الوطنية الفاترة

 

يقول المؤرخ البحريني ناصر الخيري (1293-1344 هـ/ 1876-1925م) في ختام مقدمة كتابه “وأنتم يا ناشئة الوطن أجمع، ويا أدباء بلادنا الكرام، أضع بين أياديكم وأقدم لكم كتابي (تاريخ البحرين [قلائد النحرين في تاريخ البحرين])… وأملي أنكم ستتقبلون بإخلاص وطني هدية أخيكم ومواطنكم الذي كرّس شطرًا من نفيس أوقاته وهجر كثيرًا من لذاته، مكدًّا مجدًّا حتى أبرز لكم هذه المجموعة النفيسة… رجاؤه الوحيد ومكافأته منكم في عمله أن توفوا في المستقبل الوطنية الصحيحة بمعناها الصحيح” 

لقد طبع كتاب ناصر الخيري طباعة محققة، من قبل جهة حكومية هي مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية، وتمّ تدشينه في حفل رسمي في فندق الريجنسي في كانون الأول/ ديسمبر 2014 وبعد أسابيع تمت مصادرة النسخ وسُحب من السوق، وتمّ حل مجلس إدارة المركز. 

لماذا ما زال إلى اليوم يرفض الوطن هذه الهدية؟ لماذا يضيق نَفَس الوطن عن الاحتفاء بهذه (المجموعة النفيسة) من أوراق ناصر الخيري التي تبلغ 437 صفحة مخطوطة بيده؟ لماذا عصي على هذا الوطن أن يحقق أمل هذا المؤرخ البحريني في قبول كتابه؟ 

لقد خرج هذا الكتاب خائفًا يترقب من موطنه منذ لحظة الانتهاء من كتابته ووفاة مؤلفه في العام 1925، واختفى  ثمانين عامًا، لا أحد يعرف مصيره، حتى تمّ العثور عليه في الكويت. لا شك أنه يتمنى أن يعود إلى موطنه، لكن ما زال هذا الوطن يتأبّى عليه، يبدو أننا لم نوفِ الوطنية الصحيحة بعدُ بمعناها الصحيح كما رجانا (الخيري) فلم نستحق بعدُ أن يكون هذا الكتاب في وطننا غير المنجز.

كان ناصر الخيري شاهدًا على تاريخ الأحداث المفصلية في البحرين في الربع الأول من القرن العشرين، الأحداث التي تبلور من خلالها المفهوم القانوني للبحريني، نقرأ كتابه اليوم باعتباره شاهدًا على هذه الأحداث وشاهدًا على صلتها بأحداث 2011، فالأسباب التي جعلت مخطوطة كتابه تُرحل خارج البحرين، هي نفسها التي مازالت تمنع كتابه أن يعود إلى البحرين، لقد كتب عليه النفي القسري الطويل كما ما زال يكتب على أبنائه النفي والإبعاد والإسقاط من المواطنة.

يحمل الرجاء والأمل اللذين كتب بهما (الخيري) مقدمته التاريخية، التوتر السياسي الذي عاشه في تلك اللحظة المفصلية من ولادة البحرين الحديثة، لقد عاش توتر ما أطلق هو عليه “فاتحة عصر سياسي” ابتدأت في 1904، وبلغت ذروتها في 23 أيار/ مايو 1923 حين وقف بتكليف من المقيم السياسي، يقرأ ترجمته لخطاب العزل التاريخي على أعيان البلاد وجميع مكوناتها: آل خليفة، القبائل السنية، الشيعة البحارنة، الأجانب. كان خطابًا يُعلن نشأة مُستأنفة للبحرين، أزيح فيها عيسى بن علي ونظام (الحكم القبلي) حيث الإقطاع والفداوية والقضاء الشرعي، ونُصب فيها حمد بن عيسى ونظام (حكم القبيلة) حيث الإدارات الحديثة للدولة والقضاء المدني والبلدية وإدارة تسجيل الأراضي.

وقف ناصر الخيري مع الإصلاحات كمثقف عصري، أراد لوطنه أن يدخل عصر الحداثة، ووقف أيضًا مع هذه الإصلاحات كموظف في البلدية المتصلة بدار الاعتماد البريطاني، شكلت هذه المعية إشكالية وطنية بالنسبة له، فقد كان عضوًا في النادي الأدبي بالمحرق ويحمل رؤية ثقافية مختلفة وموقعًا وظيفيًّا مختلفًا، أراد أدباء النادي القريبون من عيسى بن علي وابنه عبدالله بن عيسى من ناصر الخيري أن يكون معهم إلى جانب العائلة الحاكمة المعارضة للإصلاحات، وأراد هو شيئًا آخر، وقد عبرت رسالته الشهيرة عن ذلك “ومن مثل هذى [هذا] كنت أخشى على أصحابنا أهل النادى وأعارضهم وأنهاهم عن التطرف فيما لا طائل منه. ولكن هدى الله بعضهم يحسبون الناصح لهم فاتر [فاترًا] في الوطنية عديم الإخلاص لها”. لقد تحمل (الخيري) التشكيك في وطنيته، ووصفها بأنها وطنية فاترة في نظر من عارضوا الإصلاح السياسي، وترك لنا (قلائد النحرين) هدية، لتكون حَكَمًا على إخلاصه، وشاهدًا على محنته في وطنه الذي لم يُنجز بعد وطنيته الصحيحة، ليكون جديرًا بإعادة توطين (قلائد النحرين) ضمن أرشيف تاريخه.

قدرنا أن نتعلم الوطنية من مثقف لم يعرف أصلًا يرجعه إلى قبيلة، فقد كان من (الموالي)، وهذا جعله متحررًا من ثقل الانتماء القبلي، وثقل تمثيل مصالح هذا الانتماء وأعرافه وتقاليده الذي تجسّد في موقف القبائل الرافض للإصلاحات في العشرينيات.

لقد كرر(الخيري) مشتقات كلمة (وطن) أربع مرات في الفقرة الختامية لمقدمة كتابه، وكأنه يوصينا قبل أن يغلق درسه الأخير، أن نحقق مشروع الإصلاح السياسي الذي شارك في صنعه في العشرينيات، وأرّخ له، ورأى فيه مشروع وطن لولادة البحريني، البحريني الذي ليس مجرد نوستالجيا وذاكرة وانتماء وحنين وتاريخ وثقافة، بل البحريني المحمي بالقانون والمُنصف بالحقوق، والمعترف به في الدستور، البحريني الذي تمنحه الدولة مساواة كاملة في الحقوق والواجبات، هذه هي (الوطنية الصحيحة)  التي تحدث عنها ناصر الخيري.

يا ناصر، نعتذر إليك.. 

تسعة عقود من كتابك، ونحن لم نوفِ الوطنية التي تطلعت إليها، تسعة عقود من كتابك ولسنا قادرين أن نتقبل هديتك، لا رجاؤك منا تمكنا أن نوفيه ولا أَمَلُك قادرين أن نستقبله.

هذا الكتاب قراءة في الأحداث التي عايشها ناصر الخيري، والصراعات التي كان شاهدًا عليها، والتحولات التي كان جزءًا من الجدل حولها.

علي أحمد الديري

24 أيار/ مايو 2017

مدينة ويندزر

أونتاريو، كندا



عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>