خارطة التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية
عرض / وسام السبع
– العنوان: نصوص متوحشة: التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية.
– المؤلف: د. علي أحمد الديري.
– الناشر: مركز أوال للدراسات والتوثيق.
– عدد الصفحات: 217.
– الطبعة: الأولى، 2015م.
يطرح الأكاديمي والناقد البحريني المغترب علي الديري في كتابه الجديد (نصوص متوحشة: التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية، 2015م) نقاشاً جدياً للنزعة التكفيرية التي هيمنت على خطاب المؤسسة الدينية، مستعيناً بدرس التاريخ وتقصي مراحله المفصلية الملتهبة والمثقلة بالصراعات العقائدية. جديدٌ في 217 صفحة من القطع المتوسطة يطل علينا من بيروت “دوحة الأزر وسط مستنقع الكفر” والذي أهدى عمله اليها وهي التي “لايمضي هواها” كما في نص إهداءه الشاعري.
في كل مرة يطل علينا الديري في عمل جديد يتحفنا بأطروحة جديدة يعالجها باقتدار وتمكن وصبر، والصبر في كتب من ذلك النوع الذي يكتبه الديري شرط يوازي الاتقان، وقيمة أي كتاب تكمن في قدرته على استعراض أطروحة رئيسية جديدة تتسم بالراهنية والعمق، وفي أسلوبه وكلماته في عرض أفكاره تاليًّا، وفي الحالين فان الديري أثبت غير مرة في أعمال فكرية سابقة (للديري ستة كتب سابقة منشورة بينها كتاب “خارج الطائفة” 2011م، وكيف يفكر الفلاسفة ؟ 2013م) قدرة استثنائية على خوض ملفات فكرية شائكة مستعيناً بذخيرة ثقافية واسعة واستعداد ذاتي عالي يخوله الدخول لمناطق بكر في ثقافتنا يتهيب وربما يعجز كثيرون عن ارتيادها ومقاربتها. الديري مثقف استثنائي جسور مسكون بالنقد والمسائلة وكتابه، على اختصاره، يعد واحداً من أجدّ وأكثر المداخلات الفكرية الجسورة عمقاً في سبر مجاهل التاريخ والاستعانه بشواهده في فهم وفضح ملابسات تشكل الحاضر المستقبل دليلاً على هذه الجسارة.
في مقاربته لنصوص التوحش يجتهد الديري في قراءة سرديات التكفير في سياقها السياسي، أي سياق اقترانه بالسلطة أوسياق سعية لامتلاك السلطة. يقول: “أسعى في هذا المجال إلى قراءة نصوص ليس كاجتهادات فقهية اوعقائدية بل كمشاريع سياسية أو مرتبطة بالسياسة، كما هو الأمر مع كتاب الغزالي (فضائح الباطنية) الذي كتبه برسم السياسة السلجوقية في حربها ضد الفاطميين”. (ص 18 – 19)
يستعيد الخطاب التكفيري مقولة محمد بن عبد الوهاب (ت 1206هـ/ 1792م)، باعث سلفية ابن تيمية في القرون المتأخرة “إنما عُودينا لأجل التكفير والقتل” التكفير والقتال يحددان دائرة العداوة، وبهذا يصير التكفير حقلاً للتوحش، وممارسة التكفير تصبح “إدارة للتوحش” وهو عنوان أشهر كتاب في أدبيات التكفيريين الحديثة.
يتشكل الكتاب من تمهيد ومدخل وثلاث فصول خص في كل فصل دراسة معمقة لتراث واحد من رموز فقهاء التوحش ومنتجي سرديات التكفير، الأول أبو حامد الغزالي (ت 505هـ / 1111م) في كتابه (فضائع الباطنية وفضائل المستظهرية) في المرحلة السلجوقية، والثاني محمد ابن تومرت (ت 524 هـ / 1130م) في المرحلة الموحدية، والثالث ابن تيمية (ت 728 هـ/ 1328م) في المرحلة المملوكية.
فكر الغزالي.. فضائح الباطنية ومنشور الدم
توقف الديري في الفصل الأول من كتابه عند عند فكر أبي حامد الغزالي، ودرس كتابه (فضائع الباطنية وفضائل المستظهرية)، وانطلق من هذا الكتاب في ايضاح المقصود من نصوص التوحش، لافتاً القاريء إلى الفصل الثامن من الكتاب والذي تناول فيه الغزالي قضية تكفير الباطنية التي يقصد بها الإسماعيليين على وجه الخصوص، وضمنا تدخل فيها باقي الفرق الشيعية، ووجوب سفك دمهم. وقد كتب الغزالي كتابه في نهاية القرن الخامس الهجري.
أراد الغزالي كما يقول فضح عقائد الباطنية ومتبنياتهم الفكرية، فكتب محذرًا الناس منهم، وكفّر فئة منهم وأجاز قتالهم، إنه ينفذ خطة نظام الملك الذي اعتبر الباطنية العدو الأول للدولة في كتابه (سفر نامة). والتفسير الذي يمكن سوقة هنا لاستهداف الغزالي للإسماعيليين هو بسبب الصراع السياسي الدائر بين الفاطميين (الإسماعيليين) مع الخلافة العباسية التي كانت تحت حكم السلاجقة، وكان الوجود الإسماعيلي المتعاظم يشكل تهديد جدّي حتى لقد وجدنا مستشرقاً قديراً كآدم ميتز (ت 1917م) الذي درس الحياة والمجتمع الإسلامي في القرن الرابع الهجري يطلق عليه “القرن الشيعي” من هنا كانت الدعاية المضادة عنيفة جداً ضد الإسماعيلية.
ويستعير الديري، ما يطلق عليه فرهاد دفتري أبرز المؤرخين المتخصص في التاريخ الإسماعيلي في عالم اليوم، مصطلح (الخرافة السوداء) لوصف عمليات التشنيع التي مارسها الغزالي وغيره من علماء الخلافة العباسي ضد الاسماعليين كما أسهم الصليبيون الذين اشتبكوا مع الإسماعليين في صناعة هذه الخرافة.
يتوقف الكتاب أيضاً عند الجزء الثاني من عنوان الكتاب “فضائل المستظهرية” ليشير به إلى لقب الخليفة العباسي المستظهر بالله، فقد أراد الغزالي فيه تركيز شرعية الخليفة العباسي كخليفة حق، وولي أمر مفترض الطاعة، مقابل الباطنية كأهل باطن خارجين على ولي الأمر والإسلام وإجماع الأمة مستنفراً جميع قدراته الأصولية والمنطقية بالقدر الذي يفوق ما بذله في فضح الباطنية وإثبات كفرهم.
هنا تعد معركة (شقحب) في 1303م حدث فاصل في التاريخ المملوكي، ففي هذه المعركة التي نشبت بين المماليك بقيادة السلطان الناصر بن قلاوون والمغول كان لابن تيمية دور محوري في تشجيع الناس والشد من عزيمة الحكام وجمع الأموال، كان أول الواصلين إلى دمشق يبشر الناس بنصر المسلمين، ولما احس بخوف السلطان من أن يستغل حب الناس له فيثور عليه قال:”أنا رجل ملة لارجل دولة”. سيمتد الدور الذي لعبه ابن تيمية مع رجل الدولة، إلى قتال الشيعة في جبال كسروان بلبنان باعتبارهم كفاراً مرتدين عن الإسلام، هكذا ستكون الفتوى دوماً في خدمة رجل الدولة للتخلص من أعدائه ومعارضيه (ص 23).
كارثية الاعتقاد القادري
لقد أصدر الخليفة العباسي القادر ما عرف بـ “الاعتقاد القادري” وهو مرسوم يحدد مفهوم الألوهية والصفات والأسماء المثبته لله، ومفهوم الإيمان والكفر والاعتقاد الواجب اتجاه الله واتجاه الصحابة.
وقد وجد السلاجقة في هذه الاعتقاد تعبيراً عن ذودهم عن الإسلام والسنة، وكان هذا المعتقد يخرج ويقرأ على الناس في المشاهد والمجامع العامة، وفي المساجد والجوامع، وجرى في إثر ذلك إخماد جميع الأصوات المختلفة لاسيما المعتزلة والشيعة والمدارس التي أُنشئت منذ العصر السلجوقي، وهي المدارس النورية في عهد نور الدين زنكي، ومدارس صلاح الدين الأيوبي، كل هذه المداس تكاد لاتخرج على هذا المعتقد “الأرثوذكسي” ولا مكان فيها للفلسفة وعلم الكلام أو لتدريس المذاهب المختلفة، لم يخرج عن ذلك غير مدارس قليلة مثل المدارس التي عرفتها مصر في العهد الفاطمي، قبل أن يأتي صلاح الدين ويغلقها. (ص 25). سرى ذلك على الدولتين الزنكية والأيوبية اللتين اعتمدتا ذات الأيدلوجية ولكن على نطاق جغرافي أوسع شمل بلاد مصر والشام.
احتاج السلاجة إلى جيش من الفقهاء والقضاة والعلماء والخطباء والمحدثين، لتثبيت مهمتهم الدينية المتمثلة في الدفاع عن السنة وتثبيت (الأرثوذكسية السنية السلجوقية) وهم وجدوا أن هذه المهمة تعطي لوجودهم شرعية وتعطي لحروبهم ضد أعداء لخلافة العباسية شرعية مضاعفة.
وقد وجد السلاجقة في الصليبيين العدو الذي يهدد الإسلام والخلافة الشرعية، لكنهم قبل ذلك وجدوها في الباطنية، وحين بدأت الحروب الصليبية تم توسيع دائرة العدو فألحق الباطنية بالصليبيين، وتم تعميم صورة أكثر تشوييها للفاطميين، فاعتبروا خونة وحلفاء مع الصليبيين وسبباً في هزيمة المسلمين واحتلال بيت المقدس. (ص 28)
هكذا تداخلت العملية العسكرية مع العملية الدينية عبر تجيير جيش من العلماء والقضاة والمحدثين والفقهاء وكتاب التاريخ، ليكتبوا بأقلامهم حدود العداوة والتكفير.
ويبرز في هذا المعترك التخويني الموقف الذي أطلقه الحافظ محمد بن بن سهل الرملي الذي قال:” لو كان معي عشرة أسهم لرميتُ الروم بسهم ورميتُ المغاربة [الفاطميين] بتسعة” وقد عمل أميره حسان بن مفرج بهذه الفتوى فاستنجد بالروم ولكنه زاد على الفتوى بأن ألقى سهامه العشرة كلها على الفاطميين ولم يلق ولو بسهم واحد على الروم !
هكذا تم تحويل الفاطميين والإسماعيليين والشيعة والمعتزلة والجهمية كأعداء واعتبرت الجغرافيا التي يسكنون فيها دار كفر، لأنها خارجة عن ولاية الخليفة الشرعي العباسي الذي يمثل الإسلام الصحيح.
لا تستقر الأمور دائماً وفق ما تشتهي رغبة الفقيه التكفيري، فشيطان التكفير يرتد عليه في ما بعد، فعلى سبيل المثال، في دولة المرابطين، في عهد علي بن يوسف بن تاشفين، ثاني الأمراء المرابطين، وصل الأمر إلى أنهم أحرقوا كتاب الإحياء للغزالي، واعتبروه “كتاب ضلال”، ذلك أن الغزالي نفسه فتح المجال أمام تكفير الآخرين بناءً على تأويلاته، ولم يكتف بمقياس من قال ” لا إله إلا الله محمد رسول الله” لإثبات إيمان أي شخص، وإغلاق باب الكفر بهذه الجملة. (ص 75). ويرصد المؤلف ما يسميه بتوحش أحكام التكفير حين يستعرض “أحكام من قضي بكفره”؛ فالغزالي يرى بأن الإمام مخير مع الكافر الأصلي في إطلاقه أو افتداءه بمال أو أسرى أواسترقاقه أوقتله، أما المرتد فالواجب قتلهم وتطهير وجه الارض منهم، هذا حكم الذين يحكم بكفرهم من الباطنية”. فالاطفال لايُقتلون مباشرة، فهناك تفصيل، النساء يقتلن مباشرة، ولايعرض عليهن الإسلام، الصبيان يعرض عليهم الإسلام، فان قبلوا والا قتلوا. هذا هو حكم الارواح محكومة بسفك الدم، نص في غاية التوحش، قتل للانسان وزوجته وابنته على معتقده وموقفه السياسي. (ص 80).
يتابع الديري مشروع الغزالي في كتاب آخر هو (الاقتصاد في الاعتقاد) الذي يفصل فيه مراتب المكفرين، ويوسّع مراتب الذين يكفرهم، وتضم هذه المراتب الباطنية وغير الباطنية، توسعٌ يُقدم لنا فكرة أشمل عن طبيعة الارثوذكسية/ النظامية/ السلجوقية/ السنية) في موقفها الفكري والعقائدي من المختلف معها وعن الفئات المستهدفة بالتكفير من قبلها.
وكتاب (الاقتصاد في الاعتقاد) هو آخر إنتاج للغزالي قبل تخليه عن التدريس في المدارس النظامية ودخوله مرحلة العزلة الروحية. ومن المعروف أن المدارس الناظمية هي مدارس أنشئت في بغداد وفي نيسابور وقد أنشأها ألب ارسلان، مؤسس الدولة السلجوقية، وتولى زمامها الغزالي في نيسابور ثم في بغداد.
وينتهي الديري إلى أن الخطاب الذي بلوره الغزالي فتح أصلاً مؤسساً لفكرة التكفير، وهو خطير لانه مبني على قواعد شرعية وعقديّة وخطاب عالم قريب من السلطة، بل هو جزء منها ولهذه الجهة بالذات تمثل نصوص الغزالي أخطر من الخوارج الذين لم ينتجوا نصوصاً رغم غظم الدور الذي مارسوه في مراحل متقدمة من التاريخ وحياة المجتمع الإسلامي.
وقد دخل “النسب” القرشي في سياق الصراع السياسي المحتدم في القرن الرابع والخامس، فالنسب القرشي كان دائماً شرطاً من شروط تبوء منصب الخلافة، ولكن ماذا إذا كان العباسيين والفاطميين قرشيون ؟
أثار هذا الأمر حروب طاحنة بين الفريقين، وقد قاد هذا النزاع العباسيين شن حرب كبرى لتشويه نسب الفاطميين اشترك فيها الأعيان والنخبة العلمية التي وجدت نفسها مضطرة للتعامل مع وضع تسوده الكراهية، واندلعت حروب التشكيك في نسبهم ووضع أنساب لهم تقربهم من اليهود أو تجعلهم ينتسبون إلى نسب وضيع مشكوك فيه. وفي العصر العباسي السابق، في العصر البويهي، أدت هذه المسألة إلى أن تكتب العرائض وطلب من العلويين – بإملاء سياسي – أن يوقّعوا عليها ويتبرؤوا من الفاطميين، ويعتبروا نسبهم غير علويّ.
وقد مثّل كتاب (سياست نامه) الذي وضعه الوزير السلجوقي المشهور نظام الملك الطوسي دستوراً للدولة السلجوقية، ويعني (سير الملوك) وقد وضعه الطوسي في الفترة التأسيسة لسلطة السلاجقة، وعندما وضع الكتاب أُعجب به ملكشاه وقال:”لقد اتخذت الكتاب إماماً لي، وعليه سأسير”. لقد كتب نظام الملك كتابه باللغة الفارسية لأن السلاجقة اتخذوا الفارسية لغة الدواووين والرسائل إلى جانب العربية.
لقد بلور نظام الملك أطروحة سياسية بالغة الدقة في كتابه الذي يعد واحداً من النصوص الدينية المتوحشة، وهي سياسة مثلت الخلافة العباسية التي كان يحكم السلاجقة باسمها. هذه النصوص بقيت ومازالت تعمل إلى اليوم، وسياسة نظام الملك هي التي أنتجت هذه النصوص التي أتت في فترة متأخرة عنها.
ابن تومرت والدولة الموحدية: من نصوص التصفية
وإلى المغرب العربي والأندلس حيث يدرس الفصل الثاني من الكتاب نصوص الفقيه المغربي ابن تومرت (ت 524هـ/ 1130م) رجل دولة الموحدين الأول. والذي عاش في الفترة التي حكم فيها السلاجقة بغداد. وهو أحد خريجي المدارس النظامية، وقد التقى بالغزالي وتأثر به اثناء رحلته المشرقية في التحصيل ويصفه ابن خلدون :”وانطلق هذا الإمام راجعاً إلى المغرب بحراً متفجراً من العلم وشهاباً وارياً من الدين”.
عاش ابن تومرت في بيئة أضعفها التفكك وأنهكها التهديد الصليبي للوجود الإسلامي في الأندلس والمغرب. وقد جاء وهو يفكر في مشروع انقاذي يعطي للمسلمين بعضاً من هيبتهم المفقودة وعزهم المسلوب. وهنا انهمك في صياغة عقيدة متشددة فيما يخص التعالي الرباني والتوحيد الالهي، وسيبلور مفهوماً احتكارياً للتوحيد على جماعته (الموحدون)، باعتبارها الجماعة التي تعتنق التوحيد الصحيح، وستكون العقيدة (المرشدة) نشيد دولة الموحدين.
لقد تعلم صياغة العقيدة المرشدة الخاصة به من خلال المدارس النظامية التي كانت إحدى تجليات السعي السلجوقي للتمثيل السني في العالم الاسلامي في العراق فهناك لديهم نسختهم المنقحة من المعتقد القادري المبني على العقيدة الأشعرية التي أمست أيديولوجيا للدولة السلجوقية.
بلوّر ابن تومرت رؤيته عبر خطبه ورسائله ومناظراته التي ستجمع في ما بعد حين تتمكن دعوته من تكوين دولة، في كتاب أطلق عليه (أعز ما يطلب). الكتاب الذي تحول إلى دستور الدولة الموحدية، وذلك على يد أحد تلامذته وهو عبد المؤمن بن علي الكومي (ت 558هـ/ 1163م) الحاكم الأول لدولة الموحدين، وهو نفسه الذي سيجمع لاحقاً هذا الكتاب وسيعتبره دستور الدولة وعقيدتها وأيديولوجيتها.
ويذهب المؤلف في مناقشة تفاصيل الصراع الذي نشب بين فقهاء المالكية والموحدين، إذ اعتبروهم من الخوارج بسبب العنف الذي قاموا به وبسبب خطابهم التكفيري لأهل السنة. “وصحيح أن القوة السياسية التي أسسها ابن تومرت قد ابقت الأندلس قوية عند المسلمين ما يقارب قرناًونصف من الزمان، وقد عرف عصرهم ازدهاراً علمياً وثقافياً واشتهر فيه علماء وفلاسفة كابن الطفيل وابن رشد، ولكن علينا أن نراجع هذه الانتصارات الكبيرة اليوم لأننا نحصد مآسي كبيرة وسفكاً كبيراً للدماء”.
(ص 123). والمؤلف يستعرض نماذج من المذابح التي ارتكبها الموحدون في مراكش. وكانت من الادبيات الخالدة التي تركها ابن تومرت “وكان في وصيته إلى قوم اذا ظفروا بمرابطٍ أو أحدٍ من تلمسان أن يحرقوه” كما يذكر المؤرخ الذهبي في (تاريخ الإسلام). لكن غلواء التوحش خف مع استتباب الأمر للدولة الموحدية وجرى تحوير مدلول (التوحيد التومري) بحيث أضحى أكثر تسامحًا واتساعاً.
ومن المفارقات الغريبة، يسجل المؤلف، أن ابن تيمية وتلميذه الذهبي يتسنكران على ابن تومرت ودولته سفك دماء المسلمين، والحكمة بشرعنة هذا السفك، ويتناسيان انهما حين جاءا بعد وفاة ابن تومرت بأكثر من 130 عاماً، قد أنتجا نصوصاً اكثر توحشاً وتشدداً.
حصاد المرحلة المملوكية.. نصوص ابن تيمية
في الفصل الثالث من الكتاب والذي حمل عنوان “ابن تيمية والتكفير المملوكي” يستعرض فيه المؤلف نصوص ابن تيمية وأثرها في تأسيس بذور الخطاب التكفيري في التراث الإسلامي.
ولد ابن تيمية في سوريا بمنقطة ملتهبة تعيش توتراً بين التتار والمماليك والصليبيين، فيما العالم الإسلامي يعيش تشتتاً كبيراً على مستوى السلطة المركزية فالخلافة العباسية سقطت، والمغول يسيطرون على العراق وإيران ويهددون حدود الشام، الفاطميون سقطوا، الصليبيبون مازالوا موجودين.
لم يكن ابن تيمية موظفاً داخل بلاط السلطة، كما كان الغزالي موظفاً عند نظام الملك الذي ترأس مدرسته النظامية عندما كان في الرابعة والثلاثين من عمره، وهو ليس صاحب مشروع دولة وسلطة كما كان ابن تومرت حين انشأ الدولة الموحدية. مع ذلك، فان نص ابن تيمية يتقاطع مع نص السياسة والسلطة والقوة، وهذا التقاطع لعب دوراً كبيراً في صناعة نصوص توحش وواقع متوحش أيضاً ففتاويه لعبت دوراً كبيراً في إحداث مجازر دينية مستمرة حتى اليوم. (ص 132)
وقد سعى ابن تيمية لتكون عقيدة ابن حنبل العقيدة الرسمية لدولة المماليك، لم ينجح وكان مصيره السجن، وبقي هذا الحلم مؤجلاً إلى حين انبثاق ميثاق الدرعية في 1745م بين رجل الملة محمد بن عبدالوهاب ورجل الدولة ابن سعود.
لمع اسم ابن تيمية عقب الانتصار الذي تحقق للمماليك على المغول المسلمين في حرب إسلامية – إسلامية في معركة “شقحب”، فقد وضع مشروعية لهذه الحرب وأنتج من خلالها نصوصاً تكفيرية متأثرة بهذا الجو، وقد أفتى لهم بالافطار في رمضان ليتمكنوا من تحسين أدائهم في المعركة. وقد خرج ابن تيمية من كل ذلك بنجومية كاسحة نافس بها السلطان المملوكي نفسه.
واجه المماليك عدو آخر هم الصليبيون وهزموهم في معارك كبرى في فلسطين ودمشق ولبنان، وبعد ذلك كان على ابن تيمية أن يواجه الأقليات المسلمة المصنفة بأنها ليست من أهل السنة والجماعة: العلويون، النصيريون، الروافض، الإسماعيليون، الإثني عشرية الموجودين في جبال لنبان وكسروان. بل إن ابن تيمية خاض معارك عقيدية متعددة الجبهات وكانت واحدة من معاركه الكبيرة مع الأشاعرة ممثلي أهل السنة والجماعة كما يشرح الكتاب بالتفصيل.
يجري خطاب التكفير عند ابن تيمية وفق محددات السياسة، بمعنى أن ما حددته السياسية أنه كفر فهو بالنسبة لابن تيمية كفر، وهذا ليس بمعنى الامتثال المباشر أو الخضوع إلى قرار سياسي، وليس بمعنى أنه لا يراعي الضوابط الشرعية، لكن باعتبار أن خطاب من يتحدث باسم أهل السنة والجماعة لا يمكن أن يخرج على خطاب السياسة؛ ذلك أن إحدى مقتضيات الدين الأساسية عند أهل السنة والجماعة عدم جواز الخروج على الإمام أو الخليفة حتى لو كان فاسقاً أو مغتصباً للخلافة أو شارباً للخمر أو ظالماً أو مستولياً على السلطة بالقوة كما يوضح الكتاب. (ص 167) من هنا قد لايكون من المستغرب ذلك التطابق الذي نعثر عليه في خطاب ابن تيمية مع الغزالي في تكفير الإسماعيليين والروافض والفلاسفة وعموم الفرق الشيعية.
وضع ابن تيمية معياراً لتكفير الفرق هو أن يكون ظاهرة الفرقة وباطنها يدلان على الإسلام. فاذا كان في الباطن ما يدل لى مخالفة الإسلام فان هذه الفرقة كافرة، والباطن يعرف من خلال فحص طبيعة المعتقدات والمنشأ. مواصفات وجدها ابن تيمية متحققة في الشيعة على أكمل معنى على تفاصيل يشير لها الكتاب.
وقد كتب ابن تيمية مطلق القرن الرابع عشر الميلادي فتوى تاريخية شهيرة أرسلها ابن تيمية لسلطان الممالك الناصر بن قلاوون أعطى فيها المشروعية الدينية لتنفيذ مذبحة كسروان التي قام بها 50 ألف جندي من المماليك فيما عرف بـ (فتوح كسروان) وهي تسمية مشتقة من تهنئة الفتح التي وردت في نص الفتوى.
ويعتبر المؤلف أن فتوى ابن تيمية يمكن عدّها فصلاً ملحقاً بكتاب (فضائح الباطنية) للغزالي، فهو يستعمل – بعد 217 عاماً – تسميات الغزالي وتوصيفاته، ويتتطابق مع موقفه الشرعي والسياسي وعرضه لعقائد الإسماعيليين وكل ما هو مكون في الصورة الذهنية عن هؤلاء.
أصبحت نصوص التكفير والتوحش لوائح إتهام سياسي جاهزة للاستخدام والتوظيف ضد الخصوم السياسيين والعقائديين، والفرضية التي ينطلق منها الديري في درساته صاغها في هذه الجملة المختصرة: “الوحش يكمن في (أرثوذكسية السنة السلجوقية) هذا هو الوحش الذي يسرق وجوهنا” فـ “نص التكفير يبقى ويستخدم ويولّد نصوصاً أخرى، ويجعل الاختلافات السياسية حالة عداء لاتنتهي، في حين أن الخلاف السياسي قد ينتهي”.
في الكتاب خوض شيق لمقولات فكرية حاولت أن تقرأ مسار العقل والتجربة العربية وهنا يشير الديري إلى محمد أركون بوصفه صاحب أولى المحاولات الفكرية التي قاربت مصطلح الأرثوذكسية الإسلامية التي تتقاطع مع مفهوم الفرقة الناجية، لكن الديري يبدي استغراباً من سلفية اللبناني رضوان السيد التي تعتبر ما يُكتب من نقد للتراث الإسلامي بحثا عن جذور الارهاب الحديث ما هو إلا استهداف للإسلام السني !!
يصل الديري في عمله الماثل إلى عتبة متقدمة في تحليل الخطاب الثقافي العربي الذي اشتغل على تفكيك مجازاته ورسائله المضمرة لما يزيد على العقدين، هنا ينهد إلى اقتراف شجاعة وعناد أكبر، فإذا كان هاجس الديري في ما سبق الاشتغال على مفاهيم التسامح والتعايش واحترام الآخر، والقفز على الهويات الفرعية وتجاوز الأسوار الطائفية إلى ما كان يراه بنعيم الدولة المدنية التي – وحدها – تكفل صياغة واقع اجتماعي يُصار فيه الجميع سواسية أمام سلطة القانون دونما إزعاج منشأه الحساسيات الدينية؛ فإن الديري الآن بات مقتنعاً بأن نصوص التوحش التي تشكل مرجعية شرعية لتنظيمات الإسلام الجهادي هي المسئولة عن حجم الدمار الذي يفتك بمجتمعات الشرق الأوسط الإسلامية اليوم.
من هنا حاول الديري الرجوع إلى المنابع المؤسسة لثقافة التوحش وإهدار الدم بدواعي الدين وربط سياق التشكل التاريخي لهذه المفاهيم بما يجري في عالم اليوم من مآسي مروعة باسم الدين بغية تعرية هذا التراث المرعب وإدانته وتجاوزه وتأسيس رؤية دينية أكثر تسامحاً وإنسانية تحترم إنسانية الإنسان وتصون حقوق البشر وتنصف محاسن الحياة بكل تجلياتها الإنسانية. كان المغربي محمد عابد الجابري يعتبر إن “أزمة الثقافة العربية كانت باستمرار سياسية في دوافعها”. وهذا ما يجتهد الكتاب في شرحه مفصلاً.