتهم على الجزر (يمتد تاريخ هذه القبائل إلى عدّة قبائل، لكن أبرزهم آل خليفة الذين تسيدوا المشهد السياسي).

يحاول النظام البحريني -يومياً- السيطرة على ذاكرة البلد عبر تغيير الحقائق وتأطير الأحداث، خاصة في السنوات الأخيرة التي يسعى فيها لقمع المعارضة بكل الوسائل المتاحة. من هنا تأتي المحاولات -ولو الخجولة- للحفاظ على التاريخ الشفهي في المنطقة، والتي بمعظمها -وللأسف- غربية. عربياً، يمكن الحديث عن بعض المؤسسات الفاعلة في حفظ الذاكرة الشفهية، كـ «مركز أوال للدراسات والتوثيق».

لطالما كان التاريخ لعبة الطرف المُهيمن على حيزٍ جغرافي ما. يُسْرَدُ التاريخ حسب رواية المنتصر التي قد تختلف كثيراً عن حقيقة الماضي والأحداث الحاصلة. في كتابه «الاستشراق» (1978)، يقول المفكر والمنظّر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد: «إن تاريخ المنطقة يكتبه المُحتل لا الشعب الخاضع للاحتلال». تناول هذه العلاقة بين توثيق التاريخ والقوة، الفيلسوف الأميركي نعوم تشومسكي في قوله: «التاريخ مُلكٌ للمنتصر» في مقدمته لكتاب «الفلسطينيون: من فلاحين إلى ثوار» (1979) للباحثة ورائدة التاريخ الشفهي الفلسطيني روزماري صايغ. لكن مقابل التاريخ الرسمي الذي يكتبه المسيطر على الأرض، هناك نوع من أنواع المقاومة لسكان هذه الأرض الأصليين الذين يعرفون بلادهم حق معرفة، فيرفضون رواية التاريخ الرسمية عبر تناقلهم وتوارثهم لتاريخهم الشفهي.

يعتبر التاريخ الشفهي صوت الناس الذي يجري تجاهله – عن قصد- عند كتابة التاريخ الرسمي. يروي هذا التاريخ البديل، الأحداث تبعاً للأشخاص الذين خاضوا التجربة وكانوا جزءاً أساسياً من الحدث. قد يبدو بديهياً الحديث عن أهمية التاريخ المقاوم لدى السكان الأصليين للقارة الأميركية الذين واجهوا الإبادة، أو الأفريقيين الذين تعرضوا للاحتلال والاضطهاد، أو الفلسطينيين الذين يقاومون الاحتلال الصهيوني ورواياته عن تاريخ فلسطين القديم وحرب النكبة وقضم الأراضي.

«البحراني/ البحارنة» لها مدلول لغوي واجتماعي يرجع إلى السكان الأصليين

هنا يأتي دور «مركز أوال» الذي تأسّس في عام 2012 ليتخصّص في مشروع حفظ الذاكرة البحرينية (والبحرانية ضمناً، ذلك أن المركز يروي تاريخ الطرفين حكماً)، بدايةً عبر توثيق المستندات الورقية والإلكترونية، ثم توسّع ليشمل تدوين وحفظ التاريخ الشفهي لشخصيات ومناسباتٍ وأحداث بحرينية. يتيح المركز هذه الوثائق وغيرها من المواد الأرشيفية للباحثين والمتخصّصين بهدف دراستها وإنتاج معرفة جديدة تضاف إلى هذا المجال. في «حماة الباب الأخير»، يوثق المركز المواجهات التي بدأت في منتصف عام 2016 بين السلطة والمعتصمين في ساحة الفداء في منطقة الدراز؛ المنطقة التي يسكنها الشيخ عيسى قاسم، زعيم المعارضة البحرينية القوي؛ بعدما حاكمته السلطات الحاكمة وأسقطت عنه الجنسية. يروي الكتاب التصعيد العنيف الذي حصل خلال الهجوم الأخير، ما أدى إلى اعتقال مئات الشبان واستشهاد عدد منهم. ما يميّز هذا العمل هو حفظه لذاكرة الساحة كفضاء جغرافي، عبر قصص من التاريخ الشفهي لأشخاصٍ عايشوا الأحداث التي مرّت على الساحة خلال فترة زمنية تعادل السنة تقريباً.

تعتبر ساحة الفداء، بما حصل داخلها من تظاهرات ومعارك، فضاء (مكانيّاً) مقاوماً للسلطة المهيمنة، حسب ثنائية المكان والفضاء بالنسبة إلى المفكر الفرنسي ميشال دو سارتو. فهي «مكان الفعل» أو «مكانٌ مُمارس» من قبل الناس الذين حوّلوها من مجرّد مكان جامد إلى فضاء غنيّ بحركة الأشخاص المعارضين وخطاباتهم وممارساتهم الدينية والاجتماعية. بدأ الاعتصام في شهر رمضان، فكان الإفطار وتوزيع الطعام وصلاة الجماعة في الساحة. تحوّلت الساحة إلى منصّة لإحياء مناسبات دينية عدة، كاستشهاد الامام علي وإحياء ليلة القدر وقيام صلاة العيد وليالي عاشوراء. في المقابل، قامت قوات الأمن بالتضييق على المعتصمين أولاً، ثم حصارهم والاعتداء على الساحة واعتقال الشبان. لم يفوّت النظام البحريني فرصة لخرق الاعتصام وفرض سيطرته على الساحة. أطلقت قوات الأمن البحرينية الرصاص أكثر من مرة، وهاجمت بالآليات العسكرية والمدرّعات الساحة، فسقط الشهداء.

إنّ تدوين وتوثيق أحداث معركة ساحة الفداء يُسهمان في حفظ التاريخ الحديث للشعب البحريني بعيداً عن الرواية الرسمية التي يعيد تركيبها النظام الحاكم ويقدمها للإعلام وفقاً لمصالحه. كما أنّ الاهتمام بذاكرة المكان الذي يخضع لتغييرات كثيرة مع الزمن، يفتح المجال أمام دراسات مشابهة، تحمي الشعوب وتاريخها من العبث به.


*باحثة في التاريخ الشفهي الفلسطيني وأستاذة جامعية

رابط المقال الأصلي

لتحميل المقال بصيغة PDF

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>