awal

لماذا على كل بحريني أن يقرأ هذا الكتاب؟

*حصة بنت خميس

لماذا على كل بحريني أن يقرأ كتاب (من هو البحريني؟ بناء الدولة وصراع الجماعات السياسية 1904-1929)، للكاتب البحريني المسقطة جنسيته علي أحمد الديري؟

لأن “ما مضى هو في المقدمة”، كما يقول شكسبير في مسرحيته “العاصفة”.

إذا كنت تسأل عن سبب عاصفة الحاضر، فابحث عن سرّ “ما مضى”. سرُّ العاصفة المدوّية التي لا تهدأ حتى تقوم كل عقد من الزمان. لا يمكن العبور إلى الحاضر ولا فهمه أو التعامل معه دون معرفة “ما مضى”.  فكيف إذا بقي الماضي من دون مواجهة تاريخية بين أطراف النزاع، وكيف إذا ظلّ عالقاً من دون اعتراف ومصالحة. وكيف إذا هو “لم يمضِ” إلاّ زمنياً فقط، وكيف إذا بقي الحاضر يكرر الماضي بأشكال مختلفة. كل ذلك يجعله في مقدمة الحاضر، لا خلف التاريخ. فهو أول ما يُرى، وأول ما تُعرف به العاصفة وتُقرأ، وهو ما يفسّر كل ما يحدث في الحاضر.

“من هو البحريني؟” كتاب يُقدم التاريخ الذي نجهله في الفترة بين عامي 1904 و1929، يقوله لا على لسان ذاكرة شفاهية متناقلة معرّضة للنسيان أو التضخيم، ولا وفق روايات نشكك أن خيالاً جمعياً مشحوناً صاغها بتحامل، بل عبر أرشيف ضخم للوثائق البريطانية، الأرشيف الذي وثّق كل ذلك التاريخ بتفاصيله الدقيقة، فيما الإمبراطوية الكبرى آنذاك، تعمل بحزم على إصلاح الأوضاع الداخلية لمستعمرتها الصغيرة، المشتعلة بالاضطرابات، حماية لمصالحها (بريطانيا)، وضماناً لأمن تجارتها، وشعارها “تجارتنا وسلامتكم”، تجارة بريطانيا ومصالحها وسلامة حكام المشايخ الخليجية.

إنه يضعنا في سياق السلطة السياسية الإقطاعية الحاكمة في ذلك الوقت (عهد عيسى بن علي)، وصعوبات إصلاحها، والتحول من مرحلة ما أسمته الوثائق بـ”اللاحكم”، إلى تأسيس إدارات الدولة من القضاء والبلديات، وإصلاح الميناء، وإعادة تنظيم قسم الجمارك، وإصلاح أمن السوق، وإنشاء قوة شرطة نظامية بدل الفادوية، وتعيين مستشار مالي للحاكم، والعمل على وضع موازنة الدولة وترشيد الإنفاق، وإصلاح المحاكم، والإصلاحات المتعلقة بصيد اللؤلؤ، ومسح الأراضي، والأشغال العامة، والتعليم.

إنها مرحلة الصراع من أجل تمكين الدولة من تكوين شخصيتها القانونية، ومحاولة فصل شخصية الدولة الاعتبارية عن شخصية الحاكم، وفصل جيب الدولة عن جيب الحاكم، وسلطة الدولة عن سلطة الحاكم. كيف فُرضت الإصلاحات السياسية في عام 1923 بالقوة وبموجب ما عبّرت عنه الوثائق البريطانية بـ”الإذعان” والامتثال للقرارات البريطانية، وليس برغبة الحاكم لمدة نصف قرن، عيسى بن علي، في الإصلاح.

يضعنا الكتاب في سياق ممانعات الإصلاح ومقاومتها، أسمتها الوثائق بـ”المكائد السياسية” التي مارستها المجموعات الممانعة للإصلاحات، وسعيها المستميت لإفشالها. تلك المجموعات التي وجدت في الإصلاحات إضراراً بنفوذها وسلطتها، وضياعاً لامتيازاتها التجارية والاقتصادية التي كانت تنعم بها دون مساءلة أو عقاب.

يأخذنا الكتاب إلى سؤال يبدو بدهياً تماماً: “من هو البحريني؟”، لكنّ ولادته لم تكن كذلك، بل محاطة بصراعات سياسية مريرة وطويلة. كيف ولدت شخصية البحريني القانونية؟ كيف أصبح له جواز سفر في عام 1929؟ يأخذنا الكتاب إلى الصراعات التي خاضتها القوى السياسية ليولد هذا البحريني، ليكون هناك قانون يسمّيه ويعطيه هوية ويحميه، إلى العرائض التي واجهت المظالم لتنشأ عدالة قانونية، ويتم الاعتراف بأبناء الوطن بشراً متساوين يخضعون لقانون واحد، ومحكمة واحدة وحكومة واحدة وشخصية اعتبارية واحدة. الإصلاحات التي لم يكن بدّ منها بعد أن وجدت بريطانيا أن الأمر وصل إلى حد ما أسمته بـ”الفضيحة”، فكان ذلك ملزماً لها بالمضي في إصلاحات تعطي (البحريني) حقاً وتمنع عنه ظلماً.

إننا أمام تفاصيل متأنية تروي كل هذه “المقدّمة”، لا بتناول تاريخي جاف، بل بطريقة روائية سلسة، تشعر معها وكأنك أمام مشاهد حيّة لفيلم متحرّك أكثر إثارة من سيناريو متخيّل، وأحداث أكثر إدهاشاً في كثير من الأحيان.

“ما مضى هو في المقدمة”، لقد نُقشت هذه المقولة على أحد مجسمات متحف الأرشيف الوطني الأميركي. فأرشيف كل دولة هو مقدّمة لحاضرها، وهو سرّ تقدّمها أيضاً. ومقدّمة الكتاب تقول أهم ما فيه، بل كل ما فيه. لقد صارت “مقدمة” ابن خلدون كتاباً لوحدها، وصارت أشهر من مؤلّفه الضخم الذي كتبها تقديماً له.

يمكن القول تجاوزاً، أن كتاب “من هو البحريني” بمثابة “مقدمة” مكثّفة، غنية، لأجزاء الأرشيف البريطاني الستة الضخمة المترجمة والصادرة مؤخراً عن مركز أوال للدراسات والبحوث. أقول تجاوزاً، لأن الكتاب يحفر عميقاً في قراءته لهذه الوثائق، وفي تناول إرهاصات الإصلاح وبناء الدولة خلال تلك الفترة، وفي الوقوف عند صراعات الجماعات السياسية ومواقفها تجاه تلك الإصلاحات. إنه الكتاب التي يحتاجه كل بحريني لمعرفة تاريخه الغائب، وهو مقدمته لفهم واقعه الحاضر. باختصار: ما مضى، تجدونه في هذه المقدمة.

علي الديري يطرح سؤال بريطانيا الكبير العام 1923: من هو البحريني؟

صالح شهاب

رغم كون علي الديري أحد من نالهم انتقام إسقاط الجنسية من السلطات الحاكمة، فإنّه لم يدر فرضيّة كتابه الجديد «من هو البحريني» حول الهويات والأصول، ولا السكّان الأصليين، رغم سهولة تقديم طرح كهذا، ورغم وجود بيئة خصبة لتلقيه وليثير فيها جدلاً لم يهدأ يوماً.

يقوم كتاب «من هو البحريني؟» على فهم الأساس التاريخي الذي ولد منه «البحريني» المعترف به من «الدولة» والقوى الكبرى في العالم، ومعرفة سياقاته امتداداته ومآلاته. سيكون مخاض هذه الولادة، وتجاوزها لعقدة «الاعتراف»، والتوافق التاريخي عليها بين الجماعات السياسية برعاية السلطة البريطانية، المدخل التلقائي لقراءة تاريخ تأسيس الدولة في البحرين؛ الدولة التي شكّلت في وجهها الحديث بعد عزل البريطانيين حاكم البحرين عيسى بن علي في العام 1923، الإطارَ الجامع الذي أمكن أن يولد هذا البحريني تحت قبّته.

سؤال الهوية والوجود

من أنت؟ وماذا لك في هذا البلد؟ وما صفة وجودك فيها؟ ومن يحكمه؟ وإلى أي عدالة يجب أن تخضع؟ حتى العام 1923، وفي ظل ما سمّاه المقيم السياسي البريطاني «نظام اللا حكم»، لم يكن لهذه الأسئلة أي إجابات، فطرحت بريطانيا سؤالها الأساسي الكبير: من هو البحريني؟ قد يكون سؤال مثل هذا غريباً جداً على أي أمّة، حتى لو كانت تحت نير الاستعمار الذي ربما لم يكن يحاول إلا تنظيم أموره ومصالحه فيها، لكنّه، في البحرين، كان واقعاً وحقيقة اعترف بها الكلّ. جماعات كثيرة ومنقسمة، هويّات متعدّدة، طبقات من الشيوخ والأتباع والمسخّرين، والأهم حكم غير منظّم لا يعترف إلا بأتباع الشيخ، ونار تحت الرماد. جعلت هذه الفوضى سؤال «من هو البحريني؟» شائكاً ومعقّداً ومركّباً على سلطة استعمارية مثل بريطانيا.
لماذا شكّلت مهمّة تعريف البحريني أوّل أساسات الدولة الحديثة وأسئلتها؟ وكيف كان شكل الدولة ومستقبلها بحسب ما رسمه البريطانيون؟ إلى أين انتهى هذا التعريف حينئذ؟ وماذا تمخّض عنه من تحوّل تاريخي كبير؟ ولماذا تملي علينا اللحظة التي نعيشها اليوم، وهي لحظة يوشك فيها مفهوم البحريني أن يفقد معناه الوجودي والتاريخي، أن نعرف كلّ ذلك؟
لماذا كانت تلك الدولة قبل مائة عام أكثر حداثةً وتقدّماً من شكل الدولة اليوم؟ و«لماذا بات يسهل اليوم كسر المواطَنة البحرينية؟»، أين تلك الدولة التي أسّس لها البريطانيون بالقوّة والهيمنة؟ وأين ذهبت وعودها والخط التاريخي المرسوم لها في وثائقهم كنموذج للخليج؟ كيف نظّر البريطانيون لأطروحة المملكة الدستورية منذ نهاية العشرينيات؟ وكيف تم القضاء على هذه الأحلام حين كانت «رغبة المُلك أكبر من رغبة المملكة»؟ كما يقول الكاتب.

قراءة في التاريخ البحرينيّ

تقوم فرضيّة الكتاب على أن مشكلة البحرين التاريخية التي بلغت حد عدم «الاعتراف» بالبحريني، هي أن الدولة لم «تستقلّ» بشخصيتها عن شخص الحاكم، و«ظلَّ هذا الحاكم يقاوم استقلال الدولة، ورفض جميع محاولات إصلاح الدولة من 1904 حتى تمّ عزله في 1923، وأراد أن يكون شخصه الطرف المهيمن في كل شيء». يقدّم الديري قراءة روائية لأحداث الربع الأول من القرن العشرين، ويعيد سردها بشكل ممتع، معتمداً في الأساس على روايات تاريخية تخرج إلى النور للمرة الأولى عن أرشيف الوثائق البريطانية. كان البريطانيون يسجّلون كل شيء، بما فيه حركة عصا الشيخ وفداويته.
فضلاً عن الأرشيف، يعضد الكتاب روايته المتماسكة بكتابين لمؤرّخين عاصرا تلك المرحلة، وكان لأحدهما دور فيها، وهما: ناصر الخيري، صاحب كتاب «قلائد النحرين في تاريخ البحرين»، ومحمد علي التاجر صاحب كتاب «عقد اللآل في تاريخ أوال».
إنَّ الخوض في مواضيع الكتاب لن يكفّ عن إذهال القارئ الذي سيظل يتساءل عن العلاقة بين كل هذه المواضيع وسؤال الكتاب، وهو ما يفكّك الصورة الغريبة التي انعطف بها تاريخ البحرين الحديث في العام 1923، فكيف انبثق كل ما بُني في العشرينات من هذا السؤال تحديداً؟ وكيف تحوّل هذا السؤال إلى سؤال السياسة والجغرافيا والحكم؟
«لم يكن مطروحاً على هؤلاء الذين يعيشون على أرض البحرين فعلاً سؤال «من هو البحريني؟»… في تلك الفترة، لم يكن هناك قانون، ولو كان شكلياً… كان هناك نظام سخرة، تمايزات بين من ينتمي إلى قبيلة وبين من لا ينتمي إلى قبيلة، تمايزات بين من ينتمي إلى جنسية أجنبية وبين المحلي».
مستغلّةً تململ السلطات البريطانية من طريقة إدارة حاكم البلاد، ومحاولاتها السيطرة على الأوضاع والحفاظ على مصالحها، بعد حوادث العام 1904، «خاضت القوى الاجتماعية صراعات ليكون هناك قانون، ولتنشأ عدالة، ولكي يتم الاعتراف بأبناء الوطن بشراً متساوين».
لم يكن هناك حراك واحد تمخّضت عنه نتيجة واحدة. كانت أحداث مركّبة جداً امتدت لأكثر من 30 عاماً وتقاطعت فيها العديد من الظروف. خلال ذلك الوقت، تحرك البريطانيون على أكثر من صعيد، بل وأصدر التاج البريطاني بنفسه مرسوماً مفصلاً خاصاً بالبحرين: مرسوم البحرين الملكي 1913.
حاول البريطانيون عمل الكثير لتنظيم الفوضى في البلاد وضمان الاستمرار من الاستفادة من موقعها ومواردها، بما فيها القوى العاملة فيها، لكنهم اصطدموا بعناد وتصلّف لا يُحتمل من عيسى بن علي. «عارض الحاكم مشروع إنشاء البلدية، وتأسيس المحاكم المدنية، ورفض العرائض الشعبية ومشاريع الإصلاح السياسي. وجدها خلعاً لعظمة شخصه، وتنصيباً لعظمة شخصية اعتبارية (مجلس، مؤسسة، شعب، دولة)». انتهى الأمر بعزل الحاكم عيسى بن علي، وانتهت مهمّة تعريف البحريني إلى صيغ قانونية ومجالس بلدية ومجالس عرفية وإدارات بيروقراطية، شكّلت أول أساسات الدولة الحديثة، وكان ذلك بخطة واضحة قرأ تفاصيلها المقيم السياسي البريطاني بنفسه في خطاب العزل.
هكذا، يقول الكتاب، وُلد تعريف البحريني، ماراً بتأسيس بلديات ومجالس وإدارات، وسنّ قوانين، وتغييرات في هرم السلطة من رأسها إلى عقبها، فضلاً عن إعادة تأسيس النظام القضائي وسلطات الأمن، وما وازى ذلك من إصلاح للنظام الاقتصادي، على رأسه مسح الأراضي، والسيطرة على السوق والميناء والجمارك، وتنظيم بيت الحكم السياسي.

الوثائق البريطانية: مصدر الرواية

يتزامن صدور كتاب «من هو البحريني؟» مع صدور المجلدات الستّ الأولى من الترجمة العربية لسجلّ البحرين في أرشيف الوثائق البريطانية التي كانت مصدر الكتاب وروايته، بحكم اطّلاع المؤلّف عليها قبل صدورها. «لقد جرى تغييب هذا الأرشيف من التاريخ الوطني، وما زالت هذه الوثائق محظورة، وهي عرضة للاجتزاء والتوظيف المغلوط والتزوير، وما كان لهذه الدراسة أن تكون لولا أن توافر لها لأول مرة ترجمة كاملة لهذه الوثائق عبر مشروع مركز أوال للدراسات والتوثيق».
لقد جعل الأرشيف، بوثائقه التي أمكن الاطلاع عليها مترجمةً للمرة الأولى، من رواية الكتاب فتحاً جديداً في أغوار تاريخ هذه البلاد. هنا، ستُسرد معلومات للمرة الأولى، وستكتمل صورة أحداث وقصص تاريخية معينة كانت حلقاتها مفقودة، وسنسمع رواية التاريخ مقروءة على لسان أُصيب به.

(اسم الكتاب: من هو البحريني؟ بناء الدولة وصراع الجماعات السياسية 1904-1929/ الناشر: مركز أوال للدراسات والتوثيق، لبنان، الطبعة الأولى، 2017/ عدد الصفحات: 372 صفحة)
* باحث وكاتب بحريني

رابط الموضوع 

“من هو البحريني؟” .. علي الديري يُقلّب صفحات الأرشيف البريطاني

يبدو جواب تساؤل الكاتب علي الديري الذي طرحه في كتابه الجديد بديهياً، لولا أن الأمر يتعلق بـ”الهوية”. من هو البحريني؟ لم تكن الإجابة عليه بمقاربة معنية بالأصل والأصالة، إنما ببحث تاريخ الصيغة الدستورية التي نتجت عن المواقع والصراع السياسي في هذا البلد الذي لم يشهد استقراراً كاملاً منذ قرن.

يتساءل الديري: “لماذا يسهل إسقاط الجنسية؟ هل هناك خلل في تاريخ تأسيسها، ليكون سهلاً إسقاطها بهذا العدد الكبير عن مواطنين أصليين؟”. لقد أراد بذلك إعادة “قراءة حكاية تأسيس الدولة الحديثة، وصراعاتها الاجتماعية والسياسية والدينية، فذهب إلى الوثائق البريطانية، وما توافر من كتابات تاريخية محلية”.

يبدو أمر الكتابة أكثر جرأة عندما يلامس الهويات، لكن الديري يرى إمكانية “تشكيل وحدة وطنية صلبة ببناء هوية بحرينية دستورية، من دونها نحن جماعات متحاربة”. بل على النقيض من ذلك يرى الكاتب أن ما يهدد وحدة المجتمع ويعمق انقساماته، ليس فتح ملفات التاريخ بعقل نقدي، بل التوظيف السياسي للتاريخ”.

وفنّد الديري خطاب مي الخليفة (وزيرة الثقافة سابقاً) في كتابها (سبزآباد ورجال الدولة البهية) الذي دافعت فيه عن عيسى بن علي الحاكم الإقطاعي واعتبرته المؤسس الحقيقي للدولة الحديثة.

هاجم الديري بقسوة عهد عيسى بن علي (1869-1923) ورأى في خطاب عزله من قبل البريطانيين “إعلان ولادة للدولة الحديثة وللبحريني المواطن”. فيما يلي حوار شامل حول كتابه (من هو البحريني.. بناء الدولة وصراع الجماعات السياسية 1904-1929).

الميادين نت: أليس جواب (من هو البحريني؟) بديهيّاً؟ لماذا يحتاج إلى كتاب للإجابة عنه؟

الديري: جواب سؤال (من هو البحريني؟) ليس بديهياً، فالهوية ليست معطى فطرياً أو طبيعياً، بل هي نتاج المواقع والصراع السياسي، جميع الشعوب تسأل نفسها سؤال الهوية مع كل تغيير سياسي أو اهتزاز اجتماعي. لدي مثال لنموذجين متضادين، الأول من الولايات المتحدة الأميركية، فقد طرح صامويل هانتنغتون هذا السؤال في كتابه الذي صدر عام 2004 “من نحن؟ التحديات بالنسبة لهوية أميركا الوطنية”، والثاني من إيران فقد أشار أحد الأبحاث إلى أن 40% من أطروحات رسائل الماجستير والدكتوراه في العلوم السياسية في ثماني جامعات في طهران في الفترة (1991-2006) كانت عن الهوية بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.

الميادين نت: أشرت إلى أن سؤال الهوية يطرح مع أي حدث يسبّب تغييراً سياسياً أو اهتزازاً اجتماعياً، ما الحدث الذي قاد إلى طرح سؤال (من هو البحريني)؟

الديري: لقد وقع حدث بسيط في 1904م، اعتدى فداوية(حرس) شيخ من آل خليفة على عمال شركة ألمانية، مع التداعيات صار الحدث كبيراً، وطرح سؤالاً قانونياً مهماً، من أجل حماية عمال الشركات الأجنبية من نظام السخرة، كان السؤال المطروح من هو الأجنبي؟ وهو سؤال استلزم سؤال من هو البحريني؟ تطور الأمر فيما بعد إلى وضع صيغ قانونية تحدد البحريني والأجنبي، وتحدد القضاء الذي يخضع له الطرفان.

الميادين نت: توقعنا أنك أنهيت موضوع إسقاط جنسيتك في كتابك (بلا هوية) وإذا بك تفاجئنا بعنوان كتابك الجديد الذي وضعته في صيغة سؤال يقع في صميم الموضوع نفسه (من هو البحريني؟). ما العلاقة بين الكتابين؟

الديري: كنت في كتابي (بلا هوية) معنياً بتجربة إسقاط الجنسية في الحاضر، وفي كتابي (من هو البحريني؟) أنا معني بتاريخ تأسيس الجنسية في الماضي. في الكتاب الأول سردت تجربتي الشخصية، وانطلقت من تعريف الهوية باعتبارياتها: انتماء وأرض وثقافة وتاريخ وأجداد. في الكتاب الثاني كنت أتساءل لماذا يسهل إسقاط الجنسية؟ هل هناك خلل في تاريخ تأسيسها، ليكون سهلاً إسقاطها بهذا العدد الكبير عن مواطنين أصليين؟ أردت أن أعيد قراءة حكاية تأسيس الدولة الحديثة، وصراعاتها الاجتماعية والسياسية والدينية، فذهبت إلى الوثائق البريطانية، وما توافر لدينا من كتابات تاريخية محلية.

الميادين نت: لماذا لم تستند إلى الذاكرة والتاريخ والانتماء وغيرها من الأمور كمحددات أساسية لهوية البحريني، واستندت إلى تعريف قانوني؟

الديري: فعلاً مقاربتي لهوية البحريني في هذا الكتاب، ليست معنية بالأصل والأصالة والولاء والثقافة، أنا معني في هذا الكتاب، بالصيغة القانونية الدستورية، وكيف أصبح لدينا قانون يعرّفنا كبحرينيين ويمنحنا جوازت في عام 1929. أدرس الأحداث الاجتماعية والسياسية والصراعات التي قادت إلى صناعة ملامح المواطنة الدستورية. أريد أن أعرف كيف تحول البحريني من أن يكون عرضة للسخرة، يخطفه “الفداوية” ويجبرونه على العمل في مزرعة الشيخ من غير احترام ولا كرامة ولا حق،  إلى أن يكون لهذا البحريني هوية قانونية، تمكّنه أن يرفع قضية في المحكمة ضد من ينتهك حقه وكرامته؟ وكيف رجع به الأمر اليوم ليكون عرضة للانتهاك وإسقاط الهوية؟

الميادين نت: لكن التعريف القانوني مكتوب على ورق، ولا يُعطي المفهوم الحقيقي للهوية؟

الديري: التعريف القانوني ليس مكتوباً على ورق كما تقولين، بل هو مكتوب بالدم، فالقانون وُضع بعد صراع مرير راح ضحيته مناضلون وشهداء. إنه خلاصة تجربة النضال من أجل الاعتراف، وأنا أستعرض في كتابي سياقه التاريخي، لذلك فالصياغة القانونية تحمل وجهاً تاريخياً ونضالياً. لقد جرت صراعات اجتماعية وسياسية مريرة لصياغة هوية قانونية للبحريني. نحتاج اليوم إلى مراجعة تاريخ هذه الصراعات، لنعرف الخلل الذي يجعل هوية البحريني القانونية سهل كسرها بالإسقاط والحرمان والتلاعب والتجنيس والامتهان، حتى غدت الجنسية البحرينية مثار سخرية وتندر.

الميادين نت: لقد أهديت كتابك إلى ست شخصيات تمثّل السنة والشيعة (ناصر الخيري، أحمد بن خميس، عبدالرحمن الباكر، عبد الرحمن النعيمي، إبراهيم شريف، الشيخ علي سلمان)… هل هي محاولة  لتخفيف حدة الانقسام التاريخي الذي تعاني منه الهوية البحرينية؟

الديري: إنها شخصيات وطنية، ناضلت من أجل بناء هوية للبحريني تعترف بحقه السياسي في مواطنة تحترم إرادته وخياراته. لم تُجامل هذه الشخصيات الوضع السياسي ولا العائلة الحاكمة، وتركت لنا خطابات حقوقية، ونضالات وطنية تمثّل تراثاً يستحق أن يُدرّس للأجيال.

الميادين نت: تتحدث بلغة جامعة… لكن ألم تكن تخشى وأنت تقلب تاريخ الصراع العرقي والطائفي، أن يشكّل بحثك عاملًا للانقسام لا عاملًا للجمع، خصوصاً وأن كتابك معني بتحديد هوية البحريني؟

الديري: يمكننا أن نشكّل وحدة وطنية صلبة ببناء هوية بحرينية دستورية، من دونها نحن جماعات متحاربة. هذا ما حدث في بداية العشرينيات من القرن العشرين، عرائض سياسية متضاربة وجماعات وقوى اجتماعية وعرقية وطائفية متحاربة. بدأنا مع نهاية العشرينيات نبني مواطنة مشتركة بعد أن تمّ تثبيت الإصلاحات السياسية بعزل عيسى بن علي في عام 1923 وبناء إدارات الدولة الحديثة ومراقبة موازنة الدولة وإصلاح القضاء.

ولابد من التذكير أن ما يهدد وحدة المجتمع ويعمق انقساماته، ليس فتح ملفات التاريخ بعقل نقدي، بل التوظيف السياسي للتاريخ توظيفاً لا يحترم الوقائع وسياقاتها وهذا ما حدث مع تاريخ تأسيس البحرين الحديثة في عام 1923. كما فعلت مي الخليفة في كتابها (سبزآباد ورجال الدولة البهية) دافعت عن عيسى بن علي الحاكم الإقطاعي واعتبرته المؤسس الحقيقي للدولة الحديثة.

الميادين نت: تبدي آراءً قاسية وقطعية فيما يتعلق بعهد عيسى بن علي، هل كان عهده معيقاً لولادة مفهوم البحريني الحديث؟

الديري: لقد حكم البحرين لمدة نصف قرن تقريباً، ولولادة البحريني الحديث كان لا بد من تصفية حساب كوارث عهد، دعيني أستحضر مقطعاً من خطاب المقيم السياسي البريطاني نوكس الذي ألقاه في مجلس عزل هذا الحاكم السيء. يخاطب نوكس آل خليفة بكل صراحة: “يا سادة آل خليفة، عند الرجوع إلى الماضي، أخشى أنّه من واجبي تحذيركم أنّ مجرّد وجودكم في الحياة، لا يعني أنه من حقكم العيش على حساب المجتمع، سواءٌ أكان ذلك عبر مخصصات تقتطع من عائدات هذه الجُزُر أو عبر استغلال الفقراء والمساكين. إنّ المثل القائل: “من لا يعمل، لا يأكل” هو شعارُ جيد، والأفضل لكم تطبيقه على حالتكم”.

هذا الخطاب غير مسبوق. فلأول مرة يقول أحدهم لآل خليفة عليكم أن تعملوا، ومن لا يعمل لا يأكل. يقول نوكس لآل خليفة إن الاستغلال البشع الذي كنتم تعملون به في عهد عيسى بن علي عبر نظام السخرة، وسرقة أراضي الآخرين وأموالهم، وفرض ضرائب ظالمة عليهم دون وجه حق، لم يعد مسموحاً به. إن هذا الزمن قد انتهى، وعليكم أن تعملوا لتكسبوا.

 الميادين نت: هل بإمكاننا القول إن خطاب المقيم السياسي في مجلس عزل عيسى بن علي، بمثابة إعلان ولادة للدولة الحديثة؟

الديري: نعم، بكل تأكيد، بالإضافة إلى كون هذا الخطاب فاصلاً في التاريخ السياسي للبحرين، ومؤسساً لمرحلة فارقة، فقد شمل اعترافاً بجميع مكوّنات المجتمع، وورد فيه لأول مرة مبدأ المواطنة المتساوية، والضرائب على الجميع، والقضاء العادل، والتحول إلى حكومة مركزية تصدر عنها القرارات السياسية والاقتصادية. إنه إعلان ولادة بكل تأكيد للدولة الحديثة وللبحريني المواطن.

الميادين نت: تنظر بإيجابية إلى هذا الخطاب وإلى مشروع الإصلاحات البريطانية، ألا تخشى أن تتهم بالتصفيق للاستعمار؟

الديري: وأنا أعمل في هذا الكتاب، إنتابني خوف من أن أُواجَه بخطاب من يصفون على نحو الإطلاق كل ما يقوم به المستعمر بالشر ويُمعنون في الإدانة والتخوين ضد كل ما يتصل ومن يتصل بمشاريعه أو يتقاطع معها أو يحاول مقاربتها على نحو مختلف. وهنا لا بد أن أذكر أني وجدت في كلام الباحث التاريخي أحمد العبيدلي ما يخفف من هذا الخوف، فقد كان ينتقد القوى الوطنية التي لم ترَ في العلاقة مع الوجود البريطاني غير صفة المستعمر على نحو مطلق.

 الميادين نت: وهل يمكن أن تتعارض مصالح بريطانيا مع حكام المشيخات، وتتفق مع مصالح المجتمع؟

الديري: خاطبتْ بريطانيا حكام الخليج في العام 1903 بهذا الشعار “تجارتنا وسلامتكم”. سلامة حكم المشيخات وتجارة بريطانيا، تطلبا فرض الإصلاحات البريطانية في العشرينيات. لم تكن هذه الإصلاحات تتعارض مع مصالح هذه المجتمعات، وتأسيس البلديات والمحاكم الحديثة وتسجيل الأراضي وإيقاف نظام السخرة، كان يتعارض مع مصالح الحاكم عيسى بن علي وتفرده المطلق بالحكم. تضررت مصالح التجار في ذلك الوقت ورجال القبائل بالإصلاحات، لذلك وقفوا  ضدها في البداية، كما تتعارض اليوم مع مطالب الإصلاح السياسي.

الميادين نت: لقد أفردت فصلاً كاملاً لمرسوم البحرين الملكي لعام 1913 الذي تعتقد أن مشروع الإصلاحات في العشرينيات إنبنى عليه خصوصاً ما يتعلق بشؤون القضاء. ما أهمية هذا المرسوم؟

الديري: لن أبالغ إذا قلت إن البحرينيين لا يعرفون هذا المرسوم، ولا يعرفون كيف تأسست البحرين الحديثة عليه. التاريخ الرسمي يكذب علينا حين يعتبر أن عيسى بن علي هو من بنى الدولة الحديثة في البحرين، لقد تأسست البحرين الحديثة على هذا المرسوم الذي أصدره الملك جورج. لنأخذ قانون بلدية المنامة، لقد صدر في عام 1921 مؤسساً على المادة 70 من هذا المرسوم الصادر عن ملك بريطانيا والمفروض بالقوة على نظام الإقطاع، ومن هذا المرسوم تأسست المحاكم والقضاء الحديث. بفضل هذا المرسوم صار البحراني والقبلي والفارسي والنجدي يقفون أمام محكمة واحدة وقانون واحد. لقد أنهى هذا المرسوم تركة القاضي الشيخ قاسم بن مهزع المفتقد للعدالة التي تساوي بين مختلف الناس، فقد كان قاضي العائلة الحاكمة، وهو من بقايا تركت الحكم الإقطاعي لعهد عيسى بن علي، سيبدو كلامي صادماً وجارحاً، أعرف ذلك، فالأمر يحتاج إلى جرأة في قراءة تأسيس تاريخ البحرين الحديث، والتمجيد لن يتيح لنا أن نقرأ تاريخنا قراءة نقدية.

الميادين نت: تطرقت إلى تأسيس البلديات وتنظيم الجمارك وغيرها من مؤسسات الدولة الحديثة… فما علاقة ذلك بالإجابة على سؤال من هو البحريني؟

الديري: أنا معني في هذا الكتاب بتعريف الدولة للبحريني واعترافها به، والدولة مجموعة مؤسسات حين تتطور يتطور مفهومها للمواطنة، بمعنى أن البحريني من غير مؤسسات إدراية هو مجرد سخرة غير معترف بها، ولا حقوق لها ولا هوية قانونية. وهو كذلك حين تفقد هذه المؤسسات قوتها الدستورية وتتحول إلى شكل كما هو الأمر الآن. تأسيس البلدية، فرض على الأجنبي والبحريني دفع ضريبة، وأعطاه حق مساءلة الدولة: ماذا قدمتِ  لي أيتها الدولة في مقابل الضريبة التي دفعتها لك؟. هكذا أصبح للبحريني بلدية، وأصبحت له سلطة مراقبة، وصار يُعرّف كمواطن عليه واجبات وله حقوق.

تنظيم الجمارك وإصلاح ميناء المنامة، سحب من الحاكم عيسى بن علي ملف فساد مالية الدولة، فقد ترك للهنود (البانيان) منذ نهاية القرن

التاسع عشر إلى قُبيل عزله أن يلعبوا بهذا المورد الخطير في مقابل السُلف التي كانوا يعطونها له، ليصرفها ببذخ على ملذاته وأهله من غير رشد. كما أن هذا الإصلاح كسر فساد مدير الجمارك والتجار، الأمر الذي أمد خزانة الدولة بمداخيل جديدة كانت تذهب هدراً، وهذا الأمر ساهم فيما بعد في بناء مدارس للتعليم والتربية، فأصبح البحريني هو الذي يقرأ ويكتب ويعرف ويحمل شهادة تعليمية.

الميادين نت: بدأ تبلور تعريف البحريني انطلاقًا من تعريف الأجنبي (غير البحريني)، ثم تدحرج ليصف البحريني في نهاية المطاف. من هو البحريني اليوم برأيك، بغض النظر عن أي تعريفات قانونية أو عرفية أو غيرها؟

الديري: كتبت لأحد الأصدقاء إهداء على الصفحة الأولى من كتابي (بلا هوية): “لا ينتسب الإنسان إلى وطن لا شهداء له تحت ترابه .. يجدد الشهداء بناء الأوطان، ويُجذّرون هويتنا في تربانها”. لقد كسر البحريني بنضاله نظام السخرة، وأسقط نظام عيسى بن علي الإقطاعي، ورفع عرائض قادت في النهاية إلى عزله وبناء مؤسسات الدولة الحديثة التي دخل الجميع تحت مظلتها وقبلوا بها وتوافقوا عليها. لقد قدّم هذا البحريني العابر للطائفة والقبيلة شهداء طوال تاريخه، وخرج منه منفيون في الخمسينيات، وأنشأ أحزاباً عابرة للطوائف، وحركات سياسية بتوجهات مختلفة، وقاد حراكاً عمالياً في الستينيات، وكتب دستوراً عقدياً وشكّل برلماناً منتخباً في السبعينيات، وقاد انتفاضة طوال عقد التسعينيات، وقام بثورة لا مثيل لها في تاريخ الخليج في عام 2011. هذا هو البحريني، شخص ينشد الحرية، ويوسّع مجالها العام بسلميته، ويغذي أرضها بدماء شهدائه، ويظل يحلم بوطن حر ومواطنة تحفظ كرامته.

الميادين نت: يُقال إن التاريخ يعيد نفسه، إلى أي مدى تعتقد أن البحرين منذ عام 2011 تعيد ما جرى في العشرينيات؟

الديري: التاريخ البحريني يعيد نفسه في صورة مأساة. مع الأسف، البحرينيون لم يقرأوا ما حدث في العشرينيات، ليدركوا حجم مأساتهم، مسرح الأحداث متشابه إلى حد التطابق، جوهر المطالب الإصلاحية في العشرينيات هو نفسه جوهر مطالب عام 2011. الموالون للسلطة من تجار وقبائل ورجال دين لعبوا الدور نفسه في رفض الإصلاحات خوفاً على مصالحهم، التحجج بالتدخلات الخارجية هو نفسه، موقف السعودية الرافض للإصلاحات هو نفسه، الانقسام الطائفي هو ذاته، وكان على مسرح أحداث عام 1923. الجماعات التي مارست دور (البلطجة) في عام 2011 ضد مؤيدي الإصلاحات، وقد أطلق عليهم المؤرخ محمد علي التاجر (جمعية الإرهاب).

لقد تبلورت صيغة المواطنة البحرينية من خلال أحداث هذا التاريخ، وقد أعطت إجابتها على سؤال من هو البحريني؟ وهذا هو موضوع كتابي “من هو البحريني؟”.

رابط الموضوع

“الممالك الخليجية في الأرشيف البريطاني خلال القرن التاسع عشر والعشرين”

نظم مركز أوال للدّراسات والتّوثيق ندوة في الدورة الـ 61 من معرض بيروت العربي الدّولي للكتاب تحت عنوان “الممالك الخليجية في الأرشيف البريطاني خلال القرن التاسع عشر والعشرين” بمناسبة الإعلان عن الإطلاق المرتقب، في شباط/ فبراير 2018، للمجلدات الستة الأولى من أرشيف البحرين في الوثائق البريطانية، التي تغطي الفترة الممتدة من العام 1820 حتى العام 1942 أي ما يقرب من 120 عامًا من تاريخ البحرين في الوثائق البريطانية.

في البداية، تحدثت الإعلامية ريان شرارة، التي أدارت النّدوة، عن أهمية هذه الوثائق التي تمكن مركز أوال للدّراسات والتّوثيق من الوصول إليها بشكل رسمي والعمل على ترجمتها منذ نيسان/ أبريل 2013.

بعدها، عُرِض تقرير مصور تناول “أوال”، تلك الجزيرة القديمة التي تُعرف حاليًّا باسم البحرين، وتطرق إلى الدّور الذي يلعبه مركز أوال في حفظ الذّاكرة البحرينية ومواكبة الأحداث المستجدة.

وتحدث في النّدوة كل من الدكتور هيثم الناهي، مدير المنظمة العربية للترجمة، والدكتور جمال واكيم، وهو أستاذ محاضر في مجال العلاقات السّياسية في الجامعة اليسوعية، والدكتور علي الدّيري، وهو كاتب وباحث بحريني.

واستعرض الدكتور الناهي في مداخلته سبب تسمية أوال بالبحرين، لينتقل بعدها إلى الحديث عن أهمية الوثائق والأرشيف، ولفت إلى الصعوبة التي واجهها مركز أوال على مستوى التقنية في ترجمة هذه الوثائق، نظرًا لغياب قارئ إلكتروني OCR، يُمَكن الفريق العامل من قراءة الكلمات المكتوبة بشكل صحيح، وكذلك إلى أنّ النصوص الواردة تخللتها مفردات “شيكسبيرية” لا تُدَرّس حاليًا، مشيرًا إلى الحاجة إلى العودة إلى جذور هذه المفردات لاستنباط معانيها.

ووصف الناهي تجربة مركز أوال بأنّها أكبر من أن تكون حربًا عالمية في عملية تنوير اللّغة ووضعها في سياقها التّاريخي، بحيث نتمكن من نقلها بشكل دقيق.

أما على مستوى الترجمة، فلفت النّاهي إلى الحضور البارز لأخلاقيات المهنة، والتي امتلكها فريق العمل، لافتًا إلى أنّه كان بإمكان أي خطأ القضاء على أمة بأكملها، فالأعمال ستتداور، وسنتوارث الخطأ من جيل إلى جيل، بحيث لا يمكن تغييره.

وقال الناهي إنّ “هذه الوثائق تحمل أنثروبولوجيا حضارية جميلة تعطي تلك الفكرة النّاصعة التي تنطبع على تلك المنطقة بالبعد التاريخي والحضاري والقبلي”، لافتًا إلى أن قراءة التاريخ تُمَكننا من استشراف المستقبل.

من جانبه، استعرض الدكتور جمال واكيم بعضًا من تجربته مع علم التّاريخ في منطقة الشرق الأوسط، وتحدث عن مخاطر عدم وجود وثائق متداولة بين أيدينا كعرب عند سعينا إلى كتابة تاريخنا.

ولفت واكيم إلى أن غياب الوثيقة يجعلنا نستند في دراسة التّاريخ إلى تدوينات ومذكرات شخصية وأخبار شفهية، أي نخضع للأهواء، الأمر الذي يؤثر على الحقيقة لأنّ التاريخ لا يشكل فقط الهوية، بل منظومة التّفكير في المجتمع.

وأشار واكيم إلى أنّ تاريخ منطقة الخليج عمومًا، والبحرين خصوصًا، هو من التواريخ المظلومة في العالم العربي، مشددًا على أن المشكلة الأخطر تكمن في غياب وثائق كانت مُتاحة للباحث الغربي، متسائلًا عن سبب عدم إتاحتها للجمهور العربي، ولافتًا إلى أن القوة لا تكمن فقط في المعرفة، بل في الوعي أيضًا، وبالتّالي، كي لا يعي هذا الجمهور تاريخه، وكي لا يتمكن من صوغ حاضره ومستقبله، كان لا بد للأنظمة من تغييب هذه الوثائق.

وقال واكيم إنّه “لفهم حالة استئثار عائلة ذات تاريخ بدوي مثل آل خليفة، الذين هم جزء من قبيلة العتوب، بالسّلطة، يجب أن نعود إلى هذه الوثائق التي تبين أن استئثار قبيلة العتوب بالحكم كان بالدعم البريطاني الذي حل لعنة على منطقة الخليج”.

وتحدث في النّدوة أيضًا الكاتب والباحث البحريني الدكتور علي الديري من منفاه في كندا (إذ إنّ الحكومة البحرينية أسقطت جنسيته في كانون الثاني/ يناير 2015)، فاعتذر بادئ الأمر عن غيابه بسبب “الظروف التي تفسرها هذه الوثائق” مشيرًا إلى أنّ “هذه الظّروف شكلت هويتنا وتاريخنا ومستقبلنا كبحرينيين”، ولفت إلى وجود عدد من المفارقات منها عدم إمكانية إقامة مثل هذه النّدوة في البحرين أو في أي دولة خليجية أخرى، “فالأحداث الواردة في هذا الأرشيف ما زالت ماثلة أمامنا اليوم، ولا تريد الأنظمة مواجهتها”.

وأكد الديري أن تداول هذه الوثائق محظور في البحرين، لافتًا إلى أن أصحاب الأبحاث التي كُتِبَت في القرن العشرين اضطروا إلى الاجتزاء وتحوير الحقائق انحناء أمام رغبة السلطة السياسية التي لا ترغب بإبراز هذا التاريخ على حقيقته. 

وقال الديري إن بريطانيا ستشهد حفل إطلاق هذه الوثائق في شباط/ فبراير من العام المقبل، على الرّغم من كونها الدّولة التي استعمرت هذه الجزر.

وشدد الديري على “أننا لا نترجم فقط الأرشيف، بل اللّحظة الآنية بكل ما أصبحنا عليه”، مضيفًا أن أرشيف البحرين شكل مفتاحًا أساسيًا لفهم اللحظة التاريخية التي شهدتها البلاد في 14 شباط/ فبراير 2011، سواء للحاضر أو للأجيال في المستقبل، فكان مركز أوال للدّراسات والتوثيق، وكانت ترجمة هذه الوثائق التي تحوي إجابة عميقة على التساؤلات حول ما حدث في البحرين خلال 120 عامًا، وحول علاقة تلك الأحداث بانتفاضة العام 2011.

وفي نهاية الحفل، زار الحضور جناح مركز أوال للدّراسات والتوثيق في معرض الكتاب، وتعرفوا إلى أبرز إصداراته.

“أوال” تضيء على “اليوم العالمي للترجمة”

تحت عنوان «الترجمة ورق الكلام»، نظّم مركز «أوال للدراسات والتوثيق» أخيراً جلسة حوارية إحتفاء بـ «اليوم العالمي للترجمة» في مكتبة «أنطوان» (وسط بيروت). الفعالية جمعت عدداً من الباحثين/ات، والمنظّمات والعاملين في ميدان الترجمة، تحدّثوا عن تجاربهم الشخصية والعامة في هذا المجال.

من بين المتحدّثين مدير «المنظمة العربية للترجمة» هيثم الناهي الذي تناول تجربة المنظّمة وتطورّها ووصولها اليوم إلى ترجمة أعداد كبيرة من الكتب باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية. بعد قيام «أوال» بعرض سياسته وأهدافه، قدمّ للمشروع الذي نفذّه وسيصدر هذا العام، ويتعلّق بترجمة الوثائق البريطانية الأصلية التي تحوي على أرشيف البحرين بين عاميّ 1820 و1971. كما ركزت مداخلة زينب جابر (الصورة) رئيسة قسم الترجمة في جامعة «المعارف» على غياب سياسة موحّدة للترجمة بشكل عام في العالم العربي، مشددة على أهمية أخذ المبادرات لفردية والمؤسساتية للوصول إلى وضع سياسة موحدة مماثلة كما يحصل في الغرب. وتحدّث عبد الغني قطايا رئيس مؤسسة «ومضة» عن تجربة مؤسسته في إعداد مجمع يتضمن ترجمة للمصطلحات التقنية الحديثة بغية إيصالها بشكل سلس إلى القارىء العربي. كذلك، عرضت الصحافية مروة حيدر تجربتها في مجال ترجمة كتاب «دعوة الى الضحك» للعالم الأنثربولوجيا اللبناني فؤاد إسحاق الخوري، وركّزت على الأثر الذي تركه هذا الكتاب في داخلها وعلى أهمية إتقان المترجم للغة العربية حتى يستطيع تنفيذ الترجمة بشكل صحيح.

الأخبار 

(مركز أوال) يوثق الذاكرة الخليجية

أردناها شاهدة على وجودنا حيث ما كان، وكيف ما كان، حيث كان في الهامش أو في السلطة، وفي الحاشية أو في المتن، وكيف كان ظالماً أو مظلوماً.. ليست مهمة الأرشيف أن يجمل الحقيقة، بقدر ما مهمته حفظها وقولها دون أن ينتظر قبولاً أو استحساناً من أحد”*.

“من دون وثائق ينتفي وجود المرء”، ورواية الوجود لا تحفظها إلا الوثائق.. باكراً التفت “مركز أوال للدراسات والتوثيق” إلى المعركة المفتوحة بين الوجود والعدم. الرؤية التي حملت على إنشاء المركز تقول إن التاريخ لا يصادره ممتلكو القوة، ولا يستفرد به كتبة السلطة، التاريخ أكبر من أي لحظة، ومن يحتفظ به يملك الاعتراف بالوجود. وفي وثائق التاريخ لا وجود لــ “ربما”، إما “الوجود” ودونه العدم.

ومنذ ولادته في لندن عام 2012، قرر “مركز أوال للدراسات والتوثيق” أن يواجه معركة مصادرة التاريخ، للانتصار لحقيقة الوجود. في إحدى إصداراته، يقول المركز إنّ العدم يظل “يلاحق الوجود، والغلبة تكون لمن يملك الأرشيف حياً ناطقاً.. هكذا يتحقق لوجود الإنسان الانتصار في الحياة”.

ومنذ لحظاته الأولى إلى اليوم، كان مسار العمل والإصدارات واضح الرؤية، محدد الهدف. يعود اسم “أوال” إلى فترة تاريخية معروفة شهدتها البحرين إبان الحضارة السومرية في بلاد ما بين النهرين. الإسم نفسه يوثق هذه الفترة التاريخية، وفي العنوان نفسه يحضر التوثيق جنباً إلى جنب مع الدراسات، تأكيداً على رؤيته، وتصريحاً عن الحقل الذي يشغل المركز ويؤطر مجال نشاطه وفعالياته وإنتاجاته.

والمركز مؤسسة بحرينية أنشئت في لندن في شباط/ فبراير من العام 2012، أخذ على عاتقه تحرير الذاكرة الخليجية. أبرز اشتغالاته تمثلت في حفظ الذاكرة البحرينية وتوثيق الأحداث التي عاشتها منطقة الخليج عموماً، وقد توزعت أعمال المركز على قسمين: قسم يُعني بالأرشيف والتوثيق، وآخر انصبت جهوده على إنجاز مشروع ضخم يهتم بترجمة أرشيف البحرين في الوثائق البريطانية، وإلى جانب ذلك يُصدر “أوال” مجموعة من الكتب التي أتت في سياق حفظ الذاكرة، وإعادتها إلى الضوء.

في منشور له كتب المركز: “ندرك أن ما من سلطة سياسية دون سيطرة على الأرشيف ورسالتنا في مركز أوال للدراسات والتوثيق هي العمل على تحرير الأرشيف من السيطرة وتسهيل عملية الوصول إليه”.

شكلت أحداث المنطقة منذ ما بعد “الربيع العربي” يقظة لدى القيمين على المركز. في وقت كانت تشهد المنطقة معارك مستعرة  لمصادرة الحاضر والتاريخ، وتدمير للتراث الثقافي للبشرية، قرر مركز أوال للدراسات والتوثيق أن يتحدى العدم وأن يقف في مواجهة الساعين إلى تكريسه، انتصاراً لذاكرة شبه الجزيرة العربية.

لماذا الأرشيف؟

تستعيد “أرشيفو” عبارة كوجيتو ديكارت الشهيرة: “أنا أفكر إذن أنا موجود”، تتصرف بها لتقول: “لدي أرشيف إذن أنا موجود”. ومن دونه ينتفي الوجود.

منذ العام 2015، قرر مركز أوال للدراسات والتوثيق أن يحتفل سنوياً بيوم الأرشيف العالمي في 9 يونيو. في العام الماضي أطلق المركز بالمناسبة (محرك بحث أرشيف أوال)، ليكون إحدى أدوات النضال من أجل حفظ بيانات الوجود.

في الإطار نفسه، أصدر المركز “سلسلة أبحاث في تاريخ البحرين”  تناولت 7 إصدارات، وكل إصداراتها اشتغلت في توثيق الذاكرة البحرينية (تاريخ البحرين وقراها وأعلامها وأدبائها، إضافة إلى الحركة العملية فيها). ويعمل المركز اليوم على إصدار ثامن ضمن السلسلة نفسها يتناول توثيق “هجرة البحارنة”.

ولأن “ما مضى هو في المقدّمة”، سعى المركز إلى تقليب صور التاريخ ليعيد قراءة الحاضر، يشخص في هذه الاستعادة الواقع، ويفهم خلفيات أزماته، ويسترجع وجهه الذي سرقته الصراعات، وغيرت معالمه سطوة السلطة، ونزاعات السياسة.

عام 2015، أصدر المركز كتاب “نصوص متوحشة – التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية” للباحث البحريني علي أحمد الديري. في قراءته لتجارب تاريخية، ذهب الديري إلى تفكيك نصوص التوحش في التراث الإسلامي، ليبيّن أن التكفير وليد الصراعات السياسية، وسلاحها الفتاك، وأن النصوص التوحش لم تكن إلا إحدى إفرازات هذه الصراعات. وفي العام 2017 صدر عن المركز كتاب آخر للباحث نفسه:”إله التوحش التكفير والسياسة الوهابية”، لاحق فيه الديري التوحش في تجربة  تاريخية أخرى، توقف فيها عند مؤسس الوهابية محمد بن عبدالوهاب. ومجدداً ثبّت الديري فرضيته التي تقول إن “التكفير مشروع قتل يمليه صراع سياسي”.

ولأن الماضي مرآة الحاضر، جاء إصدار “داعش من النجدي إلى البغدادي – نوستالجيا الخلافة” في أبريل 2015، عاد فيه الباحث السعودي فؤاد إبراهيم إلى جذور داعش ليبيّن أن التنظيم يأتي كوراث تاريخي لتعاليم محمد بن عبدالوهاب “والمتناسلين منه مثل جيش إخوان من طاع الله الذي أنشأه عبد العزيز بن سعود (مؤسس الدولة السعودية الثالثة) ثم قضى عليه بعد تحقيق حلمه بإقامة دولة باسمه”.

اهتم مركز أوال بتوثيق الذاكرة البحرينية. عام 2016، طبع المركز كتاب عالم الأنثربولوجية اللبناني فواد اسحاق خوري “القبيلة والدولة في البحرين تطور نظام السلطة وممارستها”. الكتاب الممنوع من التداول في البحرين أعاده أوال للضوء، كونه يوثق واقع حكم القبيلة في البحرين. في دراسته للواقع البحريني وجد خوري أن القبيلة الحاكمة في البحرين تمكنت أن ترواغ حركات الإصلاح والتحول نحو نظام الدولة، لتبقى الدولة محكومة بأعراف قبيلة آل خليفة ومصالحها.

وفي أواخر 2015، صدر عن المركز  الترجمة العربية لكتاب “صراع الجماعات والتعبئة السياسية في البحرين والخليج” للمحلل السياسي المتخصص في شؤون البحرين، جستن غينغلر. وُصف الكتاب بأنه الأكثر جرأة في استقصاء وتفسير الواقع السياسي المتأزّم في البحرين ودول الخليج العربية، إذ بيَّن أن  الصراع في البحرين سياسي بحت، رغم محاولة الطبقة الحاكمة الزج به في خانة الصراع الديني الطائفي.

هكذا كان المركز يستعيد الحقيقة المختطفة، والذاكرة التي يُعمل على مصادرتها، وانتاجها مجدداً لتقدم روايات تحيل الحقائق التاريخية إلى عدم.

وذهب مركز أوال إلى توثيق الذاكرة الحديثة للبحرين في مجموعة إصدارات، تناولت الأزمة السياسية وإفرازاتها وخلفياتها التي تشهدها البحرين منذ العام 2011 إلى اليوم. ( “سيرة الاحتجاج السيرة النضالية لعبد الهادي الخواجة2001 – 2011″، و”جدار الصمت: انهيار السلطة مدخل توثيقي لثورة 14 فبراير البحرينية” للكاتب البحريني عباس المرشد).

الذاكرة الخليجية عموماً حضرت أيضاً في إصدارات المركز. “ما بعد الشيوخ الانهيار المقبل للممالك الخليجية”، كتاب أصدر ترجمته العربية أوال. تنبأ الأكاديمي البريطاني كريستوفر ديفيدسون، من خلاله بانهيار وشيك للممالك الخليجية، على ضوء نشوء “الدول البوليسية” في عصر تكنولوجيا الاتصالات، وفي زمن انخفاض أسعار النفط.

مطلع العام 2017، أصدر “مركز أوال للدراسات والتوثيق” كتاب  “سعادة السفير محمد جواد ظريف”، وهو الكتاب الذي ظل ممنوعاً من النشر حتى نهاية عهد الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد، والذي يوثق الكثير من الأحداث التاريخية من رجل ساهم في صناعتها أو كان على تماس معها.

وآخر إصدارات المركز كان “شعر البحرين” للباحثة البحرينية أنيسة المنصور، التي أطلت من خلاله على بيئة الشعر البحراني، وعلى ما قدمته البحرين من عطاء شعري في الفترة الممتدة بين القرن السابع عشر إلى الثلث الأول من القرن العشرين.

على سكة واحدة تأتي إصدارات “مركز أوال للدراسات والتوثيق”، لا شيء كان بعيداً عن الأهداف: توثيق الذاكرة وتحرير الذاكرة.

في إحدى إصداراته، يستحضر المركز تجربة أرجينتينية، يُعرف المركز بما يُسمى “رابطة جدات ساحة مايو” التي عملت على توثيق بيانات جميع المفقودين إبان الديكتاتوريات السياسية. لاحقاً أثمرت جهود الجدات، وثقت الرابطة معاناة المفقودين والمختطفين، وشكل نشاطها سبباً في خروج مطالبات لمحاكمة المسؤولين عن ذلك. بالنسبة لأوال كانت تجربة الجدات تتماثل وعبارة الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخي: “في هذا البلد لدينا حق مصون في الأمل”. العبارة نفسها يستحضرها “أوال”، ليكون للذاكرة حق مصون بالأمل أن لا تصادر الذاكرة، ولا يحيل أهل السطوة وجودها إلى عدم.

 * من افتتاحية الإصدار الأول لمجلة “أرشيفو” الفصلية الصادرة عن مركز أوال للدارسات والتوثيق

كتاب “نصوص متوحشة” لعلي الديري

هناك اليوم في العالم الإسلامي عشرات وربما مئات الجماعات الدينية المتطرفة، التي تُمارس العنف والقتل بصورة عنيفة جدا، وتستخدم أبشع الطرق في قتل مخالفيها. وهذه الجماعات تدافع عن نفسها بأنها تستند في ممارساتها إلى فتاوى دينية يعترف بها جميع المسلمين، وكتباً فقهية يرجع إليها علماء المسلمين وفقهائهم، ولذا فإنها تدّعي دائما في بياناتها، وخطاباتها، ومنشوراتها، بأنها تمثل الإسلام الحقيقي، ولها ردود كثيرة على الفقهاء والمفتين الرسميين في الدول العربية، والمؤسسات الرسمية الدينية الإسلامية، مثل كتاب ” المجن في الرد على بشير بن حسن ” “للجهادي” البحريني تركي البنعلي، وكتاب ” الأقوال المهدية إلى العمليات الاستشهادية ” له أيضا، وكتاب ” مالك بن نبي في الميزان ” لأبو المنذر الساعدي ، و” أعذار المتقاعسين ” ليحيي اليحيى، ورسائل جهيمان العتيبي، وغيرها،وقد رأينا جميعا الفيلم الذي أذاعه تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش ) بعد إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة حرقا في 3 / فبراير / 2015،حيث ظهر احد مقاتلي التنظيم وهو يتلو بياناً مطولا قال فيه أنهم يستندون إلى فتوى لابن تيمية ( 661- 728 ) حول جواز الإعدام حرقاً باعتباره ” زجرا لهم عن العدوان، فإنه هنا من إقامة الحدود والجهاد المشروع”. ومن جانب آخر، فإن كثيرا من العلماء والمرجعيات الدينية الرسمية تنكرعلاقة هذه الجماعات بالدين؛ وتقول بأنها جماعات سياسية، وتقف وراءها أجهزة استخبارات عالمية وصهيونية لتشويه صورة الإسلام، وتمزيق الدول الإسلامية إلى دويلات طائفية، كما فعلت داعش في سورية والعراق، وتستدل على رأيها بآياتٍ قُرآنية تُحرم قتل النفس المحرمة إلا بالحق، ولذا نجد صمتا يسود موقف العديد من المؤسسات الفقهية الإسلامية عن جرائم التنظيمات المتطرفة بحجة أنها غير إسلامية، وكذلك،لم تصدر أي نقدٍ لطروحات هذه التنظيمات، أو ردا على ادعاءاتها، رغم الجرائم البشعة التي ارتكبتها في العديد من الدول العربية، ربما خوفا من أن يطال النقد ” نصوصا مقدسة “.

في هذا الكتاب ” نصوص متوحشة، التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية ” الذي صدر طبعته الأولى عن مركز أول للدراسات والتوثيق ببيروت سنة 2016، يحاول الباحث البحريني الدكتور علي أحمد الديري قراءة سرديات التكفير في سياقها السياسي. حيث يقول: ” أسعى في هذا المجال إلى قراءة نصوص ليس كاجتهادات فقهية أو عقائدية بل كمشاريع سياسية أو مرتبطة بالسياسة، كما هو الأمر مع كتاب الغزالي (فضائح الباطنية) الذي كتبه برسم السياسة السلجوقية في حربها ضد الفاطميين”.(1)، ويناقش المؤلف في هذا الكتاب نصوص التوحش ” في ثلاث بيئات سياسية، استخدمت التكفير ضد أعدائها: بيئة السلطة السلجوقية (القرن الخامس الهجري)، من خلال نصوص الغزالي، وبيئة سلطة الموحدين (القرن السادس الهجري) من خلال نصوص ابن تومرت، وبيئة سلطة المماليك (القرن الثامن الهجري) من خلال نصوص ابن  تيمية” (2). ويقول المؤلف في مقدمة كتابه ” كما لا توجد جريمة من غير مجرم، ولا فساد من غير مفسد، فإنه لا يوجد توحش من غير وحش، والوحش هو هذه النصوص ومدارسها التي تبيح القتل وتأمر بالقتل من دون رادع نقدي، أو قراءة تاريخية أو قطيعة معرفية”. (3)

لقد وضع الديري ثلاثة شروط لتعريف نصوص التوحش وهي:

الشرط الأول: أن يكون النص آمرا بالقتل المادي، وليس مكفراً فقط للمسلم الذي يقر بالشهادتين،

والشرط الثاني: أن يكون النص فتوى أو حكماً منتجاً من فقيه وليس مجرد حديث يُروى،

والشرط الثالث: أن يكون النص ضمن فضاء سلطة سياسية تمثل قوة قائمة بالفعل”(4).

ويرى المؤلف بأن النصوص المتوحشة ” أنتجت في سياقات تاريخية سياسية كانت تتصارع حول شرعية الخليفة، كما عن إعادة إحيائها من جديد في العصر الحديث فرضتها ظروف سياسية أيضا”. (5)

ابتدأ الديري مقاربته النقدية لنصوص التوحش بنقد نصوص الغزالي في كتابه ” فضائح الباطنية ” للإمام الغزالي، ويرى الكاتب أن الكتاب ظهر في سياق الصراع السياسي الذي كان قائما آنذاك بين الخلافة العباسية في بغداد والخلافة الفاطمية في القاهرة، واتخذ أشكالا متعددة، مثل: إنكار النسب العلوي للخلفاء الفاطميين، واتهامهم بالكفر والمروق من الدين والإلحاد، حيث يقول الغزالي  ” والقول الوجيز فيه أن يُسلك بهم مسلك المرتدين في النظر في الدم والمال والنكاح والذبيحة ونفوذ الأقضية وقضاء العبادات” (6)، ولم يقتصر الغزالي على الحكم بكفرهم فقط، وإنما أفتى بقتلهم وسفك دماءهم أيضا، حيث قال: ” نغتالهم ونسفك دماءهم، فانهم مهما اشتغلوا بالقتال جاز قتلهم. وان كانوا من الفرقة الأولى التي لم يحكم فيهم بالكفر، فهم عند القتال يلتحقون باهل البغي، والباغي يقتل” (7). كما لم تقتصر وظيفة الكتاب في تكفير الفاطميين فقط، وإنما تثبيت شرعية الخلفاء العباسيين أيضا، واعتبارهم خلفاء الله في أرضه وحجته على عباده،حيث كتب الغزالي فصلا بأكمله بعنوان  (في إقامة البراهين الشرعية على أن الإمام القائم بالحق الواجب على الخلق طاعته في عصرنا هذا هو الإمام المستظهر بالله، حرس الله ظلاله)، وقال فيه عن الخليفة المستظهر العباسي: ” وأنه يجب على كافة علماء الدهر الفتوى، وعلى البت والقطع، بوجوب طاعته على الخلق ونفوذ اقضيته بمنهج الحق، وصحة توليته للولاة وتقليده للقضاة، وبراءة ذمة المكلفين عند صرف حقوق الله تعالى إليه، وأنه خليفة الله على الخلق، وأن طاعته على كافة الخلق فرض”(8). ومن الملاحظ أن هذا الكتاب المليء بالعنف يناقض تماما الكتب التي ألفها الغزالي بعد عزلته الروحية التي استمرت خمسة عشر عاما تقريبا، ألّفَ خلالها عدة كتب مهمة تعتبر من المراجع المهمة في التراث الروحي للمسلمين، ولها أهميتها عند أهل التصوف والعرفان، وأبرزها كتاب ” إحياء علوم الدين “، وكتاب ” المنقذ من الضلال”، مما يؤكد السياق السياسي الذي ألف فيه الغزالي كتابه ” فضائح الباطنية”. وأن الغرض من تأليفه كان غرضا سياسيا وهو توظيفه في سياق الصراع الذي كان يدور آنذاك بين الدولتين العباسية والفاطمية.

ثم عرج الديري إلى نقد نصوص الفقيه المغربي ابن تومرت ( 473-524 )، وابن تومرت ينتمي إلى المدرسة السنية الأشعرية، وبالتالي فهو يتوافق كلاميا مع الإمام الغزالي، فكلاهما أشعريان، وقد تتلمذ ابن تومرت عند أئمة الاشعرية في المشرق، فهو يعتبر من تلاميذ المدرسة النظامية التي أسسها الوزير السلجوقي نظام الملك لتعزيز مدرسة الأشعرية ضد المدرسة الفاطمية الإسماعيلية التي كانت تهدد المشرق الإسلامي في تلك الفترة فكريا وعسكريا، ولكن الفرق بينهما أن النصوص المتوحشة للغزالي كانت موجهة للإسماعيلية الفاطمية، بينما كان عدو ابن تومرت هم المرابطون الذين كانوا يدينون بالمذهب المالكي في الفروع، بينما كانوا في الأصول يثبتون الصفات لله سبحانه وتعالى، يقول الديري ” توافر لابن تومرت الركن الأول بناء الدولة، فهو ابن عشيرة ( هرغه ) التي تنتمي إلى قبيلة (المصمودة ) البربرية ، هو يحتاج الآن لبلورة عقيدة صلبة تنظم قوة قبيلته لبناء دولة قوية” (9)وهذه العقيدة وجدها في المذهب الأشعري.

ألف ابن تومرت في العقيدة كتابه ” العقيدة المرشدة ” الذي اعتبره بمثابة دستور للموحدين حيث قدم فيه مبادئ ” الإسلام الصحيح ” حسب المعتقد الأشعري، عقيدة الدولة الموحدية. كما ألف ابن تومرت كتابا آخر بعنوان ” أعز ما يطلب ” ويحتوي على آراء ابن تومرت وتعاليمه في المسائل الإيمانية المختلفة، خاصة في الرد على ” المجسمة “، يقول الديري: ” في هذا الكتاب سنعثر على نصوص التكفير والتوحش، وعلى المنهاج الذي وضعه للدولة الموحدية في طريقة تعاملها مع المختلفين معها، وسنجد شرعنة القتل وسفك الدماء الذي اتبعته الدولة الموحدية ضد خصومها” (10). وينقل الديري نصا خطيرا من الكتاب المذكور ويحمل طابعا سياسيا وأيديولوجيا واضحا ضد دولة المرابطين، يقول النص : ” أمر رسول الله ” ص ” بمخالفة أهل الباطل في زيهم وأفعالهم، وجميع أمورهم، وفي اخبار كثيرة قال: ” خالفوا اليهود، خالفوا المشركين، خالفوا المجوس” وكذلك المجسمون، الكفار، وهم يتشبهون بالنساء في تغطية الوجوه بالتلثم والتنقيب، ويتشبه نساؤهم بالرجال في الكشف عن الوجوه، بلا تلثم، ولا تنقيب، والتشبه بهم حرام” (11)، طبعا النص موجه الى المرابطون الذين يتهمهم ابن تومرت بالتجسيم، كما ان المرابطون المغاربة يغطون وجوهم، حتى أصبحت الى اليوم جزءا من ثقافتهم.

ثم أستعرضه الديري النصوص المتوحشة للفقيه الحنبلي ابن تيمية والتكفير المملوكي على اعتباره الفترة التي عاش فيها ابن تيمية، في ظل الصراع بين المماليك من جهة وبين التتار أو المغول من جهة أخرى،حيث خاض الرجل حربا شرسة ضد الأشاعرة والشيعة الإمامية والعلويين وغيرهم من الطوائف الإسلامية، حيث يعتقد ابن تيمية أن الذي يمثل أهل السنة هو الإمام احمد بن حنبل وليس أبو الحسن الأشعري كما يرى غالبية المسلمين “، ومن أبرز الكتب التي الفها ابن تيمية في تأصيل مذهب الإمام احمد والرد على مذهب الأشاعرة هو كتاب ” العقيدة الواسطية “، وكتاب ” العقيدة الحموية “، ولكن هذه العقيدة  لم تصبح دستورا لأي دولة، حتى جاء محمد بن عبدالوهاب في القرن واستطاع بالتحالف مع محمد بن سعود ان يجعلها دستورا للدولة السعودية ولا تزال كذلك حتى اليوم.

ولقد لعب ابن تيمية دورا خطيرا في إعطاء السلطان الملك الناصر بن قلاوون ملك المماليك فتوى شرعية في جواز مقاتلة وقتل الشيعة في كسروان بالشام في سنة 1305، التي قام بها 50 ألف جندي وتعرف باسم (فتوح كسروان)، وقد اصدر ابن تيمية فتوى أشاد فيها بهذا الملكالذي قام بهذه المذبحة حيث قال فيها : ” وتحقق في ولايته خبر الصادق المصدوق أفضل الأولين والآخرين، الذي أخبر فيه عن تجديد الدين في رؤوسه المئين”، وقال أيضا : ” وذلك أن السلطان أتم الله نعمته حصل للأمة بمن ولايته، وحسن نيته، وصحة إسلامه وعقيدته، وبركة إيمانه ومعرفته، وفضل همته وشجاعته، وثمرة تعظيمه للدين وشرعته، ونتيجة اتباعه لكتاب الله وحكمته، ما هو شبيه بما كان يجري في أيام الخلفاء الراشدين، وما كان يقصده أكابر الأئمة العادلين ، من جهاد أعداء الله المارقين من الدين” (12) . كما أفتى ابن تيمية للمماليك بقتال التتار الذي كانوا مسلمين وقدم تبريرا غريبا لجواز قتالهم بقوله: ” فهؤلاء القوم المسؤول عنهم عسكرهم مشتمل على قوم كفار من النصارى والمشركين وعلى قوم منتسب إلى الإسلام – وهم جمهور العسكر – ينطقون بالشهادتين إذا طلبت منهم ويعظمون الرسول وليس فيهم من يصلي إلا قليلاً جداً وصوم رمضان أكثر فيهم من الصلاة والمسلم عندهم أعظم من غيره “. (مجموع الفتاوى ج 28 ص 505).(13) إذاً، فإن ابن تيمية أفتى للمماليك بقتال الشيعة في كسروان بحجة أنهم كفار، وموالاتهم – حسب زعمه – للصليبيين، وأفتى لهم بجواز قتال التتار المسلمين بسبب امتناعهم الالتزام بشرائع الله، ولكن، السياسة كانت حاضرة في هذه النصوص المتوحشة.

من يقرأ كتب الجدل المذهبي طوال التاريخ الإسلامي يجد أن النصوص المتوحشة حاضرة فيها بقوة، وهذه النصوص تُوظف دائما في الصراعات السياسية. وكما أنها كانت حاضرة في الخلاف السياسي بين الفاطميين والعباسيين، وفي الحرب بين المماليك والتتار، وفي حروب ابن تومرت ضد المرابطين، فإنها حاضرة اليوم بقوة أيضا في الصراع في سورية والعراق واليمن، وستختفي عندما يتفق الفرقاء على إنهاء النزاع، ثم تعود مجددا في مكان آخر. ما لم يتم نقد هذه النصوص وتفكيكها وقراءتها ضمن سياقها التاريخي والمذهبي.

صالح البلوشي

رابط الموضوع الأصلي

دار حفظ التراث البحريني

مؤسسة تجمع بين فلسفة العمل الفردي والالتزام بالرؤية المؤسسية
وسام السبع*

تبدو تجربة السيد محمود الغريفي البحراني إحدى التجارب العلمية الرائدة في مجال إحياء  تراث علماء البحرين وحفظه. ليس بوصفه مؤسساً لدار حفظ التراث البحراني المعنية بنشر تراث البحرين العلمي والادبي وتحقيقه فحسب؛ بل لكونه أحد من ترجموا همومهم وتطلعاتهم المعرفية إلى واقع حي، وحركة دؤوبة ونشاط لا يفتر وفق صيغة عمل مبرمجة ومدروسة.

تستفيد هذه الحركة من إمكانات ومكتسبات العمل الجماعي، وتنفتح على كل الساحات باتساع المهجر من العراق وإيران إلى الهند وباكستان مروراً ببيروت والشام إلى مشارف القارة الأوروبية. دون أن تحدّ من القدرة على التعبير عن التوترات المعرفية الخاصة، أو تلتزم بالخط المرسوم لها سلفا في مجال لطالما عشقه السيد الغريفي في فترة مبكرة من حياته العلمية، وأبدع وسكب فيه حبراً كثيراً، وهو مجال التراجم والسير. ومؤخراً، شرع بتكريس جهوده في جمع وتحقيق التراث العلمي البحراني.

السيد محمود الغريفي أحد من سكنتهم الهموم الكبرى منذ حداثة سنّه، فشغلته هموم البحث والتأليف. وباشر حراكه الاجتماعي والديني مسنوداً بذخيرة علمية وحصيلة ثقافية هائلة امتزجت بالاستعداد الفطري والقابليات الشخصية الجمّة والطموح الجامح والمهارات الخطابية. هذا كلّه جعل من الغريفي أحد أركان العمل الديني والنشاط الثقافي في منطقته. وكانت ساحة عمله الأول في إسكان عالي بمملكة البحرين، قبل أن تتعاظم مساحات حركته إلى الإطار الدولي العابر للقارات والحدود الجغرافية للدول.

السيد محمود ابن السيد مصطفى ابن السيد حسين ابن السيد ابراهيم ابن السيد محسن ابن السيد عبدالله ابن السيد احمد ابن السيد عبدالله ابن السيد أحمد ابن السيد علي ابن السيد علوي ابن السيد أحمد المقدس ابن السيد هاشم البحراني ابن السيد علوي (عتيق الحسين) ابن العلامة السيد حسين الغريفي. ولد في «النعيم» في البحرين عام 1972، ونشأ وأكمل دراسته الأكاديمية فيها إلى جانب مقدمات الدراسة الحوزوية، ثمّ هاجر إلى مدينة قم المقدسة، في العام 1986، لطلب العلم فحضر دروس البحث الخارج على أساتذتها الأعلام كالشيخ جوادي الآملي، والشيخ جعفر السبحاني وغيرهم.

نشر السيد الغريفي العديد من المقالات والدراسات في مختلف المجالات. وكان يرأس تحرير مجلة مرآة الكتب الشهرية، وهي نشرة شهرية توثيقية ترصد حركة الكتاب في الجمهورية الإسلامية، صدر منها ما يزيد على 62 عدداً.

بالإمكان تقسيم أعمال السيد الغريفي ومصنفاته إلى ثلاث مجموعات، المجموعة الأولى : التصنيف، المجموعة الثانية: الإعداد والتحقيق، والمجموعة الأخيرة الشرح والتيسير.

أولا : التصنيف

منذ بداية حياته العلمية زاول السيد محمود الغريفي الكتابة. وكانت من أوائل الكتابات التي أنجزها، وهو في حداثة سنه، كتاب صغير وضعه حول المرحوم الشاب أحمد القزاز المتوفى عام 1991م، في مطلع تسعينيات القرن الماضي. ولقد وقع في يدي حينها، وقرأته وكان مخطوطاً بخط اليد. وكانت هذه من البدايات الأولى التي فتح بها السيد الغريفي عهداً جديداً من العطاء الفكري بعد أن كان على تماس مباشر مع هموم مجتمعه.

ويدخل في هذا النوع من النتاج الفكري المتعدّد الذي تركه السيد الغريفي تلك الكتابات التي تتضمن عملية الترجمة عن الفارسية وأحياناً الأوردية. كما أن الكثير من هذه الكتابات بذل فيها السيد جهداً ميدانياً التزم فيه بالمعايشة الواقعية لمجتمع بحثه، الأمر الذي جعل من بعض الكتابات أشبه بـ «ربورتاج» صحفي تتسم لغته بكثير من الحيوية والجزالة والأسلوب المشرق.

ولقد وضع السيد الغريفي العديد من المصنفات، أبرزها :

الشعائر الحسينية بين الوعي والخرافة (160 صفحة).

سيرة فقيه أهل البيت السيد الكلبايكاني (256 صفحة).

خليفة الإمام الراحل (480 صفحة).

الجهاد والسياسة في حياة الشيخ الكندي (112 صفحة).

العلامة السيد أحمد الغريفي من الولادة إلى…؟ (144 صفحة).

الآثار الدينية في المملكة الأردنية الهاشمية دليل مختصر (32 صفحة)

جعفر الطيار وشهداء مؤتة (32 صفحة).

لقد اختاره الحسين.. سيرة العلامة السيد ذيشان جوادي الرضوي الهندي (96 صفحة).

جارية الزهراء .. شهادة لا ترد.

مشهد الرؤوس.

الشيخ عيسى الطري والأهواز والثورة

بسنديدة السيرة وذكريات قرن من الثورة

الخرافة المعقولة .. إنها الهند يا زوجتي.

أنا الغريب.. ملامح الحياة في امبراطورية الدونكري العظمى

قضية العصر .. ببليوغرافيا مرجعية.

مرجعية الدفاع عن العقيدة.

مفردات وجدانية في عشق الذات الحسينية.

ثانياً : الأعمال التحقيقة

يرى السيد محمود الغريفي أن التراث البحراني له من العمق الزماني الذي يمثّل سابقيه على الكثير من أزمنة التراث الأخرى، فالتراث البحراني :

تراث كمي، وذلك لأن البحرين عريقة في العلم ولا تخلو مدينة من مدنها أو قرية من قراها أو بيت من بيوتها من واقع علمي ومخزون تراثي.

والتراث البحراني تراث كيفي، إذ ركّز علماء البحرين على جوانب مغمورة أو حجم الإنتاج فيها قليل فأثروها بالكتابات والمصنفات، كما كانت لهم السابقية في جملة من الموضوعات.

إن التراث البحراني تراث ملتزم، فلم يكن في التراث البحراني أي إسفاف بل كل النتاج المعرفي البحراني هو في خط الالتزام العلمي والخلقي.

إن التراث البحراني تراث منتج وناقل للمعرفة، فكما أبدع علماء البحرين في تقديم المفاهيم الأصيلة من منابعها الأصلية (الثقلين)، فقد كان للتراث البحراني سهم كبير في نقل المعرفة من خلال التعاطي مع نتاج الآخر، عبر شرحه والتعليق والتعقيب عليه واستنساخ الثمين منه.

ومن منطلق الإحساس بالمسؤولية تجاه هذا التراث المنسي، ساهم السيد الغريفي وبشكل عملي في ترجمة هذا الهمّ إلى مشروع على الأرض. وعمل على تحقيق العديد من المصنفات العلمية لعلماء البحرين، وأصدرها تباعاً عن دار حفظ التراث البحراني، التي انطلق عملها في 11 نوفمبر 1997م ( 13 رجب 1418ه)، وجاءت معظم إصدارات الدار التحقيقية من أعماله، بالإضافة إلى التعاون مع محققين آخرين منهم الشيخ حبيب آل جميع وأحمد المرهون والشيخ علي المبارك.

ومن أبرز أعمال السيد محمود الغريفي التحقيقية :

عقد الدرر في إدخال السرور على بنت سيد البشر، للشيخ ياسين بن أحمد الصواف، 128 صفحة.

تعيين الفرقة الناجية رسالة منسوبة للشيخ إبراهيم القطيفي البحراني، 120 صفحة.

طريقة الرياضة الشرعية للشيخ أحمد البحراني.

العجائب والغرائب في أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية، للشيخ عبدالله السماهيجي.

الغدير، للشهيد الشيخ عبدالله بن عرب.

من نفحات الولاية (ديوان شعر) للسيد حسين السيد شبر.

تعيين الثقل الأكبر للشيخ مكي بن صالح البحراني.

مؤجج الأحزان أو إلتهاب نيران الأحزان في وفاة غريب خراسان، للشيخ عبدالرضا آل مكتل الأوالي.

مقتل أمير المؤمنين للشيخ حرز المشهداني.

رواية الغصب والهجوم على مولاتنا الزهراء.

من خطب شيخ الإمامية في عصره، للشيخ أحمد بن المتوج البحراني.

نظم حديث الكساء، للنابغة البحراني السيد عدنان بن السيد شبر البحراني.

صفحات حول زيارة عاشوراء، بخط العالم السيد عبدالله بن السيد أحمد الغريفي.

الصلاة والسلام على المعصومين، للسيد إبراهيم بن السيد محسن الغريفي.

الاعتبار في كربلاء، للسيد حسين بن السيد شبر البحراني.

الذخيرة في يوم المحشر، للشيخ سليمان بن عبدالله الماحوزي.

شرح صفات الرسول، (من أوراق) السيد علي بن السيد إبراهيم كمال الدين.

مفتاح السرور في بقرة وسيع الثغور (المشهور في البحرين برواية البكرة) لأحد أعلام البحرين في القرن الرابع عشر.

إجازة العلامة الشيخ علي البلادي للسيد مهدي الغريفي البحراني.

نظم مقتل الحسين للشيخ حسن الدمستاني.

السلافة البهية في الترجمة الميثمية، للشيخ سليمان الماحوزي.

وفاة الإمام الحسن للشيخ عبدالرضا بن المكتل الأوالي.

القادحة الدهيا في مقتل يحيى بن زكريا، للشيخ حسين العصفور.

وفاة النبي يحيى، للشيخ عبدالرضا بن المكتل الأوالي.

حرقة الحزين في تسقيط سيدة نساء العالمين، (من أوراق) طه بن يوسف صالح بن يسوف بن محمد.

نظم مقتل الزهراء للسيد حسين بن السيد الحسن الغريفي.

ثاني المصائب والشهاب الثاقب على رؤوس المناصب (في وفاة الزهراء)، للشيخ محمد بن ناصر المعلم البحراني البربوري الاحسائي.

مثير الزفرات ومجري العبرات في وفاة الزهراء، للشيخ محمد بن جعفر العكري البربوري

الدرة الغراء في وفاة السيدة الزهراء، للشيخ حسين آل عصفور.

عقود الجمان في حياة الزهراء، للشيخ جعفر أبو المكارم.

أنوار المناقب، للشيخ عبدعلي بن خلف آل عصفور.

خطبة البيان، برواية علماء البحرين.

شرح خطبة النبي لشهر رمضان للشيخ محمد علي آل عصفور.

تتمة أوراد الأبرار في شهادة الكرار للشيخ محمد بن الشيخ أحمد آل عصفور.

الرسالة الرجبية في حكم النظر إلى المرأة الأجنبية، رسالة المرجع الديني السيد عبدالله الشيرازي 48 صفحة.

وفاة فاطمة الزهراء للشيخ علي البلادي.

إلزام النواصب للشيخ مفلح الصيمري.

تتمة أمل الآمل لآل أبي شبانه.

أوراد الأبرار في مأتم الكرار، الشيخ حسن الدمستاني، 160 صفحة.

كما وأن هناك مجموعة من الكتب جاهزة للنشر وأخرى قيد الإعداد والتحقيق.

ومنذ انطلاقتها، أصدرت دار حفظ التراث البحراني مجموعة من الأثار والكتب ضمن المسلسلات التالية: الببيلوغرافيا والفهارس، التاريخ والتراجم، البحرين للناشئين، إسهامات علماء البحرين، سلسلة أعلام من البحرين، الأعمال المتفرقة، و أخيراً سلسلة من تراث البحرين.

وقد استهدف السيد محمود الغريفي من تأسيس هذه الدار:

العمل على تصنيف كتب التراث والنتاج البحراني المعاصر وفهرستها ودراستها وتسهيل الانتفاع عليها والإستفادة منها.

السعي في جمع المخطوطات والوثائق والصور والنتاجات وحفظها، وكافة ما يتعلق بالتاريخ والتراث البحراني.

العمل على إحياء التراث ونشره ضمن مسلسلات تراثية متخصصة في المجالات العلمية المتنوعة.

إظهار أثر الحركة العلمية للبلاد في مجالات اختصاصها المتنوعة في آفاقها ومناهجها ودور رجالاتها الفعال والمبدع في رفد مسيرة الأمة والمنطقة والبحرين بالعطاء العلمي والأدبي الخلاق.

تسجيل تاريخ البحرين وتدوينه بمنهجية علمية تحليلية تعتمد الموضوعية والحياد وتوثيق المعلومات ودراسة المجتمع في وقائعه وأنماطه الاجتماعية والثقافية والدينية.

كشف ونقد محاولات التزييف والتحريف والتشويه لتراث وتاريخ البحرين العلمي والثقافي والاجتماعي والسياسي.

التعاون والتواصل مع الشخصيات والمؤسسات العلمية والتراثية والمكتبات المتخصصة والعامة محلياً وعالميًا.

يرى السيد الغريفي أن هناك جملة من المشاكل التي مُني بها التراث البحراني. تتمثل المشكلة الأولى في ضياع التراث البحراني، فكم تبعثرت المكتبات والكتب والمخطوطات وذلك بسبب العنف الذي تعرض له البحارنة منذ القدم وحتى اليوم، فتشتّت الكتب والمكتبات بتشتت أصحابها. وإذ تقرأ في بعض الكتب، كمقدمة موسوعة الحدائق الناضرة لمفخرة البحرين الشيخ يوسف آل عصفور البحراني (قدس سره)، تجده قد أعاد كتابته عدة مرات بعد الحوادث التي وقعت عليه، أو جدنا السيد أحمد المقدس الغريفي المعروف بالحمزة والذي قتل في طريق زيارته إلى العتبات المقدسة في العراق، وسرق ما لديه من مؤلفات وكتب ولم يعرف أمرها إلى يومنا هذا. وغيرهما من الأعلام، بل ربما لا تجد عالما من علماء البحارنة إلا وتعرض لمأساة.

والمشكلة الثانية تكمن في جمود الأوساط العلمية عن إحياء التراث. فإذا كان صاحب الحق خاملا فكيف يمكن لغيره، ومع خمول البحارنة عن إحياء تراثهم، إلا أن هناك جهوداً كبيرة من غير البحارنة لإحياء التراث البحراني لعلمهم بقيمة ما لدى علماء البحرين. وفي الفترة الأخيرة، انبرت جهود مبعثرة من البحارنة لإحياء التراث البحراني، ونسأل الله أن يديمها، مع أنها حركة رتيبة وينقصها العون والمدد لكي تواصل مجهودها الثمين فكلها جهود فردية.

أما المشكلة الثالثة، بحسب الغريفي، فتتمثّل في عدم قيام مؤسسات ومراكز لحد اليوم تعنى برصد التراث البحراني وإحياءها. وما هو موجود اليوم في الساحة من جهود هي فردية للغاية وبمعنى الكلمة، وفي إطارها الخاص.

أما المشكلة الرابعة، تتعلق بدخول جهات من خارج البحارنة، وقد يكونون من أصول بحرينية، زادوا في أزمة حفظ التراث وإحيائه بلّة. وذلك، لأنهم لا يعيشون خصوصية هذا التراث حتى يجعلوا له خاصيته بل وأكثر من ذلك إذ يعمل البعض منهم على القضاء على التراث البحراني سلفا لأشياعه الذين رموا كما كبيرا من المخطوطات في الآبار أو البحر كما تحكي المصادر، ومن المؤسف أن بعض البحارنة قد حدى حدوهم.

المشكلة الخامسة والأخيرة تنحصر في حاكمية الزمان والمكان منذ وقت قديم، بحيث جعل قسما كبيراً من المخطوطات والآثار تغرق في بحر الظلم الذي شمل البحارنة ومخزوناتهم وأودى بالكثير منها.

ويضع السيد الغريفي ما يمكن تسميته بـ «خطة إنقاذ» لهذا التراث المهمل، من خلال : القيام بحملة واسعة من التوعية على الأصعدة المختلفة بتاريخ التراث البحراني وقيمته وسبل الدفاع عنه وحفظه وإحيائه، وإيجاد موقع حر وقوي ماديا ومعنويا لجمع التراث البحراني فيه والعمل على إحيائه ونشره، ووقف ما يمكن من الأوقاف داخل البحرين وخارجه لكي تسند مشروع حفظ التراث البحراني وإحياءه، وتداول التراث البحراني من خلال تصويره وأرشفته في الأقراص وكذلك تداوله في الأوساط المختلفة في أنحاء العالم، وتشجيع من يلج هذا الميدان ومساندته وتخطي عثراته، فإن هذا الأمر عائد لكل الوطن. ونبّه سماحته إلى أن من يدخل هذا الميدان عليه أن يلتزم بأمانة التراث مهما كان مخالفا لمعتقده، فإن نشر أي مخطوطة أو حفظها لا يعني تبني ما فيها، وإنما يعني حب الوطن، وحب الوطن من الإيمان.

ثالثا: الكتابات الُميسرة

حرص السيد محمود في بعض الكتابات إلى اعتماد منحى تبسيطي لبعض أطروحات رواد النهضة الاسلامية وكتابتها بلغة ميسرة تحاكي مستوى الناشئة. وكان من أبرز مؤلفاته، في هذا السياق، سلسلة «رؤى من وحي الولاية الحقة». وهي سلسلة حلقات تتناول رؤى وأفكار الإمام الخميني (قده)، صدر منها 25 حلقة في 800 صفحة. كما استهدفت بعض الإصدارات عرض كل ما يتعلق بالتاريخ البحراني وعلماء البحرين بأسلوب قصصي مصور، منها «كل يا كمي: قصة الشيخ كمال الدين ميثم البحراني؛ «أبو رمانة : قصة الشيخ عيسى الدمستاني»؛ كذلك كتاب «مؤذن الرسول (ص) والوفاء لمقام الولاية»، والذي يقع في 32 صفحة.

للمزيد راجع العدد الأول من مجلة أرشيفو 

محمد جواد ظريف… لقطة مقرّبة

عبد الرحمن جاسم

من الطبيعي أن يحظى كتاب «سعادة السفير: محمد جواد ظريف» (دار أوال) بكل هذه الضجّة. كيف لا والرجل هو وزيرُ الخارجية الأشهر عالمياً ــ لربّما ــ خلال الأعوام العشرة الماضية؟ يأتي وزير الخارجية الإيراني الحالي (وسفير/ ممثل إيران لدى «الأمم المتحدة» منذ عام 2002 إلى 2007) محمّد جواد ظريف بخلفيةٍ لا مثيل لها: قاهر الأميركيين في معركتهم الدبلوماسية مع بلاده؛ وصاحب الصورة الشهيرة والضحكة العارمة أمام وسائل الإعلام بقدّها وقديدها. الخارج عن معتاد الدبلوماسية العالمية بضحكته الشهيرة، لا ريب أنه يعدّ واحداً من أشهر رجال القرن الحالي، حيث لا يمكن لأحد نسيان اسم وزير خارجية الجمهورية الإسلامية في إيران.

الرجل المتواضع، المتقن بمهارة للغة الإنكليزية، وُصِف يوماً بأنّه «أنجح دبلوماسي حظيت به إيران منذ الثورة، والرجل الوحيد في العالم الذي يستطيع أن يتحدّث إلى جون كيري في يوم، ثم إلى علي خامنئي في اليوم التالي، وأن يقنع كلاً منهما بأن يشاركه وجهة نظره» (الكلام لكريم سجادبور المحلل في معهد «كارنغي للسلام الدولي»). هذا الأمر عينه يوجد على مقدّمة كتاب «الدبلوماسية» لهنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق الذي أرسل له الكتاب موقّعاً بإهداء «إلى عدوي المحترم محمد جواد ظريف». ترجم محمد العطّار الكتاب إلى اللغة العربية بعد حصوله على اهتمامٍ محلي إيراني واسع، ما أدى إلى طباعته سبع مراتٍ متتالية (بلغته الأصلية الفارسية).

يأتي «سعادة السفير» أشبه بمقابلةٍ طويلةٍ على شكل «أسئلةٍ» و«أجوبةٍ» بين مُحاوِرٍ (هو محمد مهدي راجي ضمن دراسة أعدّت للماجستير) ومُحاور اعتاد أن يكون في قلب الحدث السياسي حاملاً منطق السياسي المحنّك والدبلوماسي في آنٍ معاً.

تشرح مقدّمة الناشر (أي دار أوال) أنَّ النص بين دفتي الكتاب هو ما قاله «السفير» بين عامي 2010 و2012، مؤكدين: «أنه يكتسب أهمية كبرى بعد توليه وزارة الخارجية وبعد النجاح الذي حققه الملف النوي الإيراني في عهده، ولأنه كان حاضراً في كثير من الأحداث والاستحقاقات، ما أعطاه الأهلية الكافية لتولي عملية تفاوضٍ بهذا الحجم». ويثير المترجم في مقدّمته أسئلة حول بعض الأمور التي لم يتطرّق إليها السفير (والكتاب حكماً) كالربيع العربي أو الشأن الداخلي الإيراني، أو حتى علاقاته الخاصة ببعض أركان النظام الحاكم في الجمهورية آنذاك.

الكتاب الذي لخّص أكثر من أربعين ساعةً من اللقاءات بين المتحاورين، قدّم تقريباً شخصية الرجل القادم من العاصمة طهران، والمولود في 8 كانون الثاني (يناير) 1960، لعائلةٍ «ثرية» (إذ يشير في الكتاب إلى أنَّ والدته ابنة لتاجرٍ كبيرٍ معروف ووالده تاجرٌ معروفٌ كذلك). درس ظريف في المدرسة العلوية الخاصة، وصولاً إلى خروجه من إيران وهو لا يزال في 17 من عمره، حيث درس في «مدرسة درو» التحضيرية في سان فرانسيسكو في كاليفورنيا، ثم في جامعة المدينة نفسها ليحصل على ليسانس العلاقات الدولية (1981) ثم الماجستير (1982)، ثم الدراسات العليا من «كلية جوزيف كوربل» (من جامعة دنفر في كولورادو)، ليتبعها بماجستير ثانٍ (1984) ثم الدكتوراه في القانون الدولي والسياسة (1988).

ما لا يعرفه كثيرون عن الرجل أنه من أوائل من عملوا في البعثة الإيرانية في الأمم المتحدة، إذ قضى ما لا يقل عن 25 عاماً في أروقتها (دخلها بدايةً – وبعد انتصار الثورة الإسلامية مباشرةً عام 1979 ـــ وهو لا يزال طالباً في الدكتوراه في «جامعة دنفر»، ثم لاحقاً موظفاً محلياً في البعثة الإيرانية هناك)، أي أنّه كان يعرف «كيفية» الحراك بداخلها قبل وصوله إلى رئاسة البعثة. لقد تشرّب كل وسائلها وطرقها و«دهاليزها» قبل أن يحقق انتصاراته المبهرة لاحقاً. يفصّل «السفير» إنجازاته في الشأن الدبلوماسي، فيتحدث عن واحدٍ من أهمها: «لم يكن ثمة شك في أن العراق هو من بدأ الحرب، ولكن كان من الواجب أن تؤيد الأمم المتحدة هذا الأمر، وهو أمر صعب بحسب الظروف آنذاك. ولهذا كان عملاً شاقاً بذلنا فيه الكثير من الجهد. إن أحد أفضل أوسمة الشرف في حياتي هو تمكني من إنجاز هذا الأمر، وأفضل نجاح سياسي للجمهورية الإسلامية في الحرب، هو الحصول على تقرير من الأمين العام للأمم المتحدة يصف فيه العراق رسمياً بأنه المسؤول عن الاعتداء على إيران» (في إشارة طبعاً إلى الحرب العراقية الإيرانية). يتميز الكتاب بنوعٍ من المباشرة والبساطة الشديدة وإن ظهرت مهارات السفير الدبلوماسية المختلفة، التي تروي العديد من التفاصيل الحميمة في حياته.

في الإطار عينه، برزت آراء ظريف السياسية واضحةً في الكتاب، إذ يشير مثلاً: «لو لم تكن العلاقة الإيرانية – الأميركية بهذا الشكل، لم تكن تركيا لتبرز في العالم الإسلامي كنموذج جيد للحكم»، مؤكداً أن «راية الرئيس محمد خاتمي» التي «أراد رفعها في العالم الإسلامي، أي راية الاعتدال، راية الحوار، راية المخالفة العقلانية ضد إسرائيل، والاستقلال عن أميركا، أصبحت اليوم في يد تركيا»، مشيراً إلى الفارق الكبير بين حركة خاتمي التي يصفها بأنّها «مبدئية» وبين حركة تركيا التي يجد أنّها «سياسية».
إنه كتاب مليء بتفاصيل داخلية وحميمة ليس فقط حول رمز من رموز السياسة الخارجية لبلاده، بل حول مفاصل في الحياة السياسية والدبلوماسية، سواء في إيران أو في العالم بأسره.

 

كلمات

العدد ٣١٢٥ السبت ١١ آذار ٢٠١٧

التوحش المقدس

التوحش المقدس: حين يصبح تكفير الناس أمرًا طبيعيًا كالعبادة

بقلم علي عبد الأمير:

يرى مؤرخون وباحثون أن ربع القرن الماضي هو “عصر الصحوة الإسلامية”، مثلما يرى غيرهم أنّه عصر الصراع الإسلامي الطائفي السنّي-الشيعي، بل يذهب بعضهم إلى أكثر من هذا، فيقول إنه عصر الوحشية التي وجدت في بعض النصوص الإسلامية شكلا ومضمونا لها.

ومن بين أصحاب الرأي الثالث، يأتي الباحث والكاتب البحريني علي الديري، الذي يوفر لنا عبر كتابيه “نصوص متوحشة” و”إله التوحش”، فرصة لمعاينة التفسيرات الدينية لمشاريع سياسية أو مرتبطة بالسياسة، وتصل حد إفناء الآخر المختلف. أي أننا نحصل على معادل ديني للعمل السياسي في عصر “الصحوة الإسلامية”. فإذا كان هناك وصف “الخائن” جاهزا لتصفية الخصوم في الأنظمة الدكتاتورية التي سادت في منطقتنا ضمن “عصر التحرر الوطني”، فإن وصف “الكافر” جاء ليصبح المعادل الموضوعي وبما يتوافق مع سيادة الخطاب الإسلامي وتحوله إلى الحكم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

تكفير من؟

وعلى غير ما يذهب إليه القول الشائع إنّ التنظيمات الإسلامية المسلحة لا تمثل جوهر الدين بل تشوه قيمه، يرى الديري أن تلك التنظيمات تأتي اتصالا جوهريا بتراثنا الإسلامي، وليست نتاجا لـ”الجهل والتطرف التكفيري”.

ومن هذا التراث الإسلامي ما يمثله فكر أبي حامد الغزالي الحافل بـ”نصوص التوحش،” والمشغول بقضية تكفير الباطنية وباقي الفرق الشيعية، ووجوب سفك دمائهم، بمقابل “التسنّن المستقيم الصحيح الذي على الجميع أن يلتزم به”، وهذا مبدأ جوهري التزم به “داعش” ومشتقاته، وصار نص التكفير – التوحش عند الغزالي، منهلا ما لبث الفقيه المغربي ابن تومرت (1077-1130) أن نهل منه عبر المدارس حيث شرعنة القتل وسفك دماء كل من يختلف عن الدولة الموحدية التي صار فقيهها الأول.

وثالث من يتعرض إليهم الديري من فقهاء التوحش الإسلامي ومنتجي التكفير، هو ابن تيمية.

ومن نصوص التوحش التي كتبها ابن تيمية، فتوى أرسلها إلى سلطان الممالك الناصر بن قلاوون، وفرت الإطار الديني لتنفيذ مذبحة كسروان التي قام بها 50 ألف جندي من المماليك ضد الشيعة، وهو ما صار لاحقا سياقا لإصدار لوائح اتهام سياسي ضد الخصوم السياسيين والعقائديين في البلدان الإسلامية، منذ القرن الرابع عشر الميلادي حتى اليوم.

من هو إله التوحش؟

كتاب الديري الثاني حمل عنوان “إله التوحّش” الذي التهم قلب الإسلام والمسلمين اليوم، كونه حوّل الإسلام إلى “أيديولوجيا أحادية صلبة ومبدأ شمولياً يُقتل كل مَن يخالفه”.

الإله بهذا المفهوم المتوحش لـ(التوحيد) كما يلفت الديري “صار عدواً للبشر أو مثيرا للعداوة بين البشر، وهذا ما يشير إليه عنوان كتابي”.

ويسعى الديري إلى إثبات أن الوهابية وضعت عشرة نقائض للإسلام، و “في كل ناقض تفاصيل يكمن فيها شيطان التكفير والقتل، من يختلفون معك هم ليسوا من صنف الأخ لك في الدين أو النظير لك في الخلق، بل هم من صنف النقيض، كل الشياطين في تفاصيل هذه النواقض العشرة هم نقيض لك، عليك أن تتبرأ منهم وتكفرهم وتقتلهم”.

وفي باب الرد على سؤال “لماذا الوهابية؟” كمنتج للتوحش الاسلامي، يقول الديري “لأنها نجحت في أن تغزو العالم باسم التوحيد الخالص والسنة الصحيحة والسلف الصالح، لقد اخترقت العقل الإسلامي، وتمكنت من سرقة وجهه”.

وكان موقعنا وجّه للديري سؤالا “لماذا لم توسّع دائرة التطرّق لمذاهب وديانات مختلفة كي لا تنهال عليك الاتهامات بمهاجمة الإسلام فحسب؟”. فجاء جوابه على النحو التالي “هذا النوع من التوسعة يضيّع الجواب، ويريح أصحاب ظاهرة التوحش. أردت أن أضع إصبعي في عين الوحش الذي يهددني الآن. أردت أن أعري مرجعيته النصية التي يتحدث باسمها وينطق بمسلماتها. صغت فرضية ضد مسلماته التي تنص على أنّ نص التوحش نص سياسي”.

رابط الموضوع