أخبار

ساحات على مقاسات أحلامنا

محمد ناصر*

انطلقت فكرة هذا المشروع بعد أيامٍ من هجوم قوات الأمن البحرينية على ساحة الفداء؛ الحدث الذي فرض أهمية حفظ وتوثيق وأرشفة التجاوزات والتغييرات التي طرأت على الساحة. ولأن الساحة هي فضاءٌ مكاني، كان خيار مركز أوال للدراسات والتوثيق[1] بأن نتجه الى تدوين ذاكرة المكان التي تحتل حيزاً من اهتمامات المركز البحثية والتوثيقية. فبعد تجربة تدوين قصص الجدات ومعلمات القرآن واصدار مجلة أرشيفو[2] المتخصّصة بحفظ الاعمال الأرشيفية من مهن وحرف وصور، يسعى أوال ان يكون بيتاً للذاكرة، يحكي قصص التاريخ المفقود ويجعله شاخصاً أمامنا.

والغوص في ذاكرة المكان له متعة خاصة اذ انها تنزع من الاماكن جموديتها وتضخ فيها النبض لتسرد قصتها بلسان من سكنها وتجوّل في أرجائها. فكيف اذا كان المكان عبارة عن ساحة عامة؟ قد يرى البعض ان وظيفة الساحات الاساسية تكمن في كونها مساحات ضرورية في المدن لتوزيع حركة السير وتقاطعات الشوارع، لكنها سرعان ما تطورت لتحمل أسماء محطات سياسية واجتماعية، وغدت تشكل إرث هذه المدن وذاكرتها. فهل لكم ان تتصوروا بيروت، على سبيل المثال، من دون ساحة الشهداء وتمثال المرأة التي تحمل مشعل حرية وتحضن شهيدًا يظهر من خلفها وآخر سقط أرضًا (من نحت الفنان الإيطالي مارينو مازاكوراتي)؟ ماذا عن القاهرة وميدان التحرير الذي تزيّن زاويته مكتبة مدبولي، وساحة 14 جانفي في تونس التي يحرس جانباً منها تمثال للرئيس الحبيب بورقيبة جالسًا على حصانه، وميدان التحرير في العراق، وساحة المرجة في دمشق والسبع بحرات التي دمرتها الحرب في حلب؟

احتضنت‭ ‬‮«‬ساحة‭ ‬الفداء‮» ‬‭ ‬فعلاً‭ ‬سياسياً‭ ‬واجتماعياً‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عام

تستجلب زيارة هذه الساحات قصص من مكث فيها وحوّلها الى عريضة تحمل أفكاره ومطالبه وآماله، فتصبح ذاكرتها مزيجًا من أحداث وصور وعبارات لغوية وأحجار اسمنتية وخيم تظلّل تحتها من اراد ايصال صوته عاليًا. كما ان الاحداث التي تحصل في هذه الساحات تشكل جزءً من تاريخ الشعوب الحقيقي وغير المدون.

فماذا تكون ساحة الفداء؟ وكيف تحولت من مجرد حيّزٍ مكانيّ في قرية الدراز[3] البحرينية إلى ساحة احتضنت فعلًا سياسيًا واجتماعيًا على مدى أكثر من عام؟ في 20 حزيران من العام 2016، أعلنت المحاكم البحرينية إدانة آية الله الشيخ عيسى قاسم[4] على خلفية قضية دينية (تتعلق بفريضة الخمس)، وأسقطت السلطات جنسية سماحته. ومنذ اللحظة الأولى لانتشار هذا الخبر، بدأت القصة، وتحولت الساحة من مجرد مساحة مكانية إلى ساحة للذاكرة الجماعية، فاختزنت التفاصيل كافة من التجمهر الأول إلى تحمل حرارة الشمس القاسية في البحرين، إلى البرد القارس شتاءً والصيام في شهر رمضان وإحياء ليالي القدر والاحتفالات في الأعياد وإقامة العزاء.

هذه البقعة الجغرافية، التي أسفرت أحداثها حتى لحظة الهجوم الأخير في 23 أيار من العام 2017 عن اعتقال أكثر من ثلاثمائة شاب وارتقاء خمسة شهداء، ظلّت ولّادة وحفلت بقصص كثيرة لم تنتهِ، ولكي تكتمل عناصر الرواية، خضنا في مركز أوال للدراسات والتوثيق رحلة جمعنا فيها شهادات مرابطين عايشوا الحدث، من رجال ونساء وشباب وعلماء، جمعوا بين دراستهم ونضالهم على مدى 337 يوم.

لم يكن من اليسير بالنسبة لنا أن نجمع شهادات في بلدان مختلفة (حيث يقيم الرواة الذين عايشوا الحدث)، عبر عدد من الوسائل، وتجاوز مجموعها مائة ساعة من التسجيلات، فشكّلت نواة العمل بعد أن تمّ تفريغها. وانطلقنا في الكتاب المُكوّن من 21 شهادة، لنورده في خمسة فصول ترسم لنا قصة حماية الباب الأخير الذي يمثل كل وجودهم وانتمائهم وارتباطهم بوطنهم ومعتقداتهم في ساحة الفداء .

هذا العمل، القائم على تحويل الشهادات الشفوية إلى وثائق، يوثّق حدثًا هامًا صنعه الشعب البحريني، وهو من الأدوات التي تحفظ  قصص الشعوب وتاريخها بعيدًا عن الرواية الرسمية، الممهورة بتوقيعات وطوابع تحفظ التاريخ الرسمي الثقيل، الساعي دائمًا لنقل القصة وفقًا لسرديته الخاصة.

حماة الباب الأخير هو عمل توثيقي لحفظ ذاكرة مكانٍ قد لا تتمكن من رؤيته، لكنه يتسلل إلى روحك، فتواكب وأنت تسمع قصصه الأحداث كلها بتفاصيلها الصغيرة التي ستصبح جزءً من تاريخك. كما انها تشكّل مفصلًا هامًا، ليس في إرث هذه الساحة فقط، بل في إرث المناضلين والشعوب وساحات النضال في العالم أجمع، تلك التي تُشَكل ماضينا وتصوغ مستقبلنا.


[1]  مركز أوال للدراسات والتوثيق مؤسسة بحرينية أنشِئت في لندن في شباط / فبراير من العام 2012، وهو يُعنى بقضايا الخليج بشكل عام والبحرين بشكل خاص ويهدف إلى حفظ الذاكرة البحرينية ومواكبة الأحداث المستجدة أولًا بأول. من أبرز إصداراته  موسوعة “أرشيف البحرين في الوثائق البريطانية الأصلية ١٨٢٠-١٩٧١”.

[2] مجلة أرشيفو نشرة فصلية تصدر عن مركز أوال للدراسات والتوثيق، وتُعنى بقضايا الأرشيف، وتنطلق من البحرين إلى الخليج إلى العالم العربي وخارجه. وتغطي عددًا من المجالات منها المشكلات التي تواجه الأرشيف، وطرق حفظ الأرشيف، والتعريف بأصحاب الأرشيف الأهلي ومراكز الأرشيف الرسمي، والتعريف بالمدوّنات والمواقع الإلكترونية المهتمة بالوثائق والأرشيف من بين موضوعات أخرى. صدر منها 12 عددًا حتى الآن، وهي متوفرة أيضًا بشكل رقمي على مدونة أرشيفو عبر الإنترنت.

[3] قرية الدراز من أكبر قرى البحرين إذ يتجاوز عدد سكانها 20 ألف نسمة، وهي قرية تضرب بجذورها في عمق التاريخ القديم، كما كانت في واجهة الأحداث في البحرين إذ إنها إحدى أبرز المناطق التي شهدت احتجاجات  منذ حراك 14 فبراير / شباط 2011. شكّلت  الدّراز مصدر أرق للسلطات البحرينية مع توافد البحرينيين إليها للاعتصام في ساحة الفداء منذ اللحظة الأولى لسماعهم خبر إسقاط جنسية الشيخ عيسى قاسم، وحتى الهجوم الأخير من قبل قوات الأمن البحرينية لفض الاعتصام.

[4] هو آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم من بلدة الدراز غرب العاصمة المنامة، يمتلك أكبر قاعدة شعبية في البلاد وتعتبره الغالبية الشيعية في البحرين قائدًا لها، وله  عدد من المواقف الوطنية، وهو يحظى بشعبية كبيرة في عموم الخليج  والمنطقة.  شارك آية الله قاسم كعضو في المجلس التأسيسي لوضع دستور للبحرين في العام 1971. ومع بدء قيام المجلس التأسيسي لوضع دستور دولة البحرين، ترشح له وفاز بأعلى الأصوات. وفي العام 1971، رشح نفسه للمجلس الوطني  إلى أن تم حلّه، وكان من أبرز مؤسسي جمعية التوعية الإسلامية في العام 1971. يُنظَر إليه باعتباره الأب الروحي للبحرينيين. من أبرز أقواله: ” “معركة كربلاء قائمة بطرفيها اليوم وغدًا في النّفس…في البيت…في كل ساحات الحياة والمجتمع ويبقى النّاس منقسمين إلى معسكر مع الحسين ومعسكر مع يزيد. فاختر معسكرك”.


*المدير التنفيذي لـ «مركز أوال للدراسات والتوثيق»

رابط المقال الأصلي

لتحميل المقال بصيغة PDF

تدوين التاريخ الشفهي… مقاومة لرواية السلطة

تهاني نصار*

لا يطرح «حماة الباب الأخير: شهادات من ساحة الفداء بالدّراز» سؤال الإشكالية الأهم: «ماذا عن مملكة البحرين والبحارنة؟»، وإن كان يحاول الإجابة على غيره وبوضوح. لا يعرف كثيرون خارج «الخليج» الفارق بين «البحريني والبحراني». ما يتحدّث عنه الكتاب هو «البحراني» تحديداً وقبل أي شيء. قد يسأل بعضهم عن سبب استعمالي لكلمة «بحارنة» ههنا عوضاً عن «بحرينيين/بحرينيون».

بحسب كتاب «القبيلة والدولة في البحرين» (1975) للكاتب اللبناني فؤاد إسحاق الخوري، إنّ «البحراني/ البحارنة» لها مدلول لغوي واجتماعي يرجع إلى السكان الأصليين لجزر البحرين، بينما ترمز كلمة «البحريني/البحرينيون» إلى ظهور المدينة الحديثة التي أنشأتها القبائل الغازية لجزر البحرين أواخر القرن الثامن عشر وما تلقفه آل خليفة في سيطرتهم على الجزر (يمتد تاريخ هذه القبائل إلى عدّة قبائل، لكن أبرزهم آل خليفة الذين تسيدوا المشهد السياسي).

يحاول النظام البحريني -يومياً- السيطرة على ذاكرة البلد عبر تغيير الحقائق وتأطير الأحداث، خاصة في السنوات الأخيرة التي يسعى فيها لقمع المعارضة بكل الوسائل المتاحة. من هنا تأتي المحاولات -ولو الخجولة- للحفاظ على التاريخ الشفهي في المنطقة، والتي بمعظمها -وللأسف- غربية. عربياً، يمكن الحديث عن بعض المؤسسات الفاعلة في حفظ الذاكرة الشفهية، كـ «مركز أوال للدراسات والتوثيق».

لطالما كان التاريخ لعبة الطرف المُهيمن على حيزٍ جغرافي ما. يُسْرَدُ التاريخ حسب رواية المنتصر التي قد تختلف كثيراً عن حقيقة الماضي والأحداث الحاصلة. في كتابه «الاستشراق» (1978)، يقول المفكر والمنظّر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد: «إن تاريخ المنطقة يكتبه المُحتل لا الشعب الخاضع للاحتلال». تناول هذه العلاقة بين توثيق التاريخ والقوة، الفيلسوف الأميركي نعوم تشومسكي في قوله: «التاريخ مُلكٌ للمنتصر» في مقدمته لكتاب «الفلسطينيون: من فلاحين إلى ثوار» (1979) للباحثة ورائدة التاريخ الشفهي الفلسطيني روزماري صايغ. لكن مقابل التاريخ الرسمي الذي يكتبه المسيطر على الأرض، هناك نوع من أنواع المقاومة لسكان هذه الأرض الأصليين الذين يعرفون بلادهم حق معرفة، فيرفضون رواية التاريخ الرسمية عبر تناقلهم وتوارثهم لتاريخهم الشفهي.

يعتبر التاريخ الشفهي صوت الناس الذي يجري تجاهله – عن قصد- عند كتابة التاريخ الرسمي. يروي هذا التاريخ البديل، الأحداث تبعاً للأشخاص الذين خاضوا التجربة وكانوا جزءاً أساسياً من الحدث. قد يبدو بديهياً الحديث عن أهمية التاريخ المقاوم لدى السكان الأصليين للقارة الأميركية الذين واجهوا الإبادة، أو الأفريقيين الذين تعرضوا للاحتلال والاضطهاد، أو الفلسطينيين الذين يقاومون الاحتلال الصهيوني ورواياته عن تاريخ فلسطين القديم وحرب النكبة وقضم الأراضي.

«البحراني/ البحارنة» لها مدلول لغوي واجتماعي يرجع إلى السكان الأصليين

هنا يأتي دور «مركز أوال» الذي تأسّس في عام 2012 ليتخصّص في مشروع حفظ الذاكرة البحرينية (والبحرانية ضمناً، ذلك أن المركز يروي تاريخ الطرفين حكماً)، بدايةً عبر توثيق المستندات الورقية والإلكترونية، ثم توسّع ليشمل تدوين وحفظ التاريخ الشفهي لشخصيات ومناسباتٍ وأحداث بحرينية. يتيح المركز هذه الوثائق وغيرها من المواد الأرشيفية للباحثين والمتخصّصين بهدف دراستها وإنتاج معرفة جديدة تضاف إلى هذا المجال. في «حماة الباب الأخير»، يوثق المركز المواجهات التي بدأت في منتصف عام 2016 بين السلطة والمعتصمين في ساحة الفداء في منطقة الدراز؛ المنطقة التي يسكنها الشيخ عيسى قاسم، زعيم المعارضة البحرينية القوي؛ بعدما حاكمته السلطات الحاكمة وأسقطت عنه الجنسية. يروي الكتاب التصعيد العنيف الذي حصل خلال الهجوم الأخير، ما أدى إلى اعتقال مئات الشبان واستشهاد عدد منهم. ما يميّز هذا العمل هو حفظه لذاكرة الساحة كفضاء جغرافي، عبر قصص من التاريخ الشفهي لأشخاصٍ عايشوا الأحداث التي مرّت على الساحة خلال فترة زمنية تعادل السنة تقريباً.

تعتبر ساحة الفداء، بما حصل داخلها من تظاهرات ومعارك، فضاء (مكانيّاً) مقاوماً للسلطة المهيمنة، حسب ثنائية المكان والفضاء بالنسبة إلى المفكر الفرنسي ميشال دو سارتو. فهي «مكان الفعل» أو «مكانٌ مُمارس» من قبل الناس الذين حوّلوها من مجرّد مكان جامد إلى فضاء غنيّ بحركة الأشخاص المعارضين وخطاباتهم وممارساتهم الدينية والاجتماعية. بدأ الاعتصام في شهر رمضان، فكان الإفطار وتوزيع الطعام وصلاة الجماعة في الساحة. تحوّلت الساحة إلى منصّة لإحياء مناسبات دينية عدة، كاستشهاد الامام علي وإحياء ليلة القدر وقيام صلاة العيد وليالي عاشوراء. في المقابل، قامت قوات الأمن بالتضييق على المعتصمين أولاً، ثم حصارهم والاعتداء على الساحة واعتقال الشبان. لم يفوّت النظام البحريني فرصة لخرق الاعتصام وفرض سيطرته على الساحة. أطلقت قوات الأمن البحرينية الرصاص أكثر من مرة، وهاجمت بالآليات العسكرية والمدرّعات الساحة، فسقط الشهداء.

إنّ تدوين وتوثيق أحداث معركة ساحة الفداء يُسهمان في حفظ التاريخ الحديث للشعب البحريني بعيداً عن الرواية الرسمية التي يعيد تركيبها النظام الحاكم ويقدمها للإعلام وفقاً لمصالحه. كما أنّ الاهتمام بذاكرة المكان الذي يخضع لتغييرات كثيرة مع الزمن، يفتح المجال أمام دراسات مشابهة، تحمي الشعوب وتاريخها من العبث به.


*باحثة في التاريخ الشفهي الفلسطيني وأستاذة جامعية

رابط المقال الأصلي

لتحميل المقال بصيغة PDF

«مركز أوال» يوثّق ذاكرة «الدرّاز»: يوميات الغضب والفِداء

عبدالرحمن جاسم

لا يعرف كثيرون خارج البحرين، عن الوضع الحقيقي الذي مرّت ولا تزال تمرُّ به تلك البلاد الوادعة، الجالسة على كتف الخليج. يأتي كتاب «حماة الباب الأخير: شهادات من ساحة الفداء بالدرّاز» (مركز أوال للدراسات والتوثيق)؛ واحداً من تلك الأصوات القوية التي تروي ما حدث في إحدى المواجهات الحاسمة في تاريخ ذلك البلد الصغير. هو صراعٌ بين «شرعية» السلطة الحاكمة المستمدّة من عائلة إقطاعية/ ملكية تحكم بالحديد والنار، وبين معارضة اختارت السلمية كأسلوب مواجهة، على غرابة ذلك الاختيار وابتعاده عن طقوس المنطقة وفولكلورها المسلّح.

الحكاية التاريخية هي أنَّه في عام 2016، أعلنت السلطات البحرينية إسقاط الجنسية عن الشيخ عيسى قاسم المرجع الديني، والمفكر الرئيسي للثوار البحارنة، والمرشد لجمعية «الوفاق» البحرينية، المعارض الأبرز والقوي لنظام الملك حمد بن خليفة. يومها، انطلق على مدار عامٍ تقريباً، اعتصامٌ مفتوحٌ في منطقة «الدرّاز» حيث يقطن قاسم. على مدى عامٍ كامل، مارست السلطات البحرينية، جميع أنواع السلوكيات التي تشابه إلى حدٍّ كبير ــ بحسب الكتاب ـــ سلوكيات العدو الصهيوني في التعامل.

إذ يروي الكتاب بالتفصيل كيفية «حصار» الناس، والحواجز العسكرية المسلّحة، وطرق الاعتقال ووحشيتها وقسوتها التي لا تشبه سلوك الشرطة المعتاد، في التعامل مع مواطنيها: «أخرجونا من بيت الشيخ، وأمرونا بالوقوف في مواجهة الحواجز الإسمنتية التي تحيط بالبيت، وبعد وقت أمرونا أن نلتفت إلى الخلف ونقابل «الحوش». وهنا رأينا المشهد الكربلائي: الشهداء والمصابون ملقون على الأرض ودماؤهم تجري. وعلى الرغم من اصطفاف سيارات الإسعاف على طول الشارع، لم يتم إسعاف أحد من الشهداء أو المصابين. وما إن قلت نعم، حتى بدأ بصفعي على وجهي وأسناني وركلي في كل الجهات». تتوالى شهادات المشاركين والمشاهدين وحتى الشهداء في تلك المواجهات. يتناول الكتاب في فصوله الخمسة، خمس جنباتٍ للحدث: المرابطون عند الباب الأخير، المذكرات من ساحة الباب الأخير، الاقتحام الذي حدث، رجال الدين ومواقفهم (وهم بداخل الساحة وفي قلب المواجهة)، وأخيراً شهداء الباب الأخير.

تبرز في العمل الرمزية العالية واستخدام كلمة وفكرة «الباب الأخير» التي توضحها مقدمة الكتاب بلغةٍ عالية: «لماذا الباب الأخير؟ لأنه الرمز الأخير لهذا الوجود الذي انتهكت أبوابه كلها برعونة مستبدّة: باب حريته وباب حقوقه وباب عقيدته. الرمز الديني هو آخر الأبواب التي يقيم – حتى المستبد- لها وزناً ويتجنّب الاصطدام المباشر بها. ظنّ البحرينيون أن السلطات لن تتجرأ على هتك هذا الباب الأخير بما يمثله من رمزية خاصة». المهارة نفسها في استخدام «قوة الرمز» وسحره من خلال العناوين الفرعية في الكتاب. ففي كل فصلٍ، نجد عناوينَ تشدّ القارئ. مثلاً، نجد «الشهيد محمد كاظم زين الدين: رائحة العطر الأخير» أو «محمود عطية: يوميات الحرّ والبرد والمطر والمداهمات والوفاء والذاكرة الثرية»، «الشهيد محمد الساري: وهل أوثق من سبب بينك وبين الله»، أو «الشهيد محمد العكري: أمسك الباب»، الجملة التي تذكّر بجملة hold the door من مسلسل «صراع العروش» الشهير؛ وهذه المهارة تذكّر بـ«صنعة» تقديم صورةٍ متكاملة، مرئية، بصرية، مكتوبة بحرفةٍ عالية.

في عام 2016، أعلنت السلطة إسقاط الجنسية عن الشيخ عيسى قاسم، ما أدّى إلى اعتصام سلمي مفتوح قوبل بالعنف

إحدى نقاط قوّة الكتاب أيضاً، أنه يسجل بدقة ما يرويه الشهود لما حدث يومها، فيصبح القارئ، جزءاً من المواجهة. هناك حرفة التصوير العالية للمشهدية: «خلف مبنى جمعية التوعية الإسلامية، يوجد مدخلٌ بسيطٌ محاصر بأسلاك شائكة وحواجز إسمنتية؛ وقبله بأمتار، وُضعت نقطة أمنية، وبعده بأمتار، تمركزت سيارة أمن، فكان الدخول من خلاله مجازفة، على مستوى السلامة الشخصية لأنه قد يتعرض لجروح أو غيرها، وكذلك على مستوى الوضع الأمني، لأنه قد يتعرض للاعتقال». إذاً هو تصويرٌ متكامل، كما لو أننا أمام شريطٍ سينمائي. هذا النوع من التسجيل قلّما نجده في كتابٍ عربي، إلا في بعض كتاب تسجيل «الذاكرة الشفهية» للشعوب، وهي قليلةُ للأسف. يروي الكتاب في تلك الفصول ما يمكن اعتباره، واحدةً من التجارب الرئيسية للثورة البحرينية، ويقدّم نوعاً من «القراءة» الخاصة ليس لما حدث فحسب، بل أيضاً لطريقة تفكير وسلوك تلك المعارضة «السلمية» لربما الوحيدة في العالم العربي.

طبعاً واحدة من نقاط الانتقاد الرئيسية للكتاب، أنه ليس موجّهاً إلى القارئ العربي عموماً، بل هو نوع من «حفظ الذاكرة» أو «الحوار» الداخلي بين المعارضين البحارنة أنفسهم. مثلاً ليس في مقدمته أي «شرح تفصيلي» لما حدث في تلك المواجهات. صحيحٌ أن هناك ملحقاً في ختام الكتاب يفصّل تقريباً باليوم أحداث تلك السنة، لكنه يبدو موجهاً إلى جمهورٍ معين مرتبط بمحورٍ معين. إذ تجاهل المواقف «العالمية» واكتفى بجانبٍ وإطار محدديْن (كرجال الدين الشيعة المعروفين، أو مواقف محور المقاومة مما يحدث). ضرورة حضور «الملخص التاريخي» رئيسية، خصوصاً لمن لا يعرف تاريخ البحرين الحديث وما يحدث فيه هذه الأيام خارج رواية السلطة البحرينية الحاكمة، وهم كُثر للغاية. كانت مقدمةٌ أولى تشرح البعد التاريخي، السياسي، والجغرافي لما يحدث لتحلّ هذه المشكلة.
في المحصّلة، هو كتابٌ شديد الأهمية لقارئ يريد أن يعرف ما حدث لـ «إحدى أكثر الثورات سلمية في التاريخ المعاصر».


رابط المقال الأصلي

لتحميل المقال بصيغة PDF

تصنيف موضوعي للوثائق البريطانية يقدمه «مركز أوال» في سلسلة من 5 كتب

مرآة البحرين (خاص): سلسلة جديدة من تاريخ البحرين في الوثائق البريطانية يطلقها مركز أوال للدراسات والتوثيق. السلسلة التي جاءت في 5 إصدارات تستعرض موضوعات محددة لمساعدة المهتمين والمراكز البحثية في الوصول للوثائق بشكل أسرع.

وسبق للمركز أن قام بإصدار مجلدات تتضمن ترجمة موسعة للوثائق البريطانية التي تمتد من العام 1820 حتى العام 1942، إلا أنه يرى أن كلفة المجلدات العالية أو عدم القدرة على التعاطي مع الوثائق بسبب تصنيفاتها المتنوعة وشمولها لعدد كبير من الموضوعات المختلفة، قد يعرقل عمل الباحثين والقراء.

وكان المركز قد أطلق أبريل من العام 2019 ستة مجلدات ضخمة يحوي كل منها ما يقارب 500 صفحة، تتضمن مئات الوثائق البريطانية التي تخص الشأن البحريني في مجالات مختلفة.

ويعلّق المركز لموقعنا «من هنا ارتأينا كمركز معنيٍّ بالتوثيق والأرشفة أن نصدر سلسلة أخرى من المشروع نفسه والوثائق نفسها، ولكن مرتبة بشكل آخر، وتكون أصغر من حيث حجم الإصدار وليس من حيث حجم الوثيقة».

وعن المعيار الذي تم على أساسه اختيار تصنيفات الكتب، يوضح المركز أن مجموعة أرشيف البحرين في الوثائق البريطانية الأصلية مصنفة وفق الفترات الزمنية المتعاقبة من العام 1820 حتى العام 1942م، ولم تلحظ بشكل دقيق التصنيف الموضوعي البحت.

ويضيف «عمدنا إلى توزيع الوثائق في هذه السلسلة إلى مجموعة من الموضوعات. فالمعيار الذي اعتمدناه في اختيار تصنيفات هذه الكتب هو الموضوع لا التسلسل الزمني، وذلك من خلال جمع الوثائق التي تندرج ضمن عنوان واحد من المجلدات الستة، وإصدارها في سلسلة مصغرة».

وعما تتضمنه السلسلة يقول المركز «الوثائق الواردة في هذه السلسلة هي وثائق تاريخية خاصة بالبحرين من الأرشيف البريطاني، تتضمن مجموعة من التقارير المطولة، والمراسلات، والبرقيات المصنفة ضمن موضوعات محددة».

وتضم السلسلة الجديدة التي أطلقها المركز بشكل رسمي الجمعة (2 أكتوبر/ تشرين الأول 2020) خمسة كتب، عناوينها ترد على الشكل الآتي: “البحر هو التاريخ”، “هبة اللؤلؤ”، “الإصلاح المذعون”، “ميناء المنامة”، و”مجلس العزل”، وسيعمل المركز على استكمال هذه السلسلة بمزيد من الموضوعات التي تهم الباحثين والقراء، وتفتح الطريق أمامهم للوصول إلى هذه الوثائق.

وعن المنهج الذي اتبعه المركز في ترجمة تلك الوثائق، يقول إنه عمل على ترجمتها من الأرشيف البريطاني ترجمة كاملة من دون أي اجتزاء، أو استنساب، أو تحريف. مضيفا «أما السلسلة الحالية فهي نسخة مصغرة عن المشروع، لذا فإنه من المؤكد أن الوثائق الموجودة في هذه السلسلة هي ترجمة كاملة طبق الأصل عن الوثائق الإنجليزية».

وفي الوقت الذي أكد فيه المركز أنه أضاف ما تحتاجه الوثائق من توضيحات، وتصويبات، وإضافات على شكل هوامش، إلا أنه تعامل مع مضمون الوثيقة بأمانة كاملة.

وعن ما يمكن لكتاب «مجلس العزل» أن يطلع القراء عليه يقول المركز «يتضمن هذا الكتاب الوثائق المتعلقة بعزل حاكم البحرين في ذلك الوقت عيسى بن علي، وتأسيس الدولة الحديثة في العام 1923».

ويضيف يقدم الكتاب مجموعة كبيرة من العرائض المطالبة بالإصلاحات، ونماذج الظلم التي تعرض لها البحرينيون، بالإضافة إلى مذكرات وتقارير شاملة حول الأوضاع السياسية في البحرين في تلك الفترة.

ويتميز هذا الكتاب بأنه يحتوي وثائق تثبت التاريخ الذي ما زال محط خلاف حتى اليوم، وتوضح الكثير من الحقائق المرتبطة بتلك الفترة الزمنية الانتقالية في البحرين.

الرابط الأصلي 

كتيب تعريفي بسلسلة “وثائق البحرين في الأرشيف البريطاني” 

علي الديري يطرح سؤال بريطانيا الكبير العام 1923: من هو البحريني؟

صالح شهاب

رغم كون علي الديري أحد من نالهم انتقام إسقاط الجنسية من السلطات الحاكمة، فإنّه لم يدر فرضيّة كتابه الجديد «من هو البحريني» حول الهويات والأصول، ولا السكّان الأصليين، رغم سهولة تقديم طرح كهذا، ورغم وجود بيئة خصبة لتلقيه وليثير فيها جدلاً لم يهدأ يوماً.

يقوم كتاب «من هو البحريني؟» على فهم الأساس التاريخي الذي ولد منه «البحريني» المعترف به من «الدولة» والقوى الكبرى في العالم، ومعرفة سياقاته امتداداته ومآلاته. سيكون مخاض هذه الولادة، وتجاوزها لعقدة «الاعتراف»، والتوافق التاريخي عليها بين الجماعات السياسية برعاية السلطة البريطانية، المدخل التلقائي لقراءة تاريخ تأسيس الدولة في البحرين؛ الدولة التي شكّلت في وجهها الحديث بعد عزل البريطانيين حاكم البحرين عيسى بن علي في العام 1923، الإطارَ الجامع الذي أمكن أن يولد هذا البحريني تحت قبّته.

سؤال الهوية والوجود

من أنت؟ وماذا لك في هذا البلد؟ وما صفة وجودك فيها؟ ومن يحكمه؟ وإلى أي عدالة يجب أن تخضع؟ حتى العام 1923، وفي ظل ما سمّاه المقيم السياسي البريطاني «نظام اللا حكم»، لم يكن لهذه الأسئلة أي إجابات، فطرحت بريطانيا سؤالها الأساسي الكبير: من هو البحريني؟ قد يكون سؤال مثل هذا غريباً جداً على أي أمّة، حتى لو كانت تحت نير الاستعمار الذي ربما لم يكن يحاول إلا تنظيم أموره ومصالحه فيها، لكنّه، في البحرين، كان واقعاً وحقيقة اعترف بها الكلّ. جماعات كثيرة ومنقسمة، هويّات متعدّدة، طبقات من الشيوخ والأتباع والمسخّرين، والأهم حكم غير منظّم لا يعترف إلا بأتباع الشيخ، ونار تحت الرماد. جعلت هذه الفوضى سؤال «من هو البحريني؟» شائكاً ومعقّداً ومركّباً على سلطة استعمارية مثل بريطانيا.
لماذا شكّلت مهمّة تعريف البحريني أوّل أساسات الدولة الحديثة وأسئلتها؟ وكيف كان شكل الدولة ومستقبلها بحسب ما رسمه البريطانيون؟ إلى أين انتهى هذا التعريف حينئذ؟ وماذا تمخّض عنه من تحوّل تاريخي كبير؟ ولماذا تملي علينا اللحظة التي نعيشها اليوم، وهي لحظة يوشك فيها مفهوم البحريني أن يفقد معناه الوجودي والتاريخي، أن نعرف كلّ ذلك؟
لماذا كانت تلك الدولة قبل مائة عام أكثر حداثةً وتقدّماً من شكل الدولة اليوم؟ و«لماذا بات يسهل اليوم كسر المواطَنة البحرينية؟»، أين تلك الدولة التي أسّس لها البريطانيون بالقوّة والهيمنة؟ وأين ذهبت وعودها والخط التاريخي المرسوم لها في وثائقهم كنموذج للخليج؟ كيف نظّر البريطانيون لأطروحة المملكة الدستورية منذ نهاية العشرينيات؟ وكيف تم القضاء على هذه الأحلام حين كانت «رغبة المُلك أكبر من رغبة المملكة»؟ كما يقول الكاتب.

قراءة في التاريخ البحرينيّ

تقوم فرضيّة الكتاب على أن مشكلة البحرين التاريخية التي بلغت حد عدم «الاعتراف» بالبحريني، هي أن الدولة لم «تستقلّ» بشخصيتها عن شخص الحاكم، و«ظلَّ هذا الحاكم يقاوم استقلال الدولة، ورفض جميع محاولات إصلاح الدولة من 1904 حتى تمّ عزله في 1923، وأراد أن يكون شخصه الطرف المهيمن في كل شيء». يقدّم الديري قراءة روائية لأحداث الربع الأول من القرن العشرين، ويعيد سردها بشكل ممتع، معتمداً في الأساس على روايات تاريخية تخرج إلى النور للمرة الأولى عن أرشيف الوثائق البريطانية. كان البريطانيون يسجّلون كل شيء، بما فيه حركة عصا الشيخ وفداويته.
فضلاً عن الأرشيف، يعضد الكتاب روايته المتماسكة بكتابين لمؤرّخين عاصرا تلك المرحلة، وكان لأحدهما دور فيها، وهما: ناصر الخيري، صاحب كتاب «قلائد النحرين في تاريخ البحرين»، ومحمد علي التاجر صاحب كتاب «عقد اللآل في تاريخ أوال».
إنَّ الخوض في مواضيع الكتاب لن يكفّ عن إذهال القارئ الذي سيظل يتساءل عن العلاقة بين كل هذه المواضيع وسؤال الكتاب، وهو ما يفكّك الصورة الغريبة التي انعطف بها تاريخ البحرين الحديث في العام 1923، فكيف انبثق كل ما بُني في العشرينات من هذا السؤال تحديداً؟ وكيف تحوّل هذا السؤال إلى سؤال السياسة والجغرافيا والحكم؟
«لم يكن مطروحاً على هؤلاء الذين يعيشون على أرض البحرين فعلاً سؤال «من هو البحريني؟»… في تلك الفترة، لم يكن هناك قانون، ولو كان شكلياً… كان هناك نظام سخرة، تمايزات بين من ينتمي إلى قبيلة وبين من لا ينتمي إلى قبيلة، تمايزات بين من ينتمي إلى جنسية أجنبية وبين المحلي».
مستغلّةً تململ السلطات البريطانية من طريقة إدارة حاكم البلاد، ومحاولاتها السيطرة على الأوضاع والحفاظ على مصالحها، بعد حوادث العام 1904، «خاضت القوى الاجتماعية صراعات ليكون هناك قانون، ولتنشأ عدالة، ولكي يتم الاعتراف بأبناء الوطن بشراً متساوين».
لم يكن هناك حراك واحد تمخّضت عنه نتيجة واحدة. كانت أحداث مركّبة جداً امتدت لأكثر من 30 عاماً وتقاطعت فيها العديد من الظروف. خلال ذلك الوقت، تحرك البريطانيون على أكثر من صعيد، بل وأصدر التاج البريطاني بنفسه مرسوماً مفصلاً خاصاً بالبحرين: مرسوم البحرين الملكي 1913.
حاول البريطانيون عمل الكثير لتنظيم الفوضى في البلاد وضمان الاستمرار من الاستفادة من موقعها ومواردها، بما فيها القوى العاملة فيها، لكنهم اصطدموا بعناد وتصلّف لا يُحتمل من عيسى بن علي. «عارض الحاكم مشروع إنشاء البلدية، وتأسيس المحاكم المدنية، ورفض العرائض الشعبية ومشاريع الإصلاح السياسي. وجدها خلعاً لعظمة شخصه، وتنصيباً لعظمة شخصية اعتبارية (مجلس، مؤسسة، شعب، دولة)». انتهى الأمر بعزل الحاكم عيسى بن علي، وانتهت مهمّة تعريف البحريني إلى صيغ قانونية ومجالس بلدية ومجالس عرفية وإدارات بيروقراطية، شكّلت أول أساسات الدولة الحديثة، وكان ذلك بخطة واضحة قرأ تفاصيلها المقيم السياسي البريطاني بنفسه في خطاب العزل.
هكذا، يقول الكتاب، وُلد تعريف البحريني، ماراً بتأسيس بلديات ومجالس وإدارات، وسنّ قوانين، وتغييرات في هرم السلطة من رأسها إلى عقبها، فضلاً عن إعادة تأسيس النظام القضائي وسلطات الأمن، وما وازى ذلك من إصلاح للنظام الاقتصادي، على رأسه مسح الأراضي، والسيطرة على السوق والميناء والجمارك، وتنظيم بيت الحكم السياسي.

الوثائق البريطانية: مصدر الرواية

يتزامن صدور كتاب «من هو البحريني؟» مع صدور المجلدات الستّ الأولى من الترجمة العربية لسجلّ البحرين في أرشيف الوثائق البريطانية التي كانت مصدر الكتاب وروايته، بحكم اطّلاع المؤلّف عليها قبل صدورها. «لقد جرى تغييب هذا الأرشيف من التاريخ الوطني، وما زالت هذه الوثائق محظورة، وهي عرضة للاجتزاء والتوظيف المغلوط والتزوير، وما كان لهذه الدراسة أن تكون لولا أن توافر لها لأول مرة ترجمة كاملة لهذه الوثائق عبر مشروع مركز أوال للدراسات والتوثيق».
لقد جعل الأرشيف، بوثائقه التي أمكن الاطلاع عليها مترجمةً للمرة الأولى، من رواية الكتاب فتحاً جديداً في أغوار تاريخ هذه البلاد. هنا، ستُسرد معلومات للمرة الأولى، وستكتمل صورة أحداث وقصص تاريخية معينة كانت حلقاتها مفقودة، وسنسمع رواية التاريخ مقروءة على لسان أُصيب به.

(اسم الكتاب: من هو البحريني؟ بناء الدولة وصراع الجماعات السياسية 1904-1929/ الناشر: مركز أوال للدراسات والتوثيق، لبنان، الطبعة الأولى، 2017/ عدد الصفحات: 372 صفحة)
* باحث وكاتب بحريني

رابط الموضوع 

“من هو البحريني؟” .. علي الديري يُقلّب صفحات الأرشيف البريطاني

يبدو جواب تساؤل الكاتب علي الديري الذي طرحه في كتابه الجديد بديهياً، لولا أن الأمر يتعلق بـ”الهوية”. من هو البحريني؟ لم تكن الإجابة عليه بمقاربة معنية بالأصل والأصالة، إنما ببحث تاريخ الصيغة الدستورية التي نتجت عن المواقع والصراع السياسي في هذا البلد الذي لم يشهد استقراراً كاملاً منذ قرن.

يتساءل الديري: “لماذا يسهل إسقاط الجنسية؟ هل هناك خلل في تاريخ تأسيسها، ليكون سهلاً إسقاطها بهذا العدد الكبير عن مواطنين أصليين؟”. لقد أراد بذلك إعادة “قراءة حكاية تأسيس الدولة الحديثة، وصراعاتها الاجتماعية والسياسية والدينية، فذهب إلى الوثائق البريطانية، وما توافر من كتابات تاريخية محلية”.

يبدو أمر الكتابة أكثر جرأة عندما يلامس الهويات، لكن الديري يرى إمكانية “تشكيل وحدة وطنية صلبة ببناء هوية بحرينية دستورية، من دونها نحن جماعات متحاربة”. بل على النقيض من ذلك يرى الكاتب أن ما يهدد وحدة المجتمع ويعمق انقساماته، ليس فتح ملفات التاريخ بعقل نقدي، بل التوظيف السياسي للتاريخ”.

وفنّد الديري خطاب مي الخليفة (وزيرة الثقافة سابقاً) في كتابها (سبزآباد ورجال الدولة البهية) الذي دافعت فيه عن عيسى بن علي الحاكم الإقطاعي واعتبرته المؤسس الحقيقي للدولة الحديثة.

هاجم الديري بقسوة عهد عيسى بن علي (1869-1923) ورأى في خطاب عزله من قبل البريطانيين “إعلان ولادة للدولة الحديثة وللبحريني المواطن”. فيما يلي حوار شامل حول كتابه (من هو البحريني.. بناء الدولة وصراع الجماعات السياسية 1904-1929).

الميادين نت: أليس جواب (من هو البحريني؟) بديهيّاً؟ لماذا يحتاج إلى كتاب للإجابة عنه؟

الديري: جواب سؤال (من هو البحريني؟) ليس بديهياً، فالهوية ليست معطى فطرياً أو طبيعياً، بل هي نتاج المواقع والصراع السياسي، جميع الشعوب تسأل نفسها سؤال الهوية مع كل تغيير سياسي أو اهتزاز اجتماعي. لدي مثال لنموذجين متضادين، الأول من الولايات المتحدة الأميركية، فقد طرح صامويل هانتنغتون هذا السؤال في كتابه الذي صدر عام 2004 “من نحن؟ التحديات بالنسبة لهوية أميركا الوطنية”، والثاني من إيران فقد أشار أحد الأبحاث إلى أن 40% من أطروحات رسائل الماجستير والدكتوراه في العلوم السياسية في ثماني جامعات في طهران في الفترة (1991-2006) كانت عن الهوية بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.

الميادين نت: أشرت إلى أن سؤال الهوية يطرح مع أي حدث يسبّب تغييراً سياسياً أو اهتزازاً اجتماعياً، ما الحدث الذي قاد إلى طرح سؤال (من هو البحريني)؟

الديري: لقد وقع حدث بسيط في 1904م، اعتدى فداوية(حرس) شيخ من آل خليفة على عمال شركة ألمانية، مع التداعيات صار الحدث كبيراً، وطرح سؤالاً قانونياً مهماً، من أجل حماية عمال الشركات الأجنبية من نظام السخرة، كان السؤال المطروح من هو الأجنبي؟ وهو سؤال استلزم سؤال من هو البحريني؟ تطور الأمر فيما بعد إلى وضع صيغ قانونية تحدد البحريني والأجنبي، وتحدد القضاء الذي يخضع له الطرفان.

الميادين نت: توقعنا أنك أنهيت موضوع إسقاط جنسيتك في كتابك (بلا هوية) وإذا بك تفاجئنا بعنوان كتابك الجديد الذي وضعته في صيغة سؤال يقع في صميم الموضوع نفسه (من هو البحريني؟). ما العلاقة بين الكتابين؟

الديري: كنت في كتابي (بلا هوية) معنياً بتجربة إسقاط الجنسية في الحاضر، وفي كتابي (من هو البحريني؟) أنا معني بتاريخ تأسيس الجنسية في الماضي. في الكتاب الأول سردت تجربتي الشخصية، وانطلقت من تعريف الهوية باعتبارياتها: انتماء وأرض وثقافة وتاريخ وأجداد. في الكتاب الثاني كنت أتساءل لماذا يسهل إسقاط الجنسية؟ هل هناك خلل في تاريخ تأسيسها، ليكون سهلاً إسقاطها بهذا العدد الكبير عن مواطنين أصليين؟ أردت أن أعيد قراءة حكاية تأسيس الدولة الحديثة، وصراعاتها الاجتماعية والسياسية والدينية، فذهبت إلى الوثائق البريطانية، وما توافر لدينا من كتابات تاريخية محلية.

الميادين نت: لماذا لم تستند إلى الذاكرة والتاريخ والانتماء وغيرها من الأمور كمحددات أساسية لهوية البحريني، واستندت إلى تعريف قانوني؟

الديري: فعلاً مقاربتي لهوية البحريني في هذا الكتاب، ليست معنية بالأصل والأصالة والولاء والثقافة، أنا معني في هذا الكتاب، بالصيغة القانونية الدستورية، وكيف أصبح لدينا قانون يعرّفنا كبحرينيين ويمنحنا جوازت في عام 1929. أدرس الأحداث الاجتماعية والسياسية والصراعات التي قادت إلى صناعة ملامح المواطنة الدستورية. أريد أن أعرف كيف تحول البحريني من أن يكون عرضة للسخرة، يخطفه “الفداوية” ويجبرونه على العمل في مزرعة الشيخ من غير احترام ولا كرامة ولا حق،  إلى أن يكون لهذا البحريني هوية قانونية، تمكّنه أن يرفع قضية في المحكمة ضد من ينتهك حقه وكرامته؟ وكيف رجع به الأمر اليوم ليكون عرضة للانتهاك وإسقاط الهوية؟

الميادين نت: لكن التعريف القانوني مكتوب على ورق، ولا يُعطي المفهوم الحقيقي للهوية؟

الديري: التعريف القانوني ليس مكتوباً على ورق كما تقولين، بل هو مكتوب بالدم، فالقانون وُضع بعد صراع مرير راح ضحيته مناضلون وشهداء. إنه خلاصة تجربة النضال من أجل الاعتراف، وأنا أستعرض في كتابي سياقه التاريخي، لذلك فالصياغة القانونية تحمل وجهاً تاريخياً ونضالياً. لقد جرت صراعات اجتماعية وسياسية مريرة لصياغة هوية قانونية للبحريني. نحتاج اليوم إلى مراجعة تاريخ هذه الصراعات، لنعرف الخلل الذي يجعل هوية البحريني القانونية سهل كسرها بالإسقاط والحرمان والتلاعب والتجنيس والامتهان، حتى غدت الجنسية البحرينية مثار سخرية وتندر.

الميادين نت: لقد أهديت كتابك إلى ست شخصيات تمثّل السنة والشيعة (ناصر الخيري، أحمد بن خميس، عبدالرحمن الباكر، عبد الرحمن النعيمي، إبراهيم شريف، الشيخ علي سلمان)… هل هي محاولة  لتخفيف حدة الانقسام التاريخي الذي تعاني منه الهوية البحرينية؟

الديري: إنها شخصيات وطنية، ناضلت من أجل بناء هوية للبحريني تعترف بحقه السياسي في مواطنة تحترم إرادته وخياراته. لم تُجامل هذه الشخصيات الوضع السياسي ولا العائلة الحاكمة، وتركت لنا خطابات حقوقية، ونضالات وطنية تمثّل تراثاً يستحق أن يُدرّس للأجيال.

الميادين نت: تتحدث بلغة جامعة… لكن ألم تكن تخشى وأنت تقلب تاريخ الصراع العرقي والطائفي، أن يشكّل بحثك عاملًا للانقسام لا عاملًا للجمع، خصوصاً وأن كتابك معني بتحديد هوية البحريني؟

الديري: يمكننا أن نشكّل وحدة وطنية صلبة ببناء هوية بحرينية دستورية، من دونها نحن جماعات متحاربة. هذا ما حدث في بداية العشرينيات من القرن العشرين، عرائض سياسية متضاربة وجماعات وقوى اجتماعية وعرقية وطائفية متحاربة. بدأنا مع نهاية العشرينيات نبني مواطنة مشتركة بعد أن تمّ تثبيت الإصلاحات السياسية بعزل عيسى بن علي في عام 1923 وبناء إدارات الدولة الحديثة ومراقبة موازنة الدولة وإصلاح القضاء.

ولابد من التذكير أن ما يهدد وحدة المجتمع ويعمق انقساماته، ليس فتح ملفات التاريخ بعقل نقدي، بل التوظيف السياسي للتاريخ توظيفاً لا يحترم الوقائع وسياقاتها وهذا ما حدث مع تاريخ تأسيس البحرين الحديثة في عام 1923. كما فعلت مي الخليفة في كتابها (سبزآباد ورجال الدولة البهية) دافعت عن عيسى بن علي الحاكم الإقطاعي واعتبرته المؤسس الحقيقي للدولة الحديثة.

الميادين نت: تبدي آراءً قاسية وقطعية فيما يتعلق بعهد عيسى بن علي، هل كان عهده معيقاً لولادة مفهوم البحريني الحديث؟

الديري: لقد حكم البحرين لمدة نصف قرن تقريباً، ولولادة البحريني الحديث كان لا بد من تصفية حساب كوارث عهد، دعيني أستحضر مقطعاً من خطاب المقيم السياسي البريطاني نوكس الذي ألقاه في مجلس عزل هذا الحاكم السيء. يخاطب نوكس آل خليفة بكل صراحة: “يا سادة آل خليفة، عند الرجوع إلى الماضي، أخشى أنّه من واجبي تحذيركم أنّ مجرّد وجودكم في الحياة، لا يعني أنه من حقكم العيش على حساب المجتمع، سواءٌ أكان ذلك عبر مخصصات تقتطع من عائدات هذه الجُزُر أو عبر استغلال الفقراء والمساكين. إنّ المثل القائل: “من لا يعمل، لا يأكل” هو شعارُ جيد، والأفضل لكم تطبيقه على حالتكم”.

هذا الخطاب غير مسبوق. فلأول مرة يقول أحدهم لآل خليفة عليكم أن تعملوا، ومن لا يعمل لا يأكل. يقول نوكس لآل خليفة إن الاستغلال البشع الذي كنتم تعملون به في عهد عيسى بن علي عبر نظام السخرة، وسرقة أراضي الآخرين وأموالهم، وفرض ضرائب ظالمة عليهم دون وجه حق، لم يعد مسموحاً به. إن هذا الزمن قد انتهى، وعليكم أن تعملوا لتكسبوا.

 الميادين نت: هل بإمكاننا القول إن خطاب المقيم السياسي في مجلس عزل عيسى بن علي، بمثابة إعلان ولادة للدولة الحديثة؟

الديري: نعم، بكل تأكيد، بالإضافة إلى كون هذا الخطاب فاصلاً في التاريخ السياسي للبحرين، ومؤسساً لمرحلة فارقة، فقد شمل اعترافاً بجميع مكوّنات المجتمع، وورد فيه لأول مرة مبدأ المواطنة المتساوية، والضرائب على الجميع، والقضاء العادل، والتحول إلى حكومة مركزية تصدر عنها القرارات السياسية والاقتصادية. إنه إعلان ولادة بكل تأكيد للدولة الحديثة وللبحريني المواطن.

الميادين نت: تنظر بإيجابية إلى هذا الخطاب وإلى مشروع الإصلاحات البريطانية، ألا تخشى أن تتهم بالتصفيق للاستعمار؟

الديري: وأنا أعمل في هذا الكتاب، إنتابني خوف من أن أُواجَه بخطاب من يصفون على نحو الإطلاق كل ما يقوم به المستعمر بالشر ويُمعنون في الإدانة والتخوين ضد كل ما يتصل ومن يتصل بمشاريعه أو يتقاطع معها أو يحاول مقاربتها على نحو مختلف. وهنا لا بد أن أذكر أني وجدت في كلام الباحث التاريخي أحمد العبيدلي ما يخفف من هذا الخوف، فقد كان ينتقد القوى الوطنية التي لم ترَ في العلاقة مع الوجود البريطاني غير صفة المستعمر على نحو مطلق.

 الميادين نت: وهل يمكن أن تتعارض مصالح بريطانيا مع حكام المشيخات، وتتفق مع مصالح المجتمع؟

الديري: خاطبتْ بريطانيا حكام الخليج في العام 1903 بهذا الشعار “تجارتنا وسلامتكم”. سلامة حكم المشيخات وتجارة بريطانيا، تطلبا فرض الإصلاحات البريطانية في العشرينيات. لم تكن هذه الإصلاحات تتعارض مع مصالح هذه المجتمعات، وتأسيس البلديات والمحاكم الحديثة وتسجيل الأراضي وإيقاف نظام السخرة، كان يتعارض مع مصالح الحاكم عيسى بن علي وتفرده المطلق بالحكم. تضررت مصالح التجار في ذلك الوقت ورجال القبائل بالإصلاحات، لذلك وقفوا  ضدها في البداية، كما تتعارض اليوم مع مطالب الإصلاح السياسي.

الميادين نت: لقد أفردت فصلاً كاملاً لمرسوم البحرين الملكي لعام 1913 الذي تعتقد أن مشروع الإصلاحات في العشرينيات إنبنى عليه خصوصاً ما يتعلق بشؤون القضاء. ما أهمية هذا المرسوم؟

الديري: لن أبالغ إذا قلت إن البحرينيين لا يعرفون هذا المرسوم، ولا يعرفون كيف تأسست البحرين الحديثة عليه. التاريخ الرسمي يكذب علينا حين يعتبر أن عيسى بن علي هو من بنى الدولة الحديثة في البحرين، لقد تأسست البحرين الحديثة على هذا المرسوم الذي أصدره الملك جورج. لنأخذ قانون بلدية المنامة، لقد صدر في عام 1921 مؤسساً على المادة 70 من هذا المرسوم الصادر عن ملك بريطانيا والمفروض بالقوة على نظام الإقطاع، ومن هذا المرسوم تأسست المحاكم والقضاء الحديث. بفضل هذا المرسوم صار البحراني والقبلي والفارسي والنجدي يقفون أمام محكمة واحدة وقانون واحد. لقد أنهى هذا المرسوم تركة القاضي الشيخ قاسم بن مهزع المفتقد للعدالة التي تساوي بين مختلف الناس، فقد كان قاضي العائلة الحاكمة، وهو من بقايا تركت الحكم الإقطاعي لعهد عيسى بن علي، سيبدو كلامي صادماً وجارحاً، أعرف ذلك، فالأمر يحتاج إلى جرأة في قراءة تأسيس تاريخ البحرين الحديث، والتمجيد لن يتيح لنا أن نقرأ تاريخنا قراءة نقدية.

الميادين نت: تطرقت إلى تأسيس البلديات وتنظيم الجمارك وغيرها من مؤسسات الدولة الحديثة… فما علاقة ذلك بالإجابة على سؤال من هو البحريني؟

الديري: أنا معني في هذا الكتاب بتعريف الدولة للبحريني واعترافها به، والدولة مجموعة مؤسسات حين تتطور يتطور مفهومها للمواطنة، بمعنى أن البحريني من غير مؤسسات إدراية هو مجرد سخرة غير معترف بها، ولا حقوق لها ولا هوية قانونية. وهو كذلك حين تفقد هذه المؤسسات قوتها الدستورية وتتحول إلى شكل كما هو الأمر الآن. تأسيس البلدية، فرض على الأجنبي والبحريني دفع ضريبة، وأعطاه حق مساءلة الدولة: ماذا قدمتِ  لي أيتها الدولة في مقابل الضريبة التي دفعتها لك؟. هكذا أصبح للبحريني بلدية، وأصبحت له سلطة مراقبة، وصار يُعرّف كمواطن عليه واجبات وله حقوق.

تنظيم الجمارك وإصلاح ميناء المنامة، سحب من الحاكم عيسى بن علي ملف فساد مالية الدولة، فقد ترك للهنود (البانيان) منذ نهاية القرن

التاسع عشر إلى قُبيل عزله أن يلعبوا بهذا المورد الخطير في مقابل السُلف التي كانوا يعطونها له، ليصرفها ببذخ على ملذاته وأهله من غير رشد. كما أن هذا الإصلاح كسر فساد مدير الجمارك والتجار، الأمر الذي أمد خزانة الدولة بمداخيل جديدة كانت تذهب هدراً، وهذا الأمر ساهم فيما بعد في بناء مدارس للتعليم والتربية، فأصبح البحريني هو الذي يقرأ ويكتب ويعرف ويحمل شهادة تعليمية.

الميادين نت: بدأ تبلور تعريف البحريني انطلاقًا من تعريف الأجنبي (غير البحريني)، ثم تدحرج ليصف البحريني في نهاية المطاف. من هو البحريني اليوم برأيك، بغض النظر عن أي تعريفات قانونية أو عرفية أو غيرها؟

الديري: كتبت لأحد الأصدقاء إهداء على الصفحة الأولى من كتابي (بلا هوية): “لا ينتسب الإنسان إلى وطن لا شهداء له تحت ترابه .. يجدد الشهداء بناء الأوطان، ويُجذّرون هويتنا في تربانها”. لقد كسر البحريني بنضاله نظام السخرة، وأسقط نظام عيسى بن علي الإقطاعي، ورفع عرائض قادت في النهاية إلى عزله وبناء مؤسسات الدولة الحديثة التي دخل الجميع تحت مظلتها وقبلوا بها وتوافقوا عليها. لقد قدّم هذا البحريني العابر للطائفة والقبيلة شهداء طوال تاريخه، وخرج منه منفيون في الخمسينيات، وأنشأ أحزاباً عابرة للطوائف، وحركات سياسية بتوجهات مختلفة، وقاد حراكاً عمالياً في الستينيات، وكتب دستوراً عقدياً وشكّل برلماناً منتخباً في السبعينيات، وقاد انتفاضة طوال عقد التسعينيات، وقام بثورة لا مثيل لها في تاريخ الخليج في عام 2011. هذا هو البحريني، شخص ينشد الحرية، ويوسّع مجالها العام بسلميته، ويغذي أرضها بدماء شهدائه، ويظل يحلم بوطن حر ومواطنة تحفظ كرامته.

الميادين نت: يُقال إن التاريخ يعيد نفسه، إلى أي مدى تعتقد أن البحرين منذ عام 2011 تعيد ما جرى في العشرينيات؟

الديري: التاريخ البحريني يعيد نفسه في صورة مأساة. مع الأسف، البحرينيون لم يقرأوا ما حدث في العشرينيات، ليدركوا حجم مأساتهم، مسرح الأحداث متشابه إلى حد التطابق، جوهر المطالب الإصلاحية في العشرينيات هو نفسه جوهر مطالب عام 2011. الموالون للسلطة من تجار وقبائل ورجال دين لعبوا الدور نفسه في رفض الإصلاحات خوفاً على مصالحهم، التحجج بالتدخلات الخارجية هو نفسه، موقف السعودية الرافض للإصلاحات هو نفسه، الانقسام الطائفي هو ذاته، وكان على مسرح أحداث عام 1923. الجماعات التي مارست دور (البلطجة) في عام 2011 ضد مؤيدي الإصلاحات، وقد أطلق عليهم المؤرخ محمد علي التاجر (جمعية الإرهاب).

لقد تبلورت صيغة المواطنة البحرينية من خلال أحداث هذا التاريخ، وقد أعطت إجابتها على سؤال من هو البحريني؟ وهذا هو موضوع كتابي “من هو البحريني؟”.

رابط الموضوع

جريدة الأخبار: ديفيدسون: انهيار ممالك النفط

صحيح أنّ عرض النسخة الأصلية من أي كتاب أفضل من عرض ترجمته. لكن بما أن صحيفة «الأخبار» نشرت عرضاَ لـ «ما بعد الشيوخ – الانهيار المقبل للمالك الخليجية» في قسمها الإنكليزي الرقمي عندما صدر عام 2013، فمن الضروري عرض النسخة العربية، لكن من دون العودة إلى النسخة الإنكليزية وعقد مقارنة أو البحث عن أخطاء محتملة.

الكاتب، أستاذ العلوم السياسية في «جامعة درهام» البريطانية عاش سنوات في إمارة رأس الخيمة، الفقيرة مقارنة بالإمارات الأخرى التي تشكل دولة الإمارات العربية المتحدة. وقد اشتهر ديفيدسون عالمياً بعدما ثبتت صحة توقعه انهيار دبي المالي (الفقاعة) عام 2009.

في هذا المؤلف، يؤكد الكاتب أن دول الخليج العربي، العضو في مجلس التعاون ستنهار في غضون سنتين إلى خمس سنوات. هو لم يقصد اختفاءها وإنما انهيار شكل الحكم فيها، العشيري المطلق، وحل مكانها نظم ديمقراطية على الطراز الغربي. حسناً، ها قد مرت سنتان، وعلى من يود مناقشة صحة هذا التنبؤ انتظار عام 2017.

تنبؤ ديفيدسون قائم على حسمه بأن النفط والغاز، اللذين يشكلان عصب الاقتصاد في تلك الدول، سينضبان ما يقود بالتالي إلى عدم تمكن الحكومات المعنية من رشوة مواطنيها كي يقبلوا بالنظم السياسية القائمة التي تعود إلى ما قبل التاريخ – دوماً بحسب الكاتب، وسيفرضون واقعاً جديداً يمكن كل مواطن من المشاركة في حكم البلاد وتقرير مصير ثرواتها، أو ما قد يتبقى منها بالأحرى. لكن المشاكل الأخرى التي تواجه تلك البلاد، ومنها، على سبيل المثال، البطالة بين الشباب، ستسهم في سقوط تلك الأنظمة التي ستصاب بعدوى الربيع العربي.

ثبتت صحة توقع الكاتب بانهيار
دبي المالي
عام 2009

بصرف النظر عن مدى صحة تنبؤ الكاتب بمآل دول الخليج، والأفقر منها في المقام الأول، فإن عمله هذا ثروة حقيقية لمن يبحث في بنية المجتمعات في تلك الدول والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية. هنا يظهر تألق الكاتب العلمي، لكن من دون الاختلاف معه في وصفه طبيعة الأنظمة الخليجية.

التنبؤات بقرب سقوط الدول الخليجية، قديمة بقدم تلك الدول. تلك التنبؤات لم تأخذ في الاعتبار مقدرة حكامها على تحويل العلاقات والتقاليد الاجتماعية إلى مؤسسات، واستفادتهم من الثروات الوطنية لتمكين حكمهم المطلق، مع تأكيد تباين درجات القمع، أو الحريات، بين دولة وأخرى. الحريات المتوافرة في الكويت تعتبر ثورية بمقياس الخليج، والتباين السكاني المذهبي لم يسقط حكومة البحرين حيث قامت السعودية بغزوها دعماً لحكامها. كما وجب عدم نسيان دور واشنطن واستخباراتها في المحافظة على تلك الأنظمة. التغير سيحدث، شاء من شاء وأبى من أبى، لكن من دون الغوص في تحديد تواريخ. اللجوء إلى السلاح لحل مشاكل تلك الدول سيسرع حتماً في انهيارها، مع تمنياتنا أن تتمكن شعوبها من الانتقال سلمياً إلى نماذج حكم حداثية.

رابط الموضوع

مركز “أوال”يترجم كتاب “ما بعد الشيوخ”

مرآة البحرين (خاص): أعلن مركز “أوال” للدراسات والتوثيق، عن تدشين النسخة العربية من كتاب “ما بعد الشيوخ: الانهيار المقبل للممالك الخليجية”، للبروفيسور “كريستوفر ديفيدسون”، أستاذ التاريخ والعلوم السياسية والعلاقات الدولية، المتخصص في دراسات الشرق الأوسط بجامعة درهام بالمملكة المتحدة.

وكان ديفيدسون قد أعلن هو أيضا، من على حسابه في تويتر، عن صدور النسخة العربية من كتابه، عن مركز “أوال” للدراسات والتوثيق. وقال في مقدّمة الكتاب إنه يصادق على هذه الترجمة الرسمية آملا أن تساعد في إيصال أفكار الكتاب إلى شريحة أكبر وأكثر نقدًا من القراء.

ويدشّن الكتاب في جناح المركز بمعرض بيروت الدولي للكتاب، غدا الثلاثاء 2 ديسمبر/كانون الثاني، الساعة السادسة والنصف عصرا.

ما بعد الشيوخ

وأثار كتاب “ما بعد الشيوخ”الذي صدر لأول مرة في العام 2012 جدلا واسعا حين توقّع انهيار الممالك الخليجية قريبا، وهو أول بحث أكاديمي معتبر يخرج بهذه التوقع المثير. وقد صدرت طبعته الأولى عن مطبعة “هيرست” ومن ثم مطبعة جامعة “أكسفورد”.

وقد صنّف الكتاب على رأس قائمة مجلة “فورين بوليسي” لأفضل 20 كتابا عن الشرق الأوسط في العام 2012. كما كتبت عنه الكثير من المراجعات والمقالات في الصحف الدولية والعربية، مثل صحيفة “الإيكونومست”، وصحيفة “الإندبندنت”، و “الغارديان”، كما اقتُبِسَت بعض أقسام الكتاب ونشرتها مجلتا “فورين أفيرز”، و “فورين بوليسي”. وقد صدرت نسخة باللغة الفارسية عن الكتاب في وقت سابق من هذا العام.

وتصدّى لترجمة النسخة العربية من الكتاب الشهير، مركز “أوال” للدراسات والتوثيق، وهو مركز دراسات بحريني مقره لندن- بيروت، ويعنى بقضايا البحرين والخليج.

وبعد تأليفه هذا الكتاب العام الماضي، بات ديفيدسون مؤلفا معروفا في العالم العربي، كما طلبت تعليقاته وتصريحاته من وكالات الأنباء ووسائل الإعلام في العديد من التقارير الإخبارية التي تخص التطورات السياسية في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج تحديدا.

وديفيدسون، خبير سياسي وتاريخي واقتصادي في شؤون دول الخليج، كان قد توقع في مقال له الكارثة الاقتصادية التي حلت بدبي في عام 2009 قبل حدوثها بأشهر قليلة.

وقد نشرت “مرآة البحرين” مقالين لديفيدسون في سياق الكتاب ذاته، أحدهما كتبه في صحيفة نيويورك تايمز، والآخر في صحيفة فورين بوليسي.

ما بعد الشيوخ: انهيار هذه الممالك سيحدث كما كان يحدث دائما

ويقول ديفيدسون، في كتابه إنه “برغم نشر الكثير من النعي للممالك التقليدية (الخليجية) إلا أن تلك الأنظمة القروسطية المطلقة لا تزال تشكل المعضلة السابقة نفسها، حيث تبدو، للوهلة الأولى، وكأنها المعاقل الحقيقية الوحيدة للاستقرار في الشرق الأوسط”، متوقعاً أن “انهيار هذه الممالك سوف يحدث كما كان يحدث دائم”.

ما بعد الشيوخ

ويضيف ديفيدسون أنه “في حين أن الحركات الثورية في شمال وفريقيا وسوريا، ستعمل ـ من دون شك ـ كمحفز هام وغير مباشر للزلزال المقبل، فإن العديد من الضغوط الاجتماعية / الاقتصادية نفسها التي سببت الثورات في الجمهوريات العربية، أصبحت الآن موجودة في ممالك الخليج”، موضحا أن “الأمر ببساطة لم يعد مسألة: (هل) ولكن (متى) ستنهار تلك الممالك الحليفة بقوة للغرب”.

ديفيدسون في مقدمة النسخة العربية: نقاشاتي في 2013 أثبتت اليوم صحتها

وفي مقدّمة الكتاب، التي حصلت عليها “مرآة البحرين”، قال ديفيدسون إنه “مما لا شك فيه أن الكثير قد تغير منذ نشر الإصدار الأول للكتاب، في ظل الاضطرابات غير المسبوقة التي ما زالت تواجهها منطقة الخليج، والعالم العربي في أعقاب ثورات الربيع العربي في العام 2011”.

وأوضح أنه “على الرغم من أن الهدف من كتاب “ما بعد الشيوخ” لم يكن يومًا التنبؤ بكرة بلورية، إلا أنني مدرك تمامًا أن الكثير من النقاشات التي طرحتها في بداية العام 2013، أثبتت اليوم صحتها للأسف”.

وقال إن المحاولات التي قامت بها هذه الأنظمة لــ “احتواء” النسخة الخليجية من الربيع العربي اليوم بشكل ملحوظ، أدت إلى اعتماد سياسات قمعية هائلة، وغير مسبوقة، مع انتشار الاعتقالات السياسية في المملكة العربية السعودية، والبحرين، والكويت، وحتى في الإمارات العربية المتحدة.

وقال ديفيديسون إنه يمكن اليوم، لأي تغريدة ناقدة “أن ترمي مواطنًا خليجيًّا شابًا خلف القضبان. وقريبًا، سيكون لنشوء “الدول البوليسية” في الخليج، في فترة التحديث السريع، وتكنولوجيات الاتصالات القوية الجديدة، نتائج خطرة على العقود الاجتماعية وصيغ الشرعية للحكام المتعددين”.

مردفا “ويمكن أن تكون استراتيجية “تشويه سمعة” المعارضة، التي ناقشناها في “كتاب ما بعد الشيوخ”، هي الأكثر خطورة، فهي تتفاقم حتى تكاد تخرج عن السيطرة، في ظل تحريض كل من البحرين، والمملكة العربية السعودية، بشكل فاعل، على النزاع الطائفي”.

وعلى الصعيد الاقتصادي قال ديفيدسون إنه “قريبًا جدًا، ربما في الأشهر القليلة القادمة، سنرى أن الكثير من الممالك الخليجية ستضطر إلى خفض المعونات وغيرها من عمليات نقل الثروات إلى مواطنيها – وهو حدث هام سيكون له تأثير عميق ونهائي، على الأغلب، في شرعية الممالك الخليجية وشعبيتها”.

رابط الموضوع

علي الديري: “أخطر حتى من داعش” رحلة مثيرة في نصوص متوحشة

جريدة الجريدة: فكرتان رائجتان اليوم حول نشأة تنظيم «داعش» الإرهابي. «إنه رد على تحديات عصرنا». هذه واحدة من الأفكار التي يدافع عنها أحد أبرز الفلاسفة السياسيين إثارة للجدل في عصرنا فرانسيس فوكوياما. لكن ماذا لو أنها لم تكن كذلك، وكانت «داعش» على العكس تماماً فكرة عميقة الجذور وأبعد زماناً من زماننا بكثير. على الأقل، هذا ما يدافع عنه الناقد د. علي الديري الذي انتهى حديثاً من رحلة بحث غاص فيها في عشرات بل مئات الوثائق والمصنفات التي تمثل ما يمكن اعتبارها نصوصاً مؤسسة للفكر الإرهابي. إنها «النصوص المتوحشة» أو نصوص التوحش التي تستند إليها حركات التطرف كافة في تأصيل فكرها ومنهجها الدمويّ. وهي نفسها عنوان الكتاب الذي دوّن فيه خلاصات هذه الرحلة البحثية الشاقّة والصادر حديثاً (2015) عن مركز أوال للدراسات والتوثيق «نصوص متوحشة… التكفير من سنة السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية». وحول ذلك يقول الديري: «ذهبت إلى النصوص المؤسسة، قاربت نصوص التكفير؛ كنصوص سياسية لا فقهية».

حاول الديري تتبع جذور «داعش» ليس من الآن؛ إنما انطلاقاً من نصوص التكفير في القرن الخامس الهجري (الغزاليّ) مروراً بالقرن السادس الهجري (ابن تومرت) وانتهاء بالقرن الثامن الهجري؛ حيث بلغ التكفير أوج قوّته مع إسلام ابن تيمية. ويجادل بأن هذه النصوص «هي التي تغذي التكفير الذي يستخدمه داعش اليوم وأخواته»، موضحاً «بضغطة زر في يوتيوب يمكنك أن تعثر على دروس  تركي البنعلي وهو يشرح هذه النصوص منذ أن كان في البحرين».

للمزيد حول ذلك التقينا الناقد علي الديري للحوار حول مؤلفه الجديد.

نصوص متوحشة”.. وأفعال كارثية مدمرة، رأينا نتائجها في الوطن العربي، وها هي تفجع المملكة العربية السعودية والكويت وتهدد الدول المجاورة، ما الذي يحدث؟”

في الوقفة الاحتجاجية على الفيلم المسيء للنبي، أمام السفارة الأميركية بالبحرين في 2012، وقف منظر داعش الشرعي تركي البنعلي محاطاً بأعلام القاعدة وتكبيرات الجمهور، وهو يرفع كتاب ابن تيمية (الصارم المسلول على شاتم الرسول): (عليكم أن تأخذوا إسلامكم من الإمام الجبل الجهبذ شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث صنف هذا الكتاب لما تجرأ عساف النصراني على شتم الرسول).

هذا الكتاب واحد من نصوص التوحش، التي لا نجرؤ على نقدها، بل هي تحظى بحماية ورعاية وترويج، وتعتبر منهجاً فكرياً مشتركاً لحركات متطرفة ولنظام سياسي له سطوته في السياسة الإقليمية والدولية. تفجيرات مساجد الشيعة في الدمام والقديح والصوابر وقبلها في مأتم الدالوة، كلها تمت من خريجي هذا المنهج وأتباعه. والمثقفون والإعلاميون لا يجرأون على قول هذه الحقيقة، بل هم يغمغمون عليها، فيفاقمون من أمراض التوحش في بيئاتهم.

إنها نصوص منسلخة من الإنسانية، يستدل بها ابن تيمية في كتابه (الصارم المسلول) على القتل البشع الذي يمارسه (داعش) اليوم، كما في استدلاله بقتل الشاعرة الهجاءة عَصْمَاءَ بِنْتَ مَرْوَانَ، برواية موضوعة.

ومن هنا اتخذ كتابك الجديد «نصوص متوحشة» عنواناً، ماذا عن تصدر شعار حركة «داعش» مموهاً، لم اخترت هذا التشكيل عنوانا لكتابك الجديد؟

اللوحة للصديق الفنان التشكيلي البحريني عباس يوسف، نشرها على صفحته في الفيسبوك، مع صعود نجم (داعش) ودخوله الموصل، وجدتها تعبر عن مفهوم (نصوص التوحش) تعبيراً فنياً رائعاً، هي تستخدم شعارهم مقلوباً في إشارة إلى أنهم يقرأون النصوص قراءة مقلوبة، ويفهمون شعار الإسلام فهماً مقلوباً، يفهمون الرحمة توحشاً والتوحيد توحداً بمعنى أنهم وحدهم الذين لا شريك لهم في فهم الإسلام وكل ما عداهم مشركون وكافرون ويجب قتلهم ليبقوا وحدهم. في داخل اللوحة ثمة علامة استفهام، وهي تثير تساؤلاً عن الإله الذي يتكلم باسمه هؤلاء والرسول الذي يدعون أنهم يطبقون رسالته.

في مقابل هذا الفهم الساذج المتوحش لـ (لا إله إلا الله)، ثمة الفهم الصوفي العميق في روحانيته، كما في تجربة جلال الدين الرومي مثلاً وهو يقول “من ذا الذي نجا من (لا) – قل لي؟ -هو العاشق الذي رأى البلاء). يقيم الرومي جدلاً روحياً بين (لا)، و(إلا) في (لا إله إلا الله) لكل منهما مقامها الروحي الذي يفتح قلب الإنسان على الكون وكائناته وإلهه.

قبال تجربة العشق، ثمة تجربة التوحش التي جعلت لشعار (لا إله إلا الله) معنى وحيداً هو (جئناكم بالذبح). وجدت في لوحة عباس يوسف هذا العمق المعبر عن كل ذلك.

تطرف الإسلام السياسي

ركزت على حركة “داعش”، أتجدها وفق هذا العنوان الجماعة الإسلامية الأكثر تطرفاً أم تجدها مثالاً يمكن أن نقرأ من خلاله تطرف الإسلام السياسي، أياً كان مذهبه؟

ينطلق كتابي (نصوص متوحشة… التكفير من سنة السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية) من لحظة داعش الآن، لكنها ليست موضوع الكتاب، فأنا ذهبت إلى النصوص المؤسسة، قاربت نصوص التكفير؛ كنصوص سياسية لافقهية.

حاولت قراءة نصوص التكفير قراءة تاريخية، في ثلاث بيئات سياسية، استخدمتْ التكفير ضد أعدائها: بيئة السلطة السلجوقية (القرن الخامس الهجري}، من خلال نصوص الغزالي، وبيئة سلطة الموحدين (القرن السادس الهجري) من خلال نصوص ابن تومرت، وبيئة سلطة المماليك (القرن الثامن الهجري) من خلال نصوص ابن تيمية.

يتغذى التكفير، الذي يستخدمه داعش اليوم وأخواته، من هذه النصوص. على سبيل المثال تغذي هذه النصوص منظر داعش الشرعي تركي البنعلي، وبضغطة زر يمكنك أن تعثر في اليوتيوب على دروسه وهو يشرح هذه النصوص حين كان في البحرين، والأكيد أن طلابه ما زالوا يواصلون رسالته، وربما أحدهم يعد عدته لتفجير يوم الجمعة المقبل.

بين فكر متشدد تكفيري وفكر يدعو إلى الانفتاح والعقلانية وجدت الصورتان على السواء، ما قضية الأوطان مع الأفكار؟

الوطن هو فعلاً فكرة، فكرة الوطن في زمن الخلافة الإسلامية، ليست هي نفسها فكرة الوطن اليوم بعد أن راح عشرات المفكرين والفلاسفة يصوغون مفاهيم: المواطنة، العقد الاجتماعي، السلطات الثلاث، التعددية، الدستور، وقد دفعوا حياتهم ثمناً لهذه الأفكار.

ما زلنا نصارع لأجل بلورة الوطن واقعاً حقيقياً نعيش فيه، وأعني المعنى المباشر لكلمة صراع الذي يهدف إلى تحقيق اعتراف، اعتراف بي كمكون للوطن، لا كتابع أو ملحق. أفهم وجود صورتي في قائمة واحدة في يناير 2015 مع منظر(داعش) في صحيفة رسمية في وطني، انتقاصاً من مواطنتي وما أنتمي إليه من طيف سياسي واجتماعي وديني.

وكما دفع روسو وفولتير وغيرهما حياتهم ثمناً لبلورة مفاهيم الدولة الحديثة، فعلينا نحن كمثقفين، وكمثقفين خليجيين خصوصاً، أن ندفع حياتنا ثمناً لتحقيق هذه المفاهيم في أوطاننا التي هي شبه أوطان.

أرثوذكسية السلاجقة

 ماذا تعني بعنوان الكتاب الفرعي (التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية)؟

أظن أن التكفير صار سياسة ممنهجة ضمن إدارة الدولة ومصالحها، في القرن الخامس الهجري، حين وصل السلاجقة إلى بغداد 447 هـ/ 1055م وصارت الخلافة العباسية تحت سلطتهم.
هذا لا يعني أن السلاجقة اخترعوا التكفير، أو المعنى الأحادي لمفهوم سنة النبي، فقبل أن يدخلوا إلى بغداد كان ثمة المعتقد القادري الذي هو النموذج الرسمي المقنن للمعتقد الصحيح لسنة النبي، وهو مرسوم أصدره الخليفة العباسي القادر بالله، وفيه يحدد مفهوم الألوهية والصفات والأسماء المثبتة لله، ومفهوم الإيمان والكفر، والاعتقاد الواجب تجاه الله وتجاه الصحابة. وجد السلاجقة مهمتهم في الدفاع عن الإسلام والسنة، تتمثَّل في تبني هذا الاعتقاد والدفاع عنه، كان هذا المعتقد يُخرج ويقرأ على الناس في المشاهد والمجامع العامة، وفي المساجد والجوامع، وعند حدوث الاضطرابات والنزاعات العقدية بين الفرق والمذاهب، اعتبر هذا اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فقد فسق وكفر.

 ماذا تعني بالسنة أو الأرثوذكسية السلجوقية؟

يعتبر المفكر الجزائري محمد أركون، أول من أستخدم  مصطلح تفكيك (الأرثوذكسية) في قراءته التراث الإسلامي و(الأرثوذكسية) في معناها الحرفي تشير إلى الطريق المستقيم؛ بما يتقاطع مع مفهوم الفرقة الناجية والسلفية، والطريق المستقيم هو بمثابة السنّة الصحيحة المعتمدة من السلطة السياسية.
احتاج السلاجقة إلى جيش من الفقهاء والقضاة والعلماء والخطباء والمحدثين، لتثبيت مهمتهم الدينية المتمثلة في الدفاع عن السنة الرسمية وتثبيت (الأرثوكسية السنية السلجوقية) وهذه المهمة تعطي لوجودهم شرعية وتعطي لحروبهم ضد أعداء الخلافة العباسية شرعية مضاعفة.
السلاجقة المعروفون بأنهم جماعات قتالية، أخذتهم شهوة الجهاد، وأعطوا لـ(السنة) مفهوماً أحادياً وقطيعاً لا يقبل التعدد والاختلاف، صارت (السنة) أيديولوجيا جهادية، مشبعة.

جريدة الجريدة في حوار عن نصوص متوحشة

رابط الموضوع

كتاب “ما بعد الشيوخ”يثير عاصفة من ردود الأفعال بعد اتهام ضاحي خلفان المعارضة البحرينية بتمويله

مرآة البحرين (خاص): وصف نائب رئيس الشرطة والأمن العام في دبي الفريق ضاحي خلفان تميم كتاب “ما بعد الشيوخ” للبروفيسور البريطاني كريستوفر دافيدسون بأنه “مملوء بالشتم والسباب” متسائلاً عن دور المعارضة البحرينية في تمويله، وهو ما استدعى رداً من المؤلف الذي اعتبر كلام خلفان متأثرا بـ”نظرية المؤامرة”.

وقال خلفان “كتاب ما بعد الشيوخ مملوء بالردح والشتم والسباب والغيرة والحسد. وواضح أنه من الكتب التي حبرها أثمن مما فيها”.

وتابع في حسابه على شبكة التواصل الاجتماعي “تويتر” متسائلاً “هل أسهمت المعارضة البحرينية في تمويل الكتاب؟ مجرد سؤال”.

واكتفى دافيدسون الذي خاطب خلفان باللغة العربية واصفاً إياه بـ”الصديق” بالقول “إنها نظرية المؤامرة يا صديقي”.

وكان مركز “أوال” للدراسات والتوثيق قد دشن في معرض بيروت الدولي للكتاب الماضي 2 ديسمبر/ كانون الثاني 2014 النسخة العربية من كتاب “ما بعد الشيوخ: الانهيار المقبل للممالك الخليجية” للبروفيسور “دافيدسون” المتخصص في دراسات الشرق الأوسط بجامعة درهام بالمملكة المتحدة بعد قيامه بترجمته.

ومركز “أوال” هو مركز دراسات بحريني مقره لندن- بيروت، ويعنى بقضايا البحرين والخليج.

وقد أثار تعليق خلفان عاصفة من ردود الأفعال، فقد عقب مغرد قطري “هل المعارضة البحرينية موحدة حتى نعمم؟ الكتاب مشروع بحثي صادر منذ سنوات وتمت ترجمته للعربية عبر مركز بحثي مستقل”.

وأضاف آخر هازئاً “على اعتبار أن نشر الكتب يحتاج لميزانية دول حتى يتم تمويله. ماهذا التساؤل الغير المنطقي؟”.

وتابع في السياق نفسه “كريس دكتور مرموق وألف دار نشر تتمنى نشر كتبه”، على حد تعبيره.

وعلق مغرد تحت اسم عدنان العولقي “إذا كان مافيه ليس صدقاً لضحكت وابتهجت. ولكن لأن فيه شيئا من الحقيقه انزعجت”.

وكتب آخر قائلاً “بعض التصورات لما ستؤول له المنطقة وسبب نهاية الشيوخ واقعية وحدث أغلبها. تصور خقيقي مبني على مجريات واقعية”.

ولقي كتاب “ما بعد الشيوخ” إقبالاً واسعاً عليه من القراء؛ حيث نفدت جميع نسخه في غضون شهر من تدشينه باللغة العربية، ما أدى إلى تدشين طبعة ثانية له، ومن المتوقع تدشين الطبعة الثالثة له قريباً.

وحظي خلفان بعض التعليقات المؤيدة لرأيه في الكتاب، فقد كتبت مغردة تقول “ما دام الناشر مركز أوال للدراسات والتوثيق فمن غير المستبعد أن يكون التمويل من المعارضة البحرينية أو من إيران أو حتى من أمريكا”.

وأضاف محمد الرمضان “سلاحهم (المعارضة البحرينية) الإعلام ومؤلف الكتاب صديق مقرب لنبيل رجب ويبدو أن التمويل كان معلوماتيا أكثر منه مادي”.

وتساءل آخر “ماذا ننتظر من خريجي مدينة قم وعمائم إيران الذين لايعرفون من الإسلام إلا إسمه ولا من اللغة العربيه إلا رسمها وجيوبهم بالخمس دسمه”، وفق تعبيره.

بينما اعتبر مغرد أن الكتاب يمثل “رؤية ورواية ساقطة تعبر عن مضمون الغيرة والحسد وليست فيها إبداع إلا الردح. حفظ الله شيخونا الصالحين”.

وأثار كتاب “ما بعد الشيوخ”الذي صدر لأول مرة في العام 2012 جدلا واسعا حين توقّع انهيار الممالك الخليجية قريبا، وهو أول بحث أكاديمي معتبر يخرج بهذه التوقع المثير. وقد صدرت طبعته الأولى عن مطبعة “هيرست” ومن ثم مطبعة جامعة “أكسفورد”.

وقد صنّف الكتاب على رأس قائمة مجلة “فورين بوليسي” لأفضل 20 كتابا عن الشرق الأوسط في العام 2012. كما كتبت عنه الكثير من المراجعات والمقالات في الصحف الدولية والعربية، مثل صحيفة “الإيكونومست”، وصحيفة “الإندبندنت”، و “الغارديان”، كما اقتُبِسَت بعض أقسام الكتاب ونشرتها مجلتا “فورين أفيرز”، و “فورين بوليسي”. وقد صدرت نسخة باللغة الفارسية عن الكتاب في وقت سابق من العام الماضي.